15.4.12

مدوّنة نور الدرب تكشف: مدارس أول زمن!








يقول كثيرون: "إن المدرسة هي بيت الطالب الثاني"، حيث أن الإطار الأول هو إطار العائلة، ولا شكّ أن المدرسة تشغل حيّزا كبيرا في حياة الطالب، فبالنسبة للأولاد يحتل النشاط المدرسي إلى جانب العائلي معظم الوقت، إن لم يكن كلّه. لهذا كان لا بدّ من تأسيس بيئة عائلية مثالية للطفل، لتبني فيه تلك الشخصية المُميّزة، وكذلك فإن البيئة المدرسية تحتاج منا إلى إهتمام ومراقبة لأهميتها.

إذا تخيلّنا المدرسة المثالية التي ودّ كلنا لو تعلّم بها يوما أو التي نرغب في أن ينخرط بها الأبناء اليوم فإنها تكون كالتالي: "من بعيد تعرف أن هناك مدرسة في المنطقة وذلك من خلال ممرات المشاة الكثيفة والأرصفة الواسعة والموقف الخاص الذي يتسع لعشرات السيارات، وترى الملاعب عن بعد والبنايات المثيرة بجمالها. تصل إلى مدخل المدرسة الرئيسي دون أن يدفعك أحد ودون أي اكتظاظ فيستقبلك الحارس بابتسامة صباحية لا يمكن نسيانها، وتتقدّم خطوات أخرى لتلقي السلام على المدير وعلى بعض المعلمين الذين يرسلون إليك أيضا بابتسامات التفائل، كلهم واقفون، لا يعرفون الجلوس، متحمّسون لملاقاة طلابهم، فقد فارقوهم ليلا كاملا، وما أشد حماس الجميع لأداء وظيفته وبذل الحد الأقصى من العطاء، إذ أن الواجبات لا تُوقف أحدا هنا فالكل يزيد في الكرم العلمي. الممرات في الصباح تلمع من نظافتها وهكذا ستبقى في نهاية اليوم ولكن وسوسة عاملة النظافة تدفعها إلى تنظيفها مرة أخرى، أبواب الصفوف الفاقعة بحُمرتها مفتوحة تنتظر مجيء الطلاب الذين نادرا ما يتأخّر أحدهم عن بداية الدوام، كما أن اللافتات تنتصب في كل مكان تنتظر قدوم أي زائر لترشده إلى مُراده، وهذا هو الدرج الذي يُوصلك إلى طبقة صفوف الخوامس وإلى جانبه هناك آلة لم تتحرّك يوما ولكنهم يقولون إنها خاصّة بالمُعاقين. تدخل الصف فترى الطاولات البيضاء في أماكنها لا تتزحزح، وهي فعلا بيضاء لأنه لا كتابة ولا خدش عليها، والكراسي من القماش تبعث في جالسها حب الجلوس للتعلّم، اللوح يعكس ضوء السقف جاهزا لإلتقاط معلومات جديدة، الجدران مليئة بالإبداعات الطلابية والساعة منتصبة عند اللوح والجرس فوقها، والشبابيك ما بين مفتوح ومُغلق، والستائر الزرقاء تُغطّي قسما منها، والمكيّف موجود عند الحاجة. إذا أردت دخول المرحاض فإن اللافتات تدلك رغم قرب المكان من الصفوف، وهي تفوق بنظافتها نظافة تلك المراحيض البيتية، ولا ينقصها ورق أو صابون، وعلى بعد عشرة أمتار تنتصب ثلاجة مياه مكتوب عليها: مياه للشرب". إن هذا الوصف يظهر للكثيرين بأنه وصف مثالي لا يمكن تحقيقه بسهولة ولكنه في الحقيقة ما تحتاج إليه كل مدرسة، فإن كنا قد بذلنا الغالي والنفيس في سبيل إنشاء بيئة عائلية مثالية، فلماذا نتنازل عن البيئة المدرسية المكمّلة؟!

لكنّ الواقع يعرض علينا غير ذلك ويصدمنا بصورة تختلف كثيرا عن تلك التي نطمح إليها! لقد سنحت لي الفرصة مؤخّرا بزيارة إحدى المدارس ورأيت العجب العُجاب ولكم أن تحكموا على فظاعة المشهد من خلال الصور المرفقة. أصل إلى طبقة الصفوف التاسعة فأرى عن يمني أماكن مُخصّصة لشرب المياه ولكنها عاطلة عن العمل والنفايات تُلقى إليها، بجوارها هناك مراحيض متروكة، مفتوحة الأبواب ومنظرها يبعث القشعريرة في النفس وغير واضح أهي للذكور أم للإناث ومنظرها المثير للقرف يقابل الزائرين، كما أن هناك أيضا حنفية ماء ولحسن الحظ أنها تُخرج الماء ولكنه ينسكب على الأرض لأن الأنابيب معطوبة وبالطبع ليس هناك ورق وليس هناك صابون! تدخل إلى الصف فترى الطاولات مبعثرة عند جدران الغرفة والكراسي البلاستيكية منتشرة بعشوائية وفوضوية!

ويظهر السؤال المُتوقّع: من ذا الذي يتحمّس إلى طلب العلم في هذه الظروف المقيتة؟ ومن ذا الذي يقبل أن يعتبر المدرسة بيته الثاني إن كان هذا هو حالها؟ ومن ذا الذي سيشعر بالفخر والإنتماء لمثل هذا المكان؟ ومن ثم هل هذا المكان يليق بإنسانية الإنسان؟ وكيف سيحتمل الطالب قساوة الظروف إن كان المرحاض المدرسي بالنسبة له تجربة فظيعة؟ إني أذكر حتى اليوم أنه عندما تعلّمت في مدرستي الإبتدائية أن دخول المرحاض كان بالنسبة للغالبية آخر الإحتمالات وفي أسوأ الحالات من شدة القرف المتواجد داخله، إذا فهي ظاهرة وليست طفرة. فيما بعد يتبين أيضا أن المدرسة الإعدادية هذه لا تملك ماكنة تصوير صالحة للإستعمال، ولا تملك حتى ماسحات للوح!

البعض سيقول أن هذه الحالة هي شاذة ولكن الأمر لا يبدو كذلك، ونقول أنها لو كانت حالة فريدة، فلا يجب أن تكون حالة واحدة مثل هذه، لأن هذه الظروف تنمُّ عن حضارة لا تعرف للنظافة مكانا ولا تعرف للإنسانية وللرقي طريقا! آخرين سيقولون أن الأمر ليس بيدنا والميزانيات محدودة وهذا إدعاء متوقّع، لأن الغالبية تُلقي باللوم على الآخرين حتى يستطيعوا البقاء في هدوء نفسي إزاء الواقع المُخزي، رغم أن النظافة لا تحتاج إلى مُموّل ولكنها ثقافة تفرضها القيم والأخلاق والمبادئ، والنظام والترتيب لا يحتاج إلى أموال إضافية ولكنه يحتاج إلى صرامة في التنفيذ. فعلا هذا الواقع بعيد كل البعد عن المثالية وعن الإنسانية والمكان الذي من الواجب عليه الحث على النظافة والنظام، قد تحوّل إلى مكان يحتاج إلى تربية قبل أن يُربّي أجيالا. الخطر الكبير هو أن نألف مثل هذا الذل والهوان فيصمت كل من المعلّمين وكل من الطلاب والآباء إزاء هذه الكارثة التي يعيش أبنائنا في لُبّها، وتصير أماكن الشرب المليئة بالنفايات والمراحيض التي لا تصلح للإستعمال وإنعدام النظام، حدثا واقعا لا مناص منه وهو أمر طبيعي.