28.4.12

في الطريق إلى الأقصى ...


في الطريق إلى الأقصى ترى "باصات" عناتا العنيدة
والأفواج كالأمواج تندفع إلى ذكرى الإسراء والمعراج
ولكنّ ثمة من يمشون عكس الموج فهل هم هُوج
أم من نسل يأجوج ومأجوج؟!
عند باب العامود إشارة ضوئية خضراء!
يا لها من حسناء ولكنّ أحدهم يجرّ عربته ويصيح
"اطلع يا بو صبيح"!
تنزل درجاتٍ عريضة فتُذكّرك بالموت عجوز شمطاء
هي وعكّازتها العوجاء ينظران إلى مشيتي السريعة بازدراء
تدخل إلى السوق فتزداد سرعة الحياة وتصمت الشفاه
لتسمع عن اليمين همس بائع "البلفونات" متكبّرا
وكأنه ملك زمانه بقطع نحاسية يحبها الناس كالماس
أمامي شابة شقراء جائت لتنشر بياضها صباحا ومساء
وتحمل على رقبتها "كاميرا كانون" لتوثّق الأشياء
لا تُصوّريني!
ولماذا تصوّرني؟! هل أنا "جاستين بيبر"؟!
لا توثّقي ألمي في بلدي التي فيها يومي وغدي!
لا تكتبي على ألبوم الصور "فلسطينيون مضطهدون"!
لا تدعي "الكانون" تُحزن أحفادي من بعدي!
وعودي من حيث أتيت أيتها الشقراء!
عودي ولا تقهريني بتلك الكاميرا المعجزة!
عودي فقد قالوا لي أننا اخترعنا "القُمرة"!
لا تسئليني أين هي فلقد ضاعت مني!
لربما أنت سرقيتها وطبعت عليها اسم "كانون"!

***

في الطريق إلى الأقصى ترى "بسطات" على الأرض مُغطاة
فهل جائت البلدية قبل ثوان أم ذهبوا للصلاة؟!
في الطريق إلى الأقصى ترى معالم لا تتغيّر وأشخاص ثابتون
كأنهم لا يتزحزون، صامدون، لكنهم مُزعجون
لأنهم يُذكّروننا بالسكون والركون
ويُلخبطون ماضينا بحاضرنا
إلا أننا نفيق على تسابق السنين
أحدهم رجل مشوّه الوجه، يبيع أشياء لم أكد أراها
وكعادته في نفس مكانه يُشغّل موسيقى لم أميّزها
وعن اليسار شابان أجنبيان يمسكان بالأيادي
ويتمايلان على بعضهما ويسيران ويضحكان
كأنهما مثليان!
لا تتحرّكان أكثر!
فلقد بعثتما برسائل إنحراف في مجتمع يخاف!
أتحسبون أنكما في أوروبا؟!
ألا تُدركون أنكم في البلدة المقدّسة؟!
ألا تريدان الإعتراف عند أبيكما؟!
إنه ينتظركما هناك عند باب الكنيسة!
إنها الترانيم تنبعث من الحارة النصرانية
هل هو عيد شم النسيم؟!

***

في الطريق إلى الأقصى يحاذيني رجل مهووس
يمشي في السوق وينادي
"عالصلاة يا مسلمين"
"الصلاة عماد الدين"
فهل هو ملموس؟!
لا، فها هو يقول
"فذكّر إن الذكرى تنفع المؤمنين"
يرد صاحب مصلحة عبوس
"اسبقنا واحنا وراك حندوس"
فهل فعلا ورائه سيدوس؟!
أرى ثلاثة أولاد يحملون الشراب المثلّج
يتداخلون بين الأرجل دون إحراج
كُفّوا عن ضرب مؤخّرتي!
وكفاكم دوسا على حذائي!
لكنهم في الغالب لا يقصدون
فهم بالبراءة يُعرفون
وليسوا جنسيين كما قال الفرويديون!
أخيرا يسبقون ويتقدّمون
أهذا حقا كل ما تبغون؟!
ويضحكون، ويتحرّكون
وعلى ظهر أحدهم مكتوب
"من قيمنا: المحافظة على البيئة!"
تعال لأضمّك إليّ أيها الظهر المعبّر
لكنّ الناس حولي ينظرون
وبالتأكيد سيقولون: إنه مجنون!
"صلاة الجمعة يا مسلمون"

***

في الطريق إلى الأقصى أمشي مع التيار البشري الهائج
هي نصف ساعة أو أكثر حتى ينعكس التيار
ويفر الجميع من حيث أتى إلى الديار
تفيض فييّ الذكريات عندما أرى مطعم الأجانب
وأستحضر اندفاع البائع لاستقبال الأقارب
رغم وجود الأجانب!
وتصعد إلى وعيي محادثتنا القصيرة
"من أين أنتم؟"
نحن من القمر إن أردت معلومات دقيقة!
دعنا نسكر من شرب "الليمونادا" بروح رقيقة!
لننسى ماضينا، ولنفكّر بآمالنا العريقة!
"نحن من أم الفحم"
"أهلا بأحفاد شيخ الأقصى"
وهل للأقصى شيخ واحد؟
أهذا يدخل في عقيدة التوحيد؟
تبّا لتفكيري! إنها مجرد كُنية
ذاع صيتها ووصلت كل الدنيا
"لو تمكّنت لبنيت تمثالا للشيخ رائد"!
ألهذه الدرجة يصل حب العائد؟!
أصطدم وأنا أسير بنظرات إمرأة سوداء
تلبس الحجاب "الموديرني" وملابس ضيّقة زرقاء
تُلاقيني في ذاك المكان كل أسبوع
وتبيع ملابس داخلية لنسوة يشتهين الشراء
ولو عشن مع أزواجهنّ في العراء!

***

في الطريق إلى الأقصى تشير إلى "مطعم أبو شكري"
وأنت مُغمض العينين!
تريد أن تلتهم الفلافل القدسية إلا أنك على موعد مع أذانين!
وخطبتين!
وعن اليمين صيدلية تُصارع تخلّف السوق برقاوتها
وتتفاخر بعلمها على طول زجاج نوافذها
هل هي مُخصّصة لأبي شكري؟!
أهم هذا ربط اخترعته من مكري؟!
أصل عند عتبة المسجد الأقصى فألتفت للجنود
عن اليمين وعن الشمال، فهل نحن على الحدود؟!
نعم، إنها الحدود الدنيوية الأخروية
لكنّ ثمة سائحة تتكلّم مع الجندي المشدود
إنها تريد الدخول إلى مكان التعبّد المعهود
هل يمكنها أن تخدع الجندي بشقفة قماش على رأسها
لحمها الأبيض يعكس ضوء الشمس وبين نهديها
يظهر إنحدار شديد!
ومن ثم يسألها بالإنجليزية: "هل أنت مسلمة؟!"
يا له من يوم مشهود!
لكنّه يصرّ على موقفه ويُشير إلى بقية الجنود
نعم نحن قُرب الحدود!
أدخل إلى وِجهتي وتستقبل عينيّ القبة الصفراء
إنها في مكانها! الحمد لله على هذه النعماء!
كم تخيّلت أن أمشي على ذاك البلاط القديم
باحثا عنها فلا أجدها حيث لقيتها فأهيم
ما هذه المرأة السوداء التي أمامي؟
سوداء بملبسها لا بلحمها المكنون
أين عينيها؟! لا بل أين فيها وأنفها؟
إنها تحت الستار!
كيف ترى طريقها؟ وكيف تلتقط شهيقها؟
وكيف تُدخل أكلها إلى فيها؟
إنها مهنة لا يُتقنها إلا الأبرار!
يبدأ المؤذّن ندائه للصلاة
فأضيع بين جموع كثيرة
وتتلاشى أفكاري بين أصوات التكبير الرقيقة
وأبقى في طريقي المثيرة!
ذاهبا!
راجعا!
إلى الأقصى
ودربي منيرة! 

22.4.12

قبل عام كنّا هناك!


قبل عام كنّا هناك وما زلنا!
ولا ندري كيف عُدنا ولا كيف رُحنا!
ولا حتى كيف كنّا وما زلنا!
فهل هو حُلُم غاب عنا
أم هي جنّة نالت منا ؟!
وهل نحن نبقى نحن
وهم يبقون هم
مهما جالوا وطُفنا ؟!
وهل ذكرانا تبقى ذكرانا
أم هي أحيانا تُسرق منا ؟!
وهل نحمل أرضنا أم هي تحملنا ؟!
وهل نحمل وطننا أم هو يحملنا ؟!
وهل نحن نسير على الأرض أم هي تُسيّرنا ؟!
***
قبل عام كنّا هناك وما زلنا
بذكرياتنا، بصورنا
ولربما بأملنا وشوقنا
وكتبنا مذكّرتنا بأيدينا
طُفنا كالأرض حول شمسنا
وسعينا سعي هاجر أمنا
ومن زمزم شربنا وصلّينا
وابتهلنا بصلوات إلى بارينا
وبكينا!
وفاضت تطلب التوبة دموعُنا
وغسلنا الجسد من خطايانا
وأطلقنا للسماء أمانينا
وغمرنا الناس بأغانينا
وابتساماتنا
فتيقّنا أنا رحمة للعالمينا
***
قبل عام كنّا هناك وما زلنا
نستحضر كل سحر في لحظاتنا
ومُغامراتنا
وخشوعنا
ودخولنا أرض عروبتنا
والغُربة والأمان في آن
والقرب والبُعد في آن
والتعب والراحة في آن
فكيف التقى الزمان في مكان
وتآلف النقيضين في آن 
وكيف ننسى وقبل عام كنّا هناك؟!
وما زلنا!


20.4.12

حوار الزنادقة





لمياء: لماذا لم تُصغِ إلى القصيدة التي ألقاها ذاك الشاب أمام عينيك؟ أتظنّه لم يلحظ إنشغالك عنه؟
سمير: من خالد؟
لمياء: نعم، إنه خالد، ماذا دهاك في تلك اللحظة؟ (تسأل وهي تنهض من مقامها)
طلال: لا بدّ أن كلامه لم يرُق لك أو أن مظهره لم يُعجبك أو ...
يرد سمير مقاطعا: ألم تسمع بـ "وحدة الوجود"(1)؟! لقد اتحدّت في تلك الدقيقة مع خالقي فنسيت من حولي! إنها لحظة سحرية لا يحظى بها كثير من الناس!
لمياء: كُفّ عن المزاح وتكلّم كلاما يمكن فهمه!
سمير: دعونا نستريح قليلا من التفكير، فلقد مكثنا في قاعة الإختبارات ثلاث ساعات متواصلة، وقابلنا أكثر من عشرين متسابقا! (يقول وهو يُشعل سيجارته)
طلال: فعلا كانت بداية يوم صعبة، ولكن بقي أمامنا ثلاث ساعات إضافية. ماذا عسانا نقول؟! أما فيما يتعلّق بخالد فأنا أرى ما رأته لمياء أن تصرفك لم يكن لائقا! كيف لك أن تنشغل بهاتفك النقال وأحدهم ينتظر تقييمك؟!
***
سمير: في الحقيقة أنا لا أفهم كيف يُفكّر هؤلاء الأشخاص؟! هم في حُلُم بعيد عن الواقع! نحن في القرن الواحد والعشرين وما زال من يقول لي أن الكون يحتاج إلى إله؟! (يقول قوله ويبصق على الأرض)
طلال: ولكن يا سمير عليك أن تقبل من يختلف معك في الرأي! كيف لك أن لا تقبل غيرك وأنت تدّعي التحرّر والديمقراطية والمساواة؟
سمير: نعم أنت محق ولكني لا أستطيع سماع ذاك الهراء. إن العلم وحده يكفي لتفسير كل كوننا وما به من تعقيد وإن عجز العلم عن تفسير شيء في الوقت الحالي فإنه سيصل إلى فك رموزه يوما من الأيام لا محالة. المسألة مسألة وقت لا أكثر! أتذكر عندما قال المتديّنون أن الله هو الذي يُنزل الطاعون والأوبئة بالبشر؟ لكنّ العلم أثبت فيما بعد أن الجراثيم هي المسئولة عن كثير من الأمراض.
طلال: أنا لا أُريد أن أُجادلك في إلحادك ولكن بالنسبة للطاعون فإن العلم والدين لا يتعارضان، إذ أن الله هو المُسبب والجراثيم هي حلقة الوصل والناتج هو الأمراض. ألا يبدو لك هذا التفسير منطقيا؟
سمير: المنطقي أن كوننا ليس بحاجة إلى إله، لأن الأمور تسير بدونه، ولو افترضنا أن الإله خلق الكون، فما هي وظيفته بعد ذلك بعد أن دبّت قوانين الحياة في الكوكب؟ شاهد كم نعلم عن عمل المخ والعقل وجزيء الـ DNA وفيزياء الكم والنانوتكنولوجيا ونقل المعلومة بسرعة الريح والأقمار الإصطناعية و ... (تأتي لمياء فيوقُف كلامه)
***
لمياء: لماذا أنتم صامتون؟ أتتئمّلون جمال هذا اليوم الربيعي؟ (تأتي وهي تحمل كأس شراب أحمر)
طلال: نتأمّل أفكار سمير الإلحادية متناسين إعجاز الله في خلق تلك السماء الزرقاء وخلق البحار والأنهار ومتناسين خلق أنفسنا. ألم تسمعوا ببرهان التصميم وبالمبدأ البشري(2+3)؟
لمياء: إذا هذا سبب رفضه لموهبة خالد رغم كونها من أجمل ما رأينا اليوم! (تقول وهي تقترب من الفسحة بينهما رافعة رجلها على المقعد)
سمير: ما إن تحرّر العالم من إضطهاد الكنيسة وصارت الثورة العلمية، حتى عاد المتديّنون لحماقاتهم، فهم يريدون إعادة الدولاب إلى الوراء، ويُصرّون على أن العلم جزء من الحقيقة، في حين أنه الحقيقة كلها! أنا لا أفهم كيف يعيش ذاك الشاب مع وهم الإله وتأثير الصلوات!
لمياء: كما تعيش أنت مع أفكارك بسلام وإن كنت أراك اليوم مضطربا، فكذلك هو يعيش بسلام، وكُلٌ فرح بعالمه الخاص. فلماذا يشغلك هذا الموضوع بالذات؟
سمير: "الدين أفيون الشعوب" يا لمياء. أنسيتِ إقتباسك الشهير؟
لمياء: لا لم أنسَ ولن أنسى هذا القول لأني أؤمن به، ولكنه لا ينبغي الخروج عن المهنية والحكم على الشخص بإنعدام الموهبة بسبب إنتمائه للإسلام؟
***
طلال: أراكما تخوضان في عمق الحدث. دعكم من خالد وشأنه! أنا شخصيا أزور المسجد مرة واحدة في الأسبوع، وأشعر براحة كبيرة كل مرة بعد صلاة الجمعة، فكيف لو زرته خمس مرات في اليوم؟ (يقول طلال وهو يضحك)
لمياء: رغم كوني من أنصار الدين الطبيعي(4)، ولكني لا أجعل ذلك يؤثّر على حُكمي الموضوعي!
سمير: الموضوعية وهمٌ وكلّنا صدّقناه!
طلال: على الأقل فهي ليست بحجم الوهم الذي تعيشه يا حضرة المُلحد! (يقولها طلال ضاحكا ويقوم من مكانه)
لمياء: هيا لندخل قاعة الإختبارات مجدّدا فقد انتهى وقت الإستراحة، وأنت يا سمير لا تجعل تعصّبك لفكرتك يُخرجك من وظيفتك التي لأجلها أنت هنا.
سمير: حسن، سأحاول، فقد بدأت أُدرك سوء تصرّفي مع خالد، سأحاول إرتداء القناع الذي يُظهرني ودودا مع المتدينين رغم أني أحمل لهم في قلبي رسائل كراهية، ولكن لا تقلقوا سأحجم نفسي! (يضحك هو ويضحك الجميع، يرمي سيجارته ويدخلون القاعة)
______________________________________________
(1) وحدة الوجود: هي النظرة التي تقول أن الكون (الطبيعة) والله هما واحد.
(2) برهان التصميم: فحواه أن نشأة الكون من عدم وبُنية الكون وقوانينه يدلان على وجود المصمم الذكي أي الإله.  
(3) المبدأ البشري: فحواه أنه تم بناء الكون على هيئة تجعله ملائما تماما لنشأة الإنسان.
(4) الديانة الطبيعية: مذهب فكري، يدعو إلى الإيمان بدين مبني على العقل، لا على الوحي، ويعرف كذلك بمذهب الربوبية.



19.4.12

كي لا نعود إلى القرون الوسطى!





لا ينبغي أن يكون موقف المتدينين تجاه ما يتوصّل إليه العلم، هو الرفض، والرفض فقط، لكل ما يخالف فهمهم، خاصة وأننا في هذا الطور الحضاري مُقصّرون في تحصيل العلم والمعرفة.

وإذا كان المسلمون يمتلكون النص المقدّس المعصوم (القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة)، فهذه مسئولية كبرى في أعناقهم، تحتم عليهم أن يُعملوا عقولهم للفهم عن الله لنصوص قُصد منها أن تتجاوب بسلاسة ويُسر مع المستجدات العلمية والحضارية، حتى تدرك البشرية من خلال هذه المستجدات أن الله حق.

وإذا كنا في العصر الحديث، قد عجزنا (مع استطاعتنا) عن أن نقود الإنسانية في طريق العلم، فليس أقل من أن ننهل مما يتكشّف من المعارف، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى الناس بها.

إن آيات القرآن الكريم، كالرحيق في الزهرة، ينبغي على النحل بذل الجهد الكبير حتى يحوله إلى عسل صاف فيه شفاء للناس. أما إدعاء الإستئثار بالمعرفة، لمجرد أننا نمتلك النص المقدّس دون بذل الجهد للفهم والتفاعل الحضاري فخطأ فادح. كذلك أن نوصد الباب أمام العقل باعتبار أن كل ما نقول أمورا من العقيدة التي لا ينبغي النظر فيها، وهي ليست كذلك، فهو خطأ أكبر.

لا ينبغي في هذا العصر أن نُضفي القداسة على ما قاله المسلمون السابقون، كما فعلت الكنيسة في العصور الوسطى، وأن نعتبره الحق المطلق، ونردّده في مجالسنا ومنتدياتنا و"حَضَرَاتنا"، و"نمصمص الشفاة" سعداء بأقوال تحتاج إلى إعادة نظر وإعادة فهم.

إننا بهذا الأسلوب نخاطب أنفسنا وننتشي لما نقول، بينما العالم والعلم يتجاوزوننا، ولا يلقون إلى معارفنا بالا. هذه المعارف التي يحتاجها الإنسان كاحتياجه للطعام والشراب، لكننا قد كدّرنا المنهل ولوّثنا المَشرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(منقول عن كتاب رحلة عقل للكاتب د. عمرو شريف، ص. 244)

18.4.12

عند البحر تحدّثنا!





عند البحر تحدّثنا وقلّبنا أمانينا
وسارت أعيننا فوق موجه وعزفنا أغانينا
عند البحر نظرنا إلى مُلتقى السماء بالأرض
والزرقتين والصفراء بقربنا لما بدء العرض
عند البحر غرقنا في حبّه وسبحنا في أحلامه
ورأينا الناس يتّحدون بجسدهم مع زرقاء روحه
عند البحر ترى الأطفال تروح وتغدو ما بين عشقين
والرجال والنسوة يتأمّلون وقبلتهم واحدة كمن يُصلون
عند البحر ترى الحصان يعدو فرِحا والكلب يسبح
والجيب يُصارع الرمل والقارب المائي يسيح

***

عند البحر التقينا بعد جفوة وسهرنا في وضح النهار
والرمال تحنّ للجسد وتلاصقه والعريشة تُظلّنا كالأشجار
عند البحر جلسنا على جرائد قديمة وعلى تافه الأخبار
وتحدّثنا من حيث نحن وتفرّعنا عكس التيار إلى الأنهار
عند البحر تكلّمنا عن الطبيعة وسحرها والبحار
وخضنا في كل يابس لأنّ الزُرقة أمامنا حيث الأحرار
عند البحر سمعنا هدير الموج بُرهة وبُحنا بالأسرار
واقتحمنا كل جديد فليس أمامنا أي حصار
عند البحر رمينا بأحزاننا فخفنا من الإضرار
فعَلَتْ وجوهنا ابتسامة تدل على الإنتصار

***

عند البحر حدّثنا (البحر) عن اشتياقه لرواية عربية
ولكتاب قرأناه من وحي ثقافة مهجورة شرقية
عند البحر حدّثنا (البحر) عن نهضة الأمة من الأمية
وبعث لنا بموجة تطمئن هلعنا وتُزيل عنا العصبية
عند البحر حدّثنا (البحر) عن خطايا البشر والعنجهية
وعن صخوره التي اسودّت من آثام العدوانية
عند البحر ابتهلنا للخالق وتفكّرنا بالآيات الكونية
وأصغينا إلى قلوبنا بعد غسلها بالمياه النقية
عند البحر تذوّقنا من بحر الحياة وغمرتنا العاطفية
ولكنا سنبقى عند البحر وسواه مخلوقات عقلانية

15.4.12

مدوّنة نور الدرب تكشف: مدارس أول زمن!








يقول كثيرون: "إن المدرسة هي بيت الطالب الثاني"، حيث أن الإطار الأول هو إطار العائلة، ولا شكّ أن المدرسة تشغل حيّزا كبيرا في حياة الطالب، فبالنسبة للأولاد يحتل النشاط المدرسي إلى جانب العائلي معظم الوقت، إن لم يكن كلّه. لهذا كان لا بدّ من تأسيس بيئة عائلية مثالية للطفل، لتبني فيه تلك الشخصية المُميّزة، وكذلك فإن البيئة المدرسية تحتاج منا إلى إهتمام ومراقبة لأهميتها.

إذا تخيلّنا المدرسة المثالية التي ودّ كلنا لو تعلّم بها يوما أو التي نرغب في أن ينخرط بها الأبناء اليوم فإنها تكون كالتالي: "من بعيد تعرف أن هناك مدرسة في المنطقة وذلك من خلال ممرات المشاة الكثيفة والأرصفة الواسعة والموقف الخاص الذي يتسع لعشرات السيارات، وترى الملاعب عن بعد والبنايات المثيرة بجمالها. تصل إلى مدخل المدرسة الرئيسي دون أن يدفعك أحد ودون أي اكتظاظ فيستقبلك الحارس بابتسامة صباحية لا يمكن نسيانها، وتتقدّم خطوات أخرى لتلقي السلام على المدير وعلى بعض المعلمين الذين يرسلون إليك أيضا بابتسامات التفائل، كلهم واقفون، لا يعرفون الجلوس، متحمّسون لملاقاة طلابهم، فقد فارقوهم ليلا كاملا، وما أشد حماس الجميع لأداء وظيفته وبذل الحد الأقصى من العطاء، إذ أن الواجبات لا تُوقف أحدا هنا فالكل يزيد في الكرم العلمي. الممرات في الصباح تلمع من نظافتها وهكذا ستبقى في نهاية اليوم ولكن وسوسة عاملة النظافة تدفعها إلى تنظيفها مرة أخرى، أبواب الصفوف الفاقعة بحُمرتها مفتوحة تنتظر مجيء الطلاب الذين نادرا ما يتأخّر أحدهم عن بداية الدوام، كما أن اللافتات تنتصب في كل مكان تنتظر قدوم أي زائر لترشده إلى مُراده، وهذا هو الدرج الذي يُوصلك إلى طبقة صفوف الخوامس وإلى جانبه هناك آلة لم تتحرّك يوما ولكنهم يقولون إنها خاصّة بالمُعاقين. تدخل الصف فترى الطاولات البيضاء في أماكنها لا تتزحزح، وهي فعلا بيضاء لأنه لا كتابة ولا خدش عليها، والكراسي من القماش تبعث في جالسها حب الجلوس للتعلّم، اللوح يعكس ضوء السقف جاهزا لإلتقاط معلومات جديدة، الجدران مليئة بالإبداعات الطلابية والساعة منتصبة عند اللوح والجرس فوقها، والشبابيك ما بين مفتوح ومُغلق، والستائر الزرقاء تُغطّي قسما منها، والمكيّف موجود عند الحاجة. إذا أردت دخول المرحاض فإن اللافتات تدلك رغم قرب المكان من الصفوف، وهي تفوق بنظافتها نظافة تلك المراحيض البيتية، ولا ينقصها ورق أو صابون، وعلى بعد عشرة أمتار تنتصب ثلاجة مياه مكتوب عليها: مياه للشرب". إن هذا الوصف يظهر للكثيرين بأنه وصف مثالي لا يمكن تحقيقه بسهولة ولكنه في الحقيقة ما تحتاج إليه كل مدرسة، فإن كنا قد بذلنا الغالي والنفيس في سبيل إنشاء بيئة عائلية مثالية، فلماذا نتنازل عن البيئة المدرسية المكمّلة؟!

لكنّ الواقع يعرض علينا غير ذلك ويصدمنا بصورة تختلف كثيرا عن تلك التي نطمح إليها! لقد سنحت لي الفرصة مؤخّرا بزيارة إحدى المدارس ورأيت العجب العُجاب ولكم أن تحكموا على فظاعة المشهد من خلال الصور المرفقة. أصل إلى طبقة الصفوف التاسعة فأرى عن يمني أماكن مُخصّصة لشرب المياه ولكنها عاطلة عن العمل والنفايات تُلقى إليها، بجوارها هناك مراحيض متروكة، مفتوحة الأبواب ومنظرها يبعث القشعريرة في النفس وغير واضح أهي للذكور أم للإناث ومنظرها المثير للقرف يقابل الزائرين، كما أن هناك أيضا حنفية ماء ولحسن الحظ أنها تُخرج الماء ولكنه ينسكب على الأرض لأن الأنابيب معطوبة وبالطبع ليس هناك ورق وليس هناك صابون! تدخل إلى الصف فترى الطاولات مبعثرة عند جدران الغرفة والكراسي البلاستيكية منتشرة بعشوائية وفوضوية!

ويظهر السؤال المُتوقّع: من ذا الذي يتحمّس إلى طلب العلم في هذه الظروف المقيتة؟ ومن ذا الذي يقبل أن يعتبر المدرسة بيته الثاني إن كان هذا هو حالها؟ ومن ذا الذي سيشعر بالفخر والإنتماء لمثل هذا المكان؟ ومن ثم هل هذا المكان يليق بإنسانية الإنسان؟ وكيف سيحتمل الطالب قساوة الظروف إن كان المرحاض المدرسي بالنسبة له تجربة فظيعة؟ إني أذكر حتى اليوم أنه عندما تعلّمت في مدرستي الإبتدائية أن دخول المرحاض كان بالنسبة للغالبية آخر الإحتمالات وفي أسوأ الحالات من شدة القرف المتواجد داخله، إذا فهي ظاهرة وليست طفرة. فيما بعد يتبين أيضا أن المدرسة الإعدادية هذه لا تملك ماكنة تصوير صالحة للإستعمال، ولا تملك حتى ماسحات للوح!

البعض سيقول أن هذه الحالة هي شاذة ولكن الأمر لا يبدو كذلك، ونقول أنها لو كانت حالة فريدة، فلا يجب أن تكون حالة واحدة مثل هذه، لأن هذه الظروف تنمُّ عن حضارة لا تعرف للنظافة مكانا ولا تعرف للإنسانية وللرقي طريقا! آخرين سيقولون أن الأمر ليس بيدنا والميزانيات محدودة وهذا إدعاء متوقّع، لأن الغالبية تُلقي باللوم على الآخرين حتى يستطيعوا البقاء في هدوء نفسي إزاء الواقع المُخزي، رغم أن النظافة لا تحتاج إلى مُموّل ولكنها ثقافة تفرضها القيم والأخلاق والمبادئ، والنظام والترتيب لا يحتاج إلى أموال إضافية ولكنه يحتاج إلى صرامة في التنفيذ. فعلا هذا الواقع بعيد كل البعد عن المثالية وعن الإنسانية والمكان الذي من الواجب عليه الحث على النظافة والنظام، قد تحوّل إلى مكان يحتاج إلى تربية قبل أن يُربّي أجيالا. الخطر الكبير هو أن نألف مثل هذا الذل والهوان فيصمت كل من المعلّمين وكل من الطلاب والآباء إزاء هذه الكارثة التي يعيش أبنائنا في لُبّها، وتصير أماكن الشرب المليئة بالنفايات والمراحيض التي لا تصلح للإستعمال وإنعدام النظام، حدثا واقعا لا مناص منه وهو أمر طبيعي.


8.4.12

لماذا نفرّ إلى الطبيعة؟





ما إن تسطع الشمس وتزداد حُمرتها، وما إن تنحبس الأمطار، وما إن تسكن الرياح، حتى يخرج الكثير من الناس إلى السهول الخضراء الملّونة بأنواع الزهر الكثيرة، ليشمّوا النسيم تحت قبة السماء الزرقاء وفي بعض الأحيان بجانب هدير أو خرير المياه. فما هو سر الخروج المُستعجل إلى الطبيعة ولماذا هو أصلا؟!

إن الإنسان في الحياة المدنية أو الحياة القروية التي غمرتها التكنولوجيا، يبقى عنده حنين إلى أصله، ونضرب مثالا، ذاك الطالب الذي خرج للدراسة في إحدى دول الغرب، ورغم ما رأى من تطوّر ورُقي العيش إلا أنه يشتاق ويحنّ إلى مسقط رأسه وأصله، وكذلك، فإن الإنسان الذي عاش في غربة التكنولوجيا والمكننة يبقى يحن إلى أصله الذي هو تراب الطبيعة، فترى الناس تحنّ وتنتشي عند حلب بقرة رغم أن الحليب يصلهم إلى البيت بأسهل الطرق، وكذا فإن البشر يقضون أجمل اللحظات في مناجاة الطبيعة. كذلك، فإن صخب الحياة وضجيجها والضغوطات اليومية والركض المستمر والرّتابة التي تفرضها الإلتزامات، تدفع بالإنسان إلى التحرّر من هذه الأعباء المُصطنعة والهروب إلى الطبيعة البسيطة، الخالية من القيود، التي فيها الحرية تتعدّى الحدود والمتجدّدة بجمالها ومغامراتها.

ثالثا، فإن الطبيعة هي الجزء المكمّل للمجتمع وإن لم تكن المقابلة له، ذلك أن الطبيعة بعيدة عن عبث البشر ولذا فهي تتسم بالصفاء والنقاء والطهارة، أما المجتمع الإنساني فهو مليء بالفساد، ولذا قال الفيلسوف روسو أنه قبل تشكّل المجتمعات الإنسانية، عاش الإنسان بتوازن ما بين احتياجاته ورغباته وما بين إمكانيات الفرد، أما عند دخوله المجتمع فإن الرغبات قد زادت على الإمكانيات ولذا اختلّ التوازن المعهود. ورغم أن الإمكانيات زادت بفعل التكنولوجيا الحديثة، إلا أنه كما يبدو فإن الرغبات زادت بوتيرة أسرع. هذا يتلائم مع قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" (الروم، 41)، لذا فإن مصدر الفساد هو الإنسان وأساس كل اختلال في التوازن هو عمل انساني، ولذا ليس غريبا أن نسمع أقوال مثل: "أريد أن أخرج إلى الطبيعة ولا أريد أن أسمع أي صوت إنساني"، فهذا لا يعكس بالضرورة حبّا للإنعزال، إنما هو حبّ لأخذ سويعات من الراحة النفسية والجسدية بعيدا عن كل فعل إنساني وذلك من خلال الإتحاد مع الطبيعة.

علاوة على ذلك، فإن الطبيعة تتصف بشموليتها وبالنظرة الواسعة إلى الأمور، فهي تحوي كل قوانين الطبيعة ومن تأمّلها استقى الإنسان علمه وإيمانه اليقيني، والطبيعة فيها الحركة والحيوية والنشاط فهي متجدّدة ولا تتوقّف حركتها مهما صار ومهما حدث، ولها نظام ورغم هذا النظام فإنها لا تُمل لأن شموليتها تُخفي ملل قوانينها، حتى أن كلمة الطبيعة تأخذ معنى إيجابيا في اللغة فهي بخلاف "الغير طبيعي"، والوعي الذي يحث للرجوع إلى الطبيعة يزداد يوما عن يوم رغم التقدّم العلمي الكبير.

1.4.12

على نهر بييدرا هناك جلستُ فبكيت





هي رواية تُظهر حقيقة التخيير في هذه الحياة وكيف للإنسان أن يغيّر حياته من نقيض إلى آخر، ومع ذلك يستمر سيره على وجه البسيطة إلا أنه يكون قد سلك دربا مُغايرا تماما عن سابقه. ما أكثر الناس الذين يظنّون أن عيشهم هو أجمل عيش في حين يكونون في وهم مريح، لأنهم لا يُجازفون ولا يفكّرون في غيرهم ولا بتغيير ما حولهم ومن حولهم، ولكنّهم يعيشون لذاتهم ولذا فإنهم يموتون سريعا ولا يتركون بصمة على أثرهم. هؤلاء هم من يتمسّكون بالعُرف والتقاليد ولا يُحدثون فيها ثورة أو تغيير جوهري إلى الأفضل. قسم آخر من الناس يعيش حياته ببساطة وسذاجة ولا يعنيه ما يدورُ حوله ولا توسيع آفاقه من خلال الإطلاع والقراءة، وإنما يبقى منحصرا في عالمه الضيّق يعد العدّة لغده، وهكذا يعيش سنوات كثيرة دونما تقدّم. هؤلاء يخافون الجديد ويفضّلون سهولة ما اعتادوا عليه، أو لربما ينقطع أملهم مبكّرا ولذا فإنّهم يشيبون في ريعان شبابهم ويهرمون في عزّ بأسهم.

كذلك فإنّ الرواية تؤكّد على أن الحياة بلا ألم ومعاناة كبحر بلا سمك، إذ أن الألم هو جزء لا ينفصل عن الحياة، وهذا ينطبق مع المقولة الشهيرة "الحقيقة المرة خير من الوهم المريح"، وهي لب إحدى العلاجات الناجعة في علم النفس الحديث وهو علاج سلوكي-إداركي ويُدعى Act (Acceptance and Commitment Therapy) وبالعربية علاج القبول والإلتزام. ليس الألم شيئا فظيعا وإنما يجب تقبّل الحقيقة بحلوها ومُرّها، وعندها يجدر تحديد الأهداف في هذه الحياة وفقا للقيم والمبادئ وبالتالي الإلتزام بتحقيقها والوصول إليها. هذا يذكّرنا بقول الشاعر: "لا تحسبنّ المجد تمرا أنت آكله، لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا"، وبالقول: "من طلب العُلا سهر الليالي". كما أنّ كلا من العناء والتعب والألم يحمل أيضا جوانب إيجابية، إذ كيف للإنسان أن يعيش كل حياته بنمط ثابت دون صعود ونزول لأنه عندها سيملّ ويضيق صدره، كما كيف له أن يتلذّذ بثمار عمله دون تعب، وكيف له أن يميّز بين لحظات العناء والراحة وبين لحظات اليسر والعسر وبين الخير والشر، كما أن هذا العناء يخدم راحة مستقبلية طال وقتها أو قصُر. يقول مولانا جلّ وعلا في كتابه العزيز: "إنّ مع العُسر يسرا".

إن نهاية الرواية تحمل تحوّلا مفاجئا من شأنه أن يحبط القارئ، إذ أنّ بيلار وبعد أن تحولّت إلى درب المغامرة وتركت الحياة الطبيعية وبعد أن نجحت في مكابدة نفسها التي لطالما حثّتها على العيش الإعتيادي المضمون، تُصعق بتحوّل عشيقها إلى الدرب الذي تركته مع أنه هو الذي حثّها في بادئ الأمر على هجرانه. إنّ هذا التحوّل يوضح لنا الصراع المستمر الذي يواجهه الإنسان عند اختيار مسار حياته، وهذا يكون بارزا بشكل خاص في جيل المراهقة وبالأخص في مرحلة بناء الهوية الشخصية، ولربما هذا يشير إلى أن الشخص يشتهي ما لا يملكه. في نهاية الأمر، تجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية تحكي لنا قصة تطوّر حب من حب مستحيل إلى حب ممكن، بحيث أن كسر الحواجز والجرأة تبدأ تدريجيا حتى يستحيل تشييد السد بعد اختراقه، وعندها يصير التناوب بين دمج المحبَّين في شخصية واحدة وبين شخصيتين منفصلتين تناوبا مستمرا.

فيرونيكا تُقرّر أن تموت





إنه إسم مستفزّ لرواية، إذ كيف لفيرونيكا أن تقرّر موتها؟ فهل الموت هو قرار شخصي يتحكّم به الإنسان؟ عندما يتناهى إلى سمعنا مصطلح "الإنتحار" فإننا نظنه تحكّم بالمصير لأول وهله، ولكن ما يغيبُ عنا آنذاك هو أنّ الله يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون. هذا ما يتأكّد في الرواية إذ أنّ فيرونيكا تقرّر أن تضع حدّا لحياتها منتحرةً فتتفاجأ بأن تستفيق في مستشفى للأمراض العقلية، فيُعيّن لها الأطباء خمسة أيام لموتها ولكن حتى الطب الحديث يعجز عن القول الفصل في الأجل. هذا يذكّرنا بالآية الكريمة : "وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت"(لقمان، 34).

فيرونيكا هي مثال لتأثير الحياة المادية إذ أنه لم يكن ينقصها شيء في دُنياها ولكن ما دفعها إلى اتخاذ هذا القرار المصيري هو "الروتين" الذي تحياه كل يوم، فهي تعيش كل يوم نفس الترتيبات ونفس الهموم ونفس الأفراح ونفس الأحزان والأحداث، ولكنها غفلت عن السبب الحقيقي لبُؤسها ألا وهو فقدان الجانب الروحي فهي لم تكن تحيا لهدف سامٍ بعيد الأمد وإنما كانت تحيا كل يوم بيومه. إن هذه الرواية ورغم الإيحاءات الجنسية البارزة فيها ورغم الأفكار الإلحادية إلا أنها تُعالج قضايا بالغة الأهمية في علم النفس ولذا نصطاد ما يُفيدنا من بحر كل شيء. إنها رواية تأخذك إلى فهم عالم جديد يهابه كثير من الناس ألا وهو عالم الجنون فينحدر الكاتب إلى العمق المطلوب لسبر أغواره، ويأخذنا في رحلة ما بين الطبيعي واللا طبيعي والحد الفاصل الغير واضح في أحيان كثيرة بين الصنفين.

إن تجربة الجنون غيّرت حياة فيرونيكا إلى الأفضل بخلاف ما هو متوقّع، إذ أنها خلال الخمس أيام المتبقية لحياتها أدركت طعم الحياة لأنها استطاعت التحرّر من كل قيود المجتمع بحكم كونها في مستشفى للأمراض العقلية حيث كل شيء مسموح تقريبا، وعندها اكتشفت أمورا جديدة لم تكن تعلمها، مما كسر "روتين" حياتها وأخذت عندها تستعيد رغبتها في الحياة مع علمها أن أجلها قريب وفقا لفحص الأطباء الغير دقيق.

حجرٌ يتكلم





حجرٌ يتكلّمُ أن حرّروني من قُيودي،
فلم أعد أستبيح جُمودي،
ولم أعد أحتمل خُطى أعدائي،
ولا حتى سُكون أصحابي،
ولكنّ الناس حولي في صمت مُطبقٍ،
يحنّون لمسيحهم ولفجر مشرقٍ،
وهم ينتظرون،
لا يتكلّمون،
وإن تكلّموا تلعثموا،
لربما هم خائفون،
أو لربما محكومون،
مُقيّدون
***
هذا هو الشيخ يعتلي منبره،
يسبّح بحمد الله ويشكره،
ويُلقي إحدى خطب يوم الأرض،
مثل كل عام،
ويحث الناس على الصيام،
والقيام،
ويهمس في آذان المصلّين،
أنّ فلسطين ستعود حرّة،
وستنقلب الكرّة،
والحجر ما زال يتكلّم،
أن حرّروني من قيودي،
فلم أعد أستسيغ قعودي
***
ذاك الكاهن في كنيسته،
يعزف "السلام الملائكي"،
ويُعرّج على ترتيلات صلاة التبشير،
ويُبارك من حضر،
ولربما نسي الخطر،
ويسأل الشفاء للمرضى،
والأعطية للمُعوزين،
والحرية للمظلومين،
والحجر ما زال يتكلّم،
أن حرّروني من قيودي،
فلم أعد أستطيب صمودي
***
تانك متظاهرة ترفع شعارات،
وتُطلق صيحات،
وتطلب المعجزات،
أو لربما المستحقّات،
وذانك رجل سياسةٍ،
يُصدر تصريحات،
ووعودات،
ويبشّر بإصلاحات،
والجماهير تصفّق،
والحجر ما زال يتكلّم،
أن حرّروني من قيودي،
فلم أعد أستسلم لركوني
***
ماذا عساهم يفعلون؟!
إن كانوا يحاولون،
ويجتهدون،
ولكنهم لا يُصيبون!
لا يُدركون أنهم سطحيون!
نسوا تربية أبنائهم،
على حب أوطانهم،
فبقيت الذكرى ذاتها كل عام،
والخُطب والترانيم تُحاكي الأوهام،
والمظاهرات تنتهي، فتنقضي الأحلام،
والحجر ما زال يتكلّم،
أن حرروني من قيودي،
فلم أعد أهوى قُعودي