31.7.13

القاء الكلام (زت الحكي)


مما يفلح به أغلب الناس هو القاء الكلام الكبير دون التفكير في معناه ولا في أثره وهذا ما نسمّيه بالعامية "زت الحكي"، فترى الواحد يُدلي بأقوال بعيدة كل البعد عن المنطق، فيقول: "اركن عليّ، أنا بقلك انه نص أهل البلد يشربون الخمرة" !!! كيف عرفت ؟! هل عملت احصائية ؟! وكيف سأركن عليك ان لم يكن معك دليل واحد ! وربما يقول لك آخر: "الاسلام دين رجعي ومتخلّف" أو "فلان فاشل وغبي" أو "هذا الحزب هو الأكثر تأثيرا على الصعيد المحلي"، كيف عرفت ؟ هل معك أدلة ؟ لا أدلة ولا اثباتات ولا تبريرات ولكنها مجرّد أقوال تنطلي تفاهتها على القاصرين في العلم !

وفي ثقافتنا ما يُبرّر هذه العشوائية فالقول المشهور: "الحكي ما عليه جمرك"، يُشجّع على اطلاق العنان للألسن ليهرف الفرد بما لا يعرف، رغم أن ديننا الحنيف يرشدنا الى الاقتصاد في الكلام وعدم الخوض في كل حديث، فكل كلمة ننبس بها محسوبة لنا أو علينا، وليس الحال كما يُصوّره القول أعلاه أننا غير مؤاخذين على ما نقول، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: "وما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ"، وآيات وأحاديث أخرى كثيرة في حفظ اللسان.

واذا أمعنا النظر في الأمثال العامية نرى أن قسما منها يُردّد دون الانتباه الى المعنى، ومن الأمثلة على هذه الأمثال: "اللي ما إلو حظ ما يتعب ولا يشقى" و "التاجر فاجر" و "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس" و "الإيد اللي ما بتقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر" و "الهريبة ثلثين المراجل" و "معك فرنك بتسوى فرنك" و "الفلوس بتجيب العروس" و "ساعة إلك وساعة لربك" و "ربي جرو ولا تربي ابن آدم" و "حماتك الله يحميها وبنار جهنم يكويها" و "كشّر عن نيابك كل الناس بتهابك" و "إمش بجنازة ولا تمشي بجوازة" و "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". انها أمثال تندرج تحت عنوان "زت الحكي" ولا يمكن قبولها لأنها لا تحوي منطقا ولا دينا ولا فطرة حسنة، ولمّا كانت ثقافتنا محتوية لمثل هذه الترّهات وجب علينا التفريق بين الجيد والسيء ووجب علينا أيضا أن لا نُؤكّد مثل هذه الأقوال الغير مبنية على ادعاءات منطقية وأن لا نُضيف الى ثقافتنا مزيدا من الترّهات القولية.

الاغتراب!


"الحكومة كافرة ! الشعب كافر ! الغرب سيذهب الى الجحيم ! أمريكا كافرة ! أوروبا كافرة ! دول الخليج أذناب لأمريكا ! الأحزاب العربية لا تحب الاسلام ! الرجال ليسوا ملتحين ! النساء لسن منقّبات ! الجيل الصاعد جيل فاسد ! الأكل مشكوك في أمره ! المشرب مشكوك فيه ! الكل يتآمر ضدنا ! الكل سيخدعنا ! الكل سيُطيح بنا ! الكل لا يحب الاسلام ! الكل عدو الله !"

والسؤال الذي يتوارد الى الذهن: كيف لحياة كهذه أن تُطاق ؟ لكنها ليست هي الحياة الأبدية، انها مجرد حياة دنيا ولذلك فيها الشقاء والتعاسة وسنذوق فيها الأمرّيْن، وستكون الحياة الأخرى هي الجنة بإذن الله. لكن، كيف يمكن لداعية أو شيخ يحمل هذا القدر من الكُره للعالم الذي يعيش فيه، كيف يمكن له أن يهدي الناس ؟ كيف يمكن له أن يُغيّر العالم ان كان لا يطيق فردا منه ؟ هل ستصفّق يد واحدة ؟ وان كان لا أمل من هذا العالم، فلماذا سيسعى الى التغيير ؟! الأفضل وفقا لهذه الرؤية أن ينجو بنفسه وعشيرته الأقربين ويذر الآخرين في ضلالهم وكفرهم !

واضح لنا أن هؤلاء الإسلاميين يتّخذون موقف الضعيف والمتّهم الذي يسعى الكل للإطاحة به، لكن الحقيقة غير ذلك، اذ أنه من غير المنطقي أن يكره كل العالم دين الاسلام ! وما الذي فيه حتى يكرهه الكل ؟ انه شرع الله فهل يُعقل أن يكرهه أغلب أهل الأرض ؟ وهل يُعقل أن يخطّط كل العالم لطمس معالم هذا الدين ؟ ان الحقيقة غير ذلك، فأوروبا اليوم تعجّ بالإسلاميين، وليس كل حليق لحية وليست كل من لم تلبس النقاب تكره الإسلام، فعلى العكس، ربما حليق اللحية ذاك يحب الاسلام أكثر من أكبر الملتحين، وهناك الكثير الكثير من غير المسلمين ممن يحبّون هذا الدين أو على الأقل لا يكرهونه !   

انه موقف المُغترب الذي يرى كل الأصابع موجّه اليه، فإن قال أحدهم كلمة غير مفهومة عن الإسلام، أو أبدى رأيا آخر، أو سأل سؤالا عن الدين، فإنهم سيسارعون الى القول: انه يكره الإسلام، انه ضدّنا ! ولا شكّ أن هناك مؤامرات ونوايا سيئة تحيق بكل دين وبكل فكر، ولكن ليس كل ما يفعله الآخر هو مؤامرة ضدنا، وعلينا أن نكون واعين لما يُخطّط له من وراء الظهور، ولكن علينا أن نتحرّر أيضا من وجهة نظر الضعيف، المُغترب والمتّهم !

في الكتابة ...


الكتابة هي عالم بحد ذاته، فأنت حين تكتب فانك تستغرق بكل حواسك وتنخرط في عمق المعاني التي تخطّها، وربما تنسى الأشياء التي حواليك لمدة معينة، وربما تنسى الوقت، وتشعر للحظة أنك موجود خارج الزمان والمكان، فالكلمات التي تصدر من قلبك وعقلك تأسرك، وتأخذ جُلّ انتباهك، وتُدخلك الى العمق لتعيشَ التجربة التي تصفها مرة أخرى، كيف لا وما تكتب هو جزء منك، وهو ينمُّ عن فكرك وعن عقلك الواعي واللا واعي وهو ينمّ عن شخصيتك، وبالتالي فما تكتب هو أنت !

والكتابة هي انتاج حقيقي وهو أثر تتركه بعد انتهاء عمرك، وبالتالي فهو مُحبّب لمن تُشغله المعاني الوجودية للإنسان في هذه الحياة المُنتهية حتما، وهو مُحبّب لمن يدرك قصر حياته على هذه الأرض، فلكي يستمر وجود الانسان أكثر، لا بدّ له أن يكتب، لتظلّ كتابته حيّة وروحه حيّة بعد فنائه المادي، ولذلك لا نُبالغ ان قلنا كما قالوا: "أنا أكتب، اذا أنا موجود"! وخلافا لبقية الانتاجات، فالكتابة مُرشّحة لأن تدوم سنينا كثيرة، اذا ما حظيت باهتمام الأتباع والجماهير !  

والكتابة هي فعل ينجم عن تفكير وعن اعمال للعقل في الغالب وعن نظر في النفس وفي الذات، ويساعد ذلك الكاتب ان كان صادقا في كتابته، مرتبطا بصورة شعورية بما يكتب، على تأمّل ذاته وفهم نفسه أكثر، كما أنها (أي الكتابة) هي فعل يساعد على الفضفضة وعلى اطلاق الأحزان والأفراح والأفكار الكثيرة من داخل الانسان، وبالتالي لا تبقى حبيسة مصدرها، مما يساعد الانسان في الوصول الى الراحة النفسية. لذلك ليس كل ما يُكتب سيُنشر على الملأ، فيمكن أن يكتب الانسان في يومياته أو في ملفاته الخاصة لكي يُحرّر غضبا أو حزنا أو فرحا زائدا، فلا يجب أن يشعر الانسان أنه مُلزم بالنشر، وأن خصوصيته مُقتحمة اذا كتب وسطّر مُختلجات صدره. هذا القول يُوصلنا الى أن الكتابة هي وسيلة لمشاركة الآخرين بمكنونات النفس وبمكنونات الفكر، ولذلك ينبغي على الكاتب المستنير أن يميّز بين كتابة شخصية يُعبّر فيها عن تجارب ذات تأثير قوي، ولربما عن رغبات مكبوتة وتخوّفات شخصية، وبين كتابة مفيدة للآخرين، بمعنى آخر عليه أن يُفكّر فيما اذا نبعت كلماته من مصلحة شخصية أم من تفكير في المصلحة العامة.

ملاحظة: هذا لا يعني أن الكتابة المنشورة لا يجب أن تحوي عواطف صادقة وجيّاشة والآلم وأحزان ولربما تخوّفات، ولكن يجب لفت النظر الى مدى فائدتها للآخرين قبل اقرار النشر من عدمه! 

خسر المُصنّفون!


بعض الناس يصعُب عليهم أن يتحرّروا من القوالب ومن "الستيجموت" (stigma)، حيث أنهم يرون الآخرين محشوّين في قوالب ضيّقة، فإن قلتَ له: هذا عربي، قال في نفسه: مُتخلّف، وان قلتَ له: هذا مسلم، قال في نفسه: ارهابي، وان قلتَ له: هذا علماني، قال في نفسه: مُنحلّ أخلاقيا، وان قلت له: فلان من عائلة كذا، ربما سيقول في نفسه أو لك: هذه العائلة شخصياتها ضعيفة، وان قلتَ له: هذا محامي، فسيقول: رأسه قاس، وان قلتَ له: أنثى، فسيقول: ربّة منزل، وان قلتَ: طبيب، فسيقول: شخص عظيم، وان رأى فتاة تلبس ملابس ضيّقة وكاشفة لنصف الجسم، فسيقول: عاهرة !

والسؤال هو: لماذا نُكمل الصورة من تلقاء نفسنا ؟ وهل اذا عرفنا صفة واحدة، فإننا سنستطيع فهم الانسان الذي أمامنا فهما دقيقا ؟ ان هذا الاستعجال في التصنيف يعكس استخفافا ظاهرا في الانسان، واستخفافا في تميّزه وشخصيّته الفريدة، لأننا لا نُفسح المجال له لكي يعرّف بنفسه من يكون، وانما نُفضّل أن نكمل الصورة من عندنا ووفقا للقوالب التي في رؤوسنا، ونغفل أو نتغافل عن أن الانسان أكثرا تعقيدا من القوالب ! ومن ثم فإن هذا التصنيف يشير الى أنانية عندنا، فنحن نريد أن نريح أنفسنا سريعا، فعندما ندخل الانسان الى قالب، نكون قد أثبتنا لأنفسنا صدق تفكيرنا وذكائنا في التشخيص، وبالتالي لا نوجع رؤوسنا في محاولة فهم الانسان الذي قبالنا، فبصيرتنا قوية وذكائنا خارق ولذلك لا تخفى علينا خافية ! ولو علم هؤلاء المستعجلون كم من الوقت يستغرق لأهل الاختصاص (الأخصائيون النفسيون) حتى يُشخّصوا الانسان الذي أمامهم تشخيصا دقيقا، فانهم سيُفضّلون السكوت على الكلام، والابتعاد عن المواطن التي يبان فيها جهلهم !

ولا يمكن الاستغناء عن التصنيف في النهاية، فلكي يُعطي الطبيب دواءً، فانه يحتاج الى أن يُشخّص المرض، ولكي يُعالج الأخصائي النفسي، فهو بحاجة لأن يُشخّص الحالة، ولكنّ التشخيص لا يمكن أن يكون مقبولا، الا اذا بُني على أدلة وعلى بحث وعلى تفكير منطقي، وهو بطبيعة الحال يحتاج الى وقت معيّن ولا يمكن اختصاره (أي الوقت) لرمشة عين.