4.7.14

تأمّلات في التربية الأولى


منذ خروج الطفل من بطن أمه الى الحياة (وحتى قبل ذلك)، يبدأ يتشرّب ممن ومما حوله. انه ينطلق مع فطرة وغريزة الى عالم مليء بالتأثيرات المقصودة والغير مقصودة. هذا الطفل لا ينولد الى فراغ، وانما الى جوّ عائلي، وهو يؤثّر على هذا الجوّ ويتأثّر منه. وهو ينولد الى مجتمع، ويبدأ يجمع رويدا رويدا مسمّيات اجتماعية، فوالديه يُسمّيانه ابنا، ومجتمعه يُسمّيه مواطنا، ومدرسته تُسمّيه طالبا وغير ذلك من الوظائف الاجتماعية.

وللوالدين أن يتخيّلا أنهما يحصلان على هدية من السماء، هدية غالية، روح، وهما من يتوليّان رعايتها ويتحمّلان مسؤوليتها، ويستطيعان عبر أقوالهما وأفعالهما أن يبنياها من الأساس. وليست الرعاية تنحصر في تأمين مأكل ومشرب، فهذه أمور تتجّه الى الجسد، ولكن الرعاية تتجاوز ذلك. ان في الانسان أربع مكوّنات أساسية وهي: الجسد، العقل، النفس والروح. هذا الجسد هو فقط واحد منها، واهتمام حصري به هو بداية تشويه الصورة وبداية التربية الغير ناجعة.  

السنوات الأولى تبقى هي الحاسمة، لأنه فيها تُبنى الأساسات التي تُشيّد عليها الثانويات لاحقا. انه ان كانت الأساسات معوّجة، فسنحتاج الى جهود مضاعفة لإعادة ترميم البناء، وأحيانا سنعجز عن ذلك بفعل قوة الغرس الأولي. ولذلك قيل "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، فالنقش في الحجر ممكن وسهل نسبيا، وهو متين وصامد، رغم الظروف البيئية المحيطة. كبار علماء النفس شدّدوا على السنوات الأولى لحياة الطفل، فذاك فرويد عبر نظريته التطورية، يركّز على المراحل الثلاث الأولى التي تمتدّ عبر السنوات الست الأولى من حياة الطفل. كذلك عالم النفس بولبي ومن خلال نظرية "الاتصال"، ادعى أنّ إنشاء رابط اجتماعي آمن مع الطفل هو الأساس للتطوّر السليم. هذا الرابط يحدث عادة مع شخصية الأم، فإن كان رابطا آمنا، انطبعت الشخصية الآمنة في جوف الطفل وصار ينظر الى الناس من حوله وفقا لهذا الانطباع الآمن. أما ان كان الرابط مع شخصية الأم غير آمن، فإن الطفل يمكن أن يفهم أن العالم كله غير آمن، ولذا لا ينبغي له أن يثق بأحد.

والتربية لا تنحصر في ارشادات وتعليمات، وانما هي تشمل كل ما يصدر عن الوالدين من قول أو فعل. انها واسعة جدا، أكثر مما نتخيل! حتى أنها تشمل الأقوال والأفعال ما قبل بداية حياة الزوجية، اذ أن أقوال الأب قبل أبوته وأقوال الأم قبل أمومتها، تنمّ عن شخصية معينة وعن أنماط تفكير، ولا يمكن قلب هذه الشخصية وأنماط التفكير رأسا على عقب، عند مجيء الولد. انها تستمرّ تُلقي بتأثيرها على المولود! ولذلك، عند اختيار شريك حياة، يجدر بنا أن نمعن النظر في أن شريك الحياة سيكون شريكا في تربية الأبناء أيضا وسيؤثّر بشخصيته وأنماط تفكيره عليهم. كما أن الأفعال قبل الحياة الزوجية تؤثّر، اذ أن لاختيار طريقة بناء البيت وديكوره على سبيل المثال أثر كذلك. فإن كان البيت آمنا، فهم الطفل أنه في هذا العالم يمكن بناء حيّز آمن رغم الأخطار المحيطة. وان كانت هناك حديقة أمام المنزل، تذوّت فيه جمال الطبيعة وحبّها. 

والتربية تشمل أيضا طريقة تعامل الزوجين مع بعضهما البعض لأنهما المثل الأعلى بالنسبة للطفل، وهي تشمل المحطّات التلفزيونية والإعلام الذي ينكشف اليه الولد، والألعاب والدمى التي ينكشف اليها، وألعاب الحاسوب والقصص التي يسمعها قبل النوم، وغيرها الكثير من الأمور، وبالتأكيد علاقة كل واحد من الوالدين بولدهما. ان التربية بهذا المفهوم تجربة تُعاش أكثر من دروس تُلقى. ثم ان هذه تأثيرات تطال الولد وهو قابع في بيته، فما بالنا بالتأثيرات التي ينكشف اليها في الخارج؟! الا أننا نؤمن أن اذا كانت التأثيرات الداخلية ايجابية وموجّهة لأهداف سامية، فإن التأثيرات الخارجية ستتذلّل كما تذلّلت الأولى. اذ أن التربية الأولى هي التي تبني الأطر الأساسية، الأفكار الأساسية والفرضيات الأساسية، وان كانت كل هذه حسنة وانسجمت مع الفطرة، فإن الأخرى ستكون منساقة للحُسن الأولي.