19.12.11

لماذا نريد من بناتنا الملتزمات أن يكنّ بارزات في المجتمع ؟



المرأة هي نصف المجتمع الآخر والتي بدونها لن نرى استمرارية الحياة على وجه هذا الكوكب ، إنها المرأة التي تتحمّل ما لا يتحمّله الرجال ، إنها المرأة التي تحمل في بطنها الذكر والأنثى لمدة تسعة أشهر ، إنها المرأة التي ترى الموت بعينيها حين الولادة ، إنها المرأة التي تُعطي عمرها كله لطفلها ، ولهذا فإنّ الإسلام أعلى شأن المرأة وكرّمها بعد أن كانت مظلومة ومحتقرة أيام الجاهلية ، ولكن السؤال الذي يُطرح هنا : هل المسلمين اليوم يكرمونها ؟

قبل الدخول إلى الموضوع أود أن أُشير إلى أنّ كلمة مجتمع تحوي بداخلها جميع الأفراد الذين يعيشون في نفس المكان سواء كانوا ذكورا أم إناثا ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه المقالة لا تشكّل فتوى تحليل أو تحريم وإنما نطمح أن تصل معانيها إلى رجال الإفتاء لكي يأخذوا هذه الأفكار بعين الإعتبار قبل إصدار الفتوى ، فهي نظرة نفسية تسعى للإجابة على السؤال : لماذا نريد من بناتنا الملتزمات أن يكنّ بارزات في المجتمع ؟

وإني لأرى أنّ من إكرام المرأة هو بروزها على صعيد المجتمع كله ، وعندما أتكلّم عن بروز المرأة في المجتمع أقصد دخولها في كل المجالات ( مثل : الوقوف أمام الجماهير ، الإشتراك بالفعاليات الإجتماعية والسياسية المتنوّعة ، الظهور على شاشات التلفاز وغيرها ) التي تستطيع الإنخراط فيها والتي تتلائم مع بنيتها الخاصة مع الأخذ بعين الإعتبار جميع المحاذير الشرعية . تجدر الإشارة إلى أني هنا أتكلّم عن الفتاة الملتزمة ، والفتاة الملتزمة التي أقصدها هي التي تلبس الزي الإسلامي الكامل (الجلباب والحجاب) ، ولهذا الإدعاء الذي أعرضه عدة أسباب من منظور نفسي ، منها :

أ. أولا ، كلنا يعلم مدى تأثير الإعلام على أبنائنا وبناتنا وإذا نظرنا إلى الأغلبية المسيطرة على الشاشات فهنّ نساء لا يقربن بشي إلى المنظر الإسلامي المرجو للمرأة ، ولهذا عندما ترى الشابة هذه النماذج فإنها تتخذها نموذجا للتقليد وما أسوئه من نموذج ! عندها تحاول الشابة أن تقلّد تسريحة الشعر الفاتنة ولهذا فهي لا تفكّر أصلا بالحجاب وتقلّد المكياج والملابس ، والشاشات تمرر إلينا رسالة أنّ هذا هو الشكل الحضاري المطلوب من الفتاة الشابة . حتى أنّ هذا التأثير لا يقتصر على الأبناء المراهقين وإنما يتعداه إلى الأهل وإلى المجتمع بأسره ليصير هذا هو النموذج المطلوب . وهذا التقليد الأعمى يعود إلى جهلنا فقد تعوّدنا على أخذ الأمور كأنّها مفهومة ضمنا إن كان في أمور الدين أو في أمور الحياة دون التفكير والدخول إلى علم المنطق ، ولهذا صار من ثقافتنا التقليد والإستهلاك وفقدنا قدرة بناء النموذج والإنتاج . أما الشاب فإنّه يرى الفتاة المتبرّجة ويصير الوضع الطبيعي عنده أن تكون زوجته كعارضات الأزياء وينسى النموذج الإسلامي لأنه مفقود في الشاشات . علم النفس الحديث يتحدّث عن الإيحاء ( priming) وهو يعني أن ترى شيئا أو تسمعه بصورة واعية أو غير واعية فيؤثّر عليك بدون علمك ، وهناك مصطلح بناء النموذج (scheme) فعندما يرى الإنسان منذ ولادته هذه النماذج المتبّرجة ، يتكوّن نموذج في عقله أنّ هذا هو الصواب وهذا هو الوضع الطبيعي الذي يجب أن يكون ولذا لا يخطر إلى أغلب الناس أنهم على ضلال لأنّ الإيحاءات حولهم تُشجّعهم على البقاء عليه. هذه المشاكل كلها نابعة من غياب النموذج الإسلامي عن الشاشات وعن الأنظار ولهذا فإنّها نُسيت وقلّ تأثيرها على الناس ، وهذا أمر طبيعي لأنّ أي أمر تعطّله وتمنع بروزه فإنّ تأثيره يقلّ كما لو أننا تركنا القرآن فإنّ تأثيره علينا يقلّ كذلك . لذلك الحل يكمن بإعادة المرأة الملتزمة إلى الأضواء وتسليط الأنظار عليها لتصير نموذجا رائدا لكل مجتمعنا ، وكذلك علينا أن نطوّر لدى أبنائنا منذ الصغر قدرات التفكير والبحث عن كل شيء في هذه الحياة والإستفسار وذلك من أجل تطوير نظرة نقدية على الأمور التي تبدو لنا من المسلّمات . تجدر الإشارة إلى أن كلمة شاشات وردت في هذه الفقرة بمعنى الساحة الإجتماعية الواسعة وليست حصرا على شاشات التلفاز.

ب. ثانيا ، إذا نظرنا إلى الحفلات الإسلامية فإننا نرى أنّ دور المرأة الملتزمة يكاد يكون معدوما ، رغم أنها تكون حاضرة وجالسة تشاهد الإبداع الذكوري . هذه السيطرة الذكورية لها أبعاد كثيرة وخطيرة وهي التي تؤدّي إلى الخروج على النظام القائم من خلال الحركات النسائية (feminism). كما أنّ الضغط الزائد يولّد إنفجارا في أغلب الحالات وربما يُحدث تحوّلا من حالة التديّن إلى حالة الإنحلال بسبب التشديد الزائد وتحريم ما أحلّ الله ، ذلك أنّ النفس البشرية تسئم هذا التضييق وتملّ من العيش في إطار ضيّق وتُصبح تبحث عن منافذ للخروج من هذه الورطة. لذا علينا أن نعيَ خطورة نبذ المرأة إلى الوراء في الأمور التي تستحقّ فيها أن تكون في المقدّمة والأمام ولنذكر أنّ ديننا هو دين اليُسر والرحمة ، وليس دين الإثقال والتهميش.

ت. ثالثا ، عندما تفتح المجال لهؤلاء الأخوات الصالحات بالظهور والبروز بقوة على الساحة الإجتماعية فإنّ ذلك يمنحهن شعور بأنّ لهنّ أهمية وتأثير ، مما سيجذب هؤلاء الفتيات للإستمرار بالعطاء لأنهنّ وجدن الإكتفاء الذاتي . النفس البشرية تحتاج إلى تشجيع من فترة لأخرى وهذا الظهور وقوة التأثير المصاحبة له يُعطيان التشجيع المطلوب للإستمرار بوتيرة متصاعدة في العمل. لكن عندما نمنع العنصر النسائي من الإشتراك بكل تفاصيل الفعالية الإجتماعية فإننا ندخل في دوّامة يصعب الخروج منها لأنهن سيشعرن عندها بإنتماء أقل للعمل وعندها سيبقين في الوراء ولذا لن يُطالبن بالظهور والبروز . وهنا نصل إلى أن مجتمعنا الإسلامي ألِف الذكورية المسيطرة حتى صار التجديد هو صعود أخت ملتزمة إلى منصة الإحتفال أو إلقاء خطاب سياسي وغيره ، في حين أنّ الوضع الطبيعي أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى .

ث. رابعا ، يجب أن نأخذ بعين الإعتبار الوضع القائم عندما نحلّل أو نحرّم ولهذا فإنّ القرآن صالح لكل زمان ومكان والفهم الإنساني يتغيّر بناءا على المستجدات والتطوّرات اللحظية ، مما يعني أنّه واجب على الدراسات الدينية أن تكون متابعة لآخر التطوّرات على الساحة الواقعية . إذا نظرنا إلى الواقع فإننا نرى إنشغال الكثيرين بتوافه لا تقدّم الأمة بشيء وخاصة جيل الشباب ، وهذا لربما ينبع من تقصير الإسلاميين ، إذ أنهم لا يُتيحون الفرصة أمام كنوز الطاقات الشبابية العملاقة للظهور والبروز في الساحة الإجتماعية الجلية ، ولهذا فإنّ هذه الطاقات التي من المحتوم إخراجها فإننا نجدها موظّفة في الأمور الخفية التي لا تُرضي الله سبحانه وتعالى . هؤلاء الشباب لم يجدوا من يُشعرهم بقيمتهم في المجتمع ، ولم يجدوا إهتماما بمواهبهم المفيدة لصالح الأمة ، ولهذا طوّروا مواهبا من شأنها أن تودي إلى الدمار . أنا أقول أنّ توظيف تلك الطاقات الشبابية المحتوم خروجها وإن كانت غير إسلامية بشكل كامل هو ضروري ، لأنّ الأمر يبقى أهون من توظيفها في الحرام . علينا أن نشدّ فئة الشباب إلى الساحة الإجتماعية الجلية وبذلك فإننا نُبعدهم عن الإنحدار إلى تحقيق الذات من خلال الصاحبة ومن خلال التدخين والمخدّرات وارتكاب كل حرام .

ج. إنّ الظهور والبروز في الساحة الإجتماعية يحمل إسقاطات إيجابية جمّة على شخصية الإنسان فهو يُساعد على الإنخراط في المجتمع والشعور بالإنتماء له قبل كل شيء وهو كذلك يُقوّي الجانب الإجتماعي في حياة الإنسان ، بالإضافة إلى أنّه يُساهم في تقوية الشخصية ومنع الخجل المنبوذ مع الحفاظ على الحياء المطلوب . هذا التفعيل الإجتماعي من شأنه أن يبلور الشخصية الإسلامية الفطنة الواعية ومن شأنه أن يصقل تلك الشخصية القادرة على مواجهة كل المُعضلات في الحياة اليومية وأهمها اللقاء مع الآخر ، وبهذا فإننا ننتج شخصية إسلامية حية تدبّ على الأرض وقرآنا يمشي بين الناس أما إن بقي كل هذا الخير خلف الكواليس فمن سيصله خبره ؟!

ح. عندما نمنع العنصر النسائي من الظهور والبروز على الساحة الإجتماعية فإننا نُعطّل قوة بشرية هائلة ونُلغي نصف المجتمع الآخر ، ولذا فإنّ كل المهام تبقى على عاتق الذكور ، وبذلك فإننا نساهم في ترسيخ الفكرة السائدة (stereotype) بأنّ المرأة غير قادرة في حين أنّ الذكر قادر على فعل المستحيل رغم أنّ صفة الرجولة لا تقتصر على النساء كما هو معروف . نحن لا ننكر أنّ المرأة تختلف ببنيتها عن الذكر ولكن هذا لا يُعطي شرعية بمنع المرأة من المساهمة في الساحة الإجتماعية ، فالعنصرين يكمّل أحدهما الآخر ، ومن غير المنطقي أن يتكّأ المجتمع على رِجل واحد وينسى رجله الأخرى .

خ. لقد أثبت العلم الحديث أنّ مبنى عقل المرأة يختلف عن الرجل ولهذا فإنّ طريقة التفكير تختلف ، من هنا فإنّه من الإنصاف عرض جميع المحتويات الفكرية المختلفة على صعيد الساحة الإجتماعية ، وهذا من شأنه أن يُساهم في التنويع وإضفاء نظرة نسائية في المجتمع .

د. إنّ من العجب كل العجب أن يقوم كثير من الإسلاميين بتثبيط العزائم وكسر الخاطر وإبطال الهمة عندما تريد إحدى الأخوات أن تقدّم شيئا في سبيل الله ولمصلحة الأمة ، فمن نحن حتى نمنع إماء الله من نصر دين الله ؟! ومن نحن حتى نقف سدّا منيعا في وجه الخير المتدفّق ؟! ومن نحن حتى نحرم المسلمين من هذا الخير الوفير ؟! يقولون لك : تستطيع هذه الأخت أن تقدّم نفس الشيء في إطار نسائي مُغلق ! ما هذا ؟! ألم نتفق على أنّ المجتمع الإنساني يحوي الذكور والإناث ؟! إنّ هذا الذي يدعون إليه لهو تفعيل للمرأة بين النساء وليس في المجتمع وبذلك فهي تُحرم من الساحة الإجتماعية الواسعة وتنحصر بإطار نسائي مُغلق . ثم عن أي إطار مُغلق يتحدّثون ؟! في عصر إنتشار المعرفة والتكنولوجيا لا يوجد هناك شيء مُغلق إلا بعض العقول المتحجّرة ، إذ أنه في غياب أعين الرجال فإنّ أعين الكاميرات لا تغيب .

ذ. عندما يكون هناك تمثيل للأخوات الملتزمات في المجتمع فإنّ الجمهور النسائي يشعر أنّ له حصة في الموضوع وأنّ الرأي النسوي مأخوذ به ، ولذا فإنّ الصلة بين الجمهور المتلقّي والنشطين إجتماعيا تكون أقوى ، لأنّ هذا العمل الذي يحتوي الجميع يحوي الذكر والأنثى ومن هنا فهو يمثّل المجتمع بصورة أنجع .

ر. ظهور الأخوات الملتزمات في الساحة الإجتماعية هي عملية حيوية في تنمية المجتمع الإسلامي ، إذ أنّ هذا الظهور يُخرجهنّ من الإختباء والبقاء وراء الكواليس ولهذا الخروج منافع عدة . لكن ، يأتي أحد المشدّدين فيقول لك : صحيح أنّ هذه الأخت ملتزمة وما شاء الله عليها ولكن وجهها يسحر مع أنها لا تضع المكياج ، ولذا لا أفضّل أن أرى أخوات أمامي ! ما هذا الجهل ؟! أولا ، إنّ ظهور الأخوات هو غرض حيوي لأنّه يُقلّل من ظاهرة العنوسة وبالتالي يُساهم في تنمية مؤسسة الزواج والطُهر والعفاف ، فهل حرام أن يرى شاب فتاة أمامه فيُعجب بها وينوي خطبتها على سنة الله ورسوله ؟! وهل سيدري بها أصلا إن بقيت مختبئة في حضن أمها ؟! ثانيا ، عندما نؤمن بشيء ما فإنّه حتما سيطغى على شعورنا ولذا عندما نؤمن أنّ وجه المرأة سيفتن فهو حقا سيفتن ، وعندما نؤمن أنّ جلبابها سيفتن فهو عندها سيفتن ولذا يجب أن نحذر من الحكم وفقا للشعور والإحساس . ثالثا ، لا يجب أن نحلّ مشكلة على حساب مشكلة أخرى ، فإن كان هناك مريضي أنفس من الرجال ممن يرون بالأخت الطاهرة غاية جنسية وحسب ، فإنّ هذا يعود إلى مشكلة في التربية أو لربما إلى مشكلة مولودة أو لربما لكلاهما معا ، ولذا لا يجب أن يكون الحل هو منع الأخوات من الظهور أمام الرجال وانتهت الإشكالية وإنما يجب الإتجاه إلى جذر المشكلة ألا وهي التربية .

ز. النقطة الأخيرة والتي لا تقلّ أهمية عن سابقاتها هي أنّ الظهور النسائي في الساحة الإجتماعية يؤكّد فعّالية الأخوات الملتزمات وجرئتهنّ في الدعوة إلى الحق وقدرتهنّ على الوقوف أمام الجماهير من أجل نشر الخير ونشر دين الله سبحانه وتعالى ، وهذا كلّه عكس الأفكار السائدة بأنّ الأخوات الملتزمات يجب أن يكنّ صامتات ومتنازلات ولربما خاملات وذلك من أجل إفساح المجال للذكور . حتى أنّ البعض يستغرب عندما تبدأ إحدى الأخوات الملتزمات بالنقاش والوعظ أمام الرجال ، وأنا شخصيا لا أجد مبرّرا للإستغراب سوى أننا ما زلنا بعيدين عن فهم الإسلام .

والحمد لله رب العالمين ...