12.10.12

عرض لروايتين: القوقعة - يوميات متلصص، شرفة الهذيان

القوقعة: يوميات متلصّص/ مصطفى خليفة
إن قوة الكلمات وأثرها لشي عجاب، فمن كان يتصوّر أنه سيرى فيلما من خلال كلمات سوداء على ورق أبيض؟! وما أفظعه من فيلم! والأفظع من ذلك أنه ليس من نسج الخيال، بل هو من وحي الواقع!
إنها الرواية التي تصدمك في كل صفحة أكثر وأكثر، فما أشدّ تشويقها رغم فظاعة المشاهد! إنها الرواية التي تضعك مقابل الحقيقة وجها لوجه، وتترك لك مسؤولية مواجهتها والتعايش معها!
 
فكلنا سمع بالسجن وأساليب التعذيب المختلفة، لكن أن يصف لك أحدهم أدقّ التفاصيل في رحلة العذاب فهو الجديد هنا. والسؤال الذي يسطع فورا: كيف لإنسان أن يقترف هذا الإجرام بحقّ أخيه الإنسان؟ كيف له أن ينهال عليه ضربا بخمس مائة سوط؟ كيف له أن يشنق ثلاثة أبناء مقابل أبيهم المسكين؟ كيف له أن يجبرهم على التعرّي في أشدّ الليالي بردا ومن ثم يرشّهم بالماء البارد؟ كيف له أن يقذفهم بأبشع الكلمات وينتهك أعراضهم؟ كيف لإنسان أن يسرق إنسانية أخيه الإنسان؟ بل كيف له أن يسرق حياته؟
 
وبما أن الإنسان يبحث عن تفسير لهذا الإجرام العصي على الفهم، فإنني أقول أن الدخول إلى وظيفة سجّان أو مسجون يدفع بالإنسان إلى الدخول إلى عمق الوظيفة، مما يجعله يفعل أشياء لم يكن يتوقّع يوما أن يفعلها، فيتحوّل الإنسان إلى سجّان وحشي جلّاد منتقم، في حين يتحوّل الإنسان الآخر إلى مسجون مقهور ذليل مُسلّم بالظلم والقهر، وهذا ينسجم مع تجربة السجن المشهورة التي أجراها الباحث زيمباردو.
 
بطل الرواية العائد إلى وطنه مسرورا، يُستقبل على أيدي أجهزة الأمن ليُلقى في السجن لمدة أكثر من اثني عشر سنة من دون سبب يُذكر، ومن دون أن يُسمح له بالاعتراض على القرار أو حتى اسماع ما لديه أو حتى الدراية بتهمته! وتزداد قوقعته انغلاقا في السجن حينما يقاطعه أغلب المسجونين لأنه مسيحي كافر وفقا لتعبير أحد المتشدّدين، إلا أن المثير في الأمر أن القوقعة التي فُرضت عليه في السجن رغم أنفه، ما تلبث إلا أن تصير اختياره بعد خروجه من السجن، فلنا أن نتخيّل حجم الذلّ والعذاب والتحطيم النفسي الذي لقيه بطل الرواية في يومياته التعيسة. تحفظّي من هذا الكتاب هو على الكلمات النابية التي لسنا بحاجة لسماعها لتخيّل مدى الإذلال، وكذلك على استغلال تعاطف القارئ مع المحنة لعرض إشارات إلحادية وتشكيكية بوجود إله.
 
رواية شرفة الهذيان/ ابراهيم نصر الله
رواية لا تخرج منها بشيء يمكن صياغته سوى مشاهد متقطّعة تلفّها أغطية من الغموض. لكنّ الكاتب رمى بذلك إلى هدف وهو تجسيد حالة الاغتراب المرّة التي باتت تحتلّ مساحة شاسعة في الروح العربية منذ حرب الخليج الأولى، مرورا بالظلال القاسية لما آل إليه الحال الفلسطيني وصولا إلى مرحلة ما بعد 11 سبتمبر واحتلال العراق. وقد برع الكاتب في هذا الجانب فلا تواصل طبيعي بين أبناء العائلة الواحدة، وإنما مجرّد هلوسات يتخيّل فيها الأب أنه قتل عائلته، وعصفور يستحوذ على عقل الأب خوفا من الكلب الذي تريده العائلة، مما يعكس مدى التفاهة والسذاجة، ولا تواصل طبيعي بين الجيران، فكثيرا ما ينتهي الحديث بجملة: "ما الذي تعنيه بكلامك هذا؟ أرجو أن تقول لي بصراحة ما الذي تعنيه إن كنت تعني شيئا بكلامك هذا؟!"، حتى مكان العمل غير طبيعي فما شأن السطح وما شأن جهة الغرب التي يُمنع الموظّف من النظر نحوها؟ ما بدأ غامضا يبقى إلى آخر الرواية غامضا بل ويزداد غموضا، وما بدأ من مشاهد يبقى مع نهاية مفتوحة، لذا يخرج القارئ بشعور بفراغ وعبثية وكأنه لم يحصد من الرواية شيئا. ولولا بساطة كلمات الرواية وتسارع أحداثها لما شدّتني إلى إنهائها.
 
في غلاف الرواية نجد الجملة التالية: "في هذه الرواية يجمع نصر الله ملحمية بريخت وعبثية بيكيت ويدفع بالكتابة الروائية إلى منطقة جريئة لم يسبق للرواية العربية الحديثة أن ذهبت إليها"، وفعلا لم نعتد رواية عربية بهذه العبثية المقصودة، ولهذا كان عنوانها ملائما لمحتواها وبشدّة، فكلها هذيان.