19.7.14

تأمّلات في العمل الصالح


كل انسان، مؤمن كان أم مُلحد، مسلم كان أم غير مسلم، يمكنه أن يعمل أعمالا صالحة، كمثل، اطعام الفقير، مرافقة الكفيف، اماطة الأذى عن الطريق وغيرها من الأعمال التي يتفق جُلّ الناس ان لم يكن كلّهم على صلاحها، حُسنها وجمالها. انها أعمال تحظى باحترام وتوقير المجتمع، كما أن فاعلها يحظى بردّ فعل ايجابي من مجتمعه. بعض الناس يفعلها ليتحصّل له هذا الاحترام والتوقير، أي المكانة الاجتماعية بين أبناء مجتمعه. البعض الآخر يفعلها ليشعر أنه شخص جيّد، وليستمتع بذاك الشعور الجميل الذي يُخلّفه العمل الصالح. وهناك من يؤمن بمبادئ معينة ويتشبّث بأخلاق عالية، ولذا يعتبر مساعدة الآخر على سبيل المثال ضرورة يصعب عليه تخطّيها.   

إلا أنه عندما نُضيف الجانب الديني فإن دائرة العمل الصالح تتوسّع، وتُضاف لها معاني جديدة. ان الدائرة تتوسّع لأنه تُضاف أعمال أخرى الى العمل الصالح، كمثل، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج والعبادات بمجملها. كما أن دائرة أهداف الأعمال الصالحة تتوسّع، اذ هي لا تبقى حبيسة النظرة قصيرة الأمد، وانما تتجّه العيون بالأساس الى الهدف طويل الأمد، الى العالم الأخروي، الى عالم البقاء. انه لا يبقى همّ عامل العمل المكانة الاجتماعية ولا الشعور الجميل اللحظي ولكن همّه الأساسي يتجّه الى ارضاء خالقه سبحانه وتعالى. اننا لا ننكر الأهداف المرحلية ولا نُقلّل من قيمتها، ولكننا نضعها في مكانها، اذ صحيح أن الشعور الجميل اللحظي هو شيء جيد وهو نوع من مكافأة أولية على العمل الصالح، ولا مانع من أن نستمتع بهذا الشعور، ولكن الذي يجب أن يقف أمام ناظرينا طوال الوقت هو تلك الغاية السامية التي خُلقنا من أجلها. ربنا جلّ وعلا يقول: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات، 56). ان هذه الآية تدفعنا الى الوقوف على تعريف العبادة. ابن تيمية يُعرّف العبادة على أنها: "اسم جامع لكل ما يُحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". ابن القيم يُعرّفها على أنها: "غاية الحب لله عزَّ وجلَّ مع غاية الذل له، التي تحث على العمل لطاعته، والانزجار عن نواهيه". أي أن العبادة لا تنحصر في العبادات والشعائر، وانما يدخل فيها العمل الصالح بكل أنواعه وكل الأعمال المُباحة اذا ما رافقتها النية. ان الحياة تُضحي كلّها لله، فالأكل، النوم، الجماع، التعليم، العمل، يصبح كل ذلك عبادة، ان كان على منهج الخالق وخالصا لوجهه. ان الحياة تُضحي ملآى بالأعمال الصالحة. "العمل الصالح لا يُقْبَل إلا إذا كان خالصاً وصواباً. خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السُنَّة" (النابلسي).

ثم ان بين العمل الصالح والايمان علاقة متبادلة، اذ أن الايمان يؤثّر على العمل الصالح وتأثيره كبير، وكذلك العمل الصالح يؤثّر على الايمان. ان التأثير الأول يظهر، لأن الايمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل، فالعمل الصالح حلقة تُكمّل الايمان. ان القصة تبدأ بالإيمان، اذ أنه موجود منذ لحظات الانسان الأولى متمثّلا بالفطرة. لذلك فإن العمل الصالح يتبع الايمان. يقول تعالى في مواطن عديدة من الذكر الحكيم: "الذي آمنوا وعملوا الصالحات". انه التغيير الداخلي الذي يعقبه تغيير خارجي، انها الثورة الداخلية التي تعقبها ثورة خارجية، وهذا ما ينسجم مع روح هذا الدين وروح هذا القرآن. "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد، 11). أما التأثير الثاني (تأثير العمل الصالح على الايمان) فهو أشبه بالأثر الرجعي (العائد) الذي تتركه الأعمال الصالحة على صاحبها. انه عندما يتبرّع الواحد لبناء مؤسسة عامة ويرى الفائدة والتيسير الذي جلبه عمله الصالح للناس، فإن ذلك يترك أثرا فيه، أثرا يزيد من شعوره الايجابي، أثرا يرفع به ايمانه. واذا ما أردنا أن ندمج التأثيرين فإننا نخرج بسلسلة مُركّبة بعض الشيء. هذه السلسلة تبدأ بالفطرة أي بالإيمان الأولي واقامة الشعائر لا تنفكّ تُنمّي هذا الايمان كلما ضَعُفَ، كما أن الشعائر هي أجلّ الأعمال الصالحة لأنها تدفع الى الأعمال الصالحة الأخرى (في شتى مجالات الحياة). فالفطرة أو الإيمان الأولى يدفعان الى اقامة الشعائر (أجلّ الأعمال الصالحة)، واقامة الشعائر تُلقي بأثرها على الايمان (ترفع نسبه)، مما يدفع الى مزيد من الأعمال الصالحة، ومن ثم تُلقي هذه الأعمال بأثرها على الايمان وهكذا فإن هذا التفاعل المُتبادل المركّب لا يعرف نهاية. واذا ما تذكّرنا مفهوم العبادة العام (كما عرّفناه أعلاه)، فهمنا أن هذه السلسلة يمكنها أن تندمج مع حياة كل واحد منا، فالعبادة لا تشتمل فقط على الشعائر، والعمل الصالح لا يشمل فقط انفاق الأموال، وانما الأعمال الدنيوية التي يمكن أن تبدو لنا وضيعة يمكنها أن تدخل في دائرة العبادة والعمل الصالح. يقول صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحـدنا شهوته ويكون لـه فيها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر".