15.3.15

ربيع قُرطبة – الربيع المفقود


لا يمكنني أن أصف مدى عظمة هذا الانتاج الفني العظيم لمن لم يشاهده بعد، ولكنني سأحاول التقريب قدر المستطاع، فهو عندي من أفضل المسلسلات التاريخية التي شاهدتها ان لم يكن أفضلها على الإطلاق. فكرته عظيمة وعظمتها تكمن في تصوير حقبة الازدهار في الأندلس، التصوير الدرامي في المسلسل يُنسيك ملل التاريخ ويأخذك الى هناك لتصير تنتظر بفارغ الصبر الحدث القادم وأحيانا تنسى أنك بين يدي تاريخ مُصوّر لتخاله مسلسلا خياليا، الفائدة منه جمّة اذ هو ليس من مسلسلات التسلية بقدر ما هو مسلسل يُثير التساؤلات والأفكار حول تلك الحقبة الزمنية، بطل المسلسل تيم حسن الذي قام بدور محمد بن أبي عامر المنصور لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة، اذ هو ببراعته في التمثيل وطلاقة لسانه ومنظره الحسن قد لفت الانتباه وأخذنا الى تقديره وتعظيمه بشكل مُبالغ.

انها فترة المجد والازدهار التي يشتاق كل منا اليها مُصوّرة أمام أعيننا، والجميل في هذا التصوير أنه لا يعرض واقعا مثاليا ولا يمتدح تلك الفترة بشكل شاعري ولا يعرض المحاسن دون الالتفات الى المساوئ. وذاك يُقرّب من الواقع التاريخي. ولربما لا يعجبنا رؤية المساوئ في فترة الازدهار تلك، ولكن هذا الواقع الذي لم ولن يكون يوما مثاليا حتى في سنوات الازدهار. الا أننا اذا نظرنا الى الغالب فإننا نرى أن الحُسن هو الغالب، العدل، الأخلاق، التقدّم الثقافي والعلمي. ولذلك فإن تسمية المسلسل بـ "ربيع قرطبة" كانت مُوفّقة لأنه حتى في الربيع هناك مساوئ ولكن الطابع الذي يطغى عليه هو الازدهار والجمال.

وأعظم شخصية في هذا المسلسل هي شخصية محمد بن أبي عامر، تلك الشخصية القُدوة التي تُعطي الأمل لكل من وُلد الى مجتمع فيه من الطبقية والعائلية ما يحول بين الانسان وحلمه. انه ذاك الشخص الفذّ الذكّي الفصيح الطموح المثابر الذي يرى في نفسه قدرة فيسعى الى تطويرها والى ابرازها. انه ذاك الشخص الذي خرج من العامّة، من بين البسطاء، من عمل السوق ليصلَ الى الحكم والى دار الخلافة. ولم يهمّه تثبيط العزائم حوله ولم يهمّه السائد (أن سادة بني أمية هم فقط من يصلون الى الحكم)، ولكنّه آمن بقدراته واستعان بحُسن تدبيره ليُحقّق ما طمحت اليه نفسه، ليقضي على الظلم الذي رآه حوله، ليُشيّد الزاهرة، ليدير شؤون البلاد، ليُسيّر الجيوش وليموت كما تمنّى شهيدا في احدى غزواته. انه شخص واحد آمن بقدراته وهيّء الظروف من حوله ليُحدث ثورة صامتة في الأندلس. وللتذكير نحن لا نتحدّث عن فيلم "هولويدي" ولكن عن تاريخ مُصوّر. هل يُمكن أن نتوقّف عن الحديث عن مناقب هذا القائد العظيم الذي لم ولن ينساه التاريخ؟ كلا! انه رجل بآلاف الرجال وقائد بآلاف القادة!

ولكنّ هذه العظمة ذاتها وهذه القُدرة الفائقة في حُسن التدبير يمكنهما أن يُوديا الى ما لا يُحمد عقباه، كما يُصوّر ذلك المسلسل. ولا أدري ان بالغ المسلسل في عرضه للمساوئ في الأندلس بشكل عام، وفي عرضه لاستبداد المنصور في آخره بشكل خاص، ولكني أحسّ بمبالغات معينة، وللتيقّن من ذلك ينبغي العودة الى كتب التاريخ ودراسة الموضوع دراسة منهجية بعيدا عن الدراما التي تُسلّط الضوء على أشياء وتحجبه عن أشياء. لكن بكل الأحوال فإن الاستبداد عندنا مرفوض والانفراد بالحكم كذلك وعزل الشورى هو طامّة كبرى مهما بلغ الحاكم بذكائه وحُسن تدبيره. والقرارات الاستبدادية التي كانت تُتّخذ من قبل المنصور كما صوّرها المسلسل والتي لا أعلم مدى صحّتها هي مرفوضة كذلك، فهي وان بانت صائبة فهي ليست كذلك لأنها لا تأخذ بالأدلة بشكل كاف ولا تأخذ بالآراء الأخرى وبالتالي لا تُعطي مجالا للمشورة ولعرض المصالح قبال المفاسد.

ومظاهر البذخ التي ركّز عليها المسلسل تظهر لي المبالغة فيها، فلربما كانت الخمور موجودة ولكن هل يُعقل أن تُحتسى في دار الخلافة وفي عصر الازدهار؟! وتسليط الضوء على الجواري وخروج النساء بزينة فتّانة الى الشوارع ومجالس الطرب والسمر، فإن كل ذلك لا يذكّرنا الا بالجاهلية. أجاهلية في عصر الازدهار؟ اننا لا نُنكر وجود مظاهر البذخ هذه كالذي يُحاول أن يخدع نفسه ليرتاح مع تاريخه، ولكننا نتساءل عن مدى انتشارها وعن مدى شرعيتها في ذاك العصر. اننا لا نُريد بالمقابل أن نفتري على تاريخنا ما لم يكن فيه. لذلك فإن هذه الظواهر تحتاج الى مراجعة تاريخية وخصوصا قضية الجواري التي ما زال كثير من الفقهاء يُصرّ عليها. هل هي كانت ضرورة تلك الزمان ورغم ذلك عمل الاسلام على تقليصها أم هي ظاهرة مباحة لا يضيرنا توسّع نطاقها اذا ما أُتيحت الفرصة؟ أسئلة تحتاج الى بحث منهجي والى اعادة مراجعة ودراسة حتى لو كانت هناك آراء جامدة وحاسمة بخصوص هذه المسألة! والذي يُؤكّد احساسنا بتسليط الضوء على مظاهر السوء هو حجب الضوء عن مظاهر التديّن والروحانية بالمقابل، فلم نرَ صلاة واحدة، والمسجد لم يحظَ بمكانة بارزة في هذا المسلسل، حتى أن ظهور الحجاب كان ضئيلا الى أبعد الحدود.

الا أنه يبقى مسلسلا عظيما في اثارته للأسئلة المختلفة كمثل الأسئلة حول الرقّ في الاسلام والاستبداد والشورى ومظاهر الحياة الاجتماعية. وهو يبقى عظيما في دمج مظاهر الثقافة المختلفة التي لا يُعيرها كثير من المسلمين ما تستحقّ من اهتمام، كالموسيقى والفنون المختلفة والعلوم والفلسفة والقراءة والمشاركة الفعّالة للنساء في الحياة الاجتماعية والسياسية، كشخصية صبح البشكنجية التي برز تأثيرها في بلاط الخلافة وفي مساعدة المنصور في الوصول الى سدّة الحكم.        

الإيجاب المعقول - الجزء الأول


ايجابي، سلبي وما بينهما

كيف نُعرّف الإيجابية؟ هل كل ما يُفرحنا هو ايجابي؟ كيف نُعرّف السلبية؟ وهل هناك أمور تحتمل الإيجاب والسلب؟

لو عُرضت أمامك الكلمات التالية: مرض، فقر، خوف، موت، لنفرت من فورك ولأصابك احساس بالسلبية. ولو عُرضت أمامك الكلمات التالية: صحة، غنى، راحة بال، سعادة، لارتسمت بسمة على وجهك ولرفعت أيديك الى السماء داعيا الله أن يرزقك بها وأن يديمها عندك. وما كان ذلك الا لأن الناس قد أجمعوا على سلبية وشرّ الكلمات الأولى وايجابية وخير الكلمات الثانية. إننا لن نخوض عميقا في التعريفات ولكننا نكتفي بالقول أن ما تعارف الناس على ايجابيّته فهو ايجابي وما تعارف الناس على سلبيّته فهو سلبي وهناك أمور بين الإيجاب والسلب تحتمل كلاهما.

ان ما يحتمل الإيجاب والسلب يتحدّد بحسب رؤيتنا للأمور وبحسب تفسيرنا لها، فإن نظرنا للأمر بعين ايجابية رأينا ما يسرّنا وتسلّل الينا احساس ايجابي وان نظرنا بعين سلبية رأينا ما نكره وجُررنا الى أحاسيس سلبية. المثال على ذلك هو عندما يقترح شخص على آخر مساعدة، كشاب يقترح على عجوز المساعدة في عبور الشارع أو كأن يقترح صاحب العمل على عامله أن يساعده في أمر استعصى عليه. هناك من الناس من يرى باقتراح المساعدة هذا تأكيدا لضعفهم وعجزهم، فما يكون منهم الا أن يرفضوا المساعدة، وبذلك فهم يدخلون في السلبية دون أن يدروا، فعجزهم بارز أمامهم وهم قد كسروا بخاطر من اقترح عليهم المساعدة مما يحرّك شيئا من عتاب الضمير عند بعضهم. وكذلك خسروا المساعدة المُقترحة، اضطروا لمواجهة المهمة لوحدهم، لم يعطوا للآخر فرصة عمل الخير وقلّلوا من امكانية وجود اقتراح مثل هذا في المستقبل. ولكي يُغطّوا على هذه المشاعر السلبية ولكي يحاولوا اعادة الموازنة النفسية، فإن آليات الدفاع تبرز لكي تذبّ عنهم وعما صدر عنهم من فعل. لذلك يمكن أن نسمع أو لا نسمع (اذا ما بقيت فكرة بين الانسان ونفسه) أقوالا مثل: "هو مفكّرني عجوز، انا بعدني شباب والحمد لله" أو "صاحب العمل ما بعرف يقترح المساعدة بالوقت المناسب وبالطريقة المنيحة".

وهناك من الناس من يرى بنفس اقتراح المساعدة تعبيرا عن رفق بهم وحب ورحمة، فما يكون منهم الا أن يبسطوا أيديهم لئلا يُفوّتوا مثل هذا البذل من أجلهم، وبذلك فهم يدخلون في الايجابية. فهم يرون بهذا الاقتراح حب ورحمة ومشاعر رقيقة يحتاجون اليها في مثل مهمتهم الصعبة، وهم قد أعطوا الآخر فرصة التقرّب اليهم والتودّد منهم.

 ***

ايجاب وسلب وطبيعة حياة

اذا نظرنا في الطبيعة وجدنا فيها الأنهار والوديان، البحار الزرقاء، السهول الخضراء، التلال، الهضاب، النسائم العليلة، الطيور التي تُغنّي، العصافير التي تُزقزق ووجدنا أيضا نباتات سامّة، حيوانات عدوانية، ذبول، جفاف، قحط، زلازل، براكين وكوارث طبيعية أخرى. انه من الواضح أن المجموعة الأولى هي أمور ايجابية والأخرى سلبية. ان هذه الأمور تفوح منها رائحة الايجابية أو السلبية دون حاجة الى أن نضعها في خانة ما يحتمل الايجاب والسلب. فلسنا نتكلّم عن حالات استثنائية، كأن يقول أحدهم عندي خوف من البحار ولذا فالبحار بنظري سلبية كل السلب، ولا عن حالات خارجة عن الطبيعة، كأن يتبادر الى الذهن منظر هضبة خَرِبَة أو واد فيه من الأوساخ ما تُغطّيه. اننا نتكلّم عن ما تعارف الناس على ايجابيته أو على سلبيته. اذا فالإيجابية موجودة في الطبيعة بشكل جلي وكذلك السلبية.

واذا نظرنا الى الحياة بشكل عام وجدنا فيها فرحا ووجدنا فيها حُزنا، وجدنا فيها يُسرا ووجدنا فيها عُسرا، وجدنا فيها نجاحا ووجدنا فيها فشلا، وجدنا فيها ضحكا ووجدنا فيها بكاء، وجدنا فيها حُبّا ووجدنا فيها كُرها، وجدنا فيها حياة ووجدنا فيها موتا، واذا ما نظرنا الى الأمور الأكثر مادية، وجدنا أيضا غنى ووجدنا فقرا، وجدنا طلب رزق ووجدنا سرقة، وجدنا صحة ووجدنا مرضا، وجدنا ألما ووجدنا متعة. وباختصار في هذه الحياة خير وفيها شر أيضا أو فيها ايجابية وفيها سلبية، في كل مكان، في كل زمان وفي كل شيء. ان الكمال لله كما يُقال ولا يمكننا أن نجد شيئا أو شخصا أو فكرة كاملة متكاملة. انه لو جئنا بأفضل اختراع على وجه هذه البسيطة لتمكّنا من ايجاد عيوب له، ولو جئنا بشخص يُشهد له بالصلاح والعظمة ويكاد يخاله الناس الكمال كله، الا أنه من المؤكّد أن عنده نقاط ضعف، عيوب، صفات سلبية وأخطاء.   

***

ايجاب وسلب وطبيعة انسان

ان طبيعة الانسان تُحتّم عليه أن يحوي الإيجاب والسلب فضلا عن أن ينسجم معهما، فهو مخلوق من طين هذه الأرض وجسده يبلى ويتحلّل وكذلك فيه الروح التي هي من السماء والتي ستصعد الى هناك في نهاية المطاف. انها ثنائية تُنتج ثنائيات، بل وتنتج محاورا تكون قمّتها "الملائكية" ويكون قاعها "الحيوانية"، وما بينهما يتواجد أغلب الناس. هذا الانسان تتواجد فيه نزعة الخير وتتواجد فيه نزعة الشر، عنده بذرة الخير وعنده بذرة الشر، وعنده تهيئة الصلاح وعنده تهيئة الطلاح.

واذا ما نظرنا الى شخصية الانسان الواحد، وجدنا فيها صفاتا تعارف الناس على إيجابيتها، كحب العطاء والبذل، الاستقامة، الصدق، ووجدنا بالمقابل صفات تعارف الناس على سلبيتها كالفوضوية، الاستهتار والتعجّل. ويمكننا أن نجد عند نفس الشخص قوة واقداما في مواجهة المعتدين وشجاعة في الذبّ عن الحُرُمات وبالمقابل خوفا مبالغا من المرتفعات. وعند كل انسان هناك صراعات داخلية فإما أن يكون واعيا لها واما أن لا يكون. انها الصراعات التي تنبني على أثرها الشخصية. صراعات كهذه مثل، صراع ما بين تلبية مطالب النفس وما بين تلبية مطالب المجتمع، والذي يكون هناك فينا منذ أيام الطفولة الأولى ولكن بصورة مختلفة: فمن جهة الطفل يريد تلبية حاجاته الأساسية ومن جهة أخرى يريد أن يكسب وُدّ البيئة (الوالدين بالأساس) وأن ينصاع للأوامر. واذا ما حُلّ الصراع بموازنة فإن ذلك يظهر بمظهر الايجاب، أما ان حُلّ بطريقة خاطئة (كأن يتركّز الواحد في تلبية مطالب النفس متجاهلا أو محاربا مطالب المجتمع) فإن ذلك يظهر بطبيعة الحال بمظهر السلب. وعلى أثر شخصية كل انسان وأمور أخرى تدخل الى الصورة، تُحفظ في الذاكرة ذكريات ايجابية وأخرى سلبية ويواجه الانسان في حاضره أحداثا ايجابية وأخرى سلبية.

***

ايجابي، سلبي وما ورائهما - الزمن

ان الصورة تبدو بسيطة عندما نقول أن الايجابي هو ما تعارف الناس على ايجابيته والسلبي هو ما تعارف الناس على سلبيته، وهي تبدو كذلك لأن الواقع أكثر تركيبا. في الواقع هناك زمن وللزمن تأثير على الايجابية والسلبية، فما يظهر لنا اليوم ايجابيا يمكنه أن يصير سلبيا بعد مرور بضع سنين والعكس صحيح. واذا ما أدخلنا عنصر الزمن في تعريف الايجابية والسلبية فإن التعريفات تزداد تركيبا، ولكن هذا الادخال ضروي لأن الأمور حولنا غير جامدة وانما مُتبدّلة ومُتغيّرة بتغيّر الزمان. ولنعطي مثالا كي يتّضح ما نرمي اليه. ان المرض الجسدي سيظهر في بادئ الأمر على أنه حدث سلبي، بل وان سلبيته يمكنها أن تجلب للإنسان مشاكل نفسية كحالة ما بعد الصدمة. أي أنه من شدة قسوة المرض وسلبيته فإنه يمكن أن يُشكّل صدمة شديدة في حياة الانسان.

الا أن الأعوام تمرّ والزمن يستمرّ ماضيا والانسان يبتعد شيئا فشيئا عن صدمة المرض الأولى (على الأقل يبتعد من ناحية زمنية)، وفي الغالب فإن الانسان يبدأ بالتكيّف مع الوضع الجديد ولربما يصل الى اليوم الذي يقبل به مرضه كجزء من حياته. وتستمر نفسية الانسان بالتأقلم والتحسّن الى أن تصل الى الذروة التي لا تعود ترى فيها المرض الذي أصابها حدثا مُدمّرا، سلبيا أسودا، لا أمل فيه ولا شفاء منه. ولكنها تراه دافعا وحافزا للتطوّر النفسي والشخصي. كثير من الناس يشهدون على أنفسهم بعد سنين من المرض أنهم أصبحوا أناسا آخرين، أناسا أفضل مما كانوا ذي قبل، أناسا يفهمون الحياة بشكل أفضل وأعمق. ولذلك فإننا نرى مرضى أو أقرباء مرضى يقومون بالمبادرة الى مشاريع تخدم من أصابهم مرض مشابه، وذلك فور خروجهم من فترة المرض الصعبة المظلمة وعودة التوازن الى حياتهم. هل بقي المرض في نظرهم حدثا سلبيا؟! أم أن الزمن الذي مرّ والتجارب التي حملتها الأيام قد غيّرت في نظرتهم الى المرض؟! انه لو بقي حدثا سلبيا في نظرهم لما تحرّكوا ولما بادروا ولربما قتلهم اليأس وأنهت عليهم قساوة المرض.     

لذلك فإن عامل الزمن يجب أن يدخل الى مصطلحي الإيجاب والسلب، واذا قمنا بذلك فإننا نخرج بأربع مصطلحات. "الإيجابية الآنية" أو "السلبية الآنية" تصف ما يُفكّر به وما يشعر به الانسان في الفترة الملاصقة للانكشاف للشيء. "الإيجابية الآجلة" أو "السلبية الآجلة" تصف ما يكون بعد مرور فترة من الزمن. ان المرض يحمل سلبية آنية ولكنه يُخبّئ في طيّاته ايجابية آجله لا يمكن رؤيتها الا بعد فترة من الزمن ولا يراها الا من كان مُستعدّا لإبصارها.

***

ايجابي، سلبي وما ورائهما – العالم الآخر

ان تأثير عامل الزمن على الايجاب والسلب يكون أشدّ وأقوى اذا ما تحدّثنا عن العالم الآخر، فالبعد الزمني بين العاجل والآجل يكون أكبر. العاجل الدنيوي يمكنه أن يظهر ايجابيا خصوصا اذا ما نظرنا له من خلال المنظار المادي البحت ولكنه يمكنه أن يكون سلبيا اذا ما عرضناه من خلال ميزان الدنيا والآخرة. كذلك يمكن أن يكون الغنى، الجمال، الجاه وغيرها من الأمور التي ننظر اليها بعين الايجاب في حياتنا هذه ولربما أغلبنا يتمناها ويطلبها. ولكن هذه النعمة في المدى القصير (الحياة الدنيا) يمكنها أن تكون نقمة في المدى البعيد (الحياة الأخرى). لو خُيّرت بين أمرين: أن تكون غنيا على مدى خمسين سنة في هذه الدنيا ومن ثم تُردّ الى عذاب يدوم أبد الدهر، أو أن تكون فقيرا معدوما في هذه الحياة القصيرة، مُتنعّما مُكرّما في حياة الخُلد، فأي الأمرين ستختار؟ ان الأغبياء هم فقط من يختارون الخيار الأول. ولكن هل من المحتوم أن يؤدّي الغنى الى الهلاك يوم الدين؟! بالتأكيد كلا! فهو يمكن أن يكون سعادة في الدنيا وسعادة في الآخرة، ولكن ما أردنا أن نقوله أن الأمور ليست بالبساطة التي ننظر اليها، اذ يمكنها أن تظهر مُغرية حلوة جميلة ايجابية في المدى القريب وهي في الحقيقة مُهلكة سلبية في المدى البعيد.

وما يظهر على أنه يحمل سلبية آنية كالمرض مثلا، فإنه يمكنه أن يحمل في طيّاته ايجابية آجلة عندما يطرح هذا المرض عن صاحبه الأدران والخطايا ويُبعده عن عقاب جهنم. والموت الذي نراه حدثا سلبيا في أوانه، فإنه يمكن أن يكون راحة للميت ذلك أنه خرج من هذه الدنيا البائسة ذاهبا الى لقاء من أحبّ. وفي الواقع فإن كل عناء وكل عذاب في الدنيا (يظهر مع سلبية آنية)، فإنه يحمل ايجابية أُجّلت الى العالم الآخر.   

***

كيف ينشأ الإيجاب والسلب ؟

ما الذي جعلنا نعتبر الفقر شيئا سلبيا ؟ وما الذي أدّى بنا الى أن نعتبر الحكمة شيئا ايجابيا ؟ والفِطنة والذكاء والحبّ والاحترام والكرم والعطاء أشياء ايجابية ؟ والغباء والبَلَه والكراهية أشياء سلبية ؟

انها الأفكار المترسّخة عندنا والتي لا نكون واعين لها في كثير من الأحيان وهي التي أدّت بدورها الى تحريك الشعور والى التأثير على التصرّف في نهاية المطاف. انها فكرة تؤدّي الى شعور والشعور يؤدّي الى تصرّف. فلو قلت أن الذكاء هو صفة ايجابية، محمودة وأنك تتمنّى أن يحظى بها أولادك وأحفادك، لما كان ذلك الا نتيجة لفكرة ايجابية عن الذكاء مثل: "الذكاء منحة ربانية وممتلكها يحظى باحترام الناس وتقديرهم". هذه الفكرة ولّدت شعورا ايجابيا تجاه الذكاء مما أدّى الى تصريح ايجابي حول الذكاء (القول يُعتبر فعلا وتصرّفا).

هذه الأفكار ناتجة عمّا تشرّبنا من حولنا. وأول مكان يتشرّب فيه الانسان المفاهيم الاجتماعية هو البيت ومن ثم يأتي الحيّ والمدرسة والمجتمع والثقافة والعالم (عبر الإعلام). فلو ذُوّت في الطفل أن مساعدة الغير هي شيء ايجابي ورأى من والديه ما يُصدّق ذلك (كأن يكونا والدين جيّدين، متى احتاجهما الطفل وجدهما)، لصار ينظر الى المساعدة بعين الإيجاب ولأحبّها ولصار يُطبّقها على أرض الواقع. أما من نشأ عند والدين لا يُلبّيان حاجات طفلهما فإن المساعدة لن تصير مُحبّبة الى قلبه ولربما صار البطش بالآخرين والتنكيل بهم هو الإيجاب بعينه (في نظر الناس شيء سلبي) لأنه هو الطريقة الوحيدة (كما يُفكّر هو) التي تُحقّق له غاياته وتسدّ له احتياجاته. ويستمر المجتمع بإيضاح الايجاب المتعارف عليه والسلب المتعارف عليه من خلال المنابر المختلفة كالمدرسة والثقافة الشائعة وغيرها. وكل ذلك يؤثّر على الانسان الناشئ، على فكره، على أفكاره التي تؤثّر بدورها على الشعور والتصرّف.

وكلما تقدّم الانسان في العمر ازداد محصوله الفكري عن الإيجاب والسلب وذلك بحكم الاطّلاع الذي يستمر بالتوسّع والتجربة التي تزداد طولا، ويزداد تركيب النظر الى الايجاب والسلب، فلربما صار الانسان يعتبر أن هذه الفكرة فيها من الايجابيات كذا وكذا وفيها من السلبيات كذا وكذا. ولكن اكتساب الايجاب والسلب لا يتوقّف، ذلك أن الانسان لا يفتأ يجرّب، فلربما دخل الى مطعم جديد وهو في الستينيات من عمره وحدث أن أصابه ألم في المعدة عقب الخروج من المطعم، عندها فإنه من الأرجح أن يُطوّر شعورا سلبيا تجاه ذاك المطعم وأن يهجره هجرانا أبديا.

***

كيف يتطوّر الايجاب والسلب ؟

انه من الملاحظ أن النظرة الى الايجاب والسلب تتطوّر مع تطوّر الانسان. فعند الطفل تكون النظرة ثنائية لا ثالث لها، نظرة أسود وأبيض، ترى هذا ايجابيا وذاك سلبيا. فعلى سبيل المثال، الطفل يرى أمه التي تُرضعه الحليب والحنان والتي تُلبّي احتياجاته كلما احتاج لها - أمّا ايجابية. ولذلك هو يبتسم لها ليُعبّر عن رضاه عنها، ويبكي لها ليستدعي عطفها ومعونتها، ولا يسكن الا معها لكي يبقى بقربها. انها عنده أمّا ايجابية ولو تركته من فترة الى أخرى. والغريب الذي يُخيفه والذي يوجعه بمزحه الثقيل يصير في نظره سيئا سلبيا. ولو داعبه لنفر منه اذ هو عنده سلبي. ولذا تكون دمية يحبّها وأخرى يكرهها وعندما يكبر تكون مُدرّسة يحبّها ومُدرّسة يكرهها. ان نقطة الوسط ما تزال غير حيّة فإما أن يكون الشيء جيدا أو سيئا، اما أن تكون محبوبا عند هذا الناشئ واما أن تكون مكروها، اما أن تكون ايجابيا بنظره أو سلبيا.

وعندما يكبر الطفل ويشتدّ عوده ويتطوّر تفكيره، يبدأ يُلاحظ أن الأشياء الايجابية والسلبية يمكن أن تجتمع في ذات الشخص وفي ذات الشيء. وعندها يمكنه أن يرى نقاطا ايجابية في أحدهم ونقاطا سلبية، ويرى أن الشخص الذي كان يظنّه سيئا للغاية لا رجاء منه ولا مكان له في القلب، أنه يكون في حالات معينة شخصا ايجابيا، والذي ظنّه شخصا كاملا مُتكاملا فإنه يمكن أن يكون سلبيا في حالات أخرى. الا أن الانسان لا يستقرّ في هذه الرؤية المُركّبة، اذ هو متقلّب بين الرؤية السوداء البيضاء وبين الرؤية المُركّبة، فعند الشدائد وعند المبالغة وعند ترك الحيادية يمكننا أن نرى عودة الى النظرة السوداء البيضاء. وعندها يمكن أن يُقال: "نظرتك للأمور هي طفولية".     

***

الموضوعية والتفسير

من الصعب أن تجد ايجابية موضوعية خالصة أو سلبية موضوعية خالصة. فلو جئنا بمجموعة أطفال – مع أنها تجربة مستحيلة لأنها تمسّ بالقيم الأخلاقية - وحاولنا أن نغرس فيهم أن الغباء هو صفة محمودة وأنه هو الشيء الطبيعي، لرأينا ربما أطفالا ينظرون الى الغباء بشكل ايجابي ولتسابقوا الى اظهار الغباء الأفظع. ان ذلك يقول أن الايجابية والسلبية هما ناتجان اجتماعيان وأنهما يُبنيان بناء على التجربة الشخصية وبناء على ما يتشرّب الانسان من حوله خلال هذه التجربة الشخصية. فلو علّمه والداه أن الغباء هو الغاية ولو قرأ في الكتب المدرسية شعرا يمدح الغباء ولو شاهد في التلفاز مسلسلا وثائقيا عن أهمية الغباء ولو سمع من أصاحبه عن بطولاتهم في الغباء، لصار ينظر الى الغباء بتقدير واعجاب ولسعى وراءه ولاجتهد في تحصيل أعلى مراتبه. وهنا يدخل التفسير بشكل واضح. ورغم أننا جئنا بمثال شاذ لنُجسّد قوّة التفسير، الا أن كلّنا يستعمل التفسير في حياته. فشخص واحد يفسّر العلاقات الاجتماعية في مؤسّسة معينة على أنها رائعة فيندمج فيها، وآخر يُفسّرها على أنها مُزيّفة فينفر منها ويستصعب الاندماج فيها وهكذا.

الا ان الأمور لا تجري على هذا النحو الطفولي فهناك العقل الانساني الذي يرفض مثل هذه الترّهات. انه يحافظ على سلطانه وينفي من يُخالفه الى الشذوذ والى الجوانب. صحيح أن العقل يمكن أن يُسوّغ وأن يقلب بعض الايجاب سلبا وبعض السلب ايجابا، الا أنه لا يسمح بقلب صفة تفوح منها رائحة السلب (الغباء) الى ايجاب. انه يستهجن ذلك! وهنا تدخل الموضوعية! فالعقل الصريح الراشد يرى الشيء أمرا جيدا فيعتبره ايجابيا ولو أحسّ الانسان تجاهه بمشاعر سلبية، ويرى أمرا آخرا فيعتبره سلبيا ولو أحسّ تجاهه بمشاعر ايجابية.     

***     

الإيجاب المعقول: تعريف

عندما نتحدّث عن التفكير الإيجابي فإننا نميّز بين تفكير ايجابي معقول وتفكير ايجابي غير معقول، وهذا التقسيم ينبع من حكم الواقع الذي يُشير الى المعقول ويؤكّد الغير معقول. التفكير الإيجابي المعقول أو الإيجاب المعقول باختصار هو التفكير الذي يحتمل أن يصير واقعا، والذي يُقرّر احتماله من عدمه هو مجموع أصوات الناس العقلاء الطبيعيين. ذلك أن الانسان الواحد يمكنه أن يُصاب بحالة يأس أو حالة حزن أو اكتئاب فلا يعود يرى النور ولا الإمكانيات المُتاحة، كما أنه يمكن أن يعتريه أمل مُفرط، يدفعه الى رسم خيالات وأوهام وأحلام وردية. واذا ما عرّفنا الإيجاب المعقول فإن الإيجاب الغير معقول بات جليّا - اذ هو المكمّل والذي به تكتمل صورة التفكير الإيجابي - فهو التفكير الذي لا يكاد يحتمل أن يصير واقعا.

ولكي نوضّح هذين المصطلحين اللذين نُطلقهما لأول مرة، نضرب أمثلة على كل واحد منهما. أن تقول: "سأجتهد وسأتفوّق في تعليمي"، قُبيل انخراطك في التعليم أو بعده، مع علمك أن قدرتك تسمح لك بالتفوّق هو من الإيجاب المعقول. لكن أن تقول نفس القولة وأنت لم تقوَ على انهاء التعليم الثانوي ولا تعمل أي جهد لإصلاح ما مضى من تقصير ولا تأتي رغبة التفوّق في التعليم عندك الا في الأحلام الوردية، فهذا من الإيجاب الغير معقول. أن تتفاءل بشفائك أو بموازنة المرض مع أخذك الدواء أو أن تتفاءل بحصولك على مبلغ من المال عند اشتراكك بسحب أو بمسابقة أو عند اتمام شهر من الكدّ والعمل، فهذا كله من الإيجاب المعقول. لكن أن تتفاءل بخروج المرض من جسدك نهائيا وأنت ملقى في الفراش لا تتبع تعليمات الطبيب، أو أن تكتب على الحائط أنك ستربح نصف مليون دون أن تسعى فإنك لو آمنت بذلك كل الايمان، فسوف يبقى تفكيرك وايمانك في خانة الايجاب الغير معقول، ذلك أنك لم تطرق أسباب الواقع.

***

الإيجاب المعقول: النسبية في التعريف

ان الوقوف على تعريف مصطلحي "الإيجاب المعقول" و"الإيجاب الغير معقول"، يكشف أمام أعيننا مسائل مركّبة وصعوبة في ملامسة الدّقة في التعريف. اذ أنه عندما نقول أن الإيجاب المعقول هو التفكير الذي يحتمل أن يصير واقعا، والذي يُقرّر احتماله من عدمه هو مجموع أصوات الناس العقلاء الطبيعيين، فإننا نفترض ضمنا أن الشريحة الانسانية التي يتقرّر احتمال الحصول من عدمه وفقا لرأيها، إننا نفترض أنها شريحة طبيعية وأن مجموع آرائها تعكس حيادية معينة. الا أنه يمكن أن تميل هذه الشريحة الى نوع من اليأس، كأن يخيّم يأس على شعب من امكانية تغيير النظام الحاكم أو أن يظنّ ناس أن لا مجال لأن يحقّقوا أحلامهم الفردية أو الجمعية نتيجة كبت الدولة لحرياتهم وحرمانهم من حقوقهم. عندها فإن دائرة الإيجاب المعقول (في نظر اليائسين) تنحسر وتصير ضيّقة اذا ما نُظر اليها من الخارج، لكنها في نظر أولئك الذين يعيشون داخلها تبقى ايجابا معقولا ويبقى كل شيء خارجها ايجابا غير معقول. فإن حلم أحدهم في دولة عربية أن يصير صحفيا ناجحا ينقل الأخبار بشفافية فإن هذا الحلم يبان ايجابا غير معقول، أما ان حلم آخر في دولة أجنبية نفس الحلم فإن حلمه يظهر حلما معقولا. كذلك أن تدلّل نفسك بسيارة "مارسيدس" في دولة عربية، فإن ذلك يبان من الإيجاب المعقول اذا ما توفّرت الأموال، أما أن تتوق لأن تصبح رجلا سياسيا ناقدا فإن هذا من الإيجاب الغير معقول كما يظهر، ولو امتلكت الكفاءات والقدرات التي تُمكّنك من ذلك. لذا علينا أن ننظر خارج اطار البيئة الحياتية التي نعيش فيها أو أن نعزل تأثير البيئة المحيطة، فنتطلّع على المجتمعات الأخرى ونأخذ من محاسنها، وننظر الى حال العرب في سابق الزمان ونطمح الى مجدهم، فلو لم يكن كل ذلك لكان التغيير مستحيلا ولبقي المجتمع على حاله التعيس.