2.9.12

المُقتصَد في الإقتصاد - الجزء الثاني


في المهرجانات 

لن أتكلّم عن الأعراس ولا عن الولائم ولا العزائم ولا المآتم لأن اللسان حفي من كثرة الكلام عنها، والغريب أن كثيرين يعرفون الإسراف ومن ثم يقترفونه لحجج واهية تقنعهم بها أنفسهم: "هي ليلة وحدة، هو كل يوم احنا فرحانين"، "بسيطة هو الولد الأول"، "كل الناس بتعمل طنّة ورنّة، ايش معنا احنا بالذات منعملش"! والواضح هو التبرير والتقليد لكن ليس هذا هو محور حديثنا فهو بالنهاية يبقى جهدا فرديا وهو لا يُمثّل إلا عائلة العروسين، أما عندما يُنظّم حزب ما مهرجانا فإنّ عمله لا يُمثّل فردا وإنما جماعة ينتمون إلى ذاك الحزب، ولذا ينبغي أن تكون الصورة حسنة وأن نبدأ بنقد العمل الجماعي الذي يتمثّل بالعمل الحزبي قبل العمل الفردي.

المهرجانات التي تُقام سنويا هي عمل رائع لأنها تجمع الكثير من الناس على أرض واحدة وتساهم في شحذ الهمم وحشد الجموع حول العمل الجماعي، لكننا نؤمن أنه قبل أي تنفيذ ينبغي أن تبزغ منظومة الأفكار، وهي التي يجب أن تقودنا في مسيرة العمل دونما إنحراف عن جوهرها، فإن كان المهرجان من أجل تجديد العهد مع نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الناتج يجب أن يعكس خُلُقا وإحسانا نبويّا، وأبعد ما يكون عن هذا الخُلُق هو الإسراف! وحري بنا ونحن نعيش في هذه الأيام التي تشرذمت بها أمتنا الإسلامية وقلّت حيلتها وهانت على الناس، أن لا ننسى من يعانون في سوريا وفي بورما وفي البلاد الأفريقية، وأن نقتصد في صرفنا، لأن من أمتنا من لا يملك ما يسدّ رمقه وعيشته بعيدة عن الكرامة.

هل نترك الفن إذا؟

لا، ليس هذا هو القصد، فالفن هو أداة مهمة في التأثير على الشعوب وتوعيتها وإحياء جذورها ودفعها نحو هدفها. والمنصة الجميلة الفخمة تجذب الأنظار، والمؤثّرات الضوئية والسمعية تستحوذ على الحسّ فتفجّر العاطفة، فتنشرح الصدور وتمر الأفكار إليها بيسر وبقبول. يقول ربنا جلّ وعلا: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (ألأعراف:31، 32).

لكن، فرق كبير بين منصة متنقّلة مع خلفية ضخمة وعليها لوحة رسام مُعبّرة وأضواء ومكبّرات صوت، وبين منصّة استغرق بناؤها أكثر من شهر كامل وجهود بشرية كبيرة وعمال كُثُر وفي كل سنة يتمّ فكّها فور إنهاء المهرجان. كل ذلك من أجل أن تحتوي المنصة على ثلاث خلفيات، فيُضطرون إلى بنائها بمساعدة الدعائم الحديدية الكثيرة واستعمال الكثير من الخشب وأدوات البناء الأخرى ويمكن أن يكون ذلك على أرض عشبية لملعب بلدي، فيذهب العشب إلى الجحيم. والسؤال الذي يعوم فورا: لم كل هذا التكلّف في حين كان يمكن أن يكون الأمر أسهل بكثير؟ هل حقا فرحة ثلاث ساعات تستحقّ هذه الجهود الجبّارة؟ وهل هذا العمل هو في رأس سلم أولوياتنا وكل ما عداه فهو في أحسن حال؟

إن من يقيمون المهرجانات الماجنة ليل نهار يتورّعون من المبالغة في الإنفاق المادي على منصّة، فما بالنا صرنا أكثر إسرافا منهم؟ أم لأن ذلك في سبيل الله وبإسم الدين فيجوز لنا المبالغة في الإنفاق؟ وهل كان الإنفاق الذي أُمرنا أن لا نسرف فيه وألا نقتر لغير الله؟ لا بل كله عمل لأجل هذا الدين في أصله، ولكن عليه أن يحافظ على روح الإسلام الوسطي المعتدل. ثم إن فقه الأولويات يحجمنا عن هذه المبالغة، لأن الأمراض والمشاكل كثيرة ومتنوّعة في هذا العصر، فكم من طالب علم لا يجد من يُعيله، وكم من عائلة تفتقر إلى حاجاتها الأساسية، وكم من قرية تفتقر إلى أبسط المرافق الحيوية مثل الحدائق العامة والملاعب التي تبعد الأطفال عن خطر الشوارع، وكم من قرية تعاني من مشاكل في الصرف الصحي ومن مشاكل وصول مياه صحية، وكم من شاب لا يملك مالا ليتزوّج، وكم من يتيم مُعدم، وكم من مشاكل تجثم على قلوب الناس!

سيقولون لك: نحن نعطي كل أمر حقّه، ولكن جوابهم هذا يُنقض ببساطة: فهل فعلا يُلبّون حاجات الناس الأساسية؟ لو كان الأمر كذلك لما رأينا ما نرى كل يوم من حالات تقشعّر لها الأبدان، ومن يزعم أنه لم يرَ فالحل أن يفتح شباك غرفته وينظر إلى الخارج، لينظر إلى شوارعنا البائسة ولينظر إلى مدارسنا المحطّمة وليسمع شكاوى الناس ومتطلباتهم.

وربما سيقولون: كل مصروفات المهرجان كانت من تبرّعات أهل الخير! إنها شهادتكم على أنفسكم وهي ليست لصالحكم! إن أموال الناس ليست لعبة ولا يمكن لأموال الصدقة أن تُستثمر في غير حاجة الناس وفي غير ما أمر الله به ورسوله، إنما ينبغي أخذها من الأغنياء إلى الفقراء وإلى أعمال خيرية يدوم نفعها على الناس، وليس لبناء منصّة لا تستقيم ثلاث ساعات! لربما يكون عملهم ضربا من ضروب التقليد أو المباهاة وكلاهما ليس ينفع لأن المطلوب هو الأصالة في الفكر والتنفيذ وأيضا الإعتزاز والإعتداد.

خلاصة القصد أن نفكّر بغائية قبل التنفيذ، ولا يجب أن نكون عفويين أو إعتباطييين في إقامة مهرجان، إنما أن نفكّر في كل أمر سنضيفه: هل فائدته تعدل ثمنه؟ أم أن فائدته لا تكاد تُذكر وثمنه باهض؟ وهل هناك إمكانية لتقليل المصاريف مع الحفاظ على نفس الميّزات؟ أكاد أجزم لك أن الجواب على السؤال الأخير هو إيجابي ولكن علينا ألا نرتدع من التساؤل والبحث فهذا من ضمن الأخذ بالأسباب.