12.1.15

تعمليش حالك بتقراش


"تعمليش حالك بتقراش كتب حتى ما يقولو انك هبيلي أو معقّد أو غير اجتماعي. وتنساش بحياتك وانت بتفكّر هيك، انه في ناس بتعتبر اللي بقراش مش داري بالدنيا ومش فهمان ومش مثقّف وبطلعلوش يحكي أصلا، وتنساش كمان انه بسمّونا أمة اقرأ. فكرك علفاضي؟"  

غريب كيف أننا نمسخ الأفكار ونقلبها رأسا على عقب كيفما نشاء وكيفما نهوى، والمسكين منا من يتأثّر بهذا المسخ ويصير يعتبر نفسه شاذّا أو منحرفا ان حاد عن المفهوم الاجتماعي الممسوخ. احدى هذه الأفكار هو ما ينتشر حول قراءة الكتب، لدرجة أن الكتاب صار يُصوّر وكأنّه شبح أو مرض يجدر الابتعاد عنه قدر الإمكان. والحامل للكتاب أمام أعين المجتمع يمكنه أن يحظى بنظرات السخرية والاستخفاف وبنعوت تلتصق به فورا (دون التعرّف على شخصيته)، من مثل انسان مُغلق أو معقّد أو أهبل أو غير اجتماعي. وهل نستغرب بعد كل ما نلصق بالقراءة من سلبية أن نرى أقل معدّلات للقراءة في البلدان العربية.

هذا عندنا، أما عند الغرب فيعتبرون من يقرأ انسانا راقيا، مثقفا، مُطّلعا، واسع الأفق، وتراهم يركضون وراء حملة الكتب ليبدوا اعجابهم بهم وليُظهروا اهتمامهم وليُسعفوا فضولهم فلربما غاب عنهم كتاب جيّد. وتراهم يُحدثّون عن لحظات ترفيه قضوها خلال نهاية الأسبوع بقراءة رواية ممتعة أو كتاب عميق في فلسفته وفكره، والمستمع منهم يزداد تشوّقا لسماع الحديث ولالتقاط بعض دُرر الكتاب من أعين من قرأه، ويستمر حديث طويل مُسهب حول الكتاب وأفكاره ويصير كل واحد منهم يُدلي بكتاب قرأه عند موقف يوحي به، لدرجة أنهم ينسون جلوسهم في المقهى وربما تبرد "النس كافيه" وألسنتهم لا تكاد تدخل فيهم من شدّة تحمّسهم. أما عندنا فحديث حول كتاب تحوم حوله اللعنات ويُغلّفه الملل. وعندما يهدون فإن من أغلى ما يهدون كتابا، أما عندنا فالكتاب لا يخطر على البال في سياق الإهداء وان خطر فإنه يُستهجن.

وغريب هذا المسخ الذي حلّ بنا وتلك الأحاسيس الدونية التي نحسّها تجاه القراءة، وثقافة الإسلام تحثّنا وتأمرنا بالقراءة، وأول كلمة نزلت على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هي كلمة "اقرأ". فما الذي حلّ بنا ولماذا هذه النكسة؟! والأنكى من ذلك أنك تلمس أحيانا احساسا مشابها بالاستهتار والاستخفاف تجاه الفلسفة على سبيل المثال أو البحث العلمي، وكأنهم يريدون أن يقولوا لك: "الحياة بسيطة متعقّدهاش ومتصعّبهاش"! انها أدنى من بسيطة، بل تافهة ولكن هذا لا يعني أن لا نجدّ وأن لا نجتهد كيّما نؤدّي رسالتنا، فعملنا ورسالتنا متجّهين الى العالم الآخر، الى عالم الخلود، الى عالم يستحقّ العناء والبذل. ونرجع الى نفس النقطة: من قال أن القراءة تُعقّد ومن قال أن الفلسفة والبحث العلمي يُصعّبان؟ ان القراءة، الفلسفة، الفكر والبحث العلمي، كلها أمور جاءت لتيسير حياة البشر، فالقراءة تُغذّي المعرفة، تُحرّك الأفكار، تُفجّر الأحاسيس (لربما لا تتفجّر الأحاسيس عند قراءة كل ما يُكتب ولكنها موجودة وبشدّة في حال الأعمال الأدبية) وتفتح الآفاق. واذا ما فكّرنا بعملية القراءة فلا نجد أنها تُغلق مدارك الانسان (يمكن أنها تجعله متركزّا لحظة القراءة بين دفّات الورق)، الا أنها على العكس تُضيف الى مخزونه الفكري، تُغني الرؤية وتوسّعها. ليُبدي القارئ اعجابا بالكاتب عبر قوله: "ولااو كيف مفكّرتش بهاي الشغلة؟!". أيمكن لهذه القراءة أن تُغلق؟ وهل القراءة تجعل الانسان غير اجتماعي كما يتخوفّن بعض الأمهات اذا ما رأين ابنائهن منكبّين على قراءة الكتب؟ الحقيقة أنه وقت القراءة يضمحل اجتماع الانسان ذلك أن القراءة هي فعالية فردية في الغالب، لذلك كان من الحريّ بنا أن لا نفرّط بها وأن لا نُفرط كما بقية الأمور. الا أنه على أثر القراءة يمكن أن تزداد قدرة الانسان الاجتماعية، فهو يملك مواد خام ليُدلي بها خلال الجمع، وغناه الفكري ورؤيته الواسعة يتيحان له أن يدير حديثا غنيا ذا قيمة اجتماعية مع عدد من الأطراف.