2.7.14

تأمّلات في الفطرة


الفطرة هي "الخِلقة التي يكون عليها كل موجود أَوّلَ خَلْقِه" أو "الطبيعة السليمة لم تُشَب بعَيْب" أو "ما ركَّزه الله في الإنسان من قدرة على معرفة الإيمان" (معجم الوسيط ومعجم اللغة العربية المعاصر). ورغم أنها تعريفات من جهات مختلفة، الا أن ما يجمعها هو اشارتها الى تلك التهيئة وذاك الاعداد اللذان يُطبعان في النفس ويولدان بمولدها. انه المبنى الأوّلي الذي يمكنه أن يستقطب اليه مبانٍ أخرى تدعمه أو تدحضه، تقوّيه أو تُضعفه، تُحييه أو تُميته.

هذه الفطرة طبيعية وغير مكتسبة، لأنها تكون مزروعة هناك من لحظات حياة الانسان الأولى. ورغم أننا لا نراها ولا نلتقطها بحواسنا في الغالب، بحكم قدرة التعبير المحدودة لدى الطفل، الا أننا نرى تأكيدا لوجودها في النصوص الدينية. يقول تعالى: "أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم، 30). يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "إنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره، كما تقدّم عند قوله تعالى: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) (الأعراف، 172)، وفي الحديث: "إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم"". وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، إِمَّا شَاكِرًا، وَإِمَّا كَفُورًا".

ولعلّ ما سطّره العالم دين هامر في كتابه The God Gene: How faith is Hardwired in our genes""، والذي نشره عام 2004، هو محاولة أولية للكشف عن هذه الفطرة المطبوعة في الانسان. هامر يتحدّث عن أن الإنسان يرث مجموعة من الجينات التي تجعله مستعدا لتقبّل مفاهيم الألوهية والدين، وذلك ما يُعرف بـ "God Gene Hypothesis".

ان الانسان ينطلق الى العالم مع ارشاد هذه الفطرة وتوجيهها، ولربما ذلك لئلا يكون للناس حجّة على خالقهم أن لم يهدهم اليه. الا أن هذه الفطرة تنولد الى بيئة، مما يُعرّضها للاحتكاك بموجّهات بيئية، تبدأ عادة بتربية الوالدين والبيئة المحيطة، لتنتهي الى التأثيرات المجتمعية وتأثيرات العولمة والاعلام وما شابه. من هنا فهي مُعرّضة للتشويه أو للتنمية تَبَعا للبيئة المحيطة، ودرجة التشويه أو التنمية تختلف أيضا. فذاك الطفل الذي يولد لعائلة سبّاقة في عالم الإجرام، تتعرّض فطرته لتشويه عنيف. ذاك الطفل الذي يولد في بيئة تقدّس حقوق الانسان ولكنها تُربّي على الانفلات الجنسي، تتعرّض الى تشويه أيضا الا أنه أقل شدّة من الأول. ورغم أنه من المنطقي حفظ ما ولدته لنا الطبيعة وتنميته، بدلا من تشويهه وتدميره، اذ أن ذلك يتلاءم مع النمو الطبيعي للإنسان، الا أن المشكلة تكمن في أن هناك من لا يعترف بوجود مثل هذا المركّب الذي نُسمّيه نحن فطرة. 

فرويد على سبيل المثال لم يلتفت الى مركّب الفطرة، بل ادّعى أن الأنا الأعلى وهو الذي يشتمل على الضمير والأخلاق والمثاليات يتطوّر في مرحلة متأخّرة وهو بهذا المعنى مُكتسب. ان الطبيعة وفقا لفرويد لا تمنح فطرة ولا أخلاقا، ولكنها تمنح شيئا واحدا ووحيدا وهو الغريزة. هذا التوجّه ينسجم مع النظرة المادية التي لا تعترف الا بما تلتقط عبر حواسها، فالتصرّفات الغريزية البيولوجية يمكن رؤيتها عند الطفل. ان مجتمع فرويد هو الذي يوجّه للأخلاق والقيم، في حين أن الطبيعة تمنح الغريزة ومطلب اللذّة. أما نحن فندّعي أن الطبيعة تمنح الغريزة وتمنح الفطرة الى جانبها (يقول تعالى: "فألهمها فجورها وتقواها")، والمجتمع هو الذي يوجّههما، فهو (المجتمع) يمكن أن يثير الغريزة ويضعف الفطرة، وكذلك يمكنه أن يضبط الغريزة وينمّي الفطرة. ولأن هذه الفطرة كلها حسن، فإننا نسعى الى احيائها والدعوة الى تنميتها منذ سنوات الطفل الأولى عبر التربية، بعكس ما تدعو اليه المادية التي تفطن لها في جيل متأخّر، وحتى وان فطنت لها فإنها لا تعيرها ذاك الاهتمام الذي يليق بقدرها. ولكننا نقول أن الطبيعة تبقى حيّة بدرجة معينة، مهما فعلت البيئة لاستئصالها أو لمحقها، وكما أن فرويد يقول أن كبت الغريزة لن يدوم وأن الطبيعة لا بد لها أن تنتصر، فكذلك نقول أن الفطرة لا يمكن أن تُكبت طويلا، ولا بد لطبيعتها أن تنتصر.