22.7.14

تأمّلات في القُرب


لنفرض أن شخصين بدءا يقتربان من بعضهما وزادا في القُرب بشكل ملحوظ، الى أن زالت كثير من الحواجز والتكلّفات الاجتماعية بينهما. هل سنرى تفرّغا من أحدهما للآخر طوال الوقت؟ بمعنى، هل يمكننا القول أن الأول اذا طلب الثاني، فإنه حتما سيجده في كل وقت؟! وهل يمكننا القول أن اذا أصابت الأول مشكلة فإنه سيجد الثاني كله آذان صاغية وسيحلّ له مشكلته بشكل حتمي؟! وهل يمكننا أن نجزم أن كل فِعْلٍ من أحدهما، يأخذ بالحسبان مصلحة الآخر؟! وهل يمكننا أن نجزم أن لن يحدث أن يضرّ أحدهما بالآخر؟! ماذا لو تمزّقت العلاقة؟! ماذا لو دخلت العداوة مكان المحبة؟! أيأمن الواحد على أسراره المكشوفة في هذه الحالة؟!

ولو تأمّلنا في أصدق علاقة انسانية في هذا الكون، في علاقة الأم بولدها، لوجدنا أن فيها بُعدا معيّنا لا يمكن انكاره، فالأم هي الأم، والولد هو الولد. هذا البعد حيوي لمثل هذه العلاقة الانسانية، وهو يصبّ في انشاء كائنين بشريين مستقلّين. الأخصائيين النفسيين يتحدّثون عن انفصال الولد عن الأم. مالير (Margaret Mahler) تتحدّث عن ولادة جسدية وعن ولادة نفسية للطفل. في الولادة النفسية، ينتقل الطفل تدريجيا من الحالة التي يشعر فيها أنه ممزوج مع أمه الى الحالة التي يكون فيها تمييز بين شخصيتين منفصلتين، واللتان يجمعهما اتصال عاطفي متواصل. أي أنه رغم وجود الاتصال العاطفي المستمر والعميق، الا أنه يبقى هناك كيانين وشخصيتين بينهما بعد معين. هذا البعد رغم أنه صغير، الا أنه موجود! ولنا أن نفكّر أنه في كل علاقة بشرية تبقى هناك أسرار غير مكشوفة، وتبقى هناك مصالح، ويبقى هناك بُعد معين!

لكن اذا تأمّلنا علاقة الانسان بخالقه، وجدنا فيها ما لا ينوجد في أي علاقة انسانية. عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: "قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْي فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا". انه الخالق العظيم، الذي يمكننا أن نجده في كل وقت وحين، في كل مكان. في الليل كما في النهار. وقت الضراء كما وقت السراء. وحاشاه أن يقول لنا – كما يفعل البشر - أن لا مجال لمناجاتي في لحظة معينة! انه جلّ في علاه الذي قال في كتابه العزيز: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون". ان سمائه مفتوحة لنا على الدوام وهو غني عنا، وأرض قلوبنا نُغلقها أحيانا كثيرة ونحن محتاجون اليه على الدوام! ومع ذلك فهو لا يرفضنا وانما يدعونا اليه! "أوحى الله إلى داود عليه السلام فقال: يا داود لو يعلم المدبرون عني انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي ولتقطعت أوصالهم لمحبتي، يا داود هذه إرادتي بالمدبرين عني فكيف بالمقبلين علي" (الإحياء). وليس التعامل مع الخالق كالتعامل مع البشر، فالإنسان يضع حدودا (مصرّح عنها أو مفهومة ضمنا) اذا ما ازداد الاقتراب، أما في علاقة العبد بربّه، فإن العبد كلما تقرّب الى ربه، اكتشف أن بإمكانه زيادة القُرب أكثر، ولم يرَ حواجزا وانما على العكس قبولا ونشوة. روى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال: "إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة".

انه الخالق المطّلع على سرّنا وجهرنا، على ما أعلنا وما أخفيا، على تفكيرنا، على قلوبنا، على أحاسيسنا، على تصرّفاتنا. اننا مكشوفون بالكامل أمام خالقنا، ومع ذلك لا نشعر أن ذلك يُهدّد أمننا، وانما على العكس فإن هذا يطمئننا من جهة (اذ هناك من هو مطّلع على همومنا ومشاكلنا) ومن جهة أخرى يُثير فينا قلقا وجوديا طبيعيا (نظرا للمراقبة الإلهية الدائمة). اننا نتوجّه الى خالقنا بمشاعر مختلطة، مشاعر الرغبة والرهبة، رغبة برحمته وعدله، وخوفا من غضبه وعذابه! ورغم أننا نتوجّه الى القادر على كل شيء، الى القوي، الى القاهر، فإن مشاعر الرهبة لا تمنعنا من الرغبة، اذ لا ملجأ ولا منجا منه الا إليه! ولأننا نؤمن أنه لن يضرّ بنا حاشاه (وانما على العكس يريد أن يُسعدنا وينجينا من الهلاك)، فنحن نشعر بطمأنينة وأمان أكثر كلما زدنا في القُرب منه.