28.5.14

المسجد ليس للغنم


لهذه الجملة معنيان مقصودان، أحدهما محسوس والآخر رمزي. أما الأول فيذهب الى النظافة والتطهّر قبل القدوم الى المسجد، فمع أهمية صلاة الجماعة وصلاة المسجد وعظيم فضلهما، الا أنه ينبغي مراعاة الآداب الواردة في هذا الباب. لا يُعقل أن يقدم من تفوح منه رائحة الغنم أو أي رائحة كريهة أخرى الى المسجد ليلتحق بصلاة الجماعة، لأنه بفعلته هذه يعكس أنانية وايثارا للذات. ان أنانيته جليّة كونه سيُعكّر صفو صلاة عدد من المصلّين المساكين الذين سيجانبونه، وربما سيُخرجهم من خشوعهم ليذهب بهم الى حظيرة الغنم ايحاءً من الرائحة الكريهة. انه سيُخرجهم من الخشوع الى الرائحة الكريهة، من الروحانيات الى الماديات، من السماء الى الأرض، من الروح الى الطين! وهو سيتصنّع الخشوع وسيطيل الركوع والسجود وسيأخذ كلّ راحته، ومن حوله يتعذّبون، يعانون، يكادون يختنقون وهو لا يعيرهم أي اعتبار، فهو بين يدي ربّه! يا له من خشوع زائف، عندما تؤذي من حولك! عندما تؤذي جيرانك! ألم يسمع هذا الخاشع قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؟! هذا هو المعنى المحسوس للجملة.

أما المعنى الرمزي فيرمي الى غائية تعاهد المسجد. ان المسجد هو صرح تربوي، روحاني، تشتعل فيه كل خصائص الروح، وتنطلق منه الأخلاق والفضائل. انه المكان الذي يربط الانسان بحريته القصوى، حين يتحرّر من هموم الدنيا كلها، من مشاغلها، من دناياها، من ماديتها، ليُحلّق في سماء الحرية، خالي البال، صافي الذهن، منغمسا في عالم السماء، عالم الروح، عالم اللا نهاية! انه صرح يُربّي أحرارا وينشئهم كذلك! أما حين تدخل الأفهام العقيمة للدين، عندها تحدث النكسة وتعود كلمة الغنم الى حيّز المسجد! عندما تُحاول تلك الأفهام أن تسلب المصلّين حريتهم لتصيّرهم عبيدا ولتحرمهم – بإدراكهم أو بغير إدراكهم – من نعمة التعقّل والتفكير ليُردّدوا ما قال الآباء والأجداد والمشايخ، عندها تبدأ البوصلة بالضياع وتحدث رجّة داخل المسجد لا يمكن أن يدوم استقرارها. المسجد يساهم في انشاء الانسان الحر العاقل، وهم يريدون غنما! هم يريدون غنما تصلي والمسجد يريد أرواحا تصلي! أمسجد وغنم؟! 

سخافة استنتاجنا !


"اذا قال راي ثاني غير راينا فبالتأكيد هو ضدّنا"

"اذا اغتصبوها معناها بالتأكيد هي اللي كان ممشاها مش منيح"

"اذا ما أبعدليش معناها شايف حاله علي"

"اذا ما ابتسمليش معناها مش طايق يشوفني"

مثل هذه الاستنتاجات المتسرّعة يمكن أن يؤدّي الى ما لا يُحمد عقباه! مثل هذه الاستنتاجات يمكن أن يؤدّي الى كوارث، رغم كونها أقرب الى الخيال منها الى الواقع! أقل ما يقال عن هذه الاستنتاجات أنها متسرّعة، غير مؤسّسة، ظنّية، وبالتالي ستكون في الغالب غير صحيحة، خيالية وغير واقعية. ومع ذلك يمكن أن تؤدّي الى كوارث! فإذا اعتبرنا كل اختلاف في الرأي هجوما وعملا "ضد"، فإننا سنقمع صاحب الرأي المُخالف وسنقمع رأيه، والقمع يتّخذ مناحٍ عنيفة، بدءا بالتأليب ضد صاحب الرأي المخالف وانتهاءً بمحاولات لقتله أو للنيل من أهله ومقرّبيه. ان مثل هذا المجتمع لا يمكن الا أن يكون عدوانيا بالدرجة الأولى، فقمع الرأي والرأي الآخر، هو مسّ صارخ بحريات الانسان وأداة المسّ التي تُستعمل هي العدوانية والعنف. واذا استنتجنا على كل بنت تم اغتصابها أنها المُذنبة بالضرورة، فإننا نظلم البنت مرّتين، مرة عند اغتصابها ومرة عند اتهامها بما لم تفعل (معاملتها كمجرمة في حين كونها ضحية). واذا استنتجنا على كل من لم يُخلِ لنا الطريق، أنه متكبّر علينا، فإننا نولّد مشاعرا سلبية (كراهية وحقد وغيرها) غير ضرورية ونظلم الشخص الذي قبالنا. لماذا لا يخطر على بالنا أن من لم يبتسم لنا ربما يمرّ بظروف صعبة تُعكّر صفو مزاجه وتجعله حزينا لتمّحي البسمة عن وجهه لا اراديا؟! ولماذا لا يخطر على بالنا أن هذا هو طبعه وليس موجّها ضدّنا بشكل شخصي، فهو دائم "الكشرة" أمام الجميع؟! ولماذا لا يخطر على بالنا إذ لم يخلِ لنا الطريق، أنه ربما عنده أمر طارئ يدفعه الى الاستعجال؟! لماذا نستعجل الاستنتاج؟! لماذا لا نعطي الفرصة لعقلنا ليلتمس الأعذار، الأسباب الأخرى، الصورة المركّبة؟! لماذا نحسم استنتاجاتنا من أول نظرة؟! هل لنظنّ أنفسنا أذكياء، نبهاء، لا تقهرنا أي ظاهرة (حتى الظاهرة الانسانية)؟! 

من قال لك هذا؟


هل هذا قولك؟ هل هو نابع من جوّاك؟ أم أنه قول قيل لك أو قيل على مسمع من أذنيك؟ أم قول حفظته دون أن تعيه؟ أم قول لُقّنته؟

ان الأسئلة أعلاه تُعنى بالبحث عن المصدر. من أين جاء ادعاؤك الأول ومن أين ينبع الثاني؟

اننا يمكن أن نُقسّم الأقوال بحسب المصادر الى أربعة أنواع: قول نابع من الداخل ومفهوم (مفهوم للقائل)، قول نابع من الداخل وغير مفهوم، قول نابع من الخارج ومفهوم وقول نابع من الخارج وغير مفهوم. أما النوع الأول (قول نابع من الداخل ومفهوم) فيدخل فيه كل قول ينبع من داخل الانسان وهو فاهم، مدرك وواعٍ لمعناه. هذا النوع من القول ينبع في الغالب جرّاء التأمّل والتفكّر، وهو يعكس أعلى مستويات الوعي الانساني، ذلك كأن يدرك الانسان جرّاء تجربته شيئا ذي قيمة عن نفسه أو عن العالم. النوع الثاني (قول نابع من الداخل وغير مفهوم) يعني كل قول ينبع من داخل الانسان ولكنّه لا يكون مُدركا وواعيا له. قول كهذا يمكن أن يظهر في زلة فرويدية أو في التنويم المغناطيسي أو في الاختبارات الاسقاطية، وكلها طرق يمكنها أن تكشف عن اللا واعي، فالقول ينبع من داخل الانسان ولكنه غير متواجد في وعيه. العلاج النفسي يمكن أن يساعد الانسان على أن يصبح واعيا أكثر لهذه الجوانب اللا واعية.

النوع الثالث (قول نابع من الخارج ومفهوم) يعني أن تسمع قولا من أحدهم، فتفهمه، تعيه وتعقله ومن ثم تُعيد صياغته بكلماتك لإيصال الفكرة أو تحافظ على نفس الكلمات ان كنتَ مُقتبساً. مثالنا على ذلك، الاستشهاد بأقوال العلماء والمفكّرين لتدعيم الرأي. النوع الرابع (نوع نابع من الخارج وغير مفهوم) وهو الشائع في زماننا هذا، حيث يُردّد كثير من الناس ما لا يعون معناه وما لا يعقلون. فهو قول قاله أحدهم وتمّ تبنّيه دون النظر مجدّدا في مرماه ودون محاولة استقصاء معناه، وانما تم الاكتفاء بترديده على الألسن كالببغاوات. هذه الأقوال لكونها دارجة على الألسن، انتقلت من واحد الى آخر، متعدّية حاجز العقل (الا عند القلّة)، لتنشر معناها المتعارف عليه بين الناس وبالتالي لتُساهم في توكيد المعاني الضمنية ولتتسرّب الى اللا واعي فتستقرّ هناك. مثال على مثل شعبي مُتردّد على الألسن أكثر من تردّده على العقول: "امشي الزيق الزيق وقول يا رب الستيرة"، هل ينتج لنا هذا المثل انسانا فعّالا؟! هل ينتج انسانا مُبدعا خلّاقا؟! ان ترديد مثل هذه الأقوال نابع من ويساهم في انتاج الخراف التي تتّبع ما يُقال لها! طائعة، لا تخالف، لا تنتقد ولا تجادل! ما تسمع هو عين ما تقول!

الرؤية في الضباب


ان هذا العصر أشبه بحالة الطقس الضبابية التي لا يكاد يرى الواحد فيها الطريق التي ينوي سلوكها. فإذا نظر الى السماء وجدها ضبابية ووجد الشمس عندها متلاشية، واذا نظر يمنة وجد الضباب نفسه والأشجار التي كان يراها كل يوم لم تَعُد تبان رغم وجودها، والبيوت المتلاصقة كذلك انمحت من مجال الرؤية رغم وجودها، واذا نظر يسرة فالمشهد يستنسخ نفسه وكأنّ مرآة وُضعت في النصف لتعكس الجانب الأول على الثاني أو الجانب الثاني على الأول، فلا فرق! والأمام أكثر ما يحزّ في نفسه، إذ عبره سيسير! ولكنّ الأمام لا يسمح له أن يراه دفعة واحدة وانما يُقسّطه هيئته أقساطا أقساطا تضامنا مع الجو الضبابي. انه مجبور على الاستمرار في المسير، فالحياة عموما وعقارب الساعة خصوصا لا تنتظر أحدا، وان تنازل وقرّر التقهقر الى الوراء فإنه سيصادف نفس المشهد، إلا أنه سيكون من الأعسر عليه أن يتراجع الى الخلف في مثل هذا الجو الضبابي.    

السماء انقطع وحيها ولكنها تركت لنا المعجزة الخالدة، وعن اليمين (الشرق) يأتينا الاستبداد وقمع حريات المواطن العربي، وثورات وانقلابات وفوضى وعدم استقرار، وعن اليسار (الغرب) تأتينا الاتهامات بالتخلّف والرجعية والهمجية ومن هناك تتولّد نظرية المؤامرة، وفي الأمام يقف المستقبل غير واضح المعالم، وفي الخلف يتسمّر الماضي الذي يُجنى عليه ويُشوّش ويُحرّف بكل الطرق، ونحن في الوسط مجبورون على الاستمرار في المسير رغم صعوبة الرؤية ورغم الضباب المحيط بنا من كل مكان. هل سنبقى ننتظر زوال الضباب؟! لا! سنكمل المسير ولكن بخطىً ثابتة، متوازنة، متعقّلة، متوكّلة، لكي لا يكون سيرنا عبثا ولكي لا نضلّ الطريق. اننا مجبورون على اضاءة الطريق بكل ما أوتينا من وسائل (تجربة سابقة، تعقّل ...)، كي نقاوم الضباب الكثيف ولئلا ننحرف عن المسار. 

طلب الشهرة


قرأتُ في احدى الفتاوى فيما يتعلّق بطلب الشهرة نصّا مفاده: "طلب الشهرة مذموم بكل حال، والمؤمن مخبت متواضع، لا يحب أن يُشار إليه بالأصابع، ومن أعظم ما يفسد على المرء سعيه إلى ربه: حبه للشهرة، والشرف في الناس، والرئاسة عليهم" (موقع الإسلام سؤال وجواب، فتوى رقم 177655). ولست أبغي في تعليقي هذا مخالفة الفتوى لغرض المخالفة، ولكنّي أودّ أن أعرض رؤية مختلفة، تستدعي التأمّل والتفكّر بنظري. 

ان من يطلب الشهرة بين الناس وفقط الشهرة من خلال أفعاله، يحصر تفكيره في رأي المخلوق ويبقى أسير رأي الناس، مما يمكن أن يذهب به شرقا أو غربا وبالتالي يفقد البوصلة والرسالة التي يودّ ايصالها، نظرا لتعدّد آراء الناس ولأن ارضاء الناس كل الناس غاية لا تُدرك. أما من يُعدّد النوايا، فينوي بفعلته اصابة شهرة وينوي أيضا الإحسان والعطاء والبذل، فهو مختلف وأحسن حالا من الأول، لأنه لا يبقى لصيق طلب رضى الناس، وانما يتطلّع أيضا الى الأخلاقيات والروحانيات.

أما النقطة الأساسية في هذا التعليق فتتمحور حول الهدف المرحلي أو البيني، والذي بدوره يُفضي الى الهدف النهائي. فوفقا للرؤية التي أعرضها هنا، الشهرة تُعتبر هدفا مرحليا، وهي وسيلة للوصول الى الهدف النهائي. فمثلا، الشيخ الذي يسعى لحصد أكبر عدد من المعجبين في مواقع التواصل الاجتماعي، هو عمليا يسعى الى الشهرة بين الناس، ولا عيب من الإقرار والمفاخرة بذلك، إذ أن مطلب الشهرة لا يُعتبر مطلبا دنيئا من الناحية الأخلاقية. ثم ان هذا الشيخ يطلب الشهرة ليحقّق غايته المنشودة التي تقف أمام ناظريه طوال الوقت، فهو لا يتوق بالنهاية الى تصفيق الجماهير ولا الى المجد ولا الى السلطة، ولكنّه يتوق الى ايصال رسالته والتأثير على الجماهير. أي أنه يستغلّ قاعدته الجماهيرية لإيصال الرسالة، ولتحقيق أهداف نبيلة وغير شخصية، فالشهرة عنده وسيلة وليست هدفا نهائيا. ان القاعدة الجماهيرية هي حلقة المُرسَل اليهم، والشيخ هنا هو المرسِل وكي تمرّ الرسالة نحتاج الى كلا الحلقتين، فلو فرضنا وجود المرسِل وانعدام المُرسَل اليه، فهل ستكون هناك فائدة مُعتبرة للرسالة؟! ان الرسالة بهذه الحالة يمكن أن تظلّ حبيسة كتاب أو مخطوطة الى أن يشاء الله لها أن تخرج الى النور، كما أنها يمكن أن تندثر.    

وفقا للرؤية المعروضة هنا، ليس هناك تعارض بين طلب الشهرة الدنيوية وإخلاص النية لله عزّ وجلّ، فالشهرة هي الوسيلة والهدف النهائي خالص لوجه الله تعالى. بل ان هناك انسجام بينهما، اذ أن من يضع نصب عينيه النية الخالصة لله عزّ وجلّ كهدف نهائي (محبة السماء)، ويطلب الشهرة الدنيوية كوسيلة (محبة الأرض)، يسعى لأن يكون شخصاً طيّبا حتى يُحبّ في الأرض والسماء. بكلمات أخرى، يمكن أن نقول أنه يطلب حبّ السماء والشهرة هناك كهدف نهائي، وهو يطلب حبّ الناس والشهرة بينهم كوسيلة للوصول الى الهدف النهائي. يقول مولانا عزّ وجلّ في حديث قدسي: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" (محبة وشهرة في السماء + محبة وشهرة في الأرض).

19.5.14

موت الكبار !


الكبار في نظري هم من تركوا أثرا ايجابيا في هذا العالم قبل رحيلهم، هم من طبعوا بصمتهم عميقا في القلوب وعبر انتاجاتهم، وهم من يستحقّون أن يُذكروا على الدّوام لدوام أثرهم! عندما يموت واحد من هؤلاء، يهتزّ الكون كلّه حَزَنَا على انتهاء تأثيرهم المباشر، ولولا استمرار أثرهم لما جفّت العيون لصعوبة فراقهم. الا أن أثرهم الموجود يُبقيهم أحياءً رغم موتهم، فذكرهم حيّ وانتاجهم حيّ والأتباع ينهلون من الأثر الموجود رغم فقدان صاحب الأثر.  

انه ينبغي على كل انسان أن يسعى - في ما آته الله من مَلَكات - لأن يكون من الكبار، وسعيه هذا لا يُوجب عليه الوصول الى اللقب، وانما تكفيه المحاولة ويكفيه القصد. ان الانسان يحب بالعادة أن يدوم ذكره وأثره حتى من بعد موته، وليس هذا لدوام الذكر ذاته، وانما لدوام المنفعة التي تعود على البشرية من تأثير الأثر. كل انسان في مجال تخصّصه يمكنه أن يكون من الكبار، فالحدّاد يمكن أن يبدع في صنعته وأن يبتكر طرقا فنّية لتذليل الحديد ولصنع ما لا يخطر على البال من هذه المادة الخام، ويمكنه أن يوّرث هذا الفن لتلاميذ يأتون من بعده. والكاتب يمكن أن يورّث كتاباته للأجيال من بعده، والمفكّر والفيلسوف والعالم كذلك. والمدرّس يمكنه أن يورّث سحر شخصيته لتلاميذه، والمدير يمكنه أن يورّث سحر ادارته والقائد يمكنه أن يورّث سحر قيادته وهكذا.    

البحث عن الأسئلة !


يعتقد كثير من الناس أنه كلّما حصدوا أكبر عدد من الأجوبة فهم في حال أفضل، وكأن الجواب يُعتبر مكسبا أو مَغنما! والناس يرون بالجواب باعثا على الاطمئنان والسكينة، اذ أنه يوضّح المسألة ويحلّ المشكلة المُثارة ويزيل الضباب الكثيف الذي يحيط بالسؤال. أما السؤال الذي لا يتبعه جواب فوري، فهو باعث على القلق والحيرة والتيه، وربما يؤدّي الى الكفر والإلحاد واللا أدرية في حالة اطلاق الأسئلة الدينية التي تدور في فلك الشبهات.

وكلمة سؤال هي مصدر للفعل سأل، ويمكن أن تأتي بمعنى طلب الصدقة، مما يصبغ كلمة سؤال بصبغة سلبية، وكأن السائل هو متسوّل أو شحّاذ يطرق باب العارف ليعلم الإجابة، ولذا يمكننا أن نجد تعبيرا في معجم اللغة العربية المعاصر مثل "ذُلّ السؤال" بمعنى ما يَجُرُّ إليه السؤال من مهانة. والناس تريد جوابا محيطا، كاملا متكاملا، كخارطة طريق، يرشدهم الى ماذا يفعلون، اذا حدث كذا، والى ماذا يفعلون، اذا حدث كذا، وما هو الردّ على هذه الشبهة وما هو الردّ على تلك.

إلا أن الباحثين عن الحقيقة والعلماء الحقيقين والمفكّرين والفلاسفة يبحثون عن السؤال قبل الجواب، وهم يفرحون أكثر كلما أثاروا تساؤلات أكثر، واذا مرّ عليهم يوم لم يُثيروا فيه تساؤلا، سخطوا على أنفسهم وأنّبوا ضميرهم، ذلك لخوفهم من خمود شوقهم للمعرفة. والسؤال في عُرفهم مَغنم، لأنه سيفضي الى بحث وتفكير واعمال للعقل وتطوير للفكر وتقدّم وارتقاء، وربما يُصادفون في طريق بحثهم عددا آخر من الأسئلة تدفعهم الى توزيع جهودهم في اتجاهات كثيرة. ان السؤال عندهم مفتاح للمعرفة، وكلما ثارت أسئلة أكثر، زاد شوقهم للمعرفة، مما يدفعهم الى التوغّل في ميادين المعرفة المُظلمة، كي يُنيروها للخلق من بعدهم، وبالتالي تزداد المعرفة وتتضاعف بلا توقّف. 

هل هناك مفهوم ضمنا ؟!


حدث معي أثناء تحضّري لعرض أمام جمهور من الأخصائيين النفسيين، أن صادفت أخصائية نفسية من كبار الإخصائيين، واذا بها تعتذر لي كونها لن تحضر العرض. أجبتها بعفوية ممزوجة بقليل من تفكير: خسارة أنك لن تحضري، أعتقد أنك لو حضرت لأضفت ملاحظاتك الهامة. واذا بها تقول بكل هدوء: ليس حتما!

جوابها المقتضب هذا، أوقد فيّ أفكارا لم يُؤذن لها بالخروج من ذي قبل. انّ ردّي كان بمثابة ردّ مُتعارف عليه بين الناس، وكثير منا يُطلق مثل هذه الردود والأقوال المتردّدة على الألسن، دون امعان النظر في معناها، كون الآذان قد ألفتها واستساغتها قبل أن تعيها العقول. فهل فعلا خسرتُ كونها لن تحضر؟! هل حضورها كان سيُضيف فعلا؟!

هل كل بشر هو انسان؟ هل يرتاح كل من ينام؟ هل يستطيع كل شخص سليم في بدنه أن يخرج من البيت؟ الجواب على هذه الأسئلة كذلك: ليس حتما! فيمكن أن يكون هناك كائن بشري، منفصل تمام الانفصال عن انسانيته على أثر تصرّفاته البشعة. ويمكن أن يكون هناك آخر يعاني من اضطرابات في النوم وبالنسبة له النوم هو طامّة الحياة الكبرى. ويمكن أن يكون هناك شخص معافىً في بدنه، الا أنه في أشدّ لحظات الاكتئاب وهو لا يقوى على النهوض من السرير لتردّي حالته النفسية. ولنا أن نسأل: هل هناك مفهوم ضمنا؟! أم أننا نحتاج الى فهم المفهوم ضمنا من جديد؟ انه يجب علينا أن لا نُخرِج من دائرة امعان النظر أكثر الأمور مفهومة لنا (كما نظنّ)، وانما أن نمعن النظر حتى في الأمور التي اعتدنا عليها والتي تُرافقنا في حياتنا اليومية، إذ أن الحكمة تكون مختبئة داخلها في أحيان كثيرة، ولأننا ألفناها منذ الصغر واعتدنا عليها، لم نُعطها حقّها من التأمّل والتفكّر المتقدّم الذي يبلغ ذروته في جيل الشباب. الطبيعة التي ألفناها، المسكن الذي اعتدنا عليه، غرفة النوم، السرير، الأمثال الشعبية التي سمعناها، الأفكار التي تشرّبناها، التراث، كلها يجب أن تكون داخلة في دائرة امعان النظر والتأمل والتفكّر. ولهذا فإن ديننا يدعونا الى التفكّر على الدّوام: "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ" {يونس:101}.

هل نحن أمة مُنتجة؟


لطالما ادّعينا أن ثقافتنا هي ثقافة مُستهلِكة وأن انتاجها يكاد يكون شبه معدوم، بيد أن هذا الادعاء غير دقيق. فرغم أننا لم نبرع حتى الآن في منافسة الدول الصناعية في انتاج السلع والبضائع من مثل السيارات والماكينات والأجهزة الطبية، إلا أن عندنا انتاجا من نوع آخر لا يمكن انكاره. انه انتاج فكري يدمج ما بين الفلسفة والعلم والدين وانتاج روحاني يدمج ما بين الصوفيات والشعائر الدينية. هذا الإنتاج أرقى وأعلى شأنا وفقا لهرم ماسلو، إذ أنه يُعنى بحاجات انسانية غير محسوسة ولا ينحصر في الحاجات الفسيولوجية، وهو انتاج أرقى لأنه موجّه الى العقل والروح ولا يقتصر على الجسد والمادة.    

لقد أشبعنا العالم حديثا غير مؤسّس أن ثقافتنا ثقافة كسولة، متواكلة، مُستهلكة، تفكّر فقط في بطنها وفرجها، ذلك ليزيدوا ربما من تثبيط عزائمنا واشعال مشاعر النقص تجاه انتمائنا وتجاه ثقافتنا. الا أن الحقيقة مختلفة، فهناك عدد لا يُستهان به من المفكّرين الاسلاميين من أبناء عصرنا، وانتاجاتهم الفكرية من حيث الكمّ والكيف تفوق ما نتصوّره، ولكي لا نبقى في الإطار النظري، نضرب أمثلة لمفكّرين اسلاميين وانتاجاتهم:

1- المفكّر الجزائري مالك بن نبي، وله أكثر من عشرين مؤلّفا، من بينها: شروط النهضة، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، الظاهرة القرآنية وغيرها.

2- عبد الوهاب المسيري، وله أكثر من خمسين مؤلّفا، من بينها: قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وغيرها.

3- علي شريعتي، وله قرابة الأربعة عشر مؤلّفا، من بينها: النباهة والإستحمار، دين ضد الدين، بناء الذات الثورية وغيرها.

4- المفكّر التونسي أبو يعرب المرزوقي، وله قرابة الأربعة وعشرين مؤلّفا، من بينها: مفهوم السببية عند الغزالي، شروط نهضة العرب والمسلمين، فلسفة الدين وغيرها.

5- الشيخ والمفكّر المصري محمد الغزالي، وله أكثر من أربعين مؤلّفا، من بينها: جدد حياتك، خلق المسلم، السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث وغيرها.

ومفكّرون آخرون مثل: عباس محمود العقّاد، علي الوردي، محمد رشيد رضا، مصطفى محمود، ادوارد سعيد، راشد الغنوشي، زغلول النجار، محمد سليم العوّا، محمد عمارة، محمد عابد الجابري، يوسف القرضاوي، فهمي هويدي، عبد الكريم بكّار، علي عزت بيغوفيتش، روجيه جارودي، جلال أمين، عبد الحليم أبو شقة، مصطفى حجازي، سلمان العودة وغيرهم كثيرين.

أما فيما يتعلّق بالإنتاج الروحاني، فقد أبدع فيه المسلمون من قديم الزمان، وابداعهم هذا ما يزال ينبض بالحياة، وهو حيّ ومتفوّق في أوساط الغربيين قبل الشرقيين، فعلى سبيل المثال، كتب أبو حامد الغزالي وكتب ابن رشد تُدرّس اليوم في الغرب، وما عجز عنه أبناء الغرب من التفوّق والانتاج الروحاني يحاولون استعاضته وأحيانا انتحاله من ثقافتنا.
 

قوة المؤمن (الأسباب، التوكّل)


ان المتأمّل في هذا العالم يدرك أن هناك أمور مقدور عليها وأخرى مُعجِزة، هناك أمور يمكن السيطرة عليها وهناك أمور تفوق حدّ السيطرة وربما تهدّد أمن الانسان (من مثل، مرض فتّاك أو كارثة طبيعية). وهناك أمور يمكن ادراكها بالعقل وهناك أمور تعصى على الادراك، المجموعة الأولى يمكن تسميتها بالمدركات والثانية يمكن تسميتها بالغيبيات. لذا ولكي تتشبّع الطمأنينة في هذا العالم المركّب، عليك أن تحتويه بتركيبته (المدركات والغيبيات) في آن. اننا عبر هذا الاحتواء نعترف بمكانتنا وقيمتنا في هذا العالم ولا نتنكّر لما نعجز عنه. عبر هذا الاحتواء ننسجم مع طبيعة الحياة، ننسجم مع هذا الكون المركّب، ننسجم مع المعرفة وعدم المعرفة ونرى الصورة المركّبة الكاملة بدلا من أن نتنكّر لما لا نعرف ولما لا ندرك. إلا أنه علينا أن نحذر من أن نتكاسل ونتواكل، فنُقحم الغيبيات في كل ما نعجز عن ادراكه في الوقت الحالي، لئلا نُكلّف أنفسنا عناء البحث والتفكير والجدّ والعمل، ولنعيش بسلام مُزيّف مع هذا العالم وكأننا ملكنا الدنيا بمعرفتنا المحدودة.    

انه من الحري بنا أن نأخذ بالأسباب، نجتهد، نجدّ ونعمل كل ما بوسعنا عمله (أن نعمل كل ما بوسعنا عمله بصدق واخلاص، فلا ندّعي أننا اجتهدنا بما فيه الكفاية ونحن نعلم في داخلنا أن اجتهادنا غير كاف). وفي سياق العلم أيضا أن نبحث عن الأسباب بجدّ، فلا نستعجل الادعاء عند اكتشاف مرض جديد أنه مسّ شيطاني أو روح شريرة استوطنت الجسد، انما من الواجب التعقّل ومحاولة تفسير الظواهر وفق المنهج العلمي الحديث. ثم اذا عجزنا عن تفسير الظواهر وفق المنهج العلمي، فإننا نملئ الفراغ بالغيبيات، ولكن العلماء لا ينفكّون عن البحث وراء الأسباب. ان هذا الملئ (ملئ الفراغ بالغيبيات) يمكن أن يكون مؤقّتا أو أبديا، الا أنه بكل الأحوال يعطي احساسا بالطمأنينة والسكينة.

ما يُميّز الانسان المؤمن عن غيره أنه يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ومن ثم يتوكّل على الله وكأنها ليست بشيء! انه جد واجتهاد وعمل وفي نفس الوقت ايمان بالغيبيات وبالقضاء والقدر. ان الانسان المؤمن يعقل ويتوكّل، انه يأخذ بالأسباب ومن ثم يتوكّل على مُسبّب الأسباب، إذ لا يصحّ توكّله لو لم يأخذ بالأسباب. يفعل كل ما بوسعه لينجو من مرضه، ليخرج من المشكلة التي هو فيها، لينجح في امتحانه، ليصل الى هدفه، ومن ثم يتوكّل على خالقه ويؤمن أن ما أصابه ما كان ليخطئه وما أخطأه ما كان ليصيبه. انه دائم الرضى بما كُتب له، بقضاء الله وقدره، إذ أنه عمل ما بوسعه، وتوكّل على من بيده كل شيء وهو يُردّد قوله تعالى: "عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم"، ويتذكّر الحديث القائل: " عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ ". اذا هما قوّتان لا يملكهما الا مؤمن: الأولى هي قوة الأسباب والسعي والأخرى هي قوة التوكّل التي بموجبها يُذعن ويسلّم لقضاء الله وقدره. هما قوّتان متلازمتان، فحيثما رأى المؤمن امكانية للاجتهاد وللتغيير قام وفعل ولم يتكاسل، وحيثما عجز فوّض أمره لله (التوكّل حالة دائمة عند المؤمن ولكنها بارزة أكثر في حالة العجز). 

السلم، لا الحرب


ان ما ينبغي أن يُرشد فكرنا وسلوكنا هو السلم وليس الحرب. السلم هو الاختيار البديهي، ذلك أنه سيعود بالمنفعة والخير على البشرية جمعاء. والانسان السويّ يأخذ بالحسبان ما يتعدّى عالمه الخاص، فهو يفكّر في غيره من بني البشر، يفكّر في الحيوانات، في النباتات، في الجمادات، في الكرة الأرضية كلها وفي الكون كله. ان أفقه واسع واهتماماته لا حصر لها، فهو يهتمّ بكل صغيرة وكبيرة. سلامه الداخلي (أو على الأقل سعيه الى السلام الداخلي) يُستنسخ الى الخارج، ليكون سلما على كل من صادف وعلى كل ما وقع في يده. انه سلم يدبّ على الأرض! النبات لا يدوسه، وان فعل خطأ أحس بالذنب! الماء لا يرشقه عبثا، الحيوان لا يتركه جائعا، الحائط لا يضربه لئلا يتّسخ والانسان لا يهينه!    

أما حين يصير تفكيرنا حبيس طائفتنا، حزبنا، ديننا، دولتنا، فإننا نعجز عن رؤية السلم كاختيارنا البديهي، إذ أن المصلحة الضيّقة تتفوّق في هذه الحالات على مصلحة الانسانية جمعاء. الحرب يمكن أن تجلب الغنائم للمصلحة الضيّقة، إلا أنها تعجز عن أن تُفيد مصلحة الانسانية. اذا فكّرنا تفكيرا طائفيا، فإننا نقسّم العالم – في نظرنا - الى طوائف لا نهاية لها، وعندها يمكن أن نستبيح كل من لا يتبع الى طائفتنا وكل ما لا يتبع الى طائفتنا. ان هذا التفكير يحصر النظر ويُضيّق الرؤية، ليتمّ اختيار الحرب التي بواسطتها تُستباح الأجساد والأرواح وبالتالي تُخدم المصلحة الطائفية. هذا العقل الحربي يتغاضى عن انسانية كل بني البشر الذين يودّ قتالهم، يتغاضى عن روح كل حيوان لا يعيش في حيّزه، ويتغاضى عن كل نبات وجماد لا يدخل في مساحة حكمه. هذا العقل الحربي يريد التسلّط، السيطرة، العنترة والعربدة، لكي ينال أفضليات عن عامة البشر، أما العقل السلمي فهو على العكس، إذ أنه يسعى الى أن تعيش الانسانية كلها بسلام وأمان، وبذلك يدفع الى المساواة بين جميع بني البشر.  

اننا نرى السلم الاختيار الطبيعي، وأن الحرب هي ناتج اجتماعي، لا ينبغي أن نلجأ اليها الا كآليه للدفاع عن النفس، بعد أن استُعملت الوسائل السلمية في مواجهة الخطر أو التهديد الموجّهة الينا.

المواجهة


لا أُخفي ميلي وتشجيعي للمواجهة الكلامية التي تراعي حدود الأدب، ولربما الكلمة الأقرب في السياق الانساني هي المصارحة أو المفاتحة. الا أن المواجهة لا تنحصر في السياق الانساني، وانما تدخل في ما وراء ذلك، فالإنسان يمكن أن يواجه مشكلة، أو يواجه تحدّيا أو صعوبة. ان مواجهة الشخص، الرأي، المشكلة، بدلا من الهروب والانسحاب والتقهقر الى الوراء، تنمّ عن قوة وقدرة وتُفضي الى حلول أفضل من التي تُفضي اليها طرق الهرب واللف والدوران. في السياق الانساني، اذا صارحت شخصا بما تحسّه تجاهه، أو بعيب لمسته عنده، أفضل لك وله من أن تنشر الكلام عنه للآخرين، واقعا بذلك في الغيبة والنميمة وربما يُدخلك ذلك الى مشاكل مع الشخص المُستغاب، اذا وصل الكلام بعد تضخيم وتحريف الى أذنيه. ثم انك ان صارحت الشخص، أحسنت معه، اذ لفتّ انتباهه الى ما كان غافلا عنه، أو أكّدت أو نفيت تفكيرا يفكّره عن نفسه، وبكل الأحوال فقد أهديته نظرة على نفسه من الخارج، وأيضا أحسنت مع نفسك، اذ وفّرت عليها الوقوع في الغيبة والنميمة وخلق مشاكل لها أول ما لها آخر، ومن جهة أخرى، مرّرت رسالتك الى الشخص المقصود بسلام وأمان دون أن يتم تحريفها أو تضخيمها.

وعند مواجهة مشكلة، صعوبة أو تحدّي، فإنك تعدّ ضباط التفكير وجنود السعي، مفكّرا، باحثا عن حلّ وعن سبيل للوصول الى المراد. في هذه الحالة، أنت متركّز في الهدف وكل طاقاتك موجهة اليه والى كل ما يؤدّي اليه، أما حين تُفكّر في الهرب من المواجهة، فإنك على العكس، تُفكّر في كيفية الخروج والفرار والنكوص. انك تفكّر في هذه الحالة بالتراجع والتقهقر بدلا من التقدّم، وكل طاقاتك تكون موجّهة الى كيفية الخروج والى كيفية الامتناع، بدلا من أن تكون موجهة الى مواجهة المطبّ للوصول الى الهدف. مع ذلك، فهناك حالات تستدعي العَدْل (الامتناع) عن المواجهة، كأن يعرف الانسان، أن لا طاقة له بالمشكلة التي تقف أمامه، أو التحدّي الذي ينتظره، وعندها يُفضّل الانسحاب كي لا يستمرّ في اهدار مزيد من الطاقة في ما لا يُرجى اصابته. أو أن يدرك أنه في الطريق الخاطئ وبالتالي يكون المطبّ محفّزا لإعادة النظر في جدوى المسلك. أو أن يُفضّل الانسان عدم المواجهة، لئلا تولد مشكلة أكبر، كأن يختصر الانسان الكلام مع شخص لا يمكنه أن يتحدّث بهدوء، تفاديا لخلافات ونزاعات محتومة.  

6.5.14

حرية الاختيار


كلمة إكراه هي مصدر الفعل أَكْرَه، وتعني: "استخدام الضَّغط أو القوَّة استخدامًا غير مشروع أو غير مطابق للفقه أو للقانون للتَّأثير على إرادة فرد ما" (معجم اللغة العربية المعاصر). هذه الكلمة تنحدر من الجذر "ك، ر، هـ"، وهو نفس الجذر الذي تنحدر منه كلمتا كراهية وكُرْه، وفي هذا ايحاء بتقارب المعاني، فهل النفس تطيق الإكراه أم انها تكرهه وتتقيّئه لثقله عليها؟ 

الإكراه لا يمكن أن يأتي بخير، لأنه يتعارض ويمسّ بحرية الانسان التي وُلدت معه، فالله خلق الانسان حرّا وترك له حرية الاختيار. الله خلق الانسان ولم يُجبره على أن يؤمن به أو أن يكفر، أن يُصلّي له أو لا، أن يسبّح بحمده أو لا، أن يصوم له أو لا، أن يحجّ له أو لا، أن يعمل الخير أو الشرّ. لكن الخالق جلّ وعلا أعطاه كل الإمكانيات وبسطها أمام ناظريه ليختار، فهذا طريق الحقّ الواسع وتلك طرق الضلال، الأول جزاؤه الجنة والأخرى عقابها النار. اذاً لا إكراه، فأنت يمكنك أن تختار ما تشاء، لكن عليك أن تفهم جيّدا أن النتيجة ستكون وفقا لاختياراتك. يقول الله عزّ وجل في كتابه العزيز: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس، 99). ويقول في آية أخرى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (هود، 118+119).

الانسان حرٌ باختياراته من جهة، وهو مسؤول عنها من جهة أخرى. ولكي لا يُخدع هذا المخلوق الضعيف أمام عظمة الكون، ولكي لا يُغفّل ولكي لا يقول لم أكن أدري، بعث الله رسالاته الى الناس ولم يمنع العناية الآلهية عنهم، علّهم لا يضيعوا وعلّهم لا يفقدوا البوصلة. ان وضوح المعادلة (معادلة الجزاء والعقاب) ينبغي أن يؤثّر على اختيارات الفرد، وهذا التأثير لا يُلغي امكانية الاختيار، فبالرغم منه يمكن أن يختار الانسان أن يكفر بهذه المعادلة، أن يكفر بوجود الإله وبوجود الجنة والنار ولكن عليه أن يتحمّل مسؤولية اختياراته. ولو لم نكن أحرارا في اختياراتنا، فهل من العدل أن نُحاسب على ما لم نختر؟! هل من العدل أن يُفرض علينا شيء ونُحاسب عليه؟!

الا أن بعض البشر يريدون حرمان الناس من حرية الاختيار، يُكرهونهم ويودّون لو يتبعون خيارات أسيادهم، دون تفكير أو بحث أو نقاش. فكما أن الكنيسة قطعت رأس كل مارق تجرّأ على مخالفة أمر من أمور الدين، كذلك هناك من المسلمين اليوم من ينتهجون نفس النهج، فيقمعون رغبة الاطّلاع والبحث والتفكير، ينبذون من يخالف في مسألة فقهية، ويكرهون بناتهم على لبس الحجاب. وهناك ما يُفرض بصورة خفية وغير مباشرة، من مثل دين الآباء والأجداد، الأفكار المُسبقة، الشخصية وكل ما يتشرّبه الانسان من أفكار من بيئته أثناء طفولته. ان تأثير هذه الأشياء يكاد يكون مفروغا منه، ولكن على الآباء توعية الأبناء بوجود هذا التأثير وبإمكانية الاختيار، رغما عن هذه التأثيرات التي لا مفرّ منها. ولنتذكر أن الله قد تركنا أحرارا في اختياراتنا، فكيف نُكْره بعضنا بعضا ونحرم بعضنا حرية الاختيار؟!  

المجتمع الذي لا يرحم


اذا نظرنا الى مجتمعنا، أدركنا مدى القسوة التي نُبديها في أحيان كثيرة تجاه الضحية! نعدم حسّنا الانساني ونستبدله بتذنيب واحتقار وهجران، ونُطلق المُسوّغات والحجج الواهية لكي نبرّر قسوتنا! نعكس الحقائق لكي تصير الضحية مجرمة وجانية! وليس انعدام الرحمة هذا موجّها بشكل حصري الى الإناث، ولكنه يطال الذكور أيضا، رغم أنه بارز أكثر في حال الإناث، مما ينسجم مع المجتمع الذي ما زال يُبرز اضطهاده ضد المرأة. فالمرأة المُطلّقة تعاني من مجتمعها أكثر من طليقها، إذ أن المجتمع يتّهمها بالسّر وبالعلن وينسى زوجها، ينعتها بأنها امرأة غير صالحة، لا تصلح للزواج، عاصية لزوجها، ويُغلق أمامها باب الزواج لتبقى حبيسة بيت أمها وأبيها. لربما كانت هي المظلومة! لربما كان زوجها يضربها جهارا نهارا! لربما كان زوجها لا يُطاق! لربما كانت المشكلة نابعة من الطرفين! لماذا تتحمّل المرأة الضحية أعباءً ليست هي المسؤولة عنها؟! لماذا يُعذّبها المجتمع فوق ما عذّبها طليقها؟!

والمريض يُعاني من مجتمعه أكثر مما يعاني من مرضه، وهذا يصحّ في حال المرض الجسدي والنفسي، وهو أشد بروزا في حال المرض النفسي. فلو دري المجتمع أن أحدهم يعاني من مرض جسدي مزمن، لصاروا ينظرون إليه بأعين الشفقة في أحسن الأحوال، ويتفادونه أو يتغاضون عنه أو يسخرون منه في أحوال أخرى. أيستحق من يعاني من مرضه، أن يعاني من مجتمعه أيضا؟! لماذا نُذيقه عذاب الضّعف في الحياة الدنيا؟! والانسان الذي يعاني من مرض نفسي، يتم تشطيب اسمه من قائمة بني البشر، وتُبذل الجهود الحثيثة لتفاديه ولتفادي أي احتكاك بسيط معه، ليحصل بذلك على النعت الذي يشلّ أمله شلّا ويقذفه قذفا من مجتمعه دون أمل بعودة، انه "مجنون"! أليس هذا المريض أيضا يعاني من مرضه؟! ان احتمالات الشفاء ورادة والعلاجات موجودة (أيضا للأمراض النفسية)، فلماذا نحمّله معاناة غير مُبرّرة، ولماذا نقذفه قذفا من بيننا؟! لماذا عليه أن يعاني من داخله وخارجه؟! لماذا عليه أن يعاني كِفليْن؟! ان وصمة العار التي نطبعها على الضحية هي وصمة عار بحد ذاتها، اذ أننا نتنكّر لأبسط الأحاسيس الإنسانية! انه ينبغي أن نستبدل هذه القسوة بالرحمة، وان لم نرحم فعلى الأقل أن نكفّ أذانا عن الضحية. 

طريقتي في الكتابة


أحببت أن أُفرد لهذا الموضوع مقالة، رغم أنني أكتب هنا عن ما أكتب، أكتب عن طريقتي في الكتابة. لذا، يمكن تصنيف هذه المقالة في خانة "الميتا\Meta"، فكما أنه هناك مصطلح يصف ادراك الإدراك أو التفكير في التفكير (Metacognition)، نطلق مصطلحا يصف كتابة الكتابة. بكل الأحوال، الكتابة التي اكتبها تنطلق في الغالب من الواقع، فعندما أرى ظاهرة تشدّ انتباهي، أحاول أن أصفها وأصف ما يرتبط بها بواسطة الكلمات، واذا ما أردت الانطلاق من مادة نظرية، فإني أسعى في الغالب الى ايجاد وتسطير نقاط التلاقي مع الواقع. هو الدمج ما بين النظرية والواقع اذاً والذي يعكس تركيبة الحياة. تبدأ الكتابة من عنوان صغير أو فكرة مركزية أسطّرها، لكي تُلهمني الخطوط العريضة لما أودّ الكتابة عنه. أثناء الكتابة أستعين بتوارد الأفكار (Free association)، وبتلاقحها مع عالم النظرية الذي اكتسبته من خلال دراستي الأكاديمية والقراءات المختلفة، اضافة الى الخبرة الحياتية التي تمدّ بالنظرة الواقعية الى الحياة.

وعندما تخرج الكلمات من الداخل الى الخارج، من الجوف - الذي يحوي القلب والعقل - الى الخارج عن طريق ملف "وورد"، أترك الناتج لفترة من الزمن حتى يختمر. ان الأمر يقرب الى العجين، فعندما يتم تحضير العجين، ينبغي تركه لفترة من الزمن حتى يختمر، ومن ثم المباشرة في تحضير المنتج النهائي منه. كذلك الكتابة، فعندما تنتظم الكلمات في مسودة أوليّة، تحتاج الى فترة طالت أو قصرت من الزمن، حتى يسهل تنقيحها واعادة النظر في أفكارها. الا أن الكتابة تختلف اختلافا جوهريا عن العجين، ذلك كوننا ننتظر تغيّرا كامنا في العجين (أن يختمر لوحده)، ولكننا نحن من سيساهم في دفع عجلات اعادة النظر، التنقيح، التعديل والتغيير في حال الكتابة. بعد الانتهاء من الكتابة الأولية، تظلّ في الغالب حبيس أفكارك الأولية، ويصعب عندها ايجاد نقاط الضعف، الثغرات، ويصعب نقد المكتوب، أما حين تأخذ فاصلا زمنيا وتعود الى نفس الكتابة فستشعر باختلاف النظرة وذلك سيساعدك على القاء نظرة فوقية أكثر، بحيث أنك لا تبقى حبيس أفكارك الأولية. ان الأمر أشبه بالنظر الى نفس المنتج وبواسطة نفس العيون ولكن من زاوية رؤية مختلفة. لذا، فإنني في الغالب لا أنشر الكتابات التي أكتبها فور الفراغ من كتابتها، وانما أتركها جانبا وأبدأ بكتابة غيرها، لأعود اليها بعد فترة زمنية طالت أو قصرت فأقرئها من جديد بعيون فاحصة متفحّصة.

المخاض


ان الأمة العربية والاسلامية تمر بأحداث عصيبة وسنين عجاف، يصعب على العاقل أن يفلت من وطأة تأثيرها أو أن يتجاهلها. الا أن بعد العسر يسرا، فهذا وعد من الخالق! والشدّة لا يمكن أن تدوم، لأن دوام الحال من المحال! ولذا علينا أن نكون واعين لأن ما تمرّ به الأمة العربية اليوم هو أشبه بالمخاض. الأمة العربية سبتت طويلا وخفت حسّها سنينا وكنا نتمنّى لو تستيقظ، لو تغضب، لو تقول "كفى!". لقد مرّت عليها سنون رضخت فيها للاستعمار الذي يُروّض المُستَعمَر ويجعله "حيوانا أليفا طيّعا"، حتى جاءت نقطة الصحوة، نقطة الانطلاق، نقطة الثورة، نقطة النهوض، نقطة بداية النهضة. لقد كانت الأمة العربية في هذه الفترة كالأم ما قبل مخاض الولادة، فصحيح أنها كانت تتألّم من فترة الى أخرى، ولكنها كانت تُحاول أن تتناسى هذه الآلام لتتعايش مع الوضع الموجود، ولكن حين وصل الألم الى الذروة ولم يعد يُطاق، أعلنت الأم دخولها مرحلة المخاض، وكذا الأمة العربية حين ثارت وبدأت تصحو، أعلنت أنها دخلت هذه الفترة الحرجة المؤلمة والمُبشّرة بالخير في نفس الوقت. 

فترة المخاض هذه ليست بالفترة الهينة، ففيها آلام وفيها تضحيات، فكما أن الأم تُضحّي بروحها، بجسدها وبقلبها لتمنح الحياة، فكذا ستكون هناك تضحيات انسانية وغير انسانية في سبيل الوصول الى حياة أفضل وعيش كريم، في سبيل منح الحياة الأفضل للآخرين وللخَلَف. ويمكن أن تطول هذه الفترة في نظرنا، لأننا ننتظر النتيجة بكل ترقّب، وعيوننا تكاد لا تغفل عن اليسر المنتظر. ويمكن أن تطول حقيقة (رغم قصرها في ميزان الزمان)، فالتغيير لا يأتي بيوم وليلة وانما قضت سنة الكون أن لا يتم التمكين حتى يحدث الابتلاء، وفي هذا قانون سببي جلي، فلكي تكون مهيأً وأهلا للتمكين، عليك أن تكون قد تخطّيت الصعاب والمخاضات وأثبتّ كفاءتك وجدارتك. ان الأمة العربية والاسلامية على حالها اليوم تكاد لا تستحقّ النصر ولا التمكين لما فيها من انحرافات عن طريق بناء الحضارة، ولذا فإن كل ما يمرّ على الأمة هو عمليا لمصلحتها، فكل هذا يهدف الى زعزعتها، ايقاظها، تدريبها وافهامها أن التحدّي المنتظر للنهوض كبير وأنه يحتاج الى جدّ وعمل. ذلك يشبه ما تمر به الأم من عناء وآلام، ليفهم الوالدين وكل البشر أن هذه الروح غالية ولذا يجب صيانتها وتربيتها أحسن تربية. انه ابتلاء للأم ما قبل تمكينها (ابتلاء بالآلام والمخاض قبل التمكين عبر بناء الأسرة). أما الثمرة المنتظرة، النتيجة المرجوّة، اليسر المرتقب فهو حياة كريمة، فالمولود هو الحياة وأمه تمنحه الحياة الكريمة عبر توفير الحاجات الضرورية له من مأكل ومشرب وملبس ومأوى ومأمن. كذلك النتيجة التي تتبع المخاضات في حال الأمة: حياة كريمة تضمن للإنسان حقوقه الطبيعية (التي وُلد معها واليها).

الفُرقة التافهة


أحيانا أفكّر في فُرقتنا نحن العرب، في تشتتنا، في تكفيرنا لبعض، في تخويننا لبعض، في إلغائنا لإنسانية بعضنا البعض، في تكبّرنا على بعض، في سفكنا لدماء بعضنا البعض، وأستغرب من مدى تفاهة فُرقتنا، من مدى تفاهة اقتتالنا! لا نعرف كيف نتفق ولا نعرف كيف نختلف؟! ما هذا؟! ما بالنا لا نختلف على شيء يستحق الاختلاف؟! ما بالنا لا نراعي أدبا واحدا من آداب الاختلاف؟! هل كل اختلاف هو خلاف؟!
ان الناظر الى حال أمتنا العربية، يكتشف تفاهة فُرقتنا، فنحن نعيش في ظلّ نفس الظروف الصعبة من استعمار واستغلال ونهب لثروات البلاد (رغد العيش لدى بعض الدول والأفراد هو غطاء آني، آن لصاحبه أن يعيَ ما وراءه)، نتكلّم نفس اللغة، نتشاطر نفس التاريخ، نطمح لحياة كريمة. أي أن ماضينا مشترك، حاضرنا مشترك ومستقبلنا كذلك، فلماذا نفترق اذا؟! 

واذا نظرنا الى حال العرب في الداخل الفلسطيني لوجدنا نفس الصورة وربما أسوأ، فذلك الحزب الشيوعي وتلك الحركة الاسلامية الشمالية وتلك الجنوبية. هؤلاء يريدون الدخول في الكنيست الاسرائيلي وأولئك يرفضون ويتهمّون الأوّلين بالخيانة والعمالة في بعض الأحيان. والكل يرفض الكل، والمزايدات على الوطنية وتوزيع شهادات حُسن السلوك وتوزيع الاتهامات العشوائية على المختلفين (الذين هم مخالفين أيضا في نظرنا). والسؤال لماذا؟! ألسنا نملك تاريخا مشتركا؟! أليست النكبة والنكسة (وغيرها من الأحداث والرموز الوطنية) مشتركة لجميعنا؟! ألم نتعرّض لنفس التهجير ولنفس الاغتصاب؟! ألا نتكلّم نفس اللغة؟! ألا نملك نفس القيم والعادات والتقاليد؟! ألا نملك نفس الثقافة؟! ألسنا نطالب بنفس الحقوق؟! ألسنا نواجه نفس المحتلّ؟! أليس كلنا يريد الحفاظ على المقدّسات (الاسلامية والمسيحية وغيرها)؟ أليس أغلبنا يحامي عن المسجد الأقصى كما عن كنيسة القيامة؟! ولو تصوّرنا أن أحد الغربيين سئلنا ما سبب فُرقتكم، لتلعثمنا ولصرنا نُدلي بحجج لا ترقى الى مستوى الإقناع! وهو بدوره سيصعّب علينا ويقول: "فرضا لو أن دخول الكنيست هي نقطة جوهرية، هل هذا سبب يدعو الى الفُرقة؟ الاختلاف يعطي فرصة للنقاش، لتلاقح الأفكار وليس للخلاف". "هل انتماءاتكم الدينية المختلفة ستُعكّر صفو جمعكم؟! لماذا لا تنظرون الى المشترك الذي بينكم؟! فبالنهاية لو اخترت أن تبحث عن الفروق فستجد فروقا بين أخويْن وبين توأمين وفي الشخص نفسه (تغيّر المواقف بمرور الزمان)". 

الكلام المعسول


هناك اطراءات يستعملها الناس تعكس تصفيقا حارا للشخص أو للشيء المراد مدحه ليس أكثر! أحيانا عندما يُقال لأحدهم: "أنت مبدع، أنت بطل، أنت متميّز، أنت عظيم"، وعندما يصف أحدهم مؤسسة معينة فيقول: "مؤسسة سبّاقة في عمل الخير، رائدة في كل ما تعمل، لا تكلّ ولا تملّ، نبراس للأمم"، وعندما يكتب المدرّس للطالب: "تقدّمه العام ممتاز. أرجو له دوام التقدّم والنجاح". مثل هذه الكلمات يمكن أن تُقال لفلان ولعلّان ولو استبدلت اسما مكان آخر لما استطعت التمييز، والمثال الأخير يُستعمل منذ فجر تاريخ الشهادات المدرسية كما يبدو وهو موحّد لجميع الطلاب الممتازين. ذلك يرمز الى أن مثل هذه الكلمات تُقال أحيانا كثيرة بعفوية وبتكرار "ببغاوي" دون امعان النظر في مدى ملائمتها للمراد مدحه! فهي لا تنبع من تفكير عقلاني ولا من عاطفة صادقة، وهي تُشبه ما يتلفّظه الناس من عبارات دارجة، كمثل ما يُقال للتعبير عن الترحاب: "تفضّل عنّا"! هل تقصد فعلا ما تقول؟! ولو تفضّل الشخص لأُحرجتَ ولاتهمتّه بقلّة الذوق! من دعاه؟!

"أنت أفضل رئيس في تاريخ البلد، عملك الدؤوب وجهودك المتفانية لا نجدها عند غيرك" - كلمات شاعرية قيلت في حضرة كل رئيس. هل فعلا نقصد ما نقول؟! لكي يكون الاطراء صادقا ينبغي أن ينبع من واحد من مصدرين على الأقل: تفكير عقلاني أو عاطفة صادقة (أو كلاهما). التفكير العقلاني يدفعك الى اعادة النظر في ما تقول لتسأل نفسك: هل هو فعلا أفضل رئيس في تاريخ البلد؟ ما هي الأدلة على ذلك؟ هل قولي ينبع من دراسة مُقارِنَة؟ أم هو مجرّد "زت حكي"؟ هل الشخص الذي أمامي هو مبدع بحقّ؟ ماذا يعني الابداع؟ هل هو بطل؟ ماذا تعني البطولة؟ هل تقدم الطالب ممتاز فعلا؟ هل تقدّمه ينبني فقط على علاماته؟ ماذا عن قدراته الاجتماعية، هل تقدمه فيها ممتاز أيضا؟ انها الأسئلة التي تُؤسّس لإطراء أكثر قُربا من الشخص أو الشيء المراد مدحه، وعندها يمكن التمييز بين اطراء وآخر، وذلك يعود بالفائدة على المادح والممدوح، فالمادح يُعمل عقله ويعكس تفكيره الحقيقي، والممدوح يأخذ صورة أوضح عن حاله ولا يبقى مخدوعا عبر الاطراءات التي أكل عليها الدهر وشرب. ثم ان هذا الاطراء المؤسّس يُساهم في فتح المجال للنقد ولا يجتثّه من جذوره كما في حال الاطراءات الشاعرية التي تعوّدنا عليها.     

أحيانا ينبع الاطراء من عاطفة جيّاشة، فأنت مُعجب بفنان أو بكاتب معين وذلك يولّد داخلك أحاسيسا وعواطفا تريد أن تُعبّر عن نفسها. لكن علينا أن نحذر هنا من مطبّ المبالغة ومن العاطفة الغير صادقة، كأن تُحاول اقناع نفسك بحبّك لمُشغّلك أو لرئيسك ولذا تُصرّح باطراءات شاعرية تفوح منها رائحة المُبالغة، لتكفّر عن ذنبك الداخلي وعن النقطة السوداء في قلبك تجاه ذلك المسؤول. ثم عند أول منحنى أو عند أول مشكلة تتكشّف العواطف الصادقة (الكراهية الدفينة). لذا ينبغي أن يسأل الواحد نفسه: هل فعلا هذا ما أحسّ تجاه الشخص أو تجاه الشيء؟! هل أنا صادق مع نفسي ومع الآخر؟!

الانسياق (Conformity)


كثير من الناس ينساقون مع رأي الأغلبية ويكتمون رأيهم المُختلف أو يقمعونه أو يُقنعون أنفسهم أن رأيهم موافق لرأي الأغلبية، وهذا نوع من أنواع الانسياق أو الامتثال (بالإنجليزية: كونفورمتي). الانسياق يشمل تغييرا في سلوك أو معتقدات الفرد تبعا لمعايير وقوانين المجموعة أو المجتمع. لكنّ هذا الانسياق ليس حتما أن يكون سلبيا، بمعنى أن الانسياق غير مساوٍ للخضوع أو للخنوع، وانما يمكن أن يكون الانسان مقتنعا فعلا برأي الأغلبية، ولذا فهو يسمح للتأثير المجتمعي أن يطاله عن رضى واستحباب، لأنه في النهاية سيصبّ في مصلحة الفرد الذي سيتكيّف مع بيئته ويندمج في مجتمعه، وفي مصلحة المجتمع الذي ستقوى روابطه. ان الجانب السلبي من الانسياق هو ما وصفناه في الجملة الأولى من هذا المقال، اذ يكون للفرد رأيا آخر ولكنّه لا يُبديه، خوفا من ردّة فعل الأغلبية وكي لا يظهر اختلافه في المجموعة.  

فلو رأى نفعا تمّ التغاضي عنه أو ضررا تمّ الوقوع فيه، لما كفّل نفسه عناء اقناع الآخرين بجدوى رأيه المُختلف، ولفضّل قرار المجموعة الحالي على ادخال رأي جديد ونقاش مُضنٍ، منساقا بذلك مع المثل الشعبي: "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس". ان الانسان يحبّ أن يندمج مع المجموعة ولو كان ذلك على حساب تنازلات، فللمجوعة أفضلياتها وميّزاتها، ولكنّ كثيرين يفكّرون أنهم اذا خرجوا عن رأي الأغلبية فسيصيرون حتما منبوذين أو مرفوضين أو مُضطهدين وليس هذا صحيحا! إذ يمكن أن يُدلي الانسان برأيه المُختلف ويحاول اقناع الآخرين به، واذا لم يتمّ أخذه فهذا لا يعني أنه تم اخراج الانسان من المجموعة، فخلاف الرأي لا ينبغي أن يُفسد للودّ قضية! هذا الخوف المُبالغ به من ردّة فعل الأغلبية يعكس خوفا أعمق وهو خوف من الرفض، اذ أن الانسان يأمل القبول ويمقت رفض الآخرين اياه، وذلك ما يمكن أن يُغذّي حاجاته الاجتماعية.

ثم ان ابداء الرأي المُختلف يُظهر الفرد مختلفا وربما شاذّا عن المجموعة، مما يضعه في المركز ويُسلّط عليه الأضواء، كي يشرح رأيه ويحاول اقناع الآخرين بأفضليته، هذا في حال كانت المجموعة فضولية لسماع وفهم الرأي المُختلف. أما في حالات أخرى، فيمكن أن تتجاهل المجموعة صاحب الرأي المختلف وتُعيد الحديث الى حيّز الأغلبية. في حالة كون المجموعة فضولية، فإن صاحب الرأي المختلف يحتاج الى بذل طاقات أكبر من الباقين من أجل شرح الرأي أو الموقف المُختلف واقناع المجموعة، علاوة على القدرة على التواجد في المركز أمام المجموعة. إلا أنه علينا أن نحذر من أن نستغلّ هذا المركز لغايات وأغراض شخصية، كأن نُعارض أو نبدي رأيا مختلفا، فقط لنبرز ولتتجّه الأضواء نحونا وليس لأننا مؤمنون بما نقول.