7.2.15

الديمقراطية مطلب !


في ظل ما نُعاني من الدكتاتوريات وطُغيانها وقمع حقوق الانسان وضنك العيش وتهميش المواطن، فإنه من الحريّ بالشعب العربي أن يكون أول من يُطالب بالإجهاز على مثل هذه النُظُم وتغييرها. ولربما ما يجعلنا نتراجع خطوات الى الوراء هو التفكير في البديل عن الدكتاتورية، فإن بان لنا سوء الدكتاتورية فإن ذلك لا يقينا من حيرة البديل. أهي الديمقراطية أم ماذا؟ والعيب الرئيس في الدكتاتورية هو أنها تحصر الحكم بيدي شخص واحد أو حزب واحد، مما يعطي ذاك الشخص أو الحزب فرصة الاستبداد بالرأي وفرض الأجندة الخاصة به على الشعب وقمع كل رأي يُعارض تلك الأجندة. ان مثل هذا الاستبداد بالحكم يجب أن يُمنع حتى لو بان الشخص "ملاكا" أو لو ظهر الحزب مثاليا، اذ أنه لا وجود لتلك الشخصية "الملاك" ولا وجود لحزب كامل مُكمّل، فهي مظاهر خدّاعة سرعان ما تنقلب على المُخدوعين بها فور الوصول الى كرسي الاستبداد.

والديمقراطية هي عكس ذلك، اذ هي حكم الشعب ومتّخذو القرار يُنتخبون من قبل الشعب، وهي تدفع نحو التعدّدية، تعدّد الأحزاب، تعدّد الآراء، تعدّد الأقوال، وبذلك فهي لا تقمع رأيا أو مجموعة مُخالفة. انها لا تفرض أيديولوجية واحدة ووحيدة، انها لا تعطي لشخص واحد أو حزب واحد أن يستغلّ منصبه في سبيل تحقيق غايات شخصية أو حزبية ضيّقة. انها تفتح المجال أمام عدّة مجموعات لكي تُدير أمور الوطن بأحسن شكل، واذا بان لأحدها هشاشة رأي الآخر انتقدته وجاءت برأي آخر يتنافس معه ليبقى بذلك الرأي الذي يراه الشعب هو الأنسب وهو الأفضل لهم. والديمقراطية هي الأنسب منطقيا، فلو أراد نفر من الناس قضاء حاجة لاختاروا منهم عدة أشخاص يقدرون على ذلك وبعثوا بهم، كذلك الحال في حكم البلاد فالناس تبتعث مندوبيها ليُديروا شؤون الوطن والبلاد.

واذا ما أرادت الأمة العربية أن تضمن عدم استبداد مجموعة أو طائفة معينة فعليها بالديمقراطية، فهي تضمن لها ذلك وتضمن لها أيضا مشاركة الجميع في بناء الوطن، وبالتالي يتوحّد الكل في بناء الوطن والحفاظ عليه. ان الشعور الذي يصل كل واحد هو أنه عضو مهم في مجتمعه وله رسالة فعّالة في وطنه. ولا يشعر واحد أن لا تأثير له على دولته ولا يشعر أنها غريبة عنه ولا يشعر أنها تمنعه من التفكير بشكل مختلف أو تمنعه من ممارسة حريّاته المختلفة. ولا يشعر بخوف مستمر ولا يكون مكبوتا في لفظه وفنّه وعلمه، اذ أنه هو من اختار من يُمثّله ومن الصعب أن يجتمع جميع الممثّلين على الإطاحة بهذا المواطن.

والى أولئك المتديّنين المُتحمّسين والى أولئك الذين يرتجفون من الإسلام أقول ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "من فقه الدولة في الإسلام":

الواقع أن الذي يتأمّل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤمّ الناس في الصلاة من يكرهونه ولا يرضون عنه، وفي الحديث: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا ..."، وذكر أولهم: "رجل أمّ قوما وهم له كارهون ...". واذا كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة؟ وفي الحديث الصحيح: "خيار أئمتكم - أي حكامكم - الذين تحبّونهم ويحبّونكم، وتصلّون عليهم – أي تدعون لهم – ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم". 

6.2.15

قومية أو دينية ؟


بعد أن بيّنا معالم الدولة التي نُريدها، لم يَعُد هناك أفضلية للدولة القومية (الدولة التي تقوم على أساس قومي، كدولة الشعب الجزائري ودولة الشعب المصري) أو للدولة الدينية (الدولة التي تقوم على أساس ديني، كدولة المسلمين ودولة المسيحيين). في الماضي قامت الدول على أساس ديني، اليوم هي قائمة على أساس قومي، ولا ندري كيف تقوم في المستقبل، ولا ندري ما تُخبّئه لنا الأيام من مفاجئات ومُتغيّرات. ان ما يظهر اليوم على أنه الخيار الطبيعي والأنسب يمكنه أن يصير غريبا مع تغيّر الزمان. انه ان نظرنا الى دول العالم نستغرب قيام دول دينية، فلكل دولة يوجد اقليم خاص بها ولكل دولة شعب يسكن في اقليمها ولكل دولة سلطة تُدير أمور الشعب ولكن من ذا الذي يدري ماذا سيحصل؟! انه في ظل استقرار عناصر الدولة القومية (اقليم، شعب، سلطة) فإن الدولة الدينية تبان وكأنها معجزة، ولكن علينا أن نكون واعين أننا نُفكّر في اطار مفاهيم عالمنا ويصعب علينا أن ننظر خارج صندوق عالمنا. 

واذا أرادت أطراف مُعيّنة أن تُحدث تغييرا جوهريا في خارطة هذا العالم، فعليها أن تعلم أنها ترتكب خطئا جسيما ان باشرت باستعمال القوّة لتحقيق غايتها. أما ان كان استعمالها للقوّة كردّة فعل لما يُباشر ضدّها فذلك يدخل في دفع الأذى. انه يحظر الإساءة الى عناصر أي دولة كانت، لأن ذلك سيُعدّ احتلالا والاحتلال سيستعمل القوّة والعنف والإرهاب في سبيل تحقيق مآربه الفاشية. كيف لحدود دولة راسخة أن تُستباح؟! كيف لها أن تُخترق؟! أيسمح أحدنا لجاره أن يدخل في حدود أرضه الصغيرة أم هل يسمح لغريب أن يدخل الى حيّزه الشخصي (بيته مثلا) دون اذن؟! وهل نستطيع أن نُحرّك أُناسا (لن أقول شعبا) من هنا الى هناك كما نُحرّك الشطرنج؟! انهم مُرتبطون بأرضهم، راسخون فيها، فيها طفولتهم، فيها ذكرياتهم، منها خرجوا واليها يعودوا. أفنُرَحّلهم منها؟! أفنقتلعهم من أرضهم ونُلقيهم في الجحيم؟! وهل يصحّ أن ننقلب على سلطة الدولة بوسائل غير شرعية تفوح منها رائحة الفاشية؟! انه اعتداء على السلطة وانتهاك للديمقراطية. أيرضى أحدنا أن يكون فاشيا؟!

كل هذه الاعتداءات تحتوي على عنف، اغتصاب، إكراه، كراهية وما الى ذلك من أشياء تقشعّر منها النفس الانسانية وتستعيذ بالله من شرّها. وان كان هؤلاء الذين ينشدون دولا دينية بكل ثمن يريدون تطبيق مثل هذه الاعتداءات، فليعلموا أن هذا الإكراه لا يمكنه أن يصمد وان نجحوا في اقامة دولة دينية بوسائل الإرهاب هذه فإنها لن تصمد، لأن نفوس البشر لا تتقبّل ما يُفرض عليها بالقوّة، بقوة السيف والسلاح! انها تتقبّل ما يأتيها بوسائل الإقناع المختلفة وهي ترقّ عندما تصلها الرسالة عن ترغيب، عن محبّة وعن رحمة! وتصير مرنة كلما زدنا في تمرير الرسائل بمشاعر الإيجاب هذه، وتفتح أسماعها وأبصارها لتعقل الرسالة التي يودّ المُرسل أن يرسل اليها، وعندها يمكن للاستجابة أن تحصل وان حصلت فإنها ستكون متينة قوية. هذه هي روح الأديان التي تنسجم مع روح الانسان، فالأديان لا تدعو الى الإكراه وكذلك النفس لا تطيق الإكراه: "لا إكراه في الدين". لذا نقول أن اقامة دول دينية في عالم الدول القومية يبدو غريبا، ومع ذلك إن صارت دولا قومية عادلة فهو خير، وان قامت دولا عادلة على أساس ديني وفي غياب الإكراه فهو أيضا خير.     

5.2.15

الدولة التي نُريد


انه ان وضحت لنا معالم الدولة التي نُريدها فستتضافر الجهود لبنائها وستدور العجلة نحو اقامتها، أما ان تغنّى فريق بدولة علمانية وأصرّ فريق آخر على الدولة الإسلامية ودعا فريق ثالث الى دولة قومية، فإن الجهود ستبقى مُبعثرة ولن تكون هناك مساعي مشتركة لأنه لا يوجد هدف مشترك أصلا! ولأن الخوف مزروع بيننا، كل فريق يخاف من مخطّطات الفريق الآخر وننسى بالتالي مُخطّطات المُستعمِر الذي يريد أن يُشغلنا بأنفسنا ويغضّ الطرف عنه، وكل فريق منا لا يثق بالآخر وكل فريق يظنّ نفسه الوطني والمُصيب وغيره ينقصهم كل ذلك. العلماني يخاف من ما يخاله مخطّط المتديّنين: دولة دينية ثيوقراطية (الدولة التي تتحكّم في رقاب الناس أو ضمائرهم باسم الحق الإلهي كما كان في أوروبا القرون الوسطى)، المُتديّن يخاف من دولة مُنحلة لا تعرف للأخلاق طريقا، وكلّنا ينفر من مُخطّطات الآخر لأننا لا نفهم بعضنا البعض.

ولو فهمنا بعضنا لاكتشفنا أن المسافات بيننا قريبة وأن ما نبحث عنه وما نريده هو ذات المحتوى وذات المضمون بشكل عام ولكننا نختلف على المُسمّيات وعلى التفاصيل. ان كلّنا يريد الدولة العادلة، الدولة التي تُعطي للناس حقوقهم بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو الدين، الدولة التي تضمن للناس حريّاتهم، الدولة التي تمنع الطبقية والرأسمالية، الدولة التي تقضي على الفقر، الدولة التي تضمن الأمن لمواطنيها، حرية العبادة، حرية التعبير عن الرأي وغيرها، وبالمقابل تفرض واجبات وقوانينا عادلة وقضاء عادلا. ان غايتها الأولى والأخيرة هو اقامة العدل في الأرض وهذا ما يتوق اليه كل واحد منا. فلماذا لا نسعى الى اقامة الدولة العادلة التي يتّفق عليها جميعنا؟

سيقول لك ان العدل مصطلح عام، وكل واحد يمتلك تصوّرا آخر عن كيفية اقامة العدل في الأرض، والجواب على مثل هذا التساؤل هو لأننا نتكلّم عن كلّيات وهو مما تتطلّبه المرحلة، ولا يظنّ أحد أن هذا الكلّي نظري بعيد عن التطبيق، فأن نُقيم العدل وندحر الظلم هو مما يمكن تطبيقه، اذ هو يُملي علينا دحر المُستعمر، المحافظة والاستثمار في ثروات البلاد، دفع عجلة الانتاج وتنمية الاقتصاد وغيرها من غايات تُساهم في اقامة العدل.

الا أننا نبقى مُتخوّفين طوال الوقت من القادم وهذا التخوّف يثبّط من عزائمنا، ذلك أن خريطة الطريق غير واضحة وربما يقول البعض هي مُقنّعة، لذا نقول أننا نريد الدولة العادلة وليس دولة دينية ثيوقراطية. ويبقى السؤال مفتوحا: هل سنبعد الدين عن الدولة؟ هل نريد دولة علمانية أم أن الطابع الديني هو ما يجب أن يستقرّ في دولتنا؟

انه ان نظرنا الى الأمة العربية فإننا نجد الدين مغروسا فيها ونجد الاعتقادات الما ورائية متجذّرة فيها، من عصر عبادة الأصنام في الجاهلية مرورا بفجر الإسلام الى يومنا هذا (الأبحاث العلمية تسجّل نسب تديّن عالية في أوساط العرب). يمكننا أن نلمس تجذّر الدين في ثقافتنا (الفكر والفن) وفي حضارتنا (أماكن العبادة)، وان كان الدين داخلا في كل هذه المجالات، فما المنطق من وراء تحييده عن السياسة؟ انه ان أبعدنا الدين عن الدولة، فستكون دولة العرب غريبة عن مواطنيها وهي أقرب ما ستكون الى المُستورَد الغربي الذي لا ينسجم مع ثقافتنا وحضارتنا! وليست هذه محاولة لسدّ الطريق على العلمانية من الأوّل ولكن ينبغي عقد محاورات ونقاشات قبل تحديد واقرار طابع الدولة، فلا يجب أن تكون الأمور محسومة عند طرف من الأطراف.

واذا ما استمررنا في بناء ما نؤمن به وهو الدولة العادلة التي لا تكون دينية ثيوقراطية ولا علمانية، فإننا نصل الى الدولة التي يُمكنها أن تُمثّل الشعب العربي في أفضل صورة: دولة مدنية ذات مرجعية دينية. وهذا بالتأكيد ليس محسوما وانما مطروحا على طاولة المُفاوضات، ولكن ما لا يحتاج الى تفاوض وما يجب أن يُرشدنا في المرحلة الآنية هو طلب الدولة العادلة. وما كان خوضنا في تفاصيل طابع الدولة، الا لنُبيّن أن أبناء الإسلام لا يُخفون في صدورهم مُخطّطات مُخيفة ولكنهم يؤمنون بالدولة المدنية التي يكون مرجعها الدين وبالأساس يؤمنون وينشدون الدولة العادلة.    

4.2.15

كيف نتحدّث ؟


اذا تغيّر منحى تفكيرنا فإنه من المفروض أن نرى تغييرا مُقابلا في حديثنا وخطابنا. لو آمنا وترسّخ في أذهاننا أنه يجب الخوض في الكليات قبل الجزئيات، فإن ذلك سيُترجم الى كلام وحديث وبالنهاية الى تطبيق عملي. الا أننا نودّ هنا أن نلفت النظر الى منحى الحديث الذي يجب أن ننتهجه والى منحى الحديث الذي يجب أن نمتنع عنه ونحذر منه، ذلك أننا نؤمن أن التغيير يمكن أن يعمل على كلا المستويين: المستوى الفكري وهو الأساس والمستوى العملي ان جاز التعبير عنه هكذا (الخطاب جزء منه).

وبما أن منحى التفكير يوصل الى منحى الحديث (والفعل بشكل عام)، فإنه من الحريّ بحديثنا وخطابنا أن يخوض كذلك في الكليات بدلا من الجزئيات. ولا يعني ذلك أن عندنا أشياء نؤمن بها ستُهدّد الآخر وستقضي عليه ان بُحنا بها، ولأجل ذلك اخترنا الصمت عنها واخترنا أن نُخفيها كي نستدرج الآخر الينا، ومن ثم نُسيطر عليه ونُخرج الى حيّز التنفيذ كل ما أخفينا من قبل. ليس هذا هو المراد من الحديث عن الكليات قبل الجزئيات بكل حال من الأحوال، لأنه لو فكّر فعلا كل الأطراف بالكليات قبل الجزئيات لما خاف أحدنا مما يُضمر له الآخر من قنابل موقوتة، ولو حدث وخاف فريق من غدر فريق آخر فإن الكليّات المُتفقّ عليها ينبغي أن تحول دون انفجار مثل هذه القنابل (مثل فرض أجندة فريق على الآخرين بالقوّة)، ولو لم يكن كذلك فإنه من الواضح أن البلاهة أو الخبرة الضحلة أو انعدام الرؤية المستقبلية قد سيّطرت على المُتفاوضين.

وخطاب الكليّات هذا ينبغي أن يتلاءم مع كليّات المرحلة ومع متطلّباتها، فهناك مصطلحات لا تُناسب مرحلتنا الحالية، ولن أقول أكل عليها الدهر وشرب، فإننا لا ندري ما سيحدث في السنوات القادمة. مصطلحات مثل دار السلم ودار الحرب هي مما لا يتلاءم مع عصرنا الحالي، لأن دول الحاضر هي دول قومية، فتلك بريطانيا وتلك اسبانيا وتلك الجزائر وتلك تونس، ولا توجد دولة المسلمين أو دولة المسيحيين. فكيف لنا أن نتحدّث عن دار السلم ودار الحرب وهما مصطلحان لا يمتّان الى الواقع بصلة؟ وعلاوة على ذلك، يجدر بحث جذور هذين المصطلحين ومدى ملائمتهما لعصرنا وبكل حال من الأحوال لا يمكن فرضهما على الناس بقوّة أو حتى التحدّث بهما دون بحثهما.

وما لنا نُصرّ على أسماء ونتقاتل على مُسمّيات والمضمون واحد في أحيان كثيرة، فعلى سبيل المثال الديمقراطية حلّت محلّ الشورى. أفنرفض اسم الديمقراطية لأنه غير موجود في مصطلحاتنا؟ ومصطلحات أهل الحلّ والعقد ووزارة التفويض ووزارة التنفيذ هي غريبة عن زماننا كذلك. والحديث عن الخلافة وتطبيق الشريعة يجب أن لا يكون هوسا عندنا وينبغي قبل أن نُصدّع رؤوس الناس بمثل هذه المصطلحات أن نفهم أولا ما هو جوهر الخلافة وما جوهر تطبيق الشريعة، فإن عَقَلْنا الجوهر فلا ينبغي أن نُعاند على المُسمّيات. والجوهر والغاية العُليا والأهم من كل المُسمّيات هو اقامة العدل على هذه الأرض، فبناء الدولة العادلة هو ما يجب أن نسعى اليه ليل نهار وهو ما يجب أن يندرج في خطابنا.

3.2.15

كيف لنا أن نُفكّر ؟


هناك فائدة لربما تُساعدنا في توجيه تفكيرنا، ولو استطعنا أن نُطبّقها لتُرجمت آمالنا الى الواقع ولتغيّرت حياتنا رأسا على عقب. هذه الفائدة تُختصر بكلمات قليلة وهي: أن نُفكّر في الكليّات بدلا من الجزئيات. انه عندما نريد أن نتشبثّ بما يُوحّدنا وبما يجمعنا وأن لا ننزلق الى خلافات جانبية ثانوية، فإنه يجب علينا أن ننظر في الأمور الرئيسية والأساسية قبل أن ندخل في التفاصيل. فإن دخلنا في التفاصيل قبل الأمور الأساسية فإن وحدتنا ستكون مُهدّدة أكثر من أي وقت قد مضى. وليس هذا لأن فريق أو غيره يُخبّئ قنابلا موقوتة بين طيّات التفاصيل، ولكن لأنه وبشكل طبيعي سيكون الاختلاف حول الأمور التفصيلية أكثر وأشدّ منه حول الأمور الرئيسية. وهذا ما نجده في كثير من المجالات، فعند ابرام اتفاقية يخوض المتفاوضون في البنود الرئيسية أولا، وعند دراسة علم معين فإن أول ما ينكشف اليه الدارس ما يتفق عليه العلماء (أساسيات العلم).  

ان هذا المنحى من التفكير يُفضي الى مرونة كبيرة، الى امكانية أخذ وعطاء، الى تلاقي، ذلك أنه يأخذ بالعناوين الرئيسية، بالصورة الكاملة الواسعة التي تتسع للجميع، ولا يحصر المُتفاوضين في زاوية ضيّقة تكاد تخنق الجميع فينفروا منها. وهو يتلاءم مع متطلبات المرحلة، فمن أجل اعادة الأطراف المختلفة الى طاولة واحدة ومن أجل المضي قُدُما في الحوار والنقاش وبناء جسور التواصل التي هُدّمت، ينبغي اتخاذ مثل هذا المنحى من التفكير الذي لا يُعاند على الصغائر أو على ما لا يتلاءم مع المرحلة. انه يسعى الى بناء لغة أساسية مشتركة كي تكون مُعينا (بعد أن ترسّخت وتمكّن منها مُتحدّثيها) على الخوض في التفاصيل. أيُعقل أن يُخاض في التفاصيل قبل انشاء مثل هذه اللغة المشتركة؟

ان ترسيخ الكليات يُساهم في بناء المشترك وهذا بدوره يُظلّل الدخول في نقاط الاختلاف. انه كلما ثارت نقطة خلاف فرعية، كان بالإمكان العودة الى العناوين الرئيسية وتسوية نقطة الخلاف بحسب ما ترسّخ في أذهان المُتحدّثين من نقاط أساسية. فعلى سبيل المثال، هل يُعقل أن نتكلّم عن تطبيق الحدود ونحن لم نُفكّر في كيفية مواجهة الظلم؟ ان غاية تحقيق العدل يتفق عليها جميعنا وهي تختصر كثيرا من نقاط البلبلة والاختلاف، فإن نحن عزمنا على تحقيق مثل هذا الهدف الذي ينظر في الكليات، فهمنا أنه يجب أن نُحارب القمع، الاضطهاد، اللا مساواة، الفقر، فكل ذلك ليس من العدل. وان نحن عزمنا على رفع مستوى ثقافتنا الحاضرة فإننا سنختصر على أنفسنا محاورات سطحية عند الدخول في الجزئيات، وسنتجّه الى طلب العلم، التشجيع على القراءة والدفع نحو الرُقي الأخلاقي.  

هذا لا يعني أن نحرم أنفسنا من الدخول في الجزئيات والتفاصيل، فبحثها أيضا مهم وبناء تصوّرات عنها أيضا شيء مهم، ولكن عند طاولة المُفاوضات يجب النظر في الكليات بدلا من الجزئيات، والدخول الى الجزئيات من خلال منظار الكليات. ان منظار الكليات هذا يُتيح لنا رؤية الآخر ومحاولة فهم طريقة تفكيره ويمنعنا من التفكير المحصور في حدودنا. ولذلك التصوّرات التي نبنيها مُسبقا عن الجزئيات لا يجب أن تكون جامدة، متحجّرة ونهائية وانما أن تكون مفتوحة للبحث والنقاش. تفكير الكليّات هذا سيحول دون بناء الحدود قبل رؤية المساحات التي أمامنا وسيحول دون بناء الحواجز قبل أن تُشقّ الطرق وسيحول دون الضياع في الضفاف قبل بناء الجسور.

2.2.15

ما الذي يمنعك أن تؤمن ؟


يظنّ البعض أنه عندما يؤمن كل واحد منا بدين مختلف وعندما يُظهر شخصيته الدينية على الملأ فإن ذلك سيزيد من حدّة التوتّر بين أبناء الصفّ الواحد وسيُعمّق من الفُرقة، وليس هذا صحيحا. ان الفُرقة تحدث عندما نُمارس الدين بصورة عوجاء، بلهاء وهوجاء! ولو مارس العرب الدين بروح "أنا مؤمن بما أنا مؤمن به، وأحترم ما تؤمن به أنت" لصار الدين صفة تجمع جُلّ العرب في صفّ واحد. وهذا ما لخّصه الإسلام في: "لكم دينكم ولي دين". بمعنى أن الأديان في روحها لا تدفع بالإنسان الى مقاتلة واحتقار المختلفين، ولكن الفهم الأعوج هو الذي يوصل الى هذا المطبّ! كيف للأديان التي تدعو الى الرُقيّ الأخلاقي والى اخراج ما في الإنسان من خير والى الروحانية والتسامي على المادية، كيف لها أن تدعو الى التقاتل؟!

والأديان السماوية تَجْمَع لأنها تتفق جميعها على وجود قوى ما ورائية غيبية عدا عما نلتقطه من أشياء، وكل هذه الأديان يتجّه الى السماء، الى الله الخالق، وكلها يدعو الى التسامي الروحي والأخلاقي. فكيف لها أن تُفرّق؟ بل على العكس، اذ يمكن أن يحدث تلاقح ايجابي اذا ما اطّلع كل واحد على منطق الآخر دونما أحكام مُسبقة. ان التقاء هذه الأديان لهو شيء مثير للاهتمام وللفضول ولكننا نحن من جعلناه لقاء مخيفا غريبا وأحيانا مستحيلا!

ولو تمّعنا في الواقع لوجدنا الاختلاف بين بني البشر في كل مكان، فأي حياة مملّة ستكون حياتنا لو كنا نُسخا عن بعضنا؟ أبناء نفس العائلة، أحدهم يتعلّم الطبّ والآخر يتعلّم الكيمياء وثالثهم يتعلّم علوم الحاسوب، ولنفرض أن كل واحد سيكمل حياته في موضوع تعليمه ونعرف في علم النفس مدى تأثير موضوع التعليم أو العمل على شخصية الإنسان، أفلهذا الاختلاف يجب أن يتباغض الإخوة ويتقاتلوا؟ سيقال عنهم مجانين ان فعلوا!    

سيقول لك أحدهم: انكم تُكفّرون بعضكم بعضا، فكيف لأديانكم أن تجمعكم؟

والجواب على مثل هذا السؤال يبدأ من البحث في معنى الكفر. لماذا تؤلمنا كلمة كفر الى هذا الحد؟ ان الكفر هو ضد الإيمان. فالمسلم مؤمن بما يُمليه عليه دينه، كافر (أي غير مؤمن) بما يتعارض معه، والمسيحي مؤمن بما يُمليه عليه دينه، كافر (أي غير مؤمن) بما يتعارض معه. يقول تعالى في كتابه العزيز: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا". فكلنا مؤمن بأشياء وكافر بأشياء أخرى.

أما عندما يصف دين معين مخالفينه بالكفر، فهذا أيضا لا يجب أن يخضّنا ما دام أن الشخص مؤمن بذلك في قرارة نفسه دون أن يُؤذي الآخرين. ان ذلك ليس غريبا فكل اطار يضع له حدودا، ومن لا يندرج فيها يخرج من الاطار، تماما كالقانون الذي يضع قوانينا فمن يخالفه يُسمّى مخالِفا أو مُجرما. والقانون يمكن أن يختلف من دولة الى دولة والعقاب كذلك، كالأديان تختلف ويختلف فيها تعريف الكفر. فالإسلام يعتبر كل من يقول بالتثليث غير مؤمن به (أي كافر به) والمسيحية تعتبر كل من لا يقول بالصليب غير مؤمن بها كذلك (كافر بها). لكن هل يضرّ ايمانك (الذي تؤمن به في قرارة نفسك) بالآخر؟ المفروض أنه لا يضرّ، لكن أن تصير تنادي الآخر كافرا أو تتهكّم على دينه أو تحتقره فعند ذلك يضرّ ايمانك بالآخر ووقتها يكون ايمانا منقوصا!

ان صحوتنا لا يجب أن تفتقد الى صحوة دينية، فنحن ندعو الى اصلاح سياسي، اصلاح اجتماعي واصلاح ديني كذلك. ولا يجب أن نظنّ بعد كل هذا أن ابراز مظاهر التديّن تُبعدنا عن اللُّحمة، فإن كان مظهر الحجاب يُصيبنا بالإحراج أو بعدم الراحة أو أن مظهر الصليب يُصيبنا بشعور مماثل، فكل ذلك يعود الى الأفهام الخاطئة التي ذُوّتت داخلنا وبالتالي نجم عنها مشاعر سلبية تجاه الآخر كمثل الكراهية والبغضاء. ان هذه المظاهر كما المفاهيم التي نؤمن بها لا يجب أن تُحرجنا ولا أن تُبعدنا عن بعضنا، وانما ينبغي أن تكون جسورا للتعرّف على بعضنا البعض.      

1.2.15

اسلاموفوبيا !


لقد بات الخوف من الإسلام ظاهرة مُنتشرة في أوساط غير المسلمين وحتى في أوساط المسلمين، فصوت المُتشدّدين عالٍ ويزداد عُلُوا من يوم الى يوم. العالم بات يخاف من شريعة الإسلام، ذلك أن هؤلاء قدّموها على أنها ذبح وجلد ورجم! ولو تمعّنا في العوامل التي أدّت بنا الى الاسلاموفوبيا لاكتشفنا مُجدّدا أنهما عاملان أساسيان وهما: الاستعمار والقابلية للاستعمار.

يُعنى الاستعمار بالتفريق بين أبناء الوطن الواحد، بين أبناء هذا الوطن العربي! وقد وقع المسلمون ضحية لمثل هذا الاستعمار، عندما سمحوا للمُستعمِر أن يُساهم بتشويه صورة دينهم، ليصير دين الإسلام دين السيف والقتل والدماء! دين الحرب، لا دين السلم، بعكس اسمه وروحه! ووقع العرب عامة ضحية الاستعمار عندما صدّقوا الصورة المشوّهة التي عرضها الغرب عن الإسلام، وقد نجح الغرب في تخوفيهم من هذه الصورة الخبيثة وأدّى بهم الى نحر الديمقراطية كي لا يصل الإسلاميون الى الكرسي.

وقد جلب الغرب أدلة "دامغة" (كمثل التركيز على ارهاب الجماعات الاسلامية المُتشدّدة وأقوال وفتاوى نادرة من جراء بحثهم في كتبنا) على ارهاب الإسلام فاقتنع كثير ممن لا يرون الصورة الكاملة. هذا التشويه وذاك التركيز على مساوئ المسلمين هو مما يخدم مصالح المُستعمِر، اذ هو يُكرّه الناس (عربا وغير عرب) بالإسلام وكل ما يتبع له، مما يجهض امكانية بناء وطن عربي آمن، بل ويودي الى صراعات داخلية بهدف منع صعود الإسلاميين الى الحكم.

والمسلمون أنفسهم هيّئوا البيئة المناسبة لتقبّل هذا الاستعمار، فإذا نظر الواحد منا حوله وجد الكمّ الهائل من الآراء الفقهية الجامدة ومن اللا منهجية في التعامل مع موروثنا الثقافي والديني. اذا سمع أحدهم قولا لابن تيمية، فإنه يجمد عنده ولا يُعطي لنفسه ولا لغيره فرصة اعادة النظر في المسألة، ولا يهمهم تغيّر الزمان والمكان ولكن رأي ابن تيمية يجب أن يُعمل به أبد الدهر! وهكذا فإن هذا الجمود وهذا التحجّر لم يُولّدان الا عقولا مُتحجّرة عاجزة عن أن تأخذ بأيدي الواقع والناس الى حال أفضل. انه تمّ قتل اعادة النظر في النصوص الدينية وما يجرؤ على ذلك الا القلة وما يجرؤ الا قلة القلة على مخالفة الرأي السائد. ان هذا الجمود الديني وضعف القراءة والاطلاع والثقافة، كل ذلك دفع بالغرب الى أن يستغلّ الفرصة ليغسل الأدمغة العربية المُفتقرة الى المعرفة.

لقد صار الاسلام شبحا يُخيف الأطفال، بيد أنه دين الرحمة للصغير وللكبير، للشجر والحجر. صار المسيحي يرتجف عند سماع اسم دولة الإسلام وحقّ له ذلك، وصار المسلم المعتدل يرتعد عندما يسمع عن تطبيق الشريعة، وصارت النسوة تخاف من أن يذهب أولادهن الى المساجد كي لا "يتعقّدو" من رجال الدين! الكل صار يخاف من هذا الدين، أهذا هو دين الرحمة؟ أهذا هو الدين الذي يضع قانونا قمّة في التسامح والتعايش: "لا إكراه في الدين"؟ هل الخوف هو الذي يشدّ الناس الى الدين؟ بالعادة، الناس يخافون من شيء يُهدّدهم أو من شيء يظنونه يُهدّدهم، فنجد خوفا من المُرتفعات ومن العتمة ومن الوحوش وهكذا. أنريد لدين الاسلام أن يكون وحشا يقضّ مضاجع المخالفين أم محبة ورحمة تُصيبهم فيحبّونه؟ اذا لم نُغيّر المسار ونُحبّب الناس الى هذا الدين (ليس عن طريق تزيينه فهو لا يحتاج الى تزيين، اذ هو جميل من الداخل وفي روحه ان نحن فهمناه حقّ الفهم) فكيف لنا أن نبني وطنا وكيف للمسلمين أن يعيشوا مع غيرهم عيشا مشتركا؟

انه من الواجب على العرب أن يكونوا نبهاء، فلا ينخدعوا برواية الغرب غير الموضوعية عن الإسلام، لأنه عندها سيتحقّق ما يرنو اليه الغرب من غايات استعمارية كمثل اشعال الصراعات الطائفية وتدمير الأوطان. والواجب عدم الانسياق وراء دعاياتهم المُنفّرة، اذ تبان هشاشتها فور أن نقرأ نصوص هذا الدين التي يُخفيها هؤلاء: "وما أرسلناك الا رحمة للعالمين" أو "لا إكراه في الدين" أو "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وغيرها من الآيات. وهم قد رأوا ضعف الأمة الإسلامية فاستغلوا الفرصة وأضعفوها زيادة بدعايتهم، فكأنّ الإسلام انتهك مرتين: مرة على أيدي أهله الذين لم يفهموه حقّ الفهم ومرة على أيدي هؤلاء الذين أشاعوا دعاياتهم عنه. لذا وجب على كل مُنصف أن يطّلع بنفسه على أقوال وأخلاق أمة الإسلام عن كثب، قبل أن يحكم من خلال دعاياتهم، وليعلم أن الجماعات المُتشدّدة البارزة ليست هي ممثلا عنه كما أن الوهن الذي أصاب أمة الإسلام لا يُمثّل الإسلام، انه ببساطة فهم بائس.

صراعات داخلية


لا شكّ أن الصراعات داخل وطننا العربي تُوهن وتضرب الوحدة وكلما استمرّت كلما زادت الفجوة بين الأطراف المختلفة. ولربما فهم المُستعمِر أن العربي سرعان ما يستشيط غضبا، فإذا ما غضب نسي عقله وبادر الى ردة فعل مُتسرّعة، بعكس الأوروبي الـ "كوول". ولسنا ندّعي أن العربي عصبي المزاج في جيناته، ولكنه ناتج اجتماعي نجم عن بيئة اجتماعية معينة، من مثل العيشة الصعبة في ظل نظام حكم ديكتاتوري. وليس الاستعمار هو المسؤول الوحيد عن مثل هذه الصراعات الداخلية، فإن كان هو من يؤسّس لمثلها ويوقد شرارة اشتعالها من حين لآخر، فسنبقى نحن من نقبل على أنفسنا دور المُتصارعِين.  

ومثل الاستعمار والصراعات الداخلية كمثل مجموعة من الأولاد يلعبون ويلهون بسلام وأمان فتأتي مجموعة أخرى تريد أن تُشتّت شملهم وتُفرّقهم اما لغرض ما أو لمجرّد أن تهنئ بتقاتلهم وافتراقهم. تأتي المجموعة الخارجية فتقول لواحد من المجموعة الأولى ان صاحبك يقول أنك فاشل في اللعب ويقولون لآخر ان صاحبك قال عنك كلاما فاحشا وهكذا يعمّ صراع داخلي بين أعضاء المجموعة التي كانت تلعب بسلام وأمان وتتفرّق وتجهض اللعبة الهنيّة. كذلك فإن ما يحدث الآن في عالمنا العربي هو زرع مشابه للفتن بين أبناء الصف الواحد ومحاولة تأكيد ذلك بإثباتات واقعية ونظرية.

انهم يقولون: انه مسلم، اذا فاحذره! انهم يريدون اقامة دولة الاسلام التي لا مكان لكم فيها، لا ديمقراطية عندهم، لا حقوق، لا حريات! انكم ستصيرون عبيدا عندهم! وسترجعون مائة سنة الى الوراء! وعندهم حدود! انهم سيقتلونكم، سيُقطّعون أيديكم، سيجلدونكم وسيرجمونكم! واذا لم تُصدّقوا فشاهدوا ارهاب "داعش".

ويقولون: انه مسيحي لا يؤمن بما أُنزل على محمد فاقتله أو أدخله الاسلام رغم أنفه! انك ان لم تفعل فسينشر الفساد في الأرض، سينشر التثليث! كفّره وفهّمه أنه كافر! واذا لم تُصدّقوا فلا تنسوا الحروب الصليبية!

ويقولون: انه شيعي، انه يسبّ الصحابة! وان لم تُصدّق اقرأ هذا من كتبهم أو اسمع قول أحدهم! ويقولون: انه سني، انه لا يُكرّم عليا!

ونحن نُصدّق أقوالهم ووعظهم لنا، ذلك أنهم لم يأتوا بأشياء غريبة عنا وانما درسوا ثقافتنا أكثر مما درسناها وتراثنا أكثر مما درسناه، ليسهل عليهم بذلك ايقاعنا في شَرَكهم وفي لعبتهم. ولكنّ العيب في ما يعظون به أنه مُجتزئ، خارج عن سياقه، مخلوط بأقوال خبيثة ولربما مدسوسة. فعلى سبيل المثال يمكنهم أن يُركّزوا وعظهم على عادة سيئة توارثناها أو على رأي شاذ أو نادر أو على قول رجل لا يُؤخذ بقوله وهكذا، كمثل الكاميرا التي تُركّز عدستها على ورقة متجاهلة الشجرة التي تحملها. ونقول في النهاية أنه يمكن لكل واحد أن يؤمن بما يؤمن به وأن يكون بيننا عيشا، حضارة وثقافة مشتركة، دون تحريض أو مسّ بمعتقد الآخر.

من تجلّيات الاستعمار


انه من الواجب التأكيد مجددا على أن تحميل الاستعمار كل ما يحصل لنا هو خطأ وتشويه للصورة الواقعية تماما كما يحدث عندما نُحمّل أنفسنا وشعوبنا كل ما يحصل. ولكن كيف يتجلّى الاستعمار؟ وأين يمكننا أن نراه؟

"الاستعمار هو ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي بالتالي نهب وسلب منظم لثروات البلاد المستعمرة، فضلا عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة". اذا ما نظرنا الى واقعنا واستعنا بالتعريف أعلاه، يمكننا أن نجد تجلّيات كثيرة للاستعمار. ان من أولى خطوات الاستعمار هو تصنيف دول العالم حسب قواها، فتلك دول عظمى تملك حق "الفيتو"، وتلك دول العالم الأول وأخرى دول العالم الثالث. ان هذا التقسيم الطبقي يضع العالم العربي بأكمله في العالم الثالث، فكأنها وصمة لازمت عالمنا العربي وأنّى له أن يتحرّر منها.  

ورغم غنى الوطن العربي بالثروات الطبيعية كمثل النفط، الا أننا لا نجد لمثل هذه الثروات استثمارا داخليا وانما يتمّ بيعها بأسعار زهيدة الى دول "العالم الأول"، ولربما يحصل البائع بالمقابل على أسلحة حديثة. مثل هذه الصفقات هي من أوضح تجلّيات الاستعمار، اذ أن ثروات البلد تُهدى أو تُباع ولا يتمّ تشغيلها في عجلة الانتاج المحلية، وتزيد الهِبة التي يحصل عليها البائع من عمق الاستعمار، اذ يأتي السلاح وتأتي الأجهزة المتطوّرة من الخارج ولا يُبذل أي جهد في محاولة انتاج أمثالها.

وهكذا يهدي وطننا العربي أغلى ما يملك لدول "العالم الأول" وعلى طبق من ذهب ويظنّ نفسه حذقا أو ذكيا عندما يأخذ بالمقابل أجهزة أو أسلحة حديثة في حين أنه يجعل من الوطن سوقا استهلاكيا يبيع فيه المُسيطر ما يُنتج. انه يُبقي الوطن العربي مُستهلكا و"العالم الأول" مُنتجا، وبطبيعة الحال فإن من يستمسك بالإنتاج سيحافظ على قوّته وريادته وسيبقى المُستهلك رهينة عنده يسعى وراءه كلما أراد منتجا جديدا. والمُنتج يملك أسرار المعرفة التي تُمكّنه من انتاج ما أنتج وهو يسعى دائما الى تطويرها كيما يُحسّن ويطوّر من انتاجه، أما المُستهلك فإنه لا يحتاج الى هذه المعرفة لأن عجلة الانتاج عنده واقفة وبالتالي ستبقى معرفته حبيسة النظر. واذا ما استمرّ هذا الحال فلن تكفّ الفجوة عن التعمّق والترسّخ، فـ"العالم الأول" سعيد بسيطرته على سبل الانتاج والعالم الثالث يأخذ ما يصنعه له الآخرون "على المتريّح".

ويتبع هذا الخضوع للإنتاج الخارجي منّاً وغسيل دماغ، فالمُستعمِر يمنّ على المُستعمَر بما يصنعه له ويُعطيه ذلك الشعور أنه عالة على الأمم، متجاهلا (ومستغلا غفلة دولنا العربية) دوره الأول في سرقة ثرواتنا. واذا ما بلعنا تثبيط العزائم هذا، فإن عملية غسيل الدماغ تستمرّ في تثبيت الاستعمار، ليبدأ القوي يقنع الضعيف أن نهجه (نهج الضعيف) وأسلوب حياته هو غير صحيح على الإطلاق مما يُعطيه احساس بالدونية تجاهه، وأن أسلوب حياة القوي هو الأمثل وهو الأنجع والإثبات هو الواقع (القوي يمُرّر الرسالة الآتية: لو لم أكن أنا على حق، لما رأيت علومي مزدهرة وحضارتي وثقافتي في أوجها). عملية غسيل الدماغ هذه قاتلة وبالغة الأثر، وهي كذلك لأنها لا تأتي بشكل جلي، وانما متخفيّة مُقنّعة تتسرب الى لا وعي شعوبنا من خلال أشياء كثيرة كالإعلام، والقلة هم من يكونون واعين لتأثيرها. انه عندها يظهر الاتباع والتقليد الأعمى لثقافة المُستعمِر من استنساخ نمط الحياة الغربي الى الركض وراء قصات الشعر وماركات الملابس.