3.2.15

كيف لنا أن نُفكّر ؟


هناك فائدة لربما تُساعدنا في توجيه تفكيرنا، ولو استطعنا أن نُطبّقها لتُرجمت آمالنا الى الواقع ولتغيّرت حياتنا رأسا على عقب. هذه الفائدة تُختصر بكلمات قليلة وهي: أن نُفكّر في الكليّات بدلا من الجزئيات. انه عندما نريد أن نتشبثّ بما يُوحّدنا وبما يجمعنا وأن لا ننزلق الى خلافات جانبية ثانوية، فإنه يجب علينا أن ننظر في الأمور الرئيسية والأساسية قبل أن ندخل في التفاصيل. فإن دخلنا في التفاصيل قبل الأمور الأساسية فإن وحدتنا ستكون مُهدّدة أكثر من أي وقت قد مضى. وليس هذا لأن فريق أو غيره يُخبّئ قنابلا موقوتة بين طيّات التفاصيل، ولكن لأنه وبشكل طبيعي سيكون الاختلاف حول الأمور التفصيلية أكثر وأشدّ منه حول الأمور الرئيسية. وهذا ما نجده في كثير من المجالات، فعند ابرام اتفاقية يخوض المتفاوضون في البنود الرئيسية أولا، وعند دراسة علم معين فإن أول ما ينكشف اليه الدارس ما يتفق عليه العلماء (أساسيات العلم).  

ان هذا المنحى من التفكير يُفضي الى مرونة كبيرة، الى امكانية أخذ وعطاء، الى تلاقي، ذلك أنه يأخذ بالعناوين الرئيسية، بالصورة الكاملة الواسعة التي تتسع للجميع، ولا يحصر المُتفاوضين في زاوية ضيّقة تكاد تخنق الجميع فينفروا منها. وهو يتلاءم مع متطلبات المرحلة، فمن أجل اعادة الأطراف المختلفة الى طاولة واحدة ومن أجل المضي قُدُما في الحوار والنقاش وبناء جسور التواصل التي هُدّمت، ينبغي اتخاذ مثل هذا المنحى من التفكير الذي لا يُعاند على الصغائر أو على ما لا يتلاءم مع المرحلة. انه يسعى الى بناء لغة أساسية مشتركة كي تكون مُعينا (بعد أن ترسّخت وتمكّن منها مُتحدّثيها) على الخوض في التفاصيل. أيُعقل أن يُخاض في التفاصيل قبل انشاء مثل هذه اللغة المشتركة؟

ان ترسيخ الكليات يُساهم في بناء المشترك وهذا بدوره يُظلّل الدخول في نقاط الاختلاف. انه كلما ثارت نقطة خلاف فرعية، كان بالإمكان العودة الى العناوين الرئيسية وتسوية نقطة الخلاف بحسب ما ترسّخ في أذهان المُتحدّثين من نقاط أساسية. فعلى سبيل المثال، هل يُعقل أن نتكلّم عن تطبيق الحدود ونحن لم نُفكّر في كيفية مواجهة الظلم؟ ان غاية تحقيق العدل يتفق عليها جميعنا وهي تختصر كثيرا من نقاط البلبلة والاختلاف، فإن نحن عزمنا على تحقيق مثل هذا الهدف الذي ينظر في الكليات، فهمنا أنه يجب أن نُحارب القمع، الاضطهاد، اللا مساواة، الفقر، فكل ذلك ليس من العدل. وان نحن عزمنا على رفع مستوى ثقافتنا الحاضرة فإننا سنختصر على أنفسنا محاورات سطحية عند الدخول في الجزئيات، وسنتجّه الى طلب العلم، التشجيع على القراءة والدفع نحو الرُقي الأخلاقي.  

هذا لا يعني أن نحرم أنفسنا من الدخول في الجزئيات والتفاصيل، فبحثها أيضا مهم وبناء تصوّرات عنها أيضا شيء مهم، ولكن عند طاولة المُفاوضات يجب النظر في الكليات بدلا من الجزئيات، والدخول الى الجزئيات من خلال منظار الكليات. ان منظار الكليات هذا يُتيح لنا رؤية الآخر ومحاولة فهم طريقة تفكيره ويمنعنا من التفكير المحصور في حدودنا. ولذلك التصوّرات التي نبنيها مُسبقا عن الجزئيات لا يجب أن تكون جامدة، متحجّرة ونهائية وانما أن تكون مفتوحة للبحث والنقاش. تفكير الكليّات هذا سيحول دون بناء الحدود قبل رؤية المساحات التي أمامنا وسيحول دون بناء الحواجز قبل أن تُشقّ الطرق وسيحول دون الضياع في الضفاف قبل بناء الجسور.