22.8.15

صلوات


صلوات طيّبات

تلك اللحظة التي تُنسيك كل من حولك وتلفتك عن كل ما يشغلك، تلك اللحظة التي تُريحك من همومك وتلتقطك من بين تفاهاتك، تلك اللحظة التي تبعثك في فضاء فسيح وتأخذك الى جوّ مريح، تلك اللحظة التي تُنشيك وأنت تبكي وتُسكرك وأنت صاحي وتبعثك بعيدا وأنت قريب. انها ليست ككل اللحظات، بل اننا لربما نجهضها روحها اذا ما أسميناها "لحظة" فهي حالة خارج الزمان والمكان، حالة يصعب وصفها بكلمات كثيرة أو قليلة، وهي أعمق من كل ما قيل في وصفها وأبعد من كل ما قيل في تقريبها. انها لحظة الانغماس بعسل الصلاة ولحظة الذوبان في آيات القرآن ولحظة الاتصال بخالق الأرض والسماء.

لحظة الذروة هذه لا تُعكّر صفوها سعلة مصل قريب ولا حركة عفوية ولا حتى دويّ انفجار عابر، فهي انغماس الحواس كل الحواس في ملكوت السماء، وهي ذوبان في مشاعر دفّاقة، أخّاذة، مشاعر تجري جريان الأنهر أو تمرّ مرّ السحاب المُسخّر بين السماء والأرض. وهل هي الا مشاعر الوصال، وصالنا نحن الضعفاء بالقوي، وصالنا نحن الفقراء بالغني! وهل هي الا مشاعر الحبّ والعشق لمن أوجدنا من العدم، ولمن أغدقنا بعطاياه وبأنعمه! وهل هي الا مشاعر الشوق للُقيا القريب المجيب، الرحمان الرحيم!

واذا ما تفجّرت ينابيع الأحاسيس وانقطع توافد تفاهات الدنيا، تراءت المشاهد تلو المشاهد، وتسامعت الآيات تلو الآيات، الآيات التي تجعل الجبل خاشعا متصدّعا من خشية الله. وعندها وفقط عندها، تنهمر دموع صادقة، دموع خاشعة، دموع تحكي لصاحبها لذة الذوبان ونشوة الانغماس وحبور القُرب. دموع لها أول ما لها آخر، فهي تحثّ بعضها بعضا، والآيات المتدفّقة لا تبطّئها ولا تكفّها ولكنها تحضّ مزيدا منها، تحضّها على الخشوع، على الانهمار، على الركوع والسجود لبارئها. ولم نكفّها عن التدفّق؟! أوليس القلب قد ذاب عشقا وهي قد ذابت شوقا، فلها أن تعبّر عن عشق القلب وعن شوقها ولها أن تُعلن لخالقها أنها من أجله دفّاقة لا تتأنّى ولا تترنّح.

وهل يقدر كائن يعقل أن لا يتوقّف عند جمال الآيات وروعتها؟! وهل يستطيع أن يكظم ما في نفسه من أشواق في ذلك الموقف؟! ويأتي الركوع ويلحقه السجود فيزيدان من تعلّق الروح في الأعلى، ويصدّقان المشاعر بانحنائهما ويشدّان على الدموع المُنهمرة. تنتهي الصلاة بلمح البصر وعندها يعود الى ذهن المصلي أنه قاعد بين مصلّين في مسجد وأنه ما زال في حياته الدنيا، ويودّ لو أن تلك الرحلة الروحانية تعود من جديد في أقرب وقت.

***

فليت الذي بيني وبينك عامر!

من ذا الذي ينصرف عن صلته بالقوي؟ من ذا الذي يحيد عن ضيافة الملك؟ من ذا الذي يجزع عن التقرّب الى الغني؟ هي الصلاة صلتنا نحن الضعفاء بالقوي، صلتنا نحن العبيد بالملك، صلتنا نحن الفقراء بالغني، واليها يفيض ضعفنا وفقرنا وفيها تتجلّى عبوديتنا لخالق السماوات العُلى. هي الصلاة تُشعرنا بالقرب من الملك، من خالق الأرض والسماء، تُشعرنا بحبل الله الذي لا ينقطع وبرعاية الله التي لا تنضب وبمعيّة الله التي لا تحول عنا وبحفظ الله الذي ليس كمثله حفظ وبمعونة الله التي ليس كمثلها معونة، وتؤكّد لنا أننا لسنا وحيدين ولسنا متروكين. وكيف نكون كذلك ونحن نتلو "اياك نعبدُ واياك نستعين"؟! وكيف نكون كذلك ونحن في ضيافة الرحمان، في بيته ومسجده؟! وكيف نكون كذلك ونحن جئنا مُقبلين مُبتهلين لله؟! يقول عزّ وجلّ في الحديث القدسي الذي يرويه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربّه: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ جَاءَنِي يَمْشِي جِئْتُهُ هَرْوَلَةً".

واذا كانت هذه المعيّة متغلغلة في القلوب واذا كان ذاك الحفظ محفوظا عندنا عبر تعاهدنا للصلاة، فهل ستنغلق الأبواب كل الأبواب في وجهنا؟! وهل سيسوء بنا الحال الى درجة اليأس والقنوط؟! كلا! فإذا ما أُغلقت أبواب الناس فسيبقى باب السماء مفتوحا وان طرقنا باب خالقنا فلن يطردنا من رحابه بمشيئته، واذا ما ضاقت الأمور وأظلمت الدنيا فسيبقى نور الآخرة يشعّ. يقول الشافعي رحمه الله: "ولرب نازلة يضيق لها الفتى ذرعا وعند الله منها المخرج، ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج". واذا ما انقطع حبل الناس فسيبقى حبل الله، واذا ما تخلّى عنك الناس فلن يتخلّى عنك رب الناس الذي لم تقطع صلتك به يوما. ولم يغلو أبو فراس الحمداني عندما قال: "فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاة مَرِيرَة، وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ، وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ"، فهي الصلة بالله الصلة الحقيقية التي تدوم وهي الحياة الحقيقية التي لا تفنى وهي الملاذ والملجأ في الأول والآخر، في حلو الأمور ومرّها.

وهي الصلاة صلة لكل من طلب ولكل من دعا وتأمّل ورجا، فأي الناس يقدر على انفاذ طلباتك وتحقيق آمالك وهو ضعيف مثله مثلك؟! ولكنه رب الناس القادر على كل شيء الذي ان دُعي أجاب وان سُئل أعطى، رب الناس الذي ان حافظت على صلتك به فإنه لن يخذلك وسيسمعك فهو قريب مجيب.

***

 

حبّ وعشق

الذي يحبّ يذهب الى من يحبّ هرولة، الذي يحبّ يتجمّل لمحبوبه، الذي يحبّ يطلب رضى محبوبه، الذي يحبّ يسهر لأجل محبوبه، الذي يحبّ ينام لأجل محبوبه، الذي يحبّ يأكل لأجل محبوبه، فكيف بمن يحبّ من علمّ الناس الحبّ؟! وهل نملك الا أن نحبّ من أمدّنا بنفس الحياة؟! وهل نملك الا أن نسجد لمن أخرجنا من العدم الى الوجود؟! وهل نملك الا أن نفيض بالعشق لمن خلقنا في أحسن تقويم؟! وهل نملك الا أن نشتاق لمن يحفظنا ويرعانا ومن يهدينا اليه صراطا مستقيما؟!

تقول رابعة العدوية رحمها الله في حبّ الخالق:

عـرفت الهـوى مذ عرفت هـواك *** وأغـلـقـت قلـبـي عـمـن سـواك

وكــنت أناجيـــك يـــا من تــرى *** خـفـايـا الـقـلـوب ولسـنـا نـراك

أحبـــك حـبـيــن حـب الهـــــوى *** وحــبــــا لأنـــك أهـــل لـــذاك

فــأما الــذي هــو حب الهــــوى *** فشـغلـي بـذكـرك عـمـن سـواك

وأمـــا الـــذي أنــت أهــل لــــه *** فكـشـفـك للـحـجـب حـتـى أراك

فـلا الحـمد فـي ذا ولا ذاك لـــي *** ولـكـن لك الـحـمـد فـي ذا وذاك

وما أجمل الحبّ الذي تصفه هذه الأبيات وما أحلى أن يتذوّقه الانسان في حياته، فإن لم يطلبه الانسان في حياته فمتى سيطلبه؟! وما أسعد من حظِي به فهو الحبّ الذي يدوم للحيّ الذي لا يموت! والحياة بدون حبّ الله والشوق للقائه كئيبة، ومعه وفقط معه تكون حياة طيّبة سعيدة هنيئة، وكم ستكون حسرة من فارق حبّ خالقه؟! وكم سيكون خسران من أشغل قلبه عن حبّ بارئه والشوق للقياه؟! أحُبُّ الدنيا الفانية أولى؟! أم حبّ المولى الباقي؟! وكيف نحيد بالحبّ عمّن نحن منه واليه؟!

والصلاة هي التي تُشعل هذا الحبّ وتمدّه بالحرارة على الدوام، فلا تدعه يخمد ولا تتركه يخبو، وهي ذاتها تعبير عنه وتجسيد له ان كان بالإمكان تجسيد مثل هذا الشعور الفائق للوصف والمُعجِز للبيان. ففي الصلاة تتوجّه الأطراف كلها الى خالقها وتُذعن لذكره ولعبادته، وفيها يرقّ القلب ويصفى الذهن، فهل تورث هذه الصلاة الا الحبّ؟! وهل تترك الا الراحة والطمأنينة؟! واذا ما اشتعل الشوق عند المحبّ المشتاق واذا ما زادت رغبة اللقيا، نزع الى التقاء الأرض بالسماء، الى لقاء العبد بربه، الى الصلاة، ففاض بكل حبّه وبكل أشواقه فيها وقال: "اني ذاهب الى ربي سيهدين"، وأردف: "وعجلت اليك ربى لترضى".

***

سلام قولا من ربّ رحيم!

منذ أن ينطلق طقسها تسكن الجوارح عن الحركات العشوائية وتتحوّل عن الفعلات الإضطرابية. العين تميل عن النظر الى ما لا يعنيها، والأذن تحيد عن سماع لغو القول، واللسان يعدل عن النطق بكل ما هبّ ودبّ، والقلب يترك أهوائه وينصرف الى الواحد الأحد الفرد الصمد. فهو اذاً انصراف عن العشوائيات وعدول عن الأهواء وذهاب الى النظام والهدوء والسكينة. وهو دخول في نظام دقيق وايقاع متناغم، وهو انسجام مع النظام في هذا الكون، نظام الكواكب التي تدور في أفلاكها لا تحيد عنها، نظام الشموس التي لا تفارق الشروق ولا الغروب، نظام الأقمار التي تلتزم بعدّتها. هو الدخول في الصلاة يأخذنا الى هذا النظام وتلك السكينة. 

فمن أول طقس الصلاة وحتى قبل أوله، يتضرّع المصلّي لخالقه وحده وينوي التوجّه له دون غيره، وتأتي التكبيرة الأولى لتؤكّد الخروج من العشوائيات والدخول في النظام، والانتقال من الاضطراب الى السكينة، من عبث الدنيا الى نسائم الآخرة. وهي "الله أكبر" تعني أن لا شيء أكبر ممّن خلقني ولذا فسأضرع له وحده دون غيره وسأوجّه وجهي له فهو الذي فطر السماوات والأرض. وتأتي سورة الحمد لتعُلن ابتهالات خالصات لله رب العالمين، الرحمان الرحيم، مالك يوم الدين، وتتابع الآيات ويستمرّ النظام ولا ينضب التوجّه الى الواحد الأحد ولا ينفكّ الحياد عن العشوائيات والتوافه.

تستمر تلاوة الآيات بانتظام وبصوت رقيق خاشع، بعيد عن النشاز والضجيج الفارغ، ولا تسأم الجوارح من الهدوء الذي فُرض عليها ولكنه يبدأ يتغلغل اليها فيورّثها السكينة والخضوع لمن خلقها. واذا ما أتت حركات الركوع والسجود فإنها لا تأتي باندفاعية ولكنها تكون حركات كلها سكينة وكلها اذعان للملك، ويغلّفها ذوبان في حبّ المولى وانصهار في الشوق للقياه. وكيف لا يكون ذلك وكلما استمرّ العبد في صلاته زاد من قُربه من خالقه، وكلما استمرّ تصاعدت الحبكة لتصل ذروتها في السجود، عند ذاك الموقف الذي تلتقي فيه الأرض بالسماء وتلتقي به الدنيا في الآخرة، ويكون العبد أقرب ما يكون الى خالقه!

الآيات العذبة المتلّوة برقّة، المعاني السامية التي ترمي اليها، الحركات المنتظمة الخاشعة، كل ذلك وأكثر يجتمع في طقس واحد، في حالة واحدة هي الصلاة. فإذا ما تآلف جمال الآيات مع سمو المعاني وزيد على ذلك سكينة الحركات وخشوعها، فإن ذلك سيسفر عن سلام، سلام داخلي يتحقّق فيه الاطمئنان والسكينة، وسلام خارجي يظهر على الجوارح. وهنا يختتم المصلّي طقس الصلاة بقوله: "السلام عليكم ورحمة الله" على اليمين، ويؤكّده على الشمال: "السلام عليكم ورحمة الله".     

***

وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم!

هل عرف الحقيقة من حاد عن الصلاة؟ ربما عرفها ولكنه عاد فأنكرها أو تنكّر لها. هل عقل الحقيقة من ترك الصلاة؟ ربما عقلها ولكنه نسيها أو نُسّيها. هل ذاق الحقيقة من فارق الصلاة؟ كلا انه لم يذُقها! فلو ذاقها لما عدل عن ذا الذوق، فأي عاقل ذاك الذي يذوق الحقيقة ثم يفارقها بعد أن طَعِمها؟! والذي يُفارق الصلاة، يُفارق الحقيقة بلا شكّ! انه يُفارق عبوديّته لله ويتنكّر لكونه عبدا لله ويحيد عن العالم الحقيقي، عن دار البقاء. ويلهث بدلا من ذلك وراء دار الفناء، وراء الدنيا التي لا تدوم لأحد كما يمكننا أن نرى عن أيماننا وشمائلنا. أيهما أدعى الى الطلب: دار سنمكث فيها قليلا وسنذوق فيها من المرّ والحلوّ أم دار سنمكث فيها الى الأبد، نعم الى الأبد، وفيها نعيم وحلو لا يَشُوبه أي مرّ؟!

فلما أن كانت الحياة الآخرة أدعى للطلب، فلماذا نهدر أوقاتنا في طلب سواها؟! لمَ نركض وراء زائل ونُعرض عن باقٍ؟ ولمَ نُصرّ على حياة فيها من الصعاب ما فيها ونتغاضى عن حياة كلها نعيم خالص؟! وعندنا أن الحياة الآخرة هي الحقيقة، ففيها ستنكشف الحقائق وسيُماط اللثام عن الزّيف وسيزول كل ما هو غير مؤكّد. يقول تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" (ق، 22). وهي الحقيقة لأن كل ما قبلها يصبّ الى أنهارها، وكل ما قبلها سيُفضي اليها حتما، وفيها سيتحقّق الاستقرار والثبات. فإن كانت الحقيقة استقرارا في الجحيم فبئس بها من حقيقة وان كانت استقرارا في النعيم فنعم بها من حقيقة.

فإذا ما كان عندنا من المتّسع ما يمكّننا أن نكتب حقائقنا بأيدينا، فلماذا لا نركض ركضا وراء الحقيقة؟! لمَ لا نجعل من حقيقتنا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر؟! فإن كنا نريد ذلك فالصلاة هي المنقذ، هي المُعين، هي العنوان، هي التي ستنقذنا من زيف هذه الحياة الى حقيقة الآخرة ومن مُغريات هذه الحياة الى النعيم الأبدي ومن مُلهيات هذه الحياة الى السعي وراء الحقيقة.

***

عماد الدين

يمكننا أن ننظر الى الصلاة كطقس تدريبي وذلك لا يحطّ من قدرها، فهي وان كانت بهذا المفهوم وسيلة، فإنها بمفاهيم أخرى الهدف الذي يسعى الانسان لأن يقيمه أحسن اقامة كيّما يظفر بالحياة الحقيقية، حياة الآخرة. هذا الطقس التدريبي يهدف في المقام الأول الى كبح اللهاث وراء هذه الدنيا الفانية، الى كبح الركض وراء الزّيف والى كبح السعي وراء الغريزة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنه يهدف الى احياء الروح، الى الالتفات الى العمق الانساني والى توجيه النظر لحياة الآخرة الحقيقية. هذا التأثير المزدوج يتحقّق من خلال مركّبات الصلاة المختلفة. فعلى سبيل المثال، هدوء الصلاة وسكينتها يكبحان جماح الركض المستمر ويُخرجان الانسان من عجلة مشاغل الدنيا وبالمقابل يعزّزان من النظر في العمق ويدفعان الى الابتعاد عن حصر النظر في الآني والحاضر.

وآيات القرآن التي تُتلى في الصلاة تدفع الى مكارم الأخلاق وتُساهم في احياء الروحانيات وتحريك الطاقات الذهنية حول تساؤلات وجودية بعيدا عن الماديات الخانقة، مما يعني أن تلك الآيات تحمي الانسان من الانشغال المحصور بالمحسوس، بالمادة وبالحاضر. ومجرّد الذهاب الى المسجد والخروج من مُعترك هذه الحياة يعكس كبحا للانسياق الأعمى وللانجرار وراء مغريات الدنيا وتوجّها الى الحياة الأخرى، فمن يأتي الى المسجد لا يبحث بالعادة عن ربح مادي ولا عن متعة حسّية ولكنه يبحث عن روحه الطاهرة وعن نفسه كي يُزكّيها.

من هنا يمكننا أن نفهم غاية تكرار هذا الطقس خمس مرات في اليوم. انه في ظل الانغماس في هذه الحياة التي تشدّنا اليها بمُغرياتها وبمفاتنها، بآلامها وهمومها وكل مشاغلها، فإننا نحتاج في ظل هذا الانغماس الى ما يُخرجنا من دائرة الدنيوية، من دائرة الآنية الى ما هو أبعد من ذلك والى ما هو أجدى. وهذا الخروج لا يتحقّق الا بتدريب يومي، تدريب يدخل في خضم هذه الحياة، في خضم المشاغل الكثيرة، كيّما يخرجنا من الانسياق لها وحدها وكيّما يُدرّبنا على كبح جماحها والالتفات الى عالم الحقيقة. أضف الى ذلك فإن هذا التدريب الذي يتعامل مع الواقع بميزان الدنيا والآخرة وليس بمنطق المصالح الدنيوية الضيّقة، هذا التدريب الربّاني الذي يهدف الى نشر العدل من الله العدل، هذا التدريب الذي يُحيي الروح الطاهرة ويُروّض الغريزة ويكبح جماحها، فإنه من المؤكّد أنه يُدرّب ويحضّ على كل خير وينهي بالمقابل عن كل شر. بمعنى أن الصلاة تُوصل الى كل خير وتنهى عن كل منكر، أي أنها بمثابة موجّه للإنسان في حياته، ولهذا فهي الأساس وهي عماد الدين.

***

من صلاة الى شهادة دائمة

الصلاة محدودة بالوقت، فما أن ينتهي المسلم من أداء صلاته حتى يرجع الى معترك الحياة الدنيا، ولكنه يرجع مع شيء اضافي ان كان مخلصا في صلاته، انه يرجع مع أثر الصلاة. هذا الأثر من شأنه أن يجعل حياة الانسان كلها صلاة، رغم أنه لا يبذل فيها أكثر من دقائق معدودة من نهار. وهذا هو هدف الصلاة في حقيقة الأمر، فليس المراد ممارستها وحدها وترك كل ما هو سواها وليس القصد الركون اليها كل اليوم، فعند ذلك لن يبرز أثرها، ولكن الهدف هو الانصراف اليها في أوقات محدودة والانصياع الى أمرها ونهيها، حتى اذا ما تمّ ارشادها وتدريبها عاد الانسان الى حياته الدنيا فأقام فيها أمرها ونهيها وسعى نحو تحقيق وظيفة الاستخلاف في هذه الأرض.

والصلاة كلها شهادة لله ورسوله، فهي تتوجّه الى الله وحده لا شريك له وهي تُمجدّه وتحمده على أنعمه، ويتضرّع فيها المصلّي الى خالقه ويستحضر وقوفه أمام ربّه، وكذلك فإنها شهادة لرسول الله، فهي تسير على سنته وبذلك فهي تعترف برسالته وبنبوّته. فهل ينسى خالقه من يضرع اليه في اليوم خمس مرات؟! وهل ينسى الرسالة المحمدية من يعترف بها ويستحضرها خمس مرات في اليوم؟! كلا فإنه لكل فعل أثر، وان لصحوة القلب في الصلاة لمما يجعل منه صاحيا يقظا في معترك الحياة، وان لإعمال العقل في الصلاة حول الوجود وغاية الوجود لمما يجعل منه عقلا فذّا في الحياة الدنيا، وان لشهادة الصلاة لمما يجعل الانسان ناطقا للشهادتين على الدوام.

انه يمكن للشهادتين أن يبقيا حاضرتين في قلب وذهن الانسان حتى وان دخل في معترك الحياة وحتى ولو غاص في عمق المشاغل الدنيوية، فعنده من الزاد ما يكفيه حتى موعد التزوّد القريب. بمعنى أن الشهادتين الحاضرتين في القلب والذهن يكونان بمثابة المُرشد والحامي، فإن أراد مثل هذا الانسان أن يتّخذ قرارا أو يُنفذ أمرا فإنه لا يغيب عن باله أن يراعي حقّ الله ورسوله، وان حدث ووسوست له نفسه أن يظلم فإنه يرتدع لحضور أثر الشهادتين في نفسه، وان حدّثته نفسه أن يرتكب معصية فإن يستعصم لتواجد نفس الأثر. وكذلك فإن الشهادتين يحميان الانسان ويقيانه من النسيان والبعد عن طريق الله، فحضورهما الدائم في النفس لا يدع مجالا لأي مشغلة مهما بلغ شأنها أن تتغلّب عليهما وأن تُنسي الانسان وجودهما.    

***

من صلاة الى صدقة

من وحي الصلاة ينطلق كل عمل صالح. فهي تُربّي على ذلك، وتحضّ وتدفع بالإنسان الى الصلاح والإصلاح. هيئاتها تدعو الى الجام النزوات المترسّخة في الانسان، الى تنقية الأحقاد والأدران والى احياء المحبة والإحسان. آياتها تدعو الى مكارم الأخلاق، تنهى عن الفساد والإفساد وتأمر بإغداق الأرض بخير الأعمال وصالحها. 

عندما يتلو الإمام قوله تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم" (البقرة، 261)، تتبادر الى الذهن فكرة الإنفاق فترتسم في المخيلة تلك السنابل وذاك الحبّ الكثير، وتشتعل في النفس تلك الرغبة الجامحة والحماس البالغ للإنفاق كيّما يظفر الإنسان بذاك الإحسان الكبير.

والصحيح أن من يدأب على أن ينفق من وقته في الصلاة، فإنه سيدأب على أن ينفق من ماله في سبيل الله. ومن يدأب على أن يؤتي زكاة وقته بتعاهد الصلاة والأعمال الصالحة، فإنه لن يتغاضى عن ايتاء زكاة ماله. ومن يبخل أو يتقاعس عن بذل الوقت في الصلاة، فإنه لربما سيبخل ويتقاعس عن البذل في معترك الحياة. بهذا المعنى فإن الصلاة تُدرّب الإنسان على الإنفاق، انها تُربّيه على البذل والعطاء، تُربّيه على أن يُعطي دون أن ينتظر جزاء عاجلا أو شكورا آنيا، تُربّيه على أن يُحسن مع الغير دون انتظار مقابل، تُربّيه على أن يبذل كلّ البذل وأن يصبر على الجزاء الأوفى، على الجزاء الأكبر، على الجزاء المُنتظر. هذه التربية وذاك التدريب يُخرجان الانسان من مفاهيم المادة، فإن أحسن فهو لا ينتظر احسانا قريبا ممّن أحسن معه، وان امتُحن في احسانه فإنه لا يجزع ولكنه يُحسن ويصبر، فهو ينظر الى الغاية الأبعد، الى الغاية الأحسن، وينتظر الجزاء الأوفى. انه لا يريد أن يُشبع غريزة آنية ولكنه يصبر ليظفر بما هو أجدى وبما هو أحسن وأوفى.

وتلك المعاني تتحقّق لأن الذي يقدم الى الصلاة لا ينتظر بالعادة ربحا ماديا ولا شهرة، فلو أراد مالا لكانت التجارة غايته ولو أراد شهرة لكان الانتقال من منصة الى أخرى أجدى له، ولو ظنّ أنه سيُحصّل مالا أو شهرة من قدومه للصلاة فهو لا يدري كما يبدو كيف يلائم بين الوسيلة والغاية. فما يقدم المصلي الى الصلاة الا لغاية الانفاق والبذل، الانفاق والبذل الذي لا ينتظر جزاء آنيا ولا شكورا مُستعجلا.

***

من صلاة الى صوم

ولما أن قرأ الإمام قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة، 183)، أخذ المصلي ما كُتب عليه وصار يغدو صائما ويروح صائما. وما ذلك الا لكونه مهيّئا لقبول الدعوة وتذويتها، فهي الصلاة كفيلة أن تُهيّئه لذلك من خلال ايحائاتها وارشاداتها، ومن خلال تدريبها وتربيتها.

فلو تأمّلنا الصلاة لرأينا فيها معنى الصوم، فلكأنّ الصلاة حوت بعظمتها صوما يهيّئ الطريق الى الصوم المفروض، ولكأنّها ضمّت اليها تدريبا وايحاء بالصوم. كيف لا يكون ذلك وفي الصلاة صوم؟! صوم عن الأكل والشراب، صوم عن التجارة وكسب المال، صوم عن اللعب واللهو، صوم عن النوم والخمول، صوم عن الصخب وكثرة الحركة، صوم عن الركض المتواصل، صوم عن الكلام الفارغ، صوم عن الحقد والكراهية والبغضاء، صوم عن الغيبة والنميمة، صوم عن الشتائم ... أليس كل ذلك صوما؟! انه يمكننا أن نقول أن الصلاة تُربّي على الصوم عن الدنيا ومغرياتها ليتسنّى للإنسان النظر الى الآخرة ونعيمها المُنتظر، انه صوم عن الدنيا كلها، عن حلالها وحرامها. وليس هذا يعني أنها تدعو الى نبذ الدنيا بالمطلق، فليس هذا من وحيها، ولكنها تُدرّب في لحظات معيّنة ومحدودة في اليوم على نبذ الدنيا وكل ما يتّصل بها والتوجّه الخالص الى الآخرة. فهو اذا صوم عن المال واللعب والصخب وما الى ذلك من أشياء دنيوية في لحظات الصلاة، صوم يهدف الى تدريب الانسان على أن لا تكون كل حياته مالا ولعبا وصخبا، صوم يُرسّخ فكرة الصوم عن الدنيا في لحظات قلّت أو كثرت كيّما يتمكّن الانسان من رؤية الآخرة من دنياه التي تشدّه شدّا. اذا هو اعراض عن الدنيا في لحظات حتى لا تستولي على الانسان فتكون همّه الأول والأخير.

وبهذا فإنه يمكننا أن نقول أن من يصوم عن لحظات من سهرة بين الأصحاب لكي يُصلّي وأن من يصوم عن لحظات من عمل يكسب منه مالا لكي يُصلّي وأن من يصوم عن لحظات من الاسترخاء لكي يُصلّي وأن من يصوم عن ركض مستمر لكي يُصلّي فإنه سيكون مُدرّبا مُهيئا لكي يصوم من نهاره اذا أقبل. ان فكرة الصوم لن تكون عليه غريبة، لأنه كان قد تدرّب عليها وذوّتها من خلال الصلاة.

***

من صلاة الى حجّ

لو جاء أحدهم وأراد أن يحجّ البيت من مكان قصي فور دخوله الى دين الله، ثم واجه من عناء السفر ما واجه، حتى انه لصار يُفكّر في الرجوع والعدول عن الحجّ، فإنه لربما ارتدع عن الدين ولربما ظنّه عسيرا صعبا لا يُطاق. ذلك أنه لم يمرّ بتهيئة تجعله يُذلّل الصعاب وبتدريب يجعله يرى الصعب سهلا والمستحيل ممكنا. والصحيح أن ذلك ليس من الأوهام ولا من التخيّلات، فنحن نعلم أن التدريب يُسهّل الصعاب ويُذلّلها وأن من دأب على فعل الصعب فإنه سيرى الأصعب سهلا لينا يسيرا. على سبيل المثال، من يبدأ بحمل الأوزان لتنشيط العضلات وبنائها، فإنه ان تدرّج في الأوزان فسيرى بعد مدّة أن ما كان يراه صعبا مستحيلا أضحى سهلا ممكنا. كذلك الأمر في حال الحجّ فإنه يحتاج الى تهيئة وتدريب.

من دأب على صلاة المسجد في البرد والحر، من دأب على أن ينتزع نفسه من حياته خمس مرات من يومه ليتفقّد روحه وصلاته، من دأب على أن يكون من المشّائين في الظلم الى المساجد، من دأب على أن يوقظ نفسه قبل فلق الصبح ليلحق بصلاة الفجر، من دأب على كل ذلك، فإنه يمكننا أن نقول أنه قد دأب على "الحجّ الأصغر" وأتقنه. وبذلك فإنه صار مهيّئا للحجّ الأكبر، انه صار مُدرّبا على البذل المتفاني والتعب والاجتهاد من أجل المحافظة على الطاعات، والأهمّ من ذلك كلّه أنه صار مهيئا تهيئة عقلية ونفسية للحج الأكبر، فهو وان واجه عائق أو صادمته تحدّيات فإنه لا ينكسر أمامها، لأن عنده هدف ينتظر بلوغه ولن يرجع دون تحصيله.

اذا هي تهيئة جسدية، نفسية وعقلية. أما فيما يتعلّق بالجسد فقد أوضحنا أنه ان دأب الانسان على الحجّ الأصغر (على سبيل المثال، المداومة على صلاة المسجد وصلاة الجماعة والاجتهاد في تحصيلهما رغم كل الظروف المُعيقة) فإنه سيكون قادرا على بلوغ الحجّ الأكبر. وأما النفس فإنها ان ربت على الحجّ الأصغر، وان آمنت بعظم الحج الأكبر، فإنها ستحشد قواها الذاتية وستكبح مثبّطاتها لتنال الغاية. ان تعوّدت النفس على الصلاة وصارت عندها طقسا لا يجب أن يفارقها، وان أحيت القبلة فيها حبّ البيت والشوق للقياه، فتلك هي التهيئة. وأما العقل فإنه ان استساغ البذل والتضحية وان ثبتت فيه غاية البلوغ، بلوغ الهدف، فإنه سيحشد كل خططه لينال هدفه وغايته. وبذلك تكون الصلاة بكل تفاصيلها وارهاصاتها موصلا ومعينا على الحجّ الأكبر.

***

 من صلاة الى فعل خيرات

اذا تأمّلنا في الصلاة فإننا نرى فيها مفهوم الخير، ان كان ذلك على المستوى الفكري أو العاطفي أو السلوكي. فعلى المستوى الفكري هي تُحرّك في الانسان التفكير المنطقي الواسع الذي ينظر في ميزاني الدنيا والآخرة بخلاف ذلك التفكير المادي الذي ليس فيه بُعد نظر. انها تدعو الناس من خلال الآيات التي تُتلى خلالها الى التفكّر في خلق الله وفي آياته الكونية والى امعان النظر في السنن الكونية والى الالتفات الى مفهومي الجزاء والعقاب. انها تقول للإنسان أن اذا أحسنت فسينالك جزاء موفورا واذا أسأت فسينالك العقاب، وتُفصّل له الطريق الموصل الى برّ الأمان، ذاك الطريق الذي أساسه العدل وميزته العمل الصالح. وكم من آية تدعو الى العدل؟! وكم من آية تأمر بالأعمال الصالحة؟! وكم من آية تدعو الى اطعام الفقير والمحتاج؟! وكم من آية تدعو الى الإحسان الى الوالدين وذي القربى والناس عامة؟!

ومن ناحية عاطفية، فإن الصلاة تُحيي في النفس أحاسيسا عالية تلامس الروح وتحوم في فلكها. تلك الأحاسيس هي مزيج من حُبّ وشوق وشعور بالقرب من الله الرحمان الرحيم، وتذّلل وخوف من عقاب الخالق. فهي اذا تُحيي الروح وتبعث فيها نبض الحياة من جديد، وتُهذّب الغرائز وتضبطها. فهل ذلك يُعدّ خيرا أم شرا؟! أليس الخير كل الخير يكمن في احياء الروح وفي احياء الانسان وتهذيب الغرائز؟! ألا يُخرج ذلك بذرة الخير التي داخل الانسان فيُنبتها ويرعاها ويسعى الى نموها ويُميت بذرة الشر التي يمكنها أن تجعل من الانسان شيطانا في جسد بشر؟!

وأما من الناحية السلوكية فكل حركاتها مُنتظمة ومُطمئنة، هي تجمع الناس في صعيد واحد متآزرين متكاتفين متجهين الى نفس الغاية رافعين أكفّ الضراعة الى ذات الخالق، وهي تفرض جوّا من السلامة والوداعة على من يقدمها وجوّا من الحُرمة والتعظيم على من يأتي اليها. ولنا أن نلاحظ أقوال الناس اذا اشتاط أحدهم غضبا داخل المسجد: "لأجل حُرمة المسجد فسأكظم غيظي"...

من هنا فإننا نخلص الى أن الصلاة من أعمال الخير بلا شك ومن أقامها فإنه سيكون مهيّئا لفعل الخيرات. انه سيكون مُدرّبا على فعل الخير في البيت، في الشارع، في العمل وبين الناس، وبالتالي سيكون الخير حاضرا عنده في ذهنه وعاطفته وسلوكه.

***

من صلاة الى انتهاء عن منكرات

يمكننا أن نلاحظ أنه بأداء الصلاة فإن الانسان يقوم بالإنتهاء عن الكثير من الأعمال أثناء وقت الصلاة، ومن بين الأمور التي ينتهي عنها المنكرات. انه كان بإمكان الانسان وبدلا من أن يذهب الى أداء الصلاة، أن يذهب الى مرقص وأن يحتسي ما شاء من المسكرات، أو أن يرافق الغواني فينعم بحُسنهنّ ويُشبِع بل ويُحفّز شهوته على الدّوام، أو أن يسرق مالا أو أن يُقامر أو أن يغمط الناس حقوقهم. ولكنه رغم تواجد هذه الأعمال في المحيط ورغم تواجد الاغراءات التي تُودي اليها، فإنه يُعلن تفضيله للآخرة الباقية على الدنيا الفانية، إنه يعلن اختياره الطريق الموصل الى الله بدلا من طرق الضلال، إنه يعلن ايمانه بالله وكفره بالطاغوت.   

لذلك فإنه يمكننا أن نرى في الصلاة نفسها انتهاء عن منكرات كانت يمكن أن تُرتكب بدلا منها. هذا الانتهاء المحدود في وقت الصلاة يُربّي ويُدرّب على الانتهاء في سائر الأوقات، فمن تدرّب على الانتهاء عن المنكرات خمس مرات في اليوم من خلال أداء الصلاة، فإن ذلك سيُلقي بظلاله على سائر الأوقات التي تكون بين الصلوات. وبذلك تُحقّق الصلاة غايتها المرجوّة، فتنهى مُقيمها عن اتباع الشهوات اتباعا أعمى، وتنهاه عن الظلم وعن سوء الخُلق وعن كل ما يتصلّ بالتصرّف الشهواني البعيد عن العقل والروح. يقول تعالى: "وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" (العنكبوت، 45).

وبهذا لا تكون الصلاة مُجرّد شعيرة تُؤدّى وينتهي الأمر، وانما تكون مُربّيا ومُدرّبا على حُسن الخلق وعلى الاحسان وعلى فعل الخيرات بشكل عام، وهي ذاتها تنهى الانسان عن سوء الخلق وعن الظلم وعن المنكرات عموما. بمعنى أنها تكون هي المُوصلة الى غيرها من العبادات والأعمال الصالحة ولذلك فهي عماد الدين وأساسه. وهي تفعل كل ذلك من خلال تفاصيلها الدقيقة التي تعمل على احياء الروح وتنشيط العقل لئلا يبقى حبيس المادة ولكن لينظر في ميزاني الدنيا والآخرة، في مفهومي الثواب والعقاب، وهي تعمل أيضا على تهذيب الشهوة لئلا تكون مُحرّك الانسان الحصري. ان كل ذلك سيُلقي بظلاله على تصرّف الانسان وعندها يمكننا أن نرى فعلا لخيرات وانتهاء عن منكرات.

حضارتنا


كيف كنا، كيف صرنا والامَ سنؤول ؟

ان واقع أمتنا العربية صعب بلا شك، مؤلم، مر كالعلقم، موجع للقلوب الحيّة، مُشغل للعقول الفذّة، مثير لبكاء العيون الصادقة. حتى أن الواحد منا صار يستحي من هويته العربية ولربما يظن بينه وبين نفسه أنها وصمة عار وأن ضعفه سيبان ما ان يبوح بقوميته. وقد توالت الحملات الاستعمارية التي ما انفكّت تُشكّكنا في قدراتنا، في مجدنا الذي كان، في حضارتنا التي كانت، ليصل الواحد الى المقولة اليائسة المُجحفة "العرب عمرهم ما بصيروا" أو "العرب ولا مرة كانوا اشي يُذكر" والى غير ذلك من أقوال بعيدة عن الحقيقة.

والحقيقة أنه كان للعرب حضارة دامت قرونا، حضارة تميّز فيها العرب وتفوّقوا على سائر الأمم في كافة المجالات. فإن لم تكن تلك الحضارة حديث الساعة في يومنا هذا فلا يعني ذلك أنها لم تكن يوما، وان لم يعترف بها الأوروبيون أو ان تنكّروا لها أو ان أنكروها فلا يعني ذلك أنها لم تكن موجودة. انها كانت موجودة وذلك موثّق في الروايات التاريخية التي وصلت من أكثر من جانب، ولكنها ببساطة غير حاضرة في وعينا، انها غائبة عنا أو لربما غُيّبت عنا. لذا كانت سلسلة المقالات هذه التي تهدف في المقام الأول الى اعادة احياء تلك الحضارة التي كانت لنا، والى تسليط الضوء على ما قدّمته هذه الحضارة للبشرية. انه من يكون واعيا لهذا الزخم الحضاري الذي لا يمكن وصفه بكلمات كثيرة أو قليلة، فإنه سيبقى يُردّد بافتخار أنه عربي، ولو خُيّر أي قومية يريد فسيختار عروبته من جديد. وحتى لو كان الواقع صعبا، وحتى لو كان الموجود لا ينسجم مع الذي كان، فإنه يجب أن نعلم أن للحضارة أطوار وأنه ان كنا الآن في انحدار فلا يعقب الانحدار الا الصعود. هذا هو طبيعة الحضارات على مر التاريخ، ولنا أن نذكر دائما كيف كانت أوروبا ظلامية متناحرة وضيعة قبل سنوات وكيف أصبحت الآن. كذلك فإن تفرّق أمتنا العربية وضعفها في هذه الأيام لهو خير باعث على الأمل في القادم (اذا ما كان الواقع سيئا فإن الأمل يجعلنا نعتقد أن لا أسوأ من الحالي وأن القادم بكل الأحوال سيكون أفضل)، واذا ما كان المجد قادما لا محالة فأولى لنا أن نستذكر المجد الذي كان فنغذّي القادم بالسابق ونضعه نصب أعيننا فنسعى جادّين لبلوغه. 

وقد أهداني الله الى كتاب "حضارة العرب" لصاحبه جوستاف لوبون، وهو طبيب ومؤرخ فرنسي، عُرف بأنه أحد أشهر فلاسفة الغرب الذين أنصفوا الأمة العربية والحضارة العربية. هذه السلسلة سترتكز على هذا الكتاب. وقد أعجبني كون الكاتب غربي حتى لا تأخذه مشاعر الانتماء الجيّاشة فيُطلق تصريحات شاعرية حول الحضارة التي كانت أكثر من اطلاقه للحقائق التاريخية. واني لأظن أن حضارتنا التي كانت لا تحتاج الى شاعرية ففيها من التقدّم والعلم والرقي ما ينوب عن كل ذلك.  

***

البحث المتفاني

لو كان أجدادنا خاملين كسولين لكان ذكرهم خاملا كذلك ولما نجحوا في ابداع حضارة دامت سبع قرون، ولكنهم على العكس من ذلك، كانوا يقِظين نشطين محبّين للعمل ولذا كان مجدهم وعزّهم. انها طاقات بشرية وهمم عالية تكاتفت وتآزرت وحضّ بعضها بعضا فأنتجت لنا حضارة دامت سبعمائة سنة. ونحن اذا ما أردنا أن نعمل كما عملوا فعلى كل واحد منا أن يبحث عن هذه الطاقات جوّاه وأن يخرجها الى الحياة، وأن يوظّفها في البحث والاستكشاف، أن يوظفّها في التساؤل، في التفكير، في اطلاق العنان لـ "لماذا" و"كيف". وليس البحث خاصا بالعلماء ولكنه شغل كل انسان عاقل، فالبحث يمكن أن يكون في آيات الله الكونية (كيف خُلقنا؟ ما غاية خلق هذا الكون العظيم؟ ...) ويمكن أن يكون في تفاصيل العمل (كيف تعمل أدوات العمل التي أستعين بها؟ هل يمكنني أن أحسّنها أو أن أضيف لها شيئا؟ ...) ويمكن أن يكون في آيات القرآن (ما معنى الآية؟ ...). ولا يكفي النشاط الفردي والبذل الشخصي ولكنه يحتاج الى التضافر والتكاتف والتوحّد، انه يحتاج الى شبك الأيادي في سبيل تحقيق ذات الهدف. انه يمكن لكل واحد منا أن يبسط يد المبادرة، يد التعاون، يد المشاركة ليضمّ جهده الى جهد آخرين فيصير صرحا عظيما لا يمكن التغاضي عنه.

يقول لوبون في كتابه حضارة العرب: "والإنسانُ يقضي العجب من الهِمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هنالك أممٌ تساوت هي والعرب في ذلك فإنك لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل، والعرب كانوا إذا ما استولَوا على مدينة صرفوا همَّهم إلى إنشاء مسجد وإقامة مدرسة فيها، وإذا ما كانت تلك المدينة كبيرةً أسسوا فيها مدارس كثيرة، ومنها المدارس العشرون التي روى بنيامين التُّطِبلِيُّ المتوفى سنة ١١٧٣م أنه شاهدها في الإسكندرية، وهذا عدا اشتمال المدن الكبرى كبغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة … إلخ، على جامعات مشتملة على مختبراتٍ ومراصد ومكتبات غنية، وكل ما يساعد على البحث العلمي، وكان للعرب في إسپانية وحدها سبعون مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة الحكَم الثاني بقرطبة ستمائة ألف كتاب منها أربعةٌ وأربعون مجلدًا من الفهارس كما روى مؤرخو العرب".

ويقول: "ويُعزَى إلى بيكن، على العموم، أنه أول من أقام التجربة والترصد، اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة، مقامَ الأستاذ، ولكنه يجب أن يُعتَرَف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم، وقد أبدى هذا الرأي جميعُ العلماء الذين درسوا مؤلفات العرب، ولا سيما هَنْبُولد، فبعد أن ذكر هذا العالم الشهير أن ما قام على التجربة والترصد هو أرفعُ درجةٍ في العلوم، قال: "إن العرب ارتَقَوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء تقريبًا"".

فإن نحن أعدنا اهتمامنا بالبحث وكنا مستعدّين لأن نبذل جهودا مُضنية وضافرنا الجهود البحثية، فإن ذلك سيوصلنا الى التقدّم في جميع المجالات بلا شك، وعندها سيكون بداية تفوّقنا العلمي.

***

اللغة الحيّة

اذا ما أرادت أمة أن ترتقي في سلم الحضارة فلا بدّ للغتها أن تكون لغة حيّة لا حبيسة الكتب، واسعة الانتشار والاستعمال. ذلك أن اللغة هي أداة لنقل العلوم والمعارف، من أناس الى أناس ومن مكان الى آخر. واذا ما كانت اللغة حيّة في قلوب أصحابها وأذهانهم، في واقعهم وحياتهم، فإنها ستُحافظ على مستواها وثروتها بين الناس، بل وستزداد ثراء جراء تفاعلها مع حياة الناس المتبدّلة، مع العلوم والمعارف الآخذة في التقدّم ومع الحضارة. ان اللغة لن تبقى جامدة ولكنها ستكتسب معالم الحضارة وستُساهم هي بدورها في إثراء الحضارة.

اذا ما نظرنا الى اللغة الانجليزية فإننا نجدها من أوسع اللغات انتشارا في العالم في أيامنا هذه، ولذا لا ينبغي أن نستغرب ان وجدنا غالبية الأبحاث العلمية والكتب العلمية باللغة الانجليزية. ولنا أن نتخيّل كم ستكون هذه المعارف قريبة ممن يتكلّمون الانجليزية فهي بلغتهم الأم وهي شائعة عندهم، واذا ما شاعت المعارف بين الناس تيسّرت السبيل الى العلم والمعرفة وحظي العلم بجنود آخرين يدعمونه وهكذا دواليك يستمر الاثراء المُتبادل بين الناس وبين المعارف التي هي بلغتهم. واذا ما ازدهرت المعارف عند أمة من الناس واذا ما تكدّست بلغتهم، فإن كل الأمم الأخرى ستنهل من معارفهم التي كُتبت بلغتهم.   

يقول لوبون في كتابه حضارة العرب: "ولما صارت اللغة العربية عامةً في جميع البلاد التي استولَوا عليها حلَّت محلَّ ما كان فيها من اللغات، كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية … إلخ، وكان للغة العرب مثل ذلك الحظ زمنًا طويلًا، حتى في بلاد فارس على الرغم من يقظة الفرس، أي ظلت اللغة العربية في بلاد فارسَ لغةَ أهل الأدب والعلم، وظل الفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية، وكُتِب ما عرفته بلاد فارس من علم الكلام والعلوم الأخرى بلغة العرب ... ولم يَشِذَّ عن ذلك سوى الأمم اللاتينية الأوربية التي لم تَقُم اللغة العربية مقام لغاتها القديمة، ومع ذلك فإن اللغة العربية ذات أثر عميق في اللغات اللاتينية، وقد ألَّف دوزي وأَنْجِلْمَن مُعجمًا في الكلمات الإسپانية والپرتغالية المشتقَّة من اللغة العربية".

فإذا ما أردنا أن نعتلي سلم الحضارة من جديد، فإنه من الحريّ بنا أن نبعث الحياة في لغتنا من جديد من خلال عدة مستويات، كأن نُذيق الناشئين روح اللغة وحلاوتها فنحضّهم على القراءة والتبحّر في ميادين اللغة، وأن نعمل جادّين في ترجمة العلوم والمعارف من لغات الأصل الى العربية، وأن نسعى لأن نُدخل المصطلحات العلمية الى لغتنا الأم وأن نخطّ جديد المعارف بلغتنا، فإن سرنا في هذا الطريق فلا ريب أننا نتقدّم نحو الحضارة.

***   

الحرية في حضارتنا

متى ما كانت الحضارة حضارة واثقة منحت أبنائها حرياتهم دون منّ ولا تكرّم، ومتى ما كانت الحضارة واهنة حجرت على أبنائها حرياتهم وضيّقت عليهم وجعلتهم يسيحون في أفق ضيق. ذلك أن الحضارة الواثقة لا تخشى على نفسها من أي جديد، في حين أن الحضارة الواهنة تخشى من كل ما يُبتدع، فكل ما يُبتدع يُهدّد بزوالها ومحقها من على وجه البسيطة.

يقول لوبون في كتابه حضارة العرب: "والحق يقضي بالاعتراف للعرب بأنهم أولُ من أغضى عما نُسمِّيه حرية الفكر في الوقت الحاضر، فمع ما كان يبديه الفلاسفة من التحفظ الكبير في كتبهم كانت تَبْدُر منهم، في الغالب، تأملاتٌ مشتملة على جانب كبير من الشك والارتياب، ومن ذلك قولُ أبي العلاء التَّنُوخيِّ الذي عاش في القرن العاشر من الميلاد: اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له". فلما كانت حضارتنا في أوجها لم يضيرنا أن نسمع أقوالا فيها من التشكيك ما فيها ولم تُجابه تلك الأقوال بحملات تكفيرية شعواء، مما خلق جوّا من الحرية الفكرية ومهّد الطريق للأخذ من الثقافات الأخرى وللإضافة والابداع على ما أُخذ.

يقول لوبون: "وأبعد فلاسفة العرب صِيتًا هو الفيلسوف الشهير ابن رشد الذي كان له أعظمُ تأثير في أوروبا، أجل، يُعَدُّ ابن رشد، عادةً، شارحًا لفلسفة أرسطو فقط، ولكنني أرى أن هذا الشارح سبق أستاذه في بعض الأحيان سبقًا يثير العجب، وأن فلسفتَه مقبولةٌ في كثير من الأمور أكثر من تلك". انه الطالب الذي نقل علم استاذه وزاد عليه ابداعا وفكرا وفلسفة. انه عندما ساد جو من الحرية الفكرية، تسنّى لهذا العالم الفذّ أن يتعمّق في فلسفة الإغريق وأن يسبر أغوارها فيخرجها الى نور العرب. ولم يُبقِ على النقل وحسب ولكنه أبدع من فهمه وأضاف من فكره وعقله، ليُخرج للعالم فلسفة ما زال أثرها قائما حتى يومنا هذا.

ونحن ان أردنا أن نُعيد بناء حضارتنا فلا بدّ لنا أن نترك مجالا للحرية الفكرية، فلا نزجر من أراد أن يغوص في أعماق فلسفة أو علم قوم آخرين ولو لم نتّفق مع ما تدّعيه تلك الفلسفة، ولا أن نجهض الأفكار أو المبادرات الإبداعية. انه لا يجب أن نبقى متشبّثين بالقديم وفقط، ولا أن نخشى على القديم من الجديد، فهناك متّسع للقديم والجديد اذا ما فتحنا عقولنا وآفاقنا.

***

 

أدبنا

ولما أن كانت اللغة حيّة، برع العرب في ميادين الأدب وأخرجوا للعالم انتاجات مُبهرة في جمالها وفي معانيها. وقد عبّرت هذه الانتاجات عن حياتهم التي يحيون وعن مشاعرهم التي يشعرون، عن حكمتهم، عن فطنتهم، عن أخلاقهم، عن مرؤتهم، عن كرمهم. هذه الأعمال تعكس تقدّما ثقافيا فهي بحدّ ذاتها معلم من معالم الثقافة، والبراعة فيها تشير الى براعة ثقافية. وهي مرآة للتقدّم الحضاري والثقافي، فما دامت الانتاجات الأدبية راقية في مقاصدها، عميقة في معانيها، جادّة في مواضيعها فذلك يعني أن الحضارة والثقافة راقيتان، عميقتان، جادّتان، ومتى ما صارت تلك الانتاجات وضيعة، سطحية، هزيلة فذلك يعني أن الحضارة والثقافة في مأزق حقيقي.    

لقد برع العرب في الشعر، يقول لوبون في كتابه حضارة العرب: ""لم يكن لغوًا قول بعضهم: "إن العرب وحدهم قرضوا من الشعر ما لم تقرضه أممُ العالم مجتمعةً"، وكان من حب العرب للشعر أن صاروا، في بعض الأحيان، يؤلِّفون كتبَ التوحيد والفلسفة والجبر نظمًا، ومن يُطالع قصصهم يَرَى أكثرها ممزوجًا بقِطعٍ شعرية"". ويقول أيضا: "مما بلغ درجة الثبوت في أيامنا، كما يظهر، أن الأوربيين اقتبسوا فنَّ القافية من العرب".

وبرعوا في الروايات والأقاصيص، يقول لوبون: ""والعرب هم الذين ابتدعوا روايات الفروسية، قال سيديُّو: "كان خيال الشعراء يتجلَّى في الروايات والأقاصيص، وكان أتباع محمد من أكابر المحدِّثين دائمًا، وكانوا يجتمعون مساء تحت خيامهم ليسمعوا بعض الأقاصيص العجيبة التي تتخللها الموسيقى والغناء كما في غَرْنَاطَة"، ومن أشهر أقاصيص العرب نذكر مقامات الحريري، ومقاماتِ الهمذانيِّ، وروايةَ ألف ليلة وليلة على الخصوص"".

وبرعوا أيضا في الأمثال، يقول لوبون: "وأمثال العرب كثيرة إلى الغاية، ومن أمثال العرب اقتَبَسَت إسپانية وبقيةُ أوروبا عددًا من الأمثال غيرَ قليل، ومن يُدَقِّق في حكمة سانكُو پانْسَا يَرَى قِسمها الكبير الذي لا ينضِب معينه من أصل إسلامي".

ونحن اذا ما أردنا أن نُحدث تقدّما ثقافيا حقيقيا فعلينا أن ننزع الى الأدب الراقي، العميق، الجادّ وأن نبحث عن المعنى والفحوى، فإن ذلك من شأنه أن يُبعدنا عن السطحية. وبالمقابل، أن نرفض كل أدب رخيص، كل انتاج فارغ من معنى، كل هذيان، كل ما لا يفضي الى تقدّم ثقافي.  

***

ولقد كتبنا التاريخ !

اذا ما ظهرت أمة بين الأمم، جنحت الى كتابة تاريخها والى تسطيره، وجنحت الى توثيق روايتها وحفظها، كيّما تُقوّي نفسها بروايتها فتعلّم الأجيال القادمة عن تاريخ أمتهم وعن مجدهم، ومن ثم فكي لا يُدفن مجدها سريعا اذا ما غابت شمس حضارتها. بل لعلّها وجّهت أيضا اهتماما الى غيرها من الأمم فبحثت في تاريخهم وسطّرته، ونقّبت في آثارهم ودرستها، ذلك أنها لا تبقى محصورة في ذاتها ولكن قوتها وثقتها تمنحها الفرصة لأن تُبعد النظر الى غيرها من الأمم. واذا ما أمعنا النظر في واقعنا رأينا كم من المؤرّخين الغربيين قد وجّهوا اهتماما الى المشرقيين وتاريخهم ليحصلوا بذلك على لقب "مستشرقين".

أما نحن العرب فقد كنا كذلك في الماضي، يقول لوبون في كتابه حضارة العرب: "من قدماء مؤرخي العرب الطبري الذي ألَّف، في أواخر القرن التاسع من الميلاد، تاريخًا عامٍّا عن الزمن الذي مر منذ بدء العالم إلى سنة ٩١٤م، ونذكر من مؤرخي العرب المشهورين المسعوديَّ الذي عاش في القرن العاشر من الميلاد فألَّف عدةَ كتب في التاريخ، ككتاب أخبار الزمان وكتاب مروج الذهب … وألف ابنُ خلدون تاريخ البربر حيث عَرَضَهم بادئًا بمبادئَ رائعةٍ في النقد التاريخي، وتُرجم كتابُه هذا إلى الفرنسية. وألف المقريزيُّ، المعاصر لابن خلدون، تاريخًا عن مصر يُعَدُّ أحسنَ مصدر للبحث فيها، ويظهر أن هذا التاريخ قِسْمٌ من ثمانين مجلدًا له في التاريخ العام. وألَّف النويريُّ، المتوفىَّ في مصر سنة ١٣٣١م، موسوعةً تاريخية كبيرة. وألَّف صاحب حماة أبو الفداء، المتوفىَّ سنة ١٣٣١م، كتابًا في أخبار البشر عظيمَ الفائدة في معرفة ما هو خاصٌّ بالشرق".

فإذا ما تعلّمنا درسا من الماضي فهو أنه علينا أن نعود الى كتابة تاريخنا، الى تسطير روايتنا، الى التأكيد على ما كان لنا من عزّ ومجد، الى توثيق ما عانيناه من ظلم وألم، الى الابقاء على ما حدث فعلا. عندها يمكننا أن نقطع الشكّ باليقين، فلا يعود أحد يقدر على أن يُشكّكنا بتاريخنا أو بمجدنا أو بحضارتنا، ولا يتمّكن المُسيطر من ابقاء روايته وحسب ولا يتسنّى له أن ينفرد بالحقيقة أو أن يخدع الحاضرين واللاحقين. 

***

في الرياضيات وعلم الفلك

بناء على كتاب حضارة العرب لغوستاف لوبون

·       لقد حوَّل العرب علم الجبر تحويلًا تامٍّا، وإليهم يرجِع الفضل في تطبيقه على علم الهندسة.

·       بلغ علم الجبر من الانتشار بين العرب أبعد الحدود لدرجة أن محمد بن موسى الخوارزمي كان قد ألّف كتابًا بأمر المأمون في أوائل القرن التاسع من الميلاد، ومن ترجمة هذا الكتاب اقتبس الأوربيون معارفهم الأولى لعلم الجبر، بعد زمنٍ طويل.

·       أخذ خلفاء بني العباس يحثُّون على دراسة علم الفلك والرياضيات، وعلى ترجمة ما ألَّفه إقليدس وأرشميدس وبطليموس، وترجَمةِ جميع كتب اليونان في تلك العلوم، ويستدعون العلماء الذين كانوا على شيء من الشهرة إلى بلاطهم.

·       عيِّن العرب انحراف سمت الشمس في ذلك الزمن، فقد كان رَقْمُ الانحراف، ٢٣ درجةً و ٣٣ دقيقةً و ٥٢ ثانيةً، أي ما يَعْدِل الرَّقم الحاضر.

·       عيّن العرب مدة السنة بالضبط، وأقدموا على قياس خط نصف النهار الذي لم يُوَفق له إلا بعد مرور ألف سنة.

·       وضع العرب التقاويم لأمكنة الكواكب السيارة.

·       توصل العالم العربي أبو الوفاء البوزجاني إلى الاختلاف القمري الثالث، فقد استوقف نظره ما في نظرية بطليموس من النقص في أمر القمر فبحث في أسبابه فرأى اختلافًا ثالثًا، غيرَ المعادَلة المركزية والاختلاف الدَّوري، يُعرف اليوم بالاختلاف.

·       داومت مدرسة بغداد الفلكية على ازدهارها إلى أواسط القرن الخامس عشر من الميلاد، ولم تنقطع عن نشر رسائل مهمة في الفلك، ومن ذلك أن نشر البيرونيُّ مقالته في: « تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض ».

·       إن العرب سبقوا كِيپلر وكوپرنيك في اكتشاف حركات الكواكب السيارة على شكل بَيضِيّ، وفي نظرية دوران الأرض، وإن أزياجَ الأذفونش العاشر المسماة « الأزياج الأذفونشية » مأخوذةٌ عن العرب.

وتُلخَّص اكتشافات العرب الفلكية بما يأتي: إدخال المماس إلى الحساب الفلكي منذ القرن العاشر من الميلاد، ووضع أزياجٍ لحركات الكواكب، وتعيينٌ دقيق لانحراف سمت الشمس ونقصانه التدريجي، وتقدير مبادرة الاعتدالين بالضبط، وتحديدٌ صحيح لمدة السنة، وتحقيق لشذوذ أعظم عرض للقمر، وكشف للاختلاف القمري الثالث المعروف بالاختلاف في الوقت الحاضر، والذي قيل إن تيخو براهه اهتدى إليه في سنة ١٦٠١م لأول مرة.

***

في الجغرافيا

بناء على كتاب حضارة العرب لغوستاف لوبون

·       كتب العرب التي انتهت إلينا في علم الجغرافية مهمةٌ للغاية، وكان بعضها أساسًا لدراسة هذا العلم في أوروبا قرونًا كثيرة.

·       يُعدّ كتاب سليمان الذي نُقل إلى اللغة الفرنسية أول مؤلَّفٍ نُشر في بلاد الغرب عن بلاد الصين، وهو يحكي رحلة التاجرِ سليمان لبلاد الصين في القرن التاسع من الميلاد.

·       قَضى المسعودي خمسًا وعشرين سنة من حياته في الطواف في مملكة الخلفاء الواسعة، وفي الممالك المجاورة لها كبلاد الهند، وقيَّد ما شاهده في تآليفه الكثيرة المهمة التي يُعد كتاب « مروج الذهب » أشهرها.

·       لما كانت سنة ١١٥٤م ألَّف الإدريسي كتابه الجغرافيَّ العظيم، مشتملًا على ما قيده المتقدمون في علم الجغرافية، وعلى ما رواه عن السياح من المعارف الكثيرة، وعلى عدة خرائط؛ فاقتصرت أوروبا على نَسْخِه بدناءةٍ مدة ثلاثة قرون.

·       من خلال المقارنة بين الأمكنة التي عيّنها الأغارقة والأمكنة التي عيّنها العرب، يمكننا أن نرى بوضوح مقدار التقدم الذي تم على يد العرب.

فالعرب هم الذين انتَهَوا إلى معارف فلكية مضبوطة من الناحية العلمية عُدَّت أول أساسٍ للخرائط، فصححوا أغاليط اليونان العظيمة في المواضع. والعرب، من ناحية الرِّياد، هم الذين نشروا رحلاتٍ عن بقاع العالم التي كان يشكُّ الأوربيون في وجودها، فضلًا عن عدم وصولهم إليها. والعرب، من ناحية الأدب الجغرافي، هم الذين نشروا كتبًا قامت مقام الكتب التي ألُّفت قبلها؛ فاقتصرت أمم الغرب على استنساخها قرونًا كثيرة.

***

علم وعمل

لا يقتصر تفوّق العرب في سابق الزمان على العلوم النظرية ولكنه يتعدّاه ليشمل تفوّقا عمليا، انتاجيا وصناعيا. وانه لمن الطبيعي أن تُغذّي النظرية التطبيق وأن يُغذّي التطبيق النظرية، مما يجعل التفوّق في أحدها دليلا على التفّوق في آخَرِها. فمن يملك أسباب المعرفة سيتحصّل له تطبيق هذه المعارف على أرض الواقع، واذا ما طُبّقت وامتُحنت في الواقع صار من الممكن حتلنة النظرية بحسبها.

وقد أبرز العرب تفوّقا علميا في علوم كثيرة، يقول لوبون في كتابه حضارة العرب: "إننا نستدل على أهمية كتب العرب في الفيزياء من العدد القليل الذي وصل إلينا منها، ولا سيما كتابُ الحسن في البَصَريات الذي نُقل إلى اللغة اللاتينية واللغة الإيطالية؛ فاستعان كيپلر به كثيرًا في كتابه عن البَصَريات، ويرى القارئ في كتاب الحسن فصولًا دقيقة عن حرارة المرايا ومحلِّ الصور الظاهر في المرايا، وانحراف الأشياء، وجسامتها الظاهرة … إلخ". ويقول أيضا: "معارف العرب الميكانيكية العملية واسعةٌ جدٍّا، ويُستدل على مهارتهم في الميكانيكا من بقايا آلاتهم التي انتهت إلينا، ومن وصفهم لها في مؤلفاتهم".

وقد برع العرب أيضا في علم الكيمياء، يقول لوبون: "المعارف التي انتقلت من اليونان إلى العرب في الكيمياء ضعيفةٌ، ولم يكن لليونان علمٌ بما اكتشفه العرب من المركبات المهمة كالكحول وزيت الزاج (الحامض الكبريتي) وماء الفضة (الحامض النتري) وماء الذهب … وما إلى ذلك، وقد اكتشف العرب أهمَّ أسس الكيمياء كالتقطير". وأيضا: "ابتدع العربُ فنَّ الصيدلة، ويبدو لنا مقدارُ معارفهم في الكيمياء الصناعية من حِذقهم لفنِّ الصباغة، واستخراج المعادن، وصنع الفولاذ، ودِباغة الجلود … إلخ".

والى جانب التفوّق العلمي كان تفوّق العرب الصناعي، يقول لوبون: "ونعلم ما أدت إليه صناعاتهم من النتائج، وإن جَهِلنا أكثر طرقها، فنعرف، مثلًا، أنهم كانوا يعلمون استغلال مناجم الكبريت والنحاس والزئبق والحديد والذهب، وأنهم كانوا ماهرين في الدِّباغة، وفي فن تسقية الفولاذ، كما تشهد بذلك نصال طليطلة، وأنه كان لنسائجهم وأسلحتهم وجلودهم وورقهم شهرةٌ عالمية، وأنه لم يسبقهم أحد في كثير من فروع الصِّناعة إلى عصرهم ... وأنهم اخترعوا البارود والأسلحة النارية، وصنعوا الورق من الأسمال، وطبقوا البوصلة على الملاحة كما هو الراجح، وأدخلوا هذا الاختراع المهم إلى أوروبا".

***

العلوم الطبيعية والطبية

ولقد كان تفوّق العرب بارزا في كل المجالات ولعلّ أكثر ما يُعرف عن العرب هو براعتهم في الطب. فأسماء مثل ابن سينا والرازي لا تكاد تخفى عنا. واذا ما أردنا أن نستعرض معالم التفوّق في العلوم الطبيعية والطبية فإننا نُلخّصها في النقاط التالية (بناء على كتاب "حضارة العرب"):  

·       وضع العرب الكثير من المؤلّفات في وصف الحيوانات والنباتات والمعادن والمتحجّرات، ويمكن أن ترى فيها من النصوص ما تعتقد به أن نفوسهم حدّثتهم ببعض اكتشافات العلم الحديث المهمة، ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه ابن سينا في رسالته وما خطّه القزويني.

·       وَضَع الرازي آثار من ظهر قبله من الأطباء على محكِّ النقد الشديد، وكان ما كتبه في بعض الحُمِّيَات ذات البُثُور كالحصبة والجدري مُعَوَّلَ الأطباء زمنًا طويلًا، وكان واسع الاطلاع على علم التشريح، وكان كتابه في أمراض الأطفال أولَ كتابٍ بَحَثَ في هذا الموضوع، ويُرى في كتبه وسائل جديدة للمداواة، كاستخدام الماء البارد في الحميَّات المستمرة الذي أخذ به علم الطب الحديث، وكاستخدام الكحول والفتائل، وكاستخدام المحاجم المعالجة داء السكتة … إلخ.

·       ويشتمل "القانون" الذي هو كتاب ابن سينا المهم في الطب، على علم وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، وعلم الأمراض، وعلم المعالجة، والمادةِ الطبية، ووُصِفَت فيه الأمراض بأحسن مما وُصِفَت به في الكتب التي ألُّفت قبله. ونُقِلت كتب ابن سينا إلى أكثر لغات العالم، وظلت مرجعًا عامٍّا للطب ستة قرون، وبقيت أساسًا للمباحث الطبية في جميع جامعات فرنسا وإيطاليا، وكان طبعها يُعاد حتى القرن الثامن عشر.

·       وأبو القاسم القرطبي المتوفى سنة ١١٠٧م هو أشهر جرَّاحي العرب، وتخيل أبو القاسم كثيرًا من آلات الجراحة ورسمها في كتبه، ووصف أبو القاسم عملية سَحْق الحصاة في المثانة على الخصوص فعُدَّت من اختراعات العصر الحاضر على غير حق.

·       وجمع ابن زُهْر دراسة الجراحة والطب والصيدلة مع نقص في التحقيق أحيانًا، وتشتمل مباحثه في الجراحة على بيان صحيحٍ في الكسر والانخلاع.

·       لم يجهل العربُ أهميةَ حفظ الصحة، فقد كان العرب يعرفون جيدًا أن علم الصحة يُعلِّمنا طرق الوقاية من الأمراض التي لا يستطيع الطب شفاءها، وكانت مناهجهم الصحية طيبةً منذ القديم، وما أَمَرَ به القرآن من الوضوء، والامتناع عن شرب الخمر، ثم ما صار عليه أبناء البلاد الحارَّة من تفضيل الطعام النباتي على الطعام الحيواني غايةٌ في الحكمة.

·       ويظهر أن مشافيَ العرب التي أنُشئت فيما مضى أفضل صحيٍّا من مشافينا الحديثة، فقد كانت واسعةً ذات هواء كثير وماء غزير.

·       وكان عند العرب جمعيات للإحسان تقوم بمعالجة فقراء المرضى مجانًا في أيام معينة، وكان يُرسَل في الحين بعد الحين أطباءٌ وأدويةٌ إلى الأماكن التي ليس فيها مشفى.

واذا ما أردنا أن نُجمل كل هذا التفوّق فإننا نقتطع هذه الفقرة من كتاب لوبون: 

إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة ووصف الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة، وظهرت للعرب عدةُ طرق يعود الطب الحديث إلى بعضها بعد إهمالها قرونًا كثيرة كاستعمال الماء البارد في معالجة حُمَّى التيفوئيد. والطبُّ مَدِين للعرب بعقاقيرَ كثيرةٍ كالسَّلِيخة والسنا المَكِّيِّ والرَّاوَنْد والتمر الهندي وجوز القَيء والقِرمِز والكافور والكحول … وما إلى ذلك، وهو مدين لهم بفن الصيدلة، وبكثير من المستحضرات التي لا تزال تُستعمل كالأشربة واللُّعُوق واللزقات والمراهم والدهان والمياه المقطرة … إلخ، والطب مدين لهم، كذلك، بطرق طريفة في المداواة كطريقة إمصاص النبات بعضَ الأدوية كما صنع ابنُ زُهْر الذي كان يعالج المرضى المصابين بالقبض بإطعامهم عنبًا أشُرِبَ من بعض المُسْهِلَات. وعلم الجراحة مدين للعرب أيضًا بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلت كتبهم فيه مرجعًا للدراسة في كليات الطبِّ إلى وقت قريب جدٍّا، ومن ذلك أن العرب كانوا يَعرِفون في القرن الحادي عشر من الميلاد معالجةَ غِشاوة العين بخفض العدسة أو إخراجها، وكانوا يعرفون عملية تفتيت الحَصاة التي وصفها أبو القاسم بوضوح، وكانوا يعرفون صبَّ الماء البارد لقطع النزف، وكانوا يعرفون الكاويات والفتائل إلخ، وكانوا يعرفون المُرقِد الذي ظُنَّ أنه من مبتكرات العصر الحاضر، وذلك باستعمال الزُّؤان لتنويم المريض قبل العمليات المؤلمة حتى يَفْقِد وعيه وحواسه.

***

الفنون العربية

واذا كان لا بدّ أن نختتم هذه السلسلة فإنه لا أجمل من أن نختم بالذوق الجمالي لدى العرب. هذا الذوق الجمالي الرفيع ان دل على شيء فإنه يدل على يقظة روح أوحت بكل تلك الشاعرية وأورثت أصحابها كل تلك الجماليات. اننا نُجمل هذا التفوّق في النقاط التالية (بناء على كتاب "حضارة العرب"):

·       وما على المرء إلا أن ينظر إلى آثار العرب الأدبية والفنية ليعلم أنهم حاولوا تزيين الطبيعة دائمًا، وذلك لما اتصف به الفن العربي من الخيال والنضارة والبهاء وفَيض الزخارف والتَّفنن في أدق الجزئيات.

·       والفنونُ الصناعيةُ شائعةٌ بين العرب في كل مكان، ورَوْشَمُ الفرَّان والدلو والسكين، مثلًا، من الأشياء التي يصنعها العرب بروعةٍ تدل على درجة اتصاف أحقر صناعهم بالذوق الفني.

·       والصور التي على النقود أو الصور التي على الآنية العربية من الأدلة المفيدة على استعداد العرب للرسم وعلى معرفتهم للتصوير.

·       وتطفو الكتابات والنقوش العربية في الغالب فوق صور ذوات الحياة التي رسمها العرب، وقد يَحْدُث أن تؤلَّف الحروف العربية من مزيج من صُوَرِ الحيوانات والآدميين على شكل عجيب.

·       تقدم العرب كثيرًا في الصناعة المعدنية، وبلغ إتقانُهم لبعضها مبلغًا يصعب الوصول إلى مثله في زماننا، وكانت آنيتهم وأسلحتهم مُكفَّتَةً بالفضة ومموهةً بالميناء المُفرَّض ومرصَّعةً بالحجارة الثمينة، وكان مِن تقدم العرب استطاعتهم أن يصنعوا من مادة قاسية كالبِلَّوْر قطعًا كبيرة مغطَّاة بالصور والحِكَم مما يَعْسُر صنعه، ويغلو ثمنه في الزمن الحاضر، ومن ذلك الإبريق البلوريُّ الذي صُنع في القرن العاشر من الميلاد فتجده في متحف اللوفر.

·       وتجلت روح الإبداع العربية على الخصوص في ترصيع المعادن الصالحة لصنع الأسلحة والآنية والأباريق وكِفاف الموازين وأدوات المنازل.

·       وصل العرب في إتقان مصنوعاتهم الخشبية وترصيعها بالصدف والعاج إلى درجة تقضي بالعجب حقٍّا، واليوم لا تُقلَّد إلا بثمنٍ عالٍ. تلك الأبواب العجيبة التي تُرى في بعض المساجد القديمة، وتلك المنابر ذات التقاطيع والتراصيع، وتلك السقوف ذات النقوش المتشابكة، وتلك المشربيات المخرَّمة.

·       وكان العرب يُتقنون صناعة حفر العاج إتقانًا نادرًا أيضًا، كما تشهد بذلك القطع الكثيرة النفيسة التي وصلت إلينا كالصندوق العاجي الصغير الذي صُنع لأحد ملوك أشبيلية في القرن الحادي عشر من الميلاد فيُعرف بصندوق سان إيزيدور الليوني.

·       ولم يلبث العرب أن تقدموا في صناعة الزجاج تقدمًا عظيمًا، كما يشهد بذلك ما انتهى إلينا من أوانيهم المذهبة والمطلية بالميناء.

·       وما اتفق للعرب في فنِّ العمارة بسرعةٍ اتفق لهم مثله في صناعة الخزف، وقد استطاع العرب بعد أن اقتبسوا من الأمم الأخرى طُرُق صُنع الخزف الفنية، أن يبتدعوا منه في بلاد الأندلس على الخصوص، قطعًا مبتكرةً رائعةً متقنةً لم يسبقهم إليها أحد. وترجع صناعة المسلمين للخزف المطلي بالميناء في بلاد الأندلس إلى القرن العاشر من الميلاد، وقد كان لهم فيها مصانع شهيرةٌ تبيع مصنوعاتها في جميع أنحاء العالم.