23.2.14

الجمع بين الأضداد


في النظرة السطحية القاصرة، يصعب رؤية التركيبة والتأثيرات المختلفة والتي تظهر كأنها متضادة في أحيان كثيرة. ان هذه الحياة مركّبة بطبيعتها وكل محاولة لتبسيطها تؤدّي حتما الى اختزال الصورة والى الابتعاد عن الواقع، لكننا نضطر الى ذلك في أحيان متقاربة وذلك لغرض التبسيط ومحاولة بحث بعض جوانب الظاهرة بصورة علمية (منهج البحث العلمي). لكن المشكلة الأساسية تكمن في محاولة التغافل عن التركيبة وعدم الوعي لإمكانية تواجد جوانب مختلفة للظاهرة (أحيانا مُتناقضة). النظرة القاصرة للإنسان تفترض أنه مُسطّح، فإما هو صالح وإما طالح، إما خيّر وإما شرير، إما كريم وإما بخيل، لكن اذا قلت أن عنده نزعة الصلاح ونزعة الفساد، عنده ميل للكرم وميل للبخل، عنده حبّ وكره، صَعُب ذلك على الفهم والاستيعاب.

على سبيل المثال، اذا قلت أنك تحبّ شيئا وتكرهه في ذات الوقت، أو أنك تحترم شخصا وتحتقره في ذات الوقت، أو أنك تفرح وتحزن لنفس الشيء، رأيت كثيرا من الناس ينظرون اليك بعيون مُبهمة، ولربما يدفعهم ذلك الى رميك بالتهمة التقليدية: "ما ترسالك على برّ، وضّح حكيك، خلينا نفهم شو موقفك، انت شكلك متردد وبتعرفش اتحدد موقفك". لكن هذه هي الطبيعة البشرية، انها مركّبة! فيمكن أن تحبّ نفس الشخص لأشياء وأن تكرهه لأشياء أخرى، وربما يطغى أحد الإحساسين على الآخر ولكن يبقى الآخر متواجدا في الخلفية، في اللا واعي، إلى أن يُؤذن له فينفجر في أزمة بين المحبّيْن.

في هذا الصدد يطيب لنا أن نقتبس قولا من كتاب التخلف الإجتماعي للدكتور مصطفى حجازي مفاده أن:





أي أن الجوانب المتعدّدة للظاهرة والمتناقضة في أحيان كثيرة، هي التي تُنتج لنا الصورة التي نراها للظاهرة. فالإنسان الذي نلقاه ونتحدّث معه ونقول أنه: كريم وشجاع لكنه متكبّر، تعتمل في داخل لا وعيه قوى شد وجذب من شأنها أن تُنتج لنا الصورة التي نرى فيها الشخص، كما أنه عند تحضير كثير من أنواع الطعام، نُدخل أحيانا أطعمة متضادة، مثل ملح وسكر، حامض وحلو، لتنتج لدينا ظاهرة أكلية جديدة.

22.2.14

تجديد الفكر الديني


ظروف الحياة المتغيّرة تكاد تكون معروفة للجميع. ابن التسعين يُقارن بين الظروف المعيشية التي كانت سائدة في ريعان شبابه وبين ظروف اليوم، فيصرّح: "الله على أيام زمان"! زمان؟ هل انقلبت الحياة خلال سبعين عاما؟! لكنّ هذا التصريح على بساطته، يُعبّر عن احساس داخلي بتغيير كبير في ظروف الزمان، ولنا أن نتخيّل ما كان قبل سبعين عاما وما نحن عليه اليوم، فهل كان هناك حاسوب قبل سبعين عاما؟ هل كانت هناك كهرباء أصلا؟ هل كانت هناك ثلاجة؟ غسالة؟ تلفاز؟ هل كان هناك انترنت؟ هل كانت هناك أجهزة السمارتفون؟ هل تمكّنوا من الاتصال بآخر العالم بالصوت والصورة ومن دون أن يدفعوا شاقلا واحدا (عبر السكايب)؟ هل شاهدوا ما يحدث في العالم كله وهم جالسون في البيت؟ هل طلبوا منتجات من دول الشرق الأقصى من خلال كبسة زر؟

ان هذه التغيرات التي حدثت خلال سبعين عاما، ما هي الا مرآة للتغييرات التي تحدث في ظروف الحياة المعيشية طوال الوقت، فما استمرت الحياة، استمرت التغييرات والتطوّرات، واذا كان هذا التغيير قد حدث في سبعين عاما، فكيف بالتغييرات التي مرّت على الانسانية منذ أكثر من ثلاث أو أربع قرون الى يومنا هذا؟ هل يُعقل أن نقف مكتوفي الأيدي ونقول: "ان فحول الأمة قد قدّموا لنا كل ما نحتاج اليه من علوم، فلا حاجة الى مزيد من البحث في علوم الفقه والحديث، ولا حاجة الى مزيد من تطوير علوم الطب والكيمياء والفيزياء"؟ واذا تركّزنا في الفكر الديني نظرا للجمود الذي أصابه بشكل خاص، فهل يُعقل أن نقول: "ان سلف الأمة قد فهموا هذا الدين فأحسنوا فهمه، فلا حاجة الى مزيد من الاجتهادات ولنُغلق باب الاجتهاد حرصا على هذا الدين من القاصرين في العلم". المسألة ليست مسألة أنهم هم أحسن منا أو أفقه منا أو أعلم منا ولذا لا ينبغي علينا أن نتكلّم في حضرة فهمهم واجتهاداتهم، ولكنها مسألة تغيّر الزمان والظروف المعيشية، فلو فرضنا أن علماء الأمة اليوم أعجز من السلف أو أقل منهم علما (وليست هذه هي المسألة المهمة، ولكن تماشيا مع منطقهم)، فإن ذلك لا ينفي الحاجة ولا يُلغيها الى أننا نحتاج الى تجديد، تعديل، تطوير وملائمة الفكر الديني للظروف المعيشية المتغيّرة.

ابن تيمية على جلالة قدره، عاش من 1263 الى 1328م، فهل يُعقل أن نجمد على فكره؟ هل يرضى هو ذاته أن نأخذ كلامه فنقدّسه ومن ثم لا نعيد النظر فيه؟ تلميذه ابن القيم رحمه الله عاش في نفس الفترة تقريبا. الإمام الشافعي عاش من 767 الى 820م، الإمام أحمد من 780 الى 855م، الإمام مالك من 711 الى 795م، الإمام أبو حنيفة من 699 الى 767م، وغيرهم من الأئمة العظام. ان هؤلاء الأئمة الأجلاء قد سطّروا أفهامهم واجتهاداتهم في مجلدات كثيرة، وهي أفهام بشرية واجتهادات منذ أكثر من 1200 عاما في حال الأئمة الأربعة! وأكثر من 700 عاما في حال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم! هل جمد الزمان منذ ذاك الوقت؟ لا وألف لا! فلماذا يجب أن نُجمّد الفكر الديني اذا؟! انه ينبغي عدم الجمود على هذه الأفهام والاجتهادات التي جاءتنا منذ زمن بعيد، كما أنه لا ينبغي التنكّر لها والقائها جانبا، وانما الصواب أن يتم بحثها ومراجعتها والانطلاق منها الى تطوير الفكر الديني والدخول في مسائل العصر التي لم تكن موجودة في ذاك الوقت.

الاعتباطية المُكتسبة


ان الناظر الى الأمة العربية يدرك مدى العفوية والاعتباطية التي تعاني منها. المشاريع القومية والشخصية لا تحمل رؤية مستقبلية، ولذلك نرى الحماس الزائد في بداية كل مشروع، فتور بعد فترة، ومن ثم اندثار لكل الجهود التي بُذلت ولم تُثمر! نستورد الآلة من الغرب، ننتج بواسطتها موادا استهلاكيا بسيطة، ومن ثم يذهب صيت تلك الآلة ولا يدري صاحبها ماذا يفعل بها، لأن موضتها قد فاتت (الغرب يستمر بتطوير الآت أحدث، أنجع وأسرع وانتاجا) والمنتجات التي تُنتجها قد باتت من الماضي! وبالتالي نحن في حالة جري مستمر وراء اختراعاتهم وانتاجاتهم، ونستمر على حالنا هذه ونحن نرُدّد: "اسعَ يا عبدي وأنا بسعى معك". أهذا يُعدّ سعيا؟! أم لحالقا بالرّكب؟! لماذا نُصرّ على البقاء في الخلف؟! هل طبيعتنا تُحتّم علينا أن نبقى في الخلف؟! اذا كان الجواب نعم، فكيف حدث أن ازدهرت حضارتنا في العصور الوسطى؟!

ان هذا حال، وليس طبيعة مولودة ولا صفاتا موروثة، فالتخلّف والجهل ليسا من مميزات صنف معين من الناس، ولكن تلك الأيام يداولها الله بين الناس. ورغم أن هذا الحال دام وقتا طويلا وربما يدوم سنوات أخرى، الا أننا على يقين من أن دوام الحال من المحال. ان الانسان العربي يشعر بالعجز عن السيطرة على مصيره، فهو غير ضامن لمستقبله! واحساسه بانعدام الأمان والاستقرار، يؤكّدان عجزه عن السيطرة على يومه وغده. ذلك أن مصيره ليس بيده، وانما بيد من هم أقوى منه: بيد المتسلّط الداخلي (الذي يكون في الغالب ديكتاتورا) وبيد المتسلّط الخارجي (الذي يصبّ استعماره على الدول العربية وثرواتها). ان الشعور بفقدان السيطرة، يُصوّر للإنسان عالما اعتباطيا، عفويا، غير مُنظّما، مما يدفع بالفرد الى مزيد من الاعتباطية ("أحسن اشي اللي بعيش علبركة"، "ما في حاجة نحدد موعد، وينتا ما بيجي عبالي بمرق تلاك"). إذا كان العالم اعتباطيا، فلماذا الاجتهاد والسعي الى النظام والتخطيط والتفكير في المستقبل الغير مضمون (الرؤية المستقبلية)؟! اذا أعطاني العالم فوضى، فسأرجع له فوضى بدوري. هذا هو واقعنا وهذا هو المنطق الذي نتعامل به معه. 

مسلمون أم مجرمون ؟!


لا يخفى علينا ما تفعله العصابات الإسلامية التي تُسمّي نفسها بـ"الدولة الاسلامية" والملقّبة بـ "داعش"، فهي تقتل، تسفك الدماء، تُساهم في تفرّق المعارضة، تريد هدم الأضرحة والقبور والى ما ذلك من إخلالات في فهم روح الدين والسياسة. أهو وقت هدم القبور؟! انه خلل في فقه الأولويات، وهو أحد نواتج الخلل الأكبر: فهم الدين بصورة مُعوجّة.

ان أياديهم مُلطّخة بالدّماء وهم يقتلون بوحشية وقتل الانسان عندهم من أسهل ما يكون، فبعد أن يستنطقونه الشهادة، ويقرأون حكم قتله: "كان تارك للصلاة وكان سكرجي"، يذبحونه من الرقبة كما يذبحون الخراف، أمام أعين الكاميرا التي تُصوّر الحدث! انها فتنة كبيرة، تدفع الى التشكيك في هذا الدين وربما الى تركه لوحشية بنيه، فضلا عن ازدرائه وكراهيته وتحذير الناس منه ومن لاانسانيته والتشهير به وبالتالي نفور الناس عنه، وخروجهم منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا! ان هذه الأعمال الوحشية التي لا يقبلها دين ولا عقل ولا منطق، تؤدّي الى أن تطفو أقوال من قبيل: "اذا كان هذا هو الإسلام فلا نريده!"، "الإسلام دين السيف، القتل، الإرهاب، اللاانسانية والوحشية". انه وضع محزن، مُبكي وهو بالضرورة نتاج فراغ فكري وجمود عاطفي، ليتحوّل الإنسان الى إله القتل والتعذيب، وبئس به من إله!

 انه ينبغي في هذا العصر أن نوضّح باستمرار أن الاسلام لا يُساوي المسلمين والمسلمون على حالهم بعيدون عن أن يمثّلوا الإسلام ورحمته ورُقيّه، وبالتالي ينبغي الفصل بين الاسلام والمسلمين. الاسلام شيء وصورة المسلمين العامة شيء آخر، الاسلام في واد وصورة المسلمين العامة في واد آخر. ثم اذا كان الفهم أعوجا فهذا لا يعني اعوجاج الأصل، اذا كانت هناك فئة قد انحرفت عن روح الدين فهذا لا يعني انحراف الدين، وبالتالي يجب التدقيق في الفكر والقول، ويجب أن نكون واعين الى أن أولئك فئة متشدّدة مُجرمة، ورغم أقليتهم فإن صداهم عالٍ، ولكنهم بالتأكيد غير ممثّلين لهذا الدين. وقد أحسن روجيه جارودي التعبير حينما قال: "الحمد لله أنني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين".

أمين يبحث عن الهجرة


في ذاك اليوم، استيقظ أمين متأخّرا من نومه، كعادته في الأيام التي لا يذهب فيها الى المدرسة، فالصباح المدرسي بالنسبة له هو كابوس بحد ذاته، علاوة على الساعة الرنانة التي تصم آذانه قبل صياح الديك وهو يسمع نغماتها منطلقة من غرفة والديه. انه يكره تلك الساعة ويودّ أن يحطّمها ولكنه يدرك أن أمّه ستغضب كثيرا ان فعل، وبالتأكيد ستشتري واحدة غيرها أشد ازعاجا وأنكر صوتا!

انه يعتبر مثل هذا اليوم فرصة لا تُعوّض وهدية يحسن استغلالها، خصوصا أنه يوم عطلة خاص، فاليوم يوم اثنين وهو أحد الأيام المدرسية ولكنه ليس كذلك اليوم، وهذا يعني أن أمه لن تبقيه حبيس المنزل، ولن يضطّر الى تعبئة الطاولة البنية بالكتب والدفاتر، فهو يوم خالٍ من الوظائف البيتية، وعندما يكبر أمين سيدرك أن ما يحسه في يوم العطلة هو شعور بمزيد من الحرية.  

وبدلا من أن يحمل الحقيبة الثقيلة على ظهره، يحمل كأس "الشوكو" الساخن في يده ويتكأ كالطفل المدلّل على الكنبة، وبدلا من أن يمشي الى المدرسة بخطوات متثاقلة، يقفز ويركض في البيت وحوله ويحمل الكرة في أسوأ الأحوال، وبدلا من أن يأخذ الكتاب بين يديه، يحمل هاتفه النقال الذي لا تنقصه أحدث الألعاب المتطوّرة، لينتقل من لعبة الى أخرى.

أما أمه فلا تكفّ عن شغل البيت ولو لساعة واحدة وهي تستيقظ في نفس الوقت كل يوم. كثيرا ما تساءل أمين: "ما الذي يدفع أمي الى الاستيقاظ باكرا كل يوم، رغم أنها لا تذهب الى المدرسة؟ حتى في الأيام التي لا يعمل فيها أبي، هي تستيقظ في نفس الوقت! غريبة أنت يا أمي! لو أني مكانك لنمت الدهر كله!".

أم أمين تحبّ أن تفاجئ أبنائها أحيانا بأسئلة تدفعهم الى التفكير والنظر، ففي ذلك الصباح ما ان خرج أمين من غرفته حتى باغتته أمه بالتحية الصباحية المعتادة وعندها فهم أمين أن السؤال اليومي قادم لا محالة.

أم أمين: "صباح الخير يا أمين، صارت الدنيا الظهر وانت بعدك نايم يا بني، متى ستراجع دروسك؟".

أمين: "صباح النور يا أمي، اليوم يوم عطلة وما في عنا وظايف".

أم أمين: "هل تعرف لماذا اليوم هو يوم عطلة؟".

أمين: "لا أعرف! هل تعرفين أنتِ؟".

أم أمين: "نعم أعرف ولكني أنا التي سألت وأنتظر منك الإجابة".

أمين: "لم يخبرونا في المدرسة، هم قالوا لنا أنه يوم الاثنين والثلاثاء ما تيجو على المدرسة بدون شرح أو تفسير، وبعدين لو كنت بعرف كنت خبرتك ياما، هو في بينا أسرار؟!".

أم أمين: "أريدك أن تكتشف لوحدك ما هو سبب العطلة، وأن تخبرني عندما تعرف"، وتابعت أم أمين تنظيف أرضية المنزل وهي تحدّث نفسها: "ما هذه المدارس التي لا تفطن الى مثل هذه الذكرى العطرة، همهم الوحيد أن يجمعوا أكبر عدد من أيام العطل وينسون رسالة العلم والتربية وراء ظهورهم، كيف لذكرى هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أن تُنسى، كيف لهذا الجيل أن يُغفّل عن تاريخه وعن دينه وعن سيرة نبيه؟! اللهم أصلح حالنا يا رب!".

خرج أمين من المنزل وهو مشغول البال، الأفكار بدأت تتسابق في عقله دونما انتظام، والفضول الذي ثار داخله لم يكد يفارقه في تلك الأثناء، فهو في العادة لا يخيب ظن أمه، ويعتبر كل سؤال منها بمثابة تحدّي ينبغي عليه اجتيازه بنجاح، وان لم ينجح بالتحدي فكما تقول له أمه دائما: "يكفيك شرف التجربة يا بني".

أخذ ينظر حوله لربما يجد مرشدا لحيرته أو علامة تهديه الى الجواب وصار يفكّر: "كم هو مزعج أن تكون جاهلا! كم هو مزعج أن لا تعرف!"، تأمّل السماء الزرقاء فوقه ووجد فيها الغيوم البيضاء تسبح مسرعة كعادتها وكأنها تريد الوصول الى هدفها في أسرع وقت، ونظر الى كومة التراب في حديقة منزلهم والتي يستغلها من أجل بناء بيوت من الطين أو بناء أجسام غريبة، وجاءته نحلة فتابعها بنظراته الى أن وصلت الى شجرة الليمون التي أزهرت قبل أيام، وشجرة الزيتون وشجرة التين اللتان لا تحلو حديقة المنزل دونهما على حد قول أبيه، وأثناء جولته التفكيرية تذكّر أن المدارس لا تُعطّل في الغالب الا اذا كانت هناك ذكرى غالية أو عيد بهيج.

لكن لا يمكن أن يكون هذا اليوم يوم عيد، لأن مظاهر الفرح غير موجودة، وعيد الأضحى قد حلّ قبل أيام معدودة، رغم أن هلال رمضان ما زال معلّقا على شرفة الجيران! أغلب الظن أنه سيظل معلّقا الى رمضان القادم! لا بدّ أنها ذكرى من تاريخنا الغابر! أي كتاب تاريخ سأفتح الآن لأبحث فيه؟ لا، فكرة البحث في كتب التاريخ هي فكرة عسيرة، فكل كتاب يعد مئات الصفحات وبه آلاف الكلمات التي لا أفهمها!

أمين: "ها هو صديقي كمال، يا لها من صدفة، بالتأكيد سيساعدني فكلنا نناديه أبو الحلول بسبب الحلول العبقرية التي يُدلي بها، فكم من معلم راح ضحية خططته الجهنمية، وكم من طالب أصبح يرتعد من كيده! كمال! كمال! أحتاج الى مساعدتك!".

كمال: "السلام عليكم، كيف حالك يا أمين؟ هل ما زلت تلعب بأكوام التراب مثل الصغار؟! تعال معي عندي لعبة جديدة على الحاسوب، أريد أن أُريك اياها".

أمين: "وعليكم السلام، وفّر كلامك الى وقت آخر، فأنا في ورطة وأحتاج الى مساعدتك الفورية".

كمال: "ماذا هنالك؟ هل خاصمك أحد وتريدني أن أنتقم لك؟ أم أن ذاك المعلم الذي لا يعرف أن يخطّ اسمه قد أخجلك أمام الطلاب؟".

أمين: "يا أخي عن ماذا تتحدّث؟ اسمعني لكي تفهم ولا تكثر الكلام!".

كمال ضاحكا: "كلّي آذان صاغية، هيا يا أمين أطربنا بورطتك!".

أمين: "أمي تسئلني لماذا اليوم هو يوم عطلة، وأنا لا أعرف الإجابة".

كمال: "هل هذه هي ورطتك التي تتحدّث عنها؟ أين الورطة في الموضوع؟".

أمين: "ورطة وأي ورطة! سأخيّب ظنّ أمي ان لم أعرف".

كمال: "الحل موجود وبسيط، تعال عندي لنبحث من خلال الانترنت".

أمين: "صحيح، كيف غاب عن بالي هذا الحل العبقري؟".

كمال: "هيا بنا نذهب فأنت تحتاج الى دروس في الحلول العبقرية".

جلس أمين وكمال وراء الشاشة الصغيرة وأخذا يبحثان في محرّكات البحث عن الذكرى التي تصادف في هذا اليوم، لكنّ دون جدوى فما من اشارة واحدة تدلهم على مرادهم. لقد وجدوا ذكرى وفاة أينشتاين ونيوتن وماركس وذكرى وفاة المطربة أم كلثوم، ويوم ميلاد كل الفنانين ولاعبي الكرة، وكلهم لا يصادفون في هذا اليوم!  

كمال لم ييأس بسرعة فهو أبو الحلول، ففكّر أن يدخل الى شبكة التواصل الاجتماعي المعروفة بالـ"الفيسبوك"، وما ان دخل الى هناك حتى وجد واحد من بين مئة صديق عنده وقد كتب: "كل سنة والأمة الاسلامية بألف خير، رأس سنة هجرية مباركة وكل عام وانتم بخير". عندها صاح أمين فرحا: "لقد وجدتها! لقد وجدتها! انها ذكرى رأس السنة الهجرية!".

أمين: "الآن أتذكّر أن خطيب الجمعة قد ذكر رأس السنة الهجرية في صلاة الجمعة الأخيرة ولكني بالعادة لا أفهم كثيرا مما يقول".

كمال: "هيا بنا نلعب اذا، فورطتك قد وجدت لها حلا".

أمين: "لا، تمهّل! دعنا نبحث اكثر عن هذه الذكرى".

كمال: "حسنا! سأقرأ لك من أحد المواقع فاسمع جيدا. لقد كانت الهجرة النبوية من مكة المكرّمة الى المدينة المنوّرة حدثا تاريخيا عظيما، ولم تكن كأي حدث، وان كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها والمكان الذي وقعت فيه، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أشرف مكانا وأعظم من مكة والمدينة. وقد غيّرت الهجرة مجرى التاريخ وحملت في طياتها معاني التضحية والصحبة، الصبر والنصر، والتوكّل والإخاء، وجعلها طريقا للنصر والعزّة ورفع راية الإسلام وتشييد دولة الاسلام. قال الله تعالى: "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة، 40). انها معلومات شيّقة، لكن دعنا نفعل شيئا آخر!".

أمين: "انتظر قليلا، اني أرى رابطا لفيلم اسمه الرسالة، ما رأيك أن نشاهده؟ لربما يكون فيلما ممتعا".

كمال: "كما تريد، الفيلم أهون من قراءة كل تلك المعلومات".

وأخذا يشاهدان الفيلم باستمتاع غريب رغم طوله، ونسي أمين أنه لم يخبر أمه قبل أن يخرج من البيت، أما كمال فقد نسي اللعبة التي أراد أن يريها لأمين، وانغمس الاثنان في جو الفيلم، الى أن صارا يبكيان في لحظات الفيلم المؤثّرة، وانتهى الفيلم الذي استمر أكثر من ثلاث ساعات دون أن يشعرا، ولم يفطنا للحظة الى الأكل أو الى المرحاض، مما أحرج كمال بعض الشيء، فصديقه جلس عنده أكثر من ثلاث ساعات ولم يُقدّم له شيئا، لكنّ الاثنان اتفقا على أن مثل هذا الفيلم لا يُنسى وأن المعلومات التي أغناهما بها هي كثيرة جدا، وهي فرصة لم تسنح لهما في أي مكان آخر ليطّلعوا من مكان قريب على تاريخهم ودينهم وسيرة رسولهم.

ولما عاد أمين الى المنزل، لاقته أمه مستبشرة أن ابنها قد حل اللغز، فهو لا يُخيّب ظنّها، وما كان منه الا أن أخذ طبله الصغير وبدأ يُغنّي:

"طلع الـبدر عليـنا        مـن ثنيـات الوداع

وجب الشكـر عليـنا      مـا دعــــا لله داع

أيها المبعوث فينا       جئت بالأمر المطـاع

جئت شرفت المديـنة    مرحباً يـا خير داع

انها هجرة رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم يا أمي!"، وأخذ يحدّث أمه عن الطريقة التي حلّ بها اللغز ولم ينسَ أن يحدّثها بطبيعة الحال عن فيلم الرسالة، وكم كانت أمه فخورة به في تلك الأثناء، لتقول له:

"لم تُخيّب ظنّي يا أمين يوما واحدا، أنا فخورة أني أم لولد مثلك!".

الغربة اللحظية !


طالما أنتَ بالجوار، يبقى خبز أمك كخبز الجارة ويبقى كباقي أنواع الخبز، أما حين تبتعد، يبدأ المفعول النفسي يؤتي أُكُله ليستنطقك فتقول: أحنّ الى خبز أمي! أحنّ الى رزّ أمي! أحنّ الى ملوخية أمي! طالما أنت في بيئتك، حبّك للغتك يكون كحبّك للوردة الحمراء وللحقول الخضراء التي لا بدّ أن تضمّ الخبيزة في خَضَارها، أما حين تكون هناك، حيث البُعد والغربة اللحظية، يشتعل موقد الحنان داخلك، ويفيض الحبّ من داخلك ليُثبت وجوده في بيئة لا يعرفها ولا تعرفه، فيصير حبّ العربية النظّارة التي تشاهد من خلالها، وتراثك يمثل أمام عينك، دون أن يتزحزح! هل هذا فصام؟! لا، انه هيام! هيام لا يصحو الا عندما نفتقد ما اعتدنا عليه، ولو كان الفقدان لوقت محدود، ولكنه سيصحو في الغالب، لأننا نشتاق الى المفقود!

أثناء تجوالك في شوارع تل أبيب، يتولّد ذاك الإحساس البارز، ليدفعك للبحث عن ثقافتك فلا تكاد تجدها، وان وجدتها فإنها غالبا ما تُعرض وكأنّها مغلوبة، مُستضعفة، فقيرة ومتخلّفة! تنظر من حولك باحثا وتتساءل: أين حروف العربية التي لا تُفارق بعضها فتراها ملتصقة لتُعبّر عن ما في داخلها؟! أين كلام العرب الفصيح والبلاغة التي اشتقنا اليها؟! أين راديو العرب وأين موسيقى العرب؟! أين صحائف العرب وأين كتب العرب وأين مقالات العرب؟! أين علماء العرب وأين مفكّري العرب؟! أين لباس العرب وأين جمال العرب؟! أين العرب؟!

سوريا الثورة ؟


أحيانا أتساءل اذا كان ما يحدث في سوريا هو ثورة أم مجرّد فوضى (anarchy)، وهو تساؤل مشروع في ظلّ الفوضى والبلبلة التي تشهدها البلاد. رائحة الدماء والقتل تُسيطر على سوريا من أقصاها الى أقصاها، التقبيح الفاحش في تعذيب البشر، دفن الناس أحياء، تجويع الأطفال، سلبهم طفولتهم، تيتيمهم، ترميل النساء، تمزيق الأسر، تشريد الملايين وأوضاعهم المادية البائسة، هدم البيوت، تدمير الطبيعة، هدم كل معالم الحضارة وقتال مستمر، حرب طاحنة بين أبناء الوطن، بين من يتكلّمون نفس اللغة ويتشاطرون تاريخا مشتركا. هل ينبغي أن نُضحّي بالإنسانية من أجل الثورة؟! لقد تم دفن الانسانية في سوريا، وما نشاهده هناك أقل شأنا من الحيوانية! هل الثورة يمكن أن تكون أقل شأنا من الحيوانية ولو كانت ثورة مُسلّحة؟! اننا لا نرى هذا التقاتل في عالم الحيوان، ولربما يمكن احداث نوع من تقاتل اذا ما حَقَنّا مجموعة من الحيوانات بهورمون التستوستيرون، ولكن سرعان ما يتلاشى تأثير هذا الهورمون، فهل مستوى التستوستيرون لدى أبناء الشعب السوري فوق السحاب؟!

والمعارضة تتناحر والفرق الكثيرة تتفرّق زيادة وتكفّر وتطعن في بعضها البعض، والجهل بارز والاغتصاب مستشرس وانتهاك كل الحُرُمات واقع، ورغم كل الأسى يبحث السوريون عن اشباع غريزتهم الجنسية؟! حرب وجنس؟! ثورة وجنس؟! قبل ثلاثة أيام، رُفع الى اليوتيوب فيديو يُظهر مضاجعة احدى قادة فرق المقاتلين لحفيدته! (لا يهمّني معارضة أو نظام).

ان هذا الفيديو مثير للقشعريرة والاشمئزاز، وعدد مشاهداته يقترب من المليونيْن، ولا يهمّني ان كان يخدم النظام أو المعارضة، ولكني واثق من أن مثل هذا العمل لا ترضاه انسانية ولا ثورة ولا قيم ولا أخلاق العرب! ولنفرض أنه من فعل النظام، وأنه تم تلفيقه للمعارضة لتشويه صورتها ولزيادة فرقتها، يبقى السؤال: اذا أودت بنا الثورة الى زيادة فواحش النظام والى المجاهرة بهذه الفواحش وفضح الأعراض وتشويه صورة العرب بين الناس أجمع، فهل هذه هي الثورة التي أرادها المعارضون؟! اما أن يكون التستوستيرون (له دور في زيادة العنف كما أسلفنا، وكذلك مسؤول عن الخصائص الجنسية) هو السبب أو الواقع السوري القريب من الجنون أو كلاهما والله أعلم بكل الأحوال. 

كيسا طحين ...


في الغالب، عندما أصحو من النوم، أبقى مستغرقا بالتفكير في برنامج اليوم، حتى أثناء تحضير فطور الصباح، فالطريق من الفراش الى المطبخ هي نفس الطريق، وكأس النسكافيه هو ذاته وطاولة الأكل نفسها، ويستمر ذلك الشرود الى أن يلفت انتباهي شيء جديد، ليساهم في كسر الروتين، وبالطبع أحيانا يكون كسرا محمودا وأحيانا يكون مذموما. في ذاك الصباح بالذات، ما لفت انتباهي هو كيسا طحين! نعم كيسا طحين! وليس المُلفت فيهما ذاتهما، ولكن وجودهما في مكان مشبوه، في مقام غير مقامهما المُعتاد، فجدّتي أم عطا ليست هناك ورغم ذلك هناك طحين! والتنور الذي يلتهب فيه الحطب غير موجود، ولكنهما موجودان! انهما موجودان في المدرسة! يا إلهي هل سيحضّر المدير للمعلّمين باقة من مناقيش الزعتر؟! لا، إنه سيفتضح ان فعل، فهو لا يعرف كيف يُقطّع حبة بندورة! ومن ثم فلم يكن موجودا في ذلك اليوم ولا أي واحد من الطاقم المدرسي! ماذا؟! هل احتُلت المدرسة؟! لا، ولكن هي دروس اضافية يتلقّاها الطلاب، لا تستدعي تواجد الطاقم المدرسي.

ما هي وظيفة كيسي طحين في مدرسة؟! الله أعلم بمرادهن! ومن ثم فخبراء التنمية البشرية يقولون: فكّر بشكل ايجابي! لكنّي لا أستطيع! حاول! لربما سيستخدمونهما في تحضير العجين وبذلك يتعلّم الطلاب كيف يعجنون وعندها بالتأكيد ستفرح جدّتي أم عطا، أو لربما سيصنعون الخبز منهما ويتبرّعون بالمحصول لفقراء البلد وعندها ستفرح أيضا جدّتي أم عطا، فهي كريمة معطاءة وخاصة في مجال الخبيز. لربما سيرشقون الطحين ... لا تكمل! فكّر بشكل ايجابي! لا أستطيع! كيف لي أن أقتل أفكارا تأتيني من حيث لا أدري؟! هل تريدني أن أشاهد المصيبة وأقول يجب أن أفكّر بشكل ايجابي؟! لو قلتُ لجدّتي أم عطا: فكّري بشكل ايجابي، لطردتني من بيتها وقالت لي: جدّتك تفكّر كيف تشاء، اغرب عن وجهي يا متفلسف.

لكني حاولت بكل ما أوتيت من قوة، أن أفكّر بشكل ايجابي، ولكنّ المصيبة وقعت بعد دقائق! كيسا الطحين لم يُعجنان ولم يُطبخان ولم يُؤكلان ولم يُطعما للفقراء ولم يُستغلّا لغرض تعليمي، ولكنهما بُعثرا في الهواء لغرض اللهو وقضاء الوقت، ولربما لالتقاط بعض الصور التذكارية! يا الهي، عندنا الطحين يُرمى في الهواء، لغير سبب محدّد، وهناك في أطراف البلد وفي أرجاء الوطن وفي بلاد العرب وفي أفريقيا، من لا يجد كسرة خبز ليأكلها! كم نحن أغبياء عندما نقذف نعمة غالية، لشعورنا بالاستغناء عنها في لحظة معينة، أما عندما نحتاجها، فإننا نصير كالكلاب نتقاتل على أقلها! هناك في سوريا لا يأكلون، وهناك في مخيمات الأردن وفي ضواحي مصر، ونحن نعبث بهذه النعمة! ما هذا التكبّر على النعمة؟! ما هذا التكبّر على كيسي طحين! واني متأكّد أن لو علمت جدّتي أم عطا بما حدث، لقالت: لو أحضرتَ لي ذانك الكيسين، لصنعت لك منهما عشرين رغيفا على الأقل!

"كبار القوم": جون في بلاد العرب ...


ولما دخل جون الى احدى القرى العربية، استقبله أهلها بالورود والزغاريد وإطلاق النار والألعاب النارية. هو لم يفهم لماذا كل هذه الضجة ولماذا هذه الأصوات الغير متناسقة ولماذا كل هذه الفوضى، ولكنه فهم أنهم فرحون بمجيئه! هناك استقبله رئيس البلدة، ليأخذه في جولة حول معالم القرية، بدءا بالمقبرة التي لا تخلو من النفايات، وانتهاءً بالبيت المهدوم الذي تتسلّقه الأعشاب والمتواجد في وسط القرية، ورغم مركزية المكان الا أن السكّان لا يُعيرونه أي اهتمام. لما أخذ جون يُصوّره من زواياه المتعدّدة وعندما طلب أن يأخذوا له صورة مع خلفية البيت، ظنّ قسم من أهل القرية أن جون مجنون أو مهووس، وظن قسم آخر أنه يريد أن يراضيهم ويشجّعهم، وأخذ آخرون يتفحّصون هذا الكنز وكأنهم يُشاهدونه لأول مرة!
في ختام الجولة أقبل أبو عدنان لابسا عباءته السوداء، فقال الرئيس بانفعال: "هذا كبير القوم يا جون!"، الا أن جون لم يفهم وأخذ يسأل: "ماذا تعني بكبير القوم"؟
الرئيس ضاحكا: "كبير القوم يعني شخص مهم في البلد. ما بك يا جون، يبدو أنك جعت، هيا بنا نذهب فالأكل جاهز"!

جون: "لا، أنا لا أمزح! ماذا تعني بكلمة كبير؟ أنا أجري بحثا عن القرى العربية ويهمّني أن أعرف".

الرئيس: "علقنا! يا شباب ساعدونا للخروج من الورطة"!

الا أن جون لم يوقف سيل علامات الاستفهام: "هل معه درجة الدكتوراه أم أكثركم ثقافة"؟

الرئيس: "لا، أبو عدنان أنهى سادس ابتدائي فقط، وهو يستصعب بالقراءة والكتابة".

جون: "هل هو أكثركم علما"؟

الرئيس: "لا، فهناك أطباء ومهندسين وأخصائيين اجتماعيين ومحامين وهناك ثلاث دكاترة في الفلسفة".

جون: "أين هم"؟

الرئيس: "لم يأتوا! دعك من هذه الخزعبلات، تعال لنأكل"!

جون: "لكن لم أفهم الى الآن لماذا قلت أن أبو عدنان كبير القوم! هل هو أعقلكم؟ هل هو أفهمكم؟ هل هو أكثركم خدمة؟ هل هو أتقاكم؟ هل هو أغناكم"؟

الرئيس: "لا، لا، لا، وبعدين"؟!

أحد المشاركين: "يا رئيس قله انه هو من كبار السن ومشان هيك هو من كبار القوم"!  

الجيل الصاعد !

لطالما صوّروا لنا أن الجيل الصاعد هو جيل واهن، فتعابير عامية مثل: "جيل مايع"، "جيل مايص"، "اذا بتزقّ واحد منهم بقع"، ليست غريبة علينا! ولطالما صوّروا لنا هذا الجيل أنه جيل فاسد، فهو جيل الآيفون وجيل الدردشات، جيل بلا أخلاق، فاقد للقيم وللعادات والتقاليد! لكن اذا نظرنا نظرة عبر السنين الأخيرة فإننا نرى العكس تماما أو على الأقل فإننا نرى دالة تصاعدية بعكس ما يُفترى به أن الوضع في تدهور مستمر. واني لأظن أن مرجع هذا التباين في الرؤية الى صراع الأجيال، فكل جيل يسعى الى ابراز بطولاته والى ابراز تفوّقه على الجيل الجديد وذلك يتطلّب أحيانا التغاضي عن محاسن الجيل الصاعد، ليُقنع الجيل الكبير نفسه أنه أفضل جيل وبذلك يسعى الى أن يعيش بسلام مع الواقع. لكي يشعر الكبير أنه لم يخسر شيئا مهما في هذه الحياة، يدفعه ذلك الى أن يصف الحاسوب بالآلة المُفسدة التي لا خير فيها، والى أن يصف الآيفون بأساس المفاسد وهكذا!
 
هذا الجيل الذي تقولون عنه "مايع" و "مايص"، يملك طاقات جسدية، نفسية وروحية تحتاج الى توجيه، بدلا من التنكّر لوجودها. هذا الجيل اذا ما غضب فإنه لا يكبت غضبه في الغالب، وهو جيل مناضل، لا يتنازل عن حقوقه، ومستعدّ لأن يُقيم الدنيا ويُقعدها ليأخذ حقّه المسلوب. هذا الجيل يتساءل بحيرة وبصدق: "لماذا عجز الآباء والأجداد عن استرداد الأرض؟! لماذا عجزوا عن الوقوف في وجه المحتلّ؟! لماذا لم يرفضوا العنصرية تجاههم ولماذا لم يُطالبوا بحقوقهم؟! لماذا لم يتكلّموا؟!". هذا الجيل يحطّم حواجز الصمت ولا يعرف السكوت أو السكون. هذا الجيل هو الذي حرّك الثورات في العالم العربي وهو الذي سيحرّكها في بقية أرجاء الوطن. هذا الجيل لا يخاف من أن يُعبّر عن ما في داخله، اما من خلال مظاهرة، أو من خلال كوفية، أو من خلال جارزة، أو حتى من خلال إسواره مكتوب عليها تعابير نضالية، أو من خلال الفيسبوك الذي لا يطيقه الكبار!

هذا الجيل "الفاسد" هو الذي بنى المساجد وهو الذي لا يهاب من أن يقول: "الله أكبر ولله الحمد"، وهو الذي يحاول احياء تراثه الديني الذي اندثر لفترة من الزمن. هذا هو جيل الصحوة الدينية والذي تقولون عنه أنه فاسد! هذا هو الجيل الذي اختار العلم واختار احياء التراث واختار التقدّم. وان رأينا بعض الشباب المُغيّب، فهؤلاء هم القلّة، ومن ثم فإن انحراف أحدهم في مجال واحد لا يعني انحرافه في بقية المجالات، فكم من شاب انحرف عن دينه، ولكنه أسد في ساح الوطنية! وكذلك، فإن الذي يكون مُغيّبا لفترة من الزمن، فإن هذا لا يعني دوام التغييب، فكم من شاب اهتدى الى الرشد بعد أن أغرته الأهواء! وهذا التغييب وذاك الانحراف لم ينبعا من فراغ، فالمجتمع هو الذي ساهم في هذا التغييب، واذا كان الجيل السابق قد ربّى الجيل الصاعد بصورة ساذجة، عفوية، لا تنبع من رؤية مستقبلية، فلا شكّ أن هذا ساهم أيضا في ضياع بعض القيم وبعض التقاليد والعادات الحسنة.