30.11.11

إسلام لايت أم رهبانية مبتدعة ؟!



في ليلة من ليالي آخر الربيع حدث أمر جَلَل وخطب أثار حماسي وحرّك الدمّ في عروقي حتى نسيت جسدي لوهلة ورحت أبحث عن روحي في متاهات المستقبل ، تركت كلي وذهبت لأبحث عن أجزائي التي تناثرت هنا وهناك ، نظرة يمنة فلم أر إلا حائطا أبيضا عُلّعقت عليه بعض الرسومات الفنيّة ونظرة يسرة فلم أجد إلا سريري ينتظرني لنتبادل دفء الحرارة فيما بيننا ، لكنّي بقيت أغلي وكأنّ من تحتي موقد نار أو كأنّ الشمس خدعت الليل وجائت على غير ذي موعد فكانت فوق رأسي قاب قوسين أو أدنى . دقّات القلب تُنذر بوحش قريب أو كارثة تقترب أو طارئ يستدعي النهوض ولكنّي ما زلت مكاني ، العين أعلنت تضامنها مع طبقات الجلد لتنهمر مني الأمطار بغزارة فتُسقي الأرض العطشى ولكنّي ما زلت مكاني ، الأذن صارت تلتقط أمواجا صوتية غير مألوفة والعين صارت تصوّر أفكاري ونسيت ما تراه آنذاك ولكنّي ما زلت مكاني . لكن ليس هذا الوصف غريب ! إنما الغريب أن ترى الناس من حولك ضاحكون أو سامدون أو نائمون أو لربما يقبّلون أو يتمايلون أو يُضاجعون في هذه اللحظة الحاسمة بالذات ! ولكن أين عقلي ؟! لا بل أين صوابي ؟! هل نسيت أم تناسيت أننا في زمان الغرباء ؟! عفوا يا عالم الأنس فكما يبدو أنني أنا الغريب هنا ولربما خُلقت لزمان غير زماني ولربما لم أستطع التأقلم بوتيرة عصر السرعة ! نعم يا شيطاني ولكنّ الأمر جلل فهل يُعقل أن ينخسف القمر دون أن ينخسف حالي ثم إنّ هذا هو غاية الإنسجام مع طبيعة الكون ؟! خسوف القمر أفزعني وأقلقني وصرت عندها أضرب أخماسا بأسداس ولكنّه لم يفزعني عبثا ، إذ أنّنا لا نعرف للعبثية طريقا ولكنّه أفزعني إلى الصلاة ! القمر آراه ينخسف أمام عينيّ وأنا ما زلت مكاني تائهٌ بين صلاة العشاء وصلاة الخسوف ، إلا أنّ الهاتف لا ينتظر كثيرا فيفزع مع فزعي لأنه يخاف لربما عليّ أو لربما هو يحمل فزع آخرين . يكلّمني أحد الشباب الفازع كما يبدو ويُغذّيني بفزع آخر ويدعوني لنصليَ صلاة الخسوف في الخارج !
أنا : ولكنّي لم أصلِ فريضة العشاء بعد ؟!
الشاب الفازع : لا حرج أخي في الله ، أهم شيء في هذه اللحظة هو صلاة الخسوف ، صلاة العشاء لها متّسع من الوقت !
أنا : ولكنّي أخاف من ويلِ المصلين ؟!
الشاب الفازع : لا تخفْ ! أنا أُفتيك . هيا بنا نسرع ، الوقت يداهمنا !
يبدو أنّ الفتوى صارت مهنة يحترفها القاصي والداني ، الجاهل والعالم ، الصغير والكبير ، كيف لا ونحن في عصر الثورة المعرفية والثقافية ؟! لم أُطل النظر في القضية مع أني أكره الطاعة العمياء ، إذ أنّ رجلاي سبقتاني إلى موقع الحدث فرأيت الشباب الذين أقصدهم من بين كثير ، حيّيتهم وبادلت بعضهم أطراف حديث مختصر ولكنّ الجوّ كان باردا جدا ! ولبُعد نظر شعرت أني لن أصمد بلباسي هذا في مثل هذا الجو البارد مع أني كنت دافئا من فزعي في حينها ! رجعت ويا ليتني بقيت راجعا وعُدت ويا ليتني بقيت عائدا إلى وطني ولكنّ فزعي لم يسمح لي بالنكوص أو أن أوّلي دُبُري ، فلبست ما لبست ونزلت مرة أخرى لنصلي ولكن لسوء حظّي أو لإنعدام حسن التخطيط وجدتهم قد بدأوا يناجون ربهم والمصيبة الكبرى أني لا أعرف كيف هي صلاة الخسوف ! قلت أنها ستكون صلاة عادية مثل باقي الصلوات ولهذا بحثت عن مكان مستو في أرض الحصى ، ثمّ كبّرت ربي ورحت أحاول الخشوع وأنا منصت لقراءة الإمام . ولكنّ الخشوع الذي تولّد في الدقائق الأولى أخذ ينطفئ وحرارة الإيمان بدأت تبرد والفزع الذي حوته نفسي صار يتطاير رغم أن القمر ما زال ينخسف ، فما الخطب ؟! نعم إنه الريح العاصف بعثر فزعي وذاك البرد القارس خفّض حرارة إيماني وأرض الحصى المائلة أطفئت خشوعي وصرت أفكّر لماذا تركنا الدنيا كلها وجئنا إلى هذا المكان اللعين ؟! هل الصلاة هنا وفقط هنا تجوز وفي أماكن أكثر راحة واطمئنانا هي خالية من الإخلاص ؟! ألم يسخّر الله لنا الأرض كل الأرض مسجدا ومصلّى ؟! لماذا نضيّق على أنفسنا ونهلكها وكأننا نريد أن نُعلن أننا قادرون يا رب على كل شيء ؟! أليس هو الله وحده هو القادر على كل شيء ؟!
ويستمر الإمام يقرأ وتطول قرائته وكأنّه استمخّ لهذه الأجواء الحيوانية ، والبرد قارس والريح عاصف والحصى جارح وعندي غدا امتحان في جامعتي ! ويركع الإمام بعد طول أمل ويطول ركوعه وأحتار ماذا أقول فقد تجاوزت الألف تسبيحة والإمام راكع والبرد قارس والريح عاصف والحصى جارح وعندي غدا امتحان في جامعتي ! ويعود الإمام ليقرأ وتطول قراءته وتملّ نفسي وأفكّر بالخروج من الصلاة إلا أنني أقول أننا سننهي بعد قليل وأن الله مع الصابرين وإنّ مع العسر يسرا ، والإمام ما زال يقرأ وهو منتصب القامة والبرد قارس والريح عاصف والحصى جارح وعندي غدا امتحان في جامعتي ! ويركع الإمام ركوعه الثاني ويطول كسابقه وتتشنجّ عضلات جسدي كلها وتُعلن أعضاء الجسم كلها الفلاس وأحتار ماذا أقول فأبدأ أستغفر وأسبّح وأدعو الله أن يعجّل فرجنا ، والإمام ما زال راكع والبرد قارس والريح عاصف والحصى جارح وعندي غدا امتحان في جامعتي ! وأستمر أكافح حتى النهاية ونسلّم بالكاد والكل يتضجّر سرّا والكل يصبح حمام مكة عند ساعة النقد والكل يصير كاظم غيظه ! فما هذه الرهبانية المبتدعة ؟! وهل نترك المساطب النظيفة والسجّاد الراقي والغرف الدافئة لنثقل على أنفسنا ونلقي بأيدينا إلى التهلكة ؟! ربما هي ليست تهلكة هنا ولكن ما هذا المنطق الأعوج ؟! وما هذا الفكر المشوّش ؟! هل نترك حضارتنا الإنسانية واختراعاتنا الحديثة من أجل التقشّف ؟! أم أننا نطمح بذلك إلى زيادة في الحسنات رغم التنطّع في الدين ؟! أم يطمح هؤلاء إلى تطبيق النهج النبوي كما كان في العصر الجاهلي ؟! ما هذا السخف وما هذا البعد عن الجوهر ؟! أليس حريا بنا أن نخرج من هذا التفكير السطحي لنطبّق سنة النبي كما هي ولكن مع دمج التطورّات العصرية ؟! أهم يزعمون أنهم يحبون رسول الله ؟! فإننا أيضا نحبه ونريد أن نطبّق نهج الإسلام ولكنّ ديننا لا يمنعنا من التسلّح بالجديد المعاصر ! أم هو إسلامنا إسلام لايت ؟! أم نحن نُميّع الدين عندما ندعو إلى الإستعانة بالإختراعات الإنسانية التي سخّرها الله لفائدتنا ؟! أم هو التخطيط الإسلامي ناقص ويحتاج إلى نظر ؟!
التخطيط الإسلامي هو نتيجة لعملية تفكيرية يُجمع عليها بعض الحاضرين عند الترتيب لأي عمل ، ولذا فإن كان هناك خلل في التخطيط فإنه يوحي إلى خلل بالمصدر وهو ما نقصده في هذه المقالة القصيرة ألا وهو الفكر الإسلامي .