29.9.12

نزهتي في شوارع العقل: تلخيص لكتاب نزهة في شوارع العقل/ وائل عادل


لن أصفّق تصفيقا حارّا للكتاب لأسنح الفرصة للنقد للخروج إن أراد، ولكنّي سأصفه بالكتاب المليء بالأفكار، المقتضب في لفظه، المؤثّر في طرحه لأنه يعرض علينا الحدث الذي ينطلق من الواقع، ومن ثم يتسائل القارئ ماذا سيقول لنا الكاتب من خلال هذا المثال، لتتضّح الصورة الكاملة بعد صفحات قليلة. الكتاب ينقسم إلى فصول عدة ولذا سأذكر تعليقي على كل فصل على حده:
1- فصل "نزهة في شوارع العقل": إنه طرح رمزي لقضية الحجر على العقول ومن ثم قتل الأفكار الخلّاقة، مما سيؤدي حتما إلى قتل الفعل الإبداعي، وفعلا كثيرا ما نلمس تقييدا كهذا عندما يتكلّم بعض المشايخ عن كل تحديث وكأنه بدعة!
2- اكتشف عالم النقطة: كثيرا ما يغفل الإنسان عن جانب معيّن في الحياة لأنه لا يطيق الإحاطة بكل شيء، فترى أحدهم لا يعير النوتات الموسيقية أي اهتمام لأنه لا يفهم رمزها، أما الموسيقار فإنه يفهمها ويتفاعل معها ويترجمها إلى عمل، وكذا كل تخصص فالميكانيكي ينظر إلى السيارة نظرة الباحث عن الخلل بين تفاصيل أجزائها، أما الإنسان العادي فينظر إليها نظرة المستكشف.
3- تراشق الأسئلة: يريدنا الكاتب أن نبحث عن الأسئلة حولنا، لأن ذلك يساعد على تطوير التفكير.
4- أُذُنك في بطني: التجربة هي التي تقرر إن كان التفسير الذي أعطيناه للظاهرة صحيحا أم لا، حتى المسلمات يفحصها العلماء.
5- فلنقاتل اللحوم: الحقيقة المرة خير من الوهم المريح.
6- التصفيق الحار: المدح والوصف الشاعري يمكن أن يؤدّي إلى فقدان العنصر النقدي أثناء تصوير الواقع ولذا يجب الحذر.
7- ابدأ من الصفر: حياتك هي لك وحدك ولك حرية الإختيار فاجعلها كما تريد، أي إبدأ من الصفر دون موروثات غير مرغوبة لك، ومن الحري بك أن تأخذ بجهد من سبقوك، لأن المجتمع يبني نفسه عبر الأجيال عبر خطوات تراكمية.
8- "السوستة" مفتوحة: الأخطاء مهما صغرت أحيانا تكون قاتلة في مجتمعات تسعى لأن تكون الأفضل، لأن حجم التوقّعات يتفوّق على الواقع، أما في مجتمعات متأخّرة فإن وجود الصواب بين وابل من الأخطاء يكون إنجازا عظيما.
9- سينما دورة المياه: لا ينبغي الإستغناء عن المشروع الأساسي ولا ينبغي تغيير أهداف المشروع الأساسية بسبب الإستكفاء والرضى بتحقيق مشاريع داعمة وفرعية ونجاحها.
10- استراتيجية الذبابة: مقاومة الظلم يمكن أن تتم على مستوى الأفراد وذلك عندما يطفح الكيل ولا يجد الفرد من يدعمه في مقاومته للظلم، لكنّ المقاومة الفردية يمكن أن تكون عواقبها وخيمة رغم أنها يمكن أن تحمل نتائج عظيمة (البوعزيزي في تونس).
11- الأنابيب الشرعية: الشرعية هي ما يُفرض عليك من قوانين ويمكن أن تكون جائرة أو ناقصة، ولذا فإنك تحتاج إلى شيء آخر ألا وهو المشروعية، فمقاومة ظلم القوانين هي مشروعية وليست شرعية. لا ينبغي أن ينحصر تفكيرنا بالشرعية.
12- مسطول: قراءة الواقع بصورة خاطئة يمكنها أن تودي بالشخص إلى عرقلة نفسه بنفسه، وإلى نصب الحواجز في طريقه دون قدرة على تفاديها.
13- المتفاجئون على الطريق السريع: من الطبيعي أن يتفاجأ المجتمع من أزمة مستجدّة خاصة إذا كانت شيئا خطيرا، ولكن الغريب أن نجد من المجتمعات من يألف الأزمة فلا يُحاول تغيير الواقع رغم الأضرار المتكرّرة، ولكن كما يبدو أن المجتمع يألف حتى الأضرار المتكرّرة بسبب نفس الأزمة.
14- فلنحفر السماء: القائد هو المنفّذ والمفكّر هو من يمدّه بالأفكار (يمكن أن يجتمعان في شخص واحد). حفر السماء يرمز لأرقى درجات الإنسانية لأنه يختص بعالم الأفكار والعالم الروحاني، وليس ينحصر في عالم الأشخاص أو الأشياء. 
15- خربِش الواقع: الإقتحام الحذر للواقع بمعنى أن تصب أفكارك على الواقع، ولكن عليك أن تستمع أيضا إلى ردة فعل الواقع وإلى توجيهه وإرشاده مما يمكّن من تحسين الأفكار، وهذا ما نسمّيه تجربة حياة.
16- انتشروا: البحث عن حل يمكن أن يكون في البداية مبعثرا، ولكن إذا اشترك الهدف وتوفّرت الظروف المناسبة فإن كل المحاولات ستصبّ في مكان واحد وستجتمع كل الجهود.
17- أنا تُهت: عندما ندرك أننا في المسار الخاطئ نحن بحاجة إلى ثورة أي إلى تغيير جذري، أما إذا كنا في المسار الصحيح ولكن ينقصنا خطوات لنصل إلى الهدف فإننا بحاجة إلى تغيير تدريجي.
18- رقصة الأوتوبيس: مسؤولية التغيير ينبغي أن تكون مُلقاة على عاتق الأفراد وكذلك على المجتمع (أي السلطة)، فالسلطة عليها أن توفّر إحتياجات المواطنين الأساسية والمواطنون عليهم أن يحاولوا تحسين وتغيير المجتمع إلى الأفضل عبر أعمال تطوعية على سبيل المثال.
19- مغص عقلي: كبير السن يختلف بتفكيره عنا، فهي فترة ضعف يستعصي فيها على الكبير أن يستوعب الجديد، ولذا يجب أن نراعي الفجوة بين الأجيال، أما التمارض الفكري فهو الخطير لأنه يعني هرم الشباب في جيل مبكّر، فنرى عند الشاب رفضا لهمّة الشباب وثورتهم وكل محاولة للتغيير أو التجديد.
20- وحّدووه: لا تلق بمهمة جيلك الحالي على أجيال قادمة، وإنما اعمل على تهيئة ما ستقدّمة لأجيال قادمة، ليقدّموا هم بدورهم أشياء جديدة.

28.9.12

ثلاثية لغسّان كنفاني: عائد إلى حيفا، رجال في الشمس، أرض البرتقال الحزين

رواية عائد إلى حيفا/ غسان كنفاني

إنها الرواية التي توثّق نكبة 48 بأدقّ تفاصيلها وتجعلك تعيشها بمشاعر جيّاشة! إنها الذاكرة التي لم ولن تُنسى! إنها الأمل والألم معا!
سعيد ذاك الفلسطيني الذي طُرد من بيته ومن مسقط رأسه حيفا التي يعرفها كما يعرف أبنائه، يستجيب لنداءات زوجته المتكرّرة لزيارة حيفا بعد ترّدد كبير، إذ هل من جدوى من الرجوع كزائر إلى أرض الوطن التي سُلبت؟! لكنّ خلدون هو الشخصية المفقودة التي تُفجّر القضية، فكل الأمل الذي علّقه سعيد وزوجته صفية صار سرابا، وكل الألم الذين تكبّداه لأجله بان سخيفا وبلا معنى، فما بال خلدون مات وهو على قيد الحياة؟! وما باله نسي والديه ولم يُعرهما أيّ اهتمام؟! إلا أن خلدون الصغير صار "دوف"! وهيهات لـ"دوف" أن يرجع إلى أصله! ويصلنا من الرواية درسا مهما جدا ألا وهو أن نصرة فلسطين لا تكون بالبكاء على الذكريات التعيسة وإنما تكون بالتفكير في المستقبل والعمل الدؤوب للوصول إلى الهدف.
 
 
رواية رجال في الشمس/ غسان كنفاني
رغم أن بدايتها كانت بطيئة ورغم أن وسطها ارتكز على مشهد التفاوض حول ثمن التهريب، إلا أن النهاية هي التي فجّرت الأزمة فكانت مُحزنة ومُؤثّرة!
"
لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟" 
إنها الجملة الأخيرة التي صرخ بها أبو الخيزران: فهل هي تعني اليأس الذي سيّطر على الباحثين عن لقمة عيشهم؟ أم أن طيبتهم لم تسمح لهم بفضح أبي الخيزران؟ إنها حياة الشقاء والعذاب بكل معانيها، إنها الدقائق التي تفصل بين الحياة والموت، إنها تفاهة حديث رجال الأمن التي أودت بحياة ثلاثة من الأبرياء، إنها حياة المخاطرة والخروج على القانون بسبب ضنك العيش.

 
أرض البرتقال الحزين/ غسان كنفاني
هي مجموعة قصصية تصف الفلسطيني المهجّر الذي طُرد من أرضه على أمل الرجوع بعد فترة قصيرة، وقلبها كإسمها قصة بعنوان "أرض البرتقال الحزين"، فلا يبقى البرتقال ولكن تبقى ذكراه ولا تبقى الأرض ولكن يبقى التشريد واللجوء ولا يبقى الإستقرار والأمن ولكن يبقى الحزن. فيها بعض الغموض والرمزية التي تستعصي على الفهم أحيانا، وفيها بعض الإشارات الإلحادية التي تستغلّ المحن من أجل التشكيك بوجود الله، وهو ما اسماه الفلاسفة معضلة الشر.

ثورة في المساجد - الجزء الثالث

السيطرة الحزبية على المساجد هي بداية الفرقة ونهاية البعد عن الدين، وهي من دخول الدنيا المنبوذ بين المسلمين في مكان التعبّد والروحانيات، إنه ضرب للروحانيات بسوط من حديد. لذا فإن الواجب هو تحييد الحركات والمصالح الحزبية عن الأماكن الروحانية، لتستقرّ في مكان عملها الطبيعي ألا وهو الساحة المجتمعية الواسعة، فالمنابر لا ينبغي أن تُستغلّ لدعاية حزبية رخيصة، وحرام علينا أن نستغلّ المنابر للتفريق بدلا من الجمع! وهاكم المقترح الأولي والخطوات العملية التي أراها:
 
1- إظهار الخطأ في السيطرة الحزبية على المساجد للرأي العام، ورفع مستوى الوعي لضرورة التغيير من أجل العودة للمنهج النبوي الأصيل في التعامل مع الفرق المختلفة، وترسيخ مفهوم الأمة الواحدة وأواصر الأخوة والوحدة القلبية ولو اختلفنا في قضايا كثيرة.  
 
2- العمل على إنشاء مجلس أعلى يتولّى إدارة شؤون المساجد في كل بلد، حيث يتم إختيار أعضاؤه بالإنتخاب، وينبغي على الذين ينتخبون أعضاء هذا المجلس أن يكونوا مواطنين ممثّلين لعامة أهل البلد (يمكن أن يكونوا أعضاء المجلس المحلي)، ويضمّ هذا المجلس: رجال دين، أخصائي نفسي، أخصائي إجتماعي، مختص في اللغة العربية وآدابها، مختص في الصوتيات. ويكون على المجلس المُنتخب أن يختار من بين المُتقدّمين أئمة المساجد وخطبائها والمؤذّن والإدارة الخاصة بكل مسجد، ولا بأس أن يتمّ تعيين نائب للخطيب ونائب للإمام، ومن ثم الإشراف على حسن إدارة كل مسجد وآخر والمحافظة على إعادة إنتخاب الخطيب والإمام والإدارة كل فترة محدودة من الزمن. هكذا يمكن لأي خطيب أو لأي إمام يرى في نفسه كفؤا ولأي فرد عادي يحب أن يخدم دينه أن يتقدّم للوظيفة، وعندها نحافظ على إختيار الأفضل من بين الموجودين. إعادة الإنتخاب كل فترة من شأنها أن تُلغي الدكتاتورية التي سيطرت على مساجدنا، فترى الإمام يتشبث بالمسجد الذي وُلّي أمره حتى آخر أيام حياته ولا يهمه في ذلك إن ساء صوته أو قلّت حيلته أو كثرت تغيّباته عن صلاة الجماعة.
 
3- كل ذلك يهدف إلى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، فلا يُعقل أن يكون خطاب الخطيب متنافيا مع الواقع أو مع العلم أو هو في واد والواقع في واد آخر، ولذلك لا بدّ من النظر في أبعاد الخطاب الديني الإجتماعية والنفسية، ومن هنا كانت الحاجة إلى أخصائي إجتماعي وآخر نفسي، ولا يُعقل أن يؤمّ المصلّين من كان صوته نشازا لأنّ الجمال الصوتي مطلوب، والقرآن أولى بالجمال الصوتي من الأغاني الساقطة التي لا تحمل معنى فضلا عن فائدة، ونحن نعلم أيضا أن الجمال الصوتي ليس من أوّل المعايير التي تؤخذ بالحسبان عند إختيار الإمام (على أهميته)، ولذا كانت الحاجة إلى رجال الدين ليُحكّموا المعايير الشرعية. فلكلٍ دوره وهذه أمثلة تبيّن جزءا يسيرا من وظيفة كل متخصّص، فليس هذا تكلّفا ولا ترفا فكريا، وإنما هي حاجة لتحسين الخطاب الديني. 
 
4- الخطاب الديني وأهمّه ما يتجلّى في خطب الجمعة بحاجة إلى تحسين واضح لكل مثقّف، إذ كيف لخطبة جمعة في القرن الواحد والعشرين أن تفتقد حديثا عن العلم الحديث؟! إنه جُرم بحقّ المسلمين! ففي حين تباهينا أوروبا وأمريكا بالعلم وتصدّر إلينا معارفها وتستعمرنا بها، نقف نحن متجمّدين بعيدا عن سبل العلم في خطابنا، فنضيّع أحسن الفرص التي تجمع كثيرا من الناس (خطبة الجمعة)، وبالتالي نساهم في تجهيل شعبنا وأمّتنا. إنني أرى بخطبة الجمعة فرصة لتعليم الناس أمور دينهم ودنياهم، فكيف سنسبق أوروبا وأمريكا، إن كان مستوى الثقافة لدى شعبنا مخجلا، وكيف سنرقى إن كان عامة الناس لم يسمعوا بآخر ما توصّل إليه العلم الحديث فضلا عن أوّل ما توصّل إليه؟! سيقولون لك: عندها لن يفهم خطبتك أحد! وأنا أقول أنه مع التبسيط والأمثلة لن يستعصي الفهم على أحد بإذن الله، ثم إننا لا نطالب بقلب الخطبة كلها إلى فيزياء وكيمياء ومعادلات ومتغيّرات وإنما أخذ القليل الذي يدلّ على الكثير. إضافة إلى ذلك، فإن خطبنا تعاني من خلل في الأولويات، إذ كيف لنا أن نتكلّم عن الميراث ونحن ما زلنا غافلين عن المفاهيم الأساسية مثل الحرية والمساواة والعدل وما إلى ذلك من قيم؟! ثم لماذا يكتفي خطباؤنا بالنقل دون الشرح والتفصيل بما يتلائم مع واقعنا؟! ولماذا يكون ثلاث أرباع الخطبة قال فلان وقال آخر، في حين يتنكّر الخطيب لأقوال واقعه ولتحليله الشخصي وللثروة المعرفية التي تغمر مكتباتنا؟! لماذا لا يقتبس الخطيب أقوالا لمفكّرين جُدد؟! أسئلة كثيرة تُظهر لنا أن في خطابنا الديني الحالي خللا ينبغي الإنتباه إليه، وهذا لا يتمّ كما أرى إلا حين إختيار الشخص الأنسب من بين الموجودين.
هذا والله تعالى أعلم وأحكم ...     

25.9.12

علم نفس قرآني جديد/ د. مصطفى محمود


الفصل الأول من الكتاب هو الفصل الوحيد الذي يتلائم مع العنوان، ففيه ينتقد الدكتور مصطفى فرويد وزمرته أشدّ الإنتقاد، ويصف هذا التيار في علم النفس بأن علاجه سطحي ولا يتناول الجذور، وينتقد ماديته وتشديده على الجنس، ويضع الدين كمخالف له ويصل إلى أنه لا مرب مثل الرب. يمكننا أن نلمس منذ البدء أسلوب الدكتور القاطع الذي بواسطته يحطّم تحطيما من خالفه، وهذا لا يحُسب له وإنما عليه، فليس كل ما قاله فرويد هراء وليس كل ما قاله جواهر، فهناك التقسيم الذي وضعه فرويد إلى الواعي واللاواعي والقريب من الواعي، وهو ما يُثبته العلم الحديث، وهذا مثال واحد فقط.
 
خلاصة بقية الفصول تبتعد عن عنوانه لتتمحور حول ما اختصره بنفسه: "والخلاصة المفيدة لكل هذا أنهم يريدون ضرب الأسلام في مقتل، وأنهم قرروا استئجار الحثالة المجرمة من المسلمين لهذا الغرض". أما عن الدين فإنه يقول: "إن الدين ليس فقط ضرورة إجتماعية، وليس فقط أداة للسلام الإجتماعي، بل هو الماء والهواء لكل إنسان، وهو الركن الشديد الذي سنحتمي به ساعة الهول". ويتحدّث أيضا عن مكانة الإنسان العليا والكرامة التي أعطاها الله إياه عندما أمر الملائكة بالسجود له ومنحه روحا منه، ولكننا نبقى عاجزين ضعفاء أمام الملك والذات الإلهية. ويحدّثنا أيضا عن الخوف الجميل الذي هو الخوف من أن يظهر المكتوم، فإذا به على غير ما نرضى وعلى غير ما نحب وهو خوف يدفع كلا منا إلى إحسان العمل وهو خوف لا يتواجد إلا عند الأتقياء.

ثورة في المساجد - الجزء الثاني


هل الوضع سيئ إلى هذه الدرجة؟
بل أسوأ، وإذا سألتَ: كيف للمساجد أن تكون وسيلة للتفرقة في أيامنا؟! فإنني أخاطبك بخطاب الواقع البئيس الذي نسعى لإصلاحه، فالذي يُصلّي في مسجد الحركة الشمالية، لا يطيق المساجد الأخرى وروّادها، ويشفق عليهم لأنه يراهم مساكين إذ لم يفهموا الدين بالصورة التي فهمها هو، بل ولربما يشكّك في إيمانهم وإسلامهم، ويكاد يكون من المستحيل أن ترى من يُصلّي في مسجد الحركة الشمالية في مسجد الجنوبية، فلكل مسجد رجاله المعروفون، وإذا رآه الجنوبيون لربما سيفغرون فاهم لمدّة ملحوظة استغرابا ودهشة. أما أئمة المساجد فإنهم متعصّبون لفئتهم أكثر من الناس البسطاء! هل هذا معقول؟!
 
هؤلاء الذين نحسبهم قدوة يتعصّبون لفئتهم ولحزبهم ويتركون مصطلح الأمة الإسلامية في عالم الخيال؟! وأكثر من ذلك، فهم غير مستعدّين لمدّ جسور التواصل والتعاون مع إخوانهم من المشايخ أو الدعاة أو الأئمة إن لم يكونوا من فئتهم الضيّقة! ولو طلبت من أحدهم أن يُعلن عن مبادرة شبابية تهدف إلى خدمة هذا الدين وأهله فإنه غير مستعد، ولن يقبل أن يبوح بذلك على منبره لأنه لا يخدم مصلحة فئته! هل مصلحة الحزب أو الحركة مُقدّمة على مصلحة الدين؟! في قاموس هؤلاء هي مُقدّمة لأنهم لربما يحسبون أنهم الفئة الناجية فيجعلون مصلحة الدين ومصلحة فئتهم سيّان، ويا للعار عندما تدعو كل مشايخ البلد لأمسية إسلامية فيتغيّب خمسة مشايخ لسبب بسيط وهو أنها أمسية لا تخدم مصلحة حركتهم، ولربما حضورهم سيشكّل خطرا على كرسيّهم! إنها القيادة العليا التي تمنعهم وتستعبدهم وتتحكّم بحلّهم وترحالهم، فأنّى لهؤلاء أن يكونوا من قادة التغيير وأنّى لهم أن يكونوا عباد الله أحرارا! هذا هو الوضع الأسوأ الذي نتكلّم عنه، وبطبيعة الحال فالحديث لا يُعمّم على الجميع، لأنّ هناك من المصلّين والأئمة والدعاة من أدرك حقيقة وروح هذا الدين الشامل ولم ينسَ معاني الأمة الواحدة.
 
أين يكمن الحل؟
ما عرضته سابقا هو وصف للمشكلة ومحاولة لوضع الإصبع على الجرح المفتوح كي لا يستمرّ نزيفه، والمشكلة تحتاج إلى حل وربما يكون هناك عدّة إمكانيات لتحسين الوضع القائم، ولكنّي سأعرض الخطوات العملية التي يجب تنفيذها من أجل تحقيق الثورة من وجهة نظري للأمور وعلى أثر تجربتي الواسعة بحمد الله مع الأحزاب والحركات الإسلامية المختلفة. إن المسجد هو مؤسسة من مؤسسات الدولة وهو مؤسسة دينية وليست سياسية، ولذا فإننا نرمز من الآن إلى ضرورة إخراج الأحزاب السياسية والدعايات الإنتخابية من المساجد لأن هذا لا ينسجم مع الهدف الأولي للمؤسسة الدينية، وعلى أثر ذلك تبرز ضرورة إخراج الدعايات الحزبية والسيطرة الحزبية على المساجد وإن لم يكن الحزب سياسيا في رؤيته، وبإختصار، فإننا ننادي بفصل السياسة والمصالح الحزبية عن المساجد وأهم مظهر من مظاهر الفصل يكون بالمحافظة على إستقلالية المساجد وإدارتها على أيدي أناس تُنتخب.

24.9.12

القدس كما رأيتها !


 
"ما هذا الضجيج الصباحي؟ ماذا يجري؟ أهي هزة أرضية أم الحرب قد اندلعت؟" - هذا ما جال في خاطري لحظة استيقاظي على صوت صافرات الإنذار المُفزعة.
 
لكنها لم تكن صافرات الحرب ولا صافرات كارثة إنسانية مُستجدّة لا سمح الله ولا صافرات تدريب عسكري، وإنما كانت صافرات الكارثة القديمة التي يُسمّونها بالكارثة والبطولة أو بذكرى المحرقة، وكيف لن تؤرّقني والصافرة تحت أذني، وكيف لا تكون تحت أذني وأنا أقطن في سكن الجامعة العبرية. نعم هي ليست غلطة مطبعية فالجامعة التي درست بها للقبي الأول هي الجامعة العبرية ولكني ما زلت عربيا وأفتخر، وما زالت لغتي الأم لغة القرآن العربية وأفتخر.
 
أخرج من فوري من السكن لأبدأ نهاري الإعتيادي فأمرّ على بوابة الحارس النعسان ولا أسلّم عليه لأنه سيستغرب فعلتي إن فعلت! تظلّني أشجار عملاقة ويُزيّن دربي خَضارٌ عن اليمين والشمال والشارع الذي يرافقني في طريقي القصيرة إلى الجامعة مُعبّد، واسع ومَثَلٌ في النظافة والنظام، فالحافلات لها مكان مُخصّص على هامش الطريق وللسيارات أمكنة وقوف لا تُعدّ ولا تُحصى وللدراجات الهوائية مسلك خاص وللدراجات النارية موقف خاص وللمُعاقين منحدرات خاصة، والإستراحات والمقاهي على الطريق تجذب من كان طريقه أطول من طريقي ليُرطّب فمه وليُباهي في دلاله. عند مدخل الجامعة تدور السيارات من فرط إعجابها بالدوّار الذي تتوسطه حديقة من الزهور، ولكنّ رجال الأمن ينغّصون فرحتها عند محاولة مرور الحاجز الذي يفصل الجامعة عن خارجها، فيستقبلها الحارس "الروبوت" ببرود وملل ويخضّها خضّا قبل دخولها كنوع من التفتيش الأمني.
 
أحضر محاضرتين من ثلاثة، لأن صاحبي يسحبني من خلال مكالمته فيدعوني لأزوره فأنزل عند رغبته ومن ثم إليه. أبتعد عن الجامعة مسافة لا تتعدّى المئة متر وإذ بالتضاريس تتغيّر رأسا على عقب! يا إلهي! إن الشارع هنا بالكاد يتّسع لسيارة واحدة فكيف لو التقت سيارتان؟ وها هي فكرتي تظهر أمام عينيّ دون تردّد، فتلتقي سيارتان! والأنكى من ذلك أن الشارع منحدر انحدارا شديدا، فيتوقّف السائقان أمام بعضهما ويبدأ الواحد يُلقي بمهمة الرجوع إلى الوراء على الآخر، هل سيتنازعان؟ إلى الآن ما زالا يتصايحان فقط، إلا أن أحدهما يختصر الشر بعد أن رأى سيارة أخرى تصطف وراء المقابلة له، فألتقط أنفاسي وأحمد الله أن مشت الأمور على ما يُرام، ولكن يبقى السؤال: هل سيتكرّر هذا المشهد كل يوم ولماذا نتّهم الناس هنا بعدوانية زائدة إن كانت شوارعهم تخنقهم؟! أواصل سيري في الطريق الضيّق المائل المليء بالأوساخ وأشاهد الكتابات المندّدة بالمقاومة ترتسم على الجدران، والبيوت بطبيعة الحال تحتضن بعضها البعض! أهو حب من الله، أم هي ضيق معيشة؟ ولسنا بحاجة إلى دراسات عميقة لنكتشف سر التناقض بين منطقة الجامعة والجهة الأخرى التي لا تبعد عنها كثيرا، فالمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال، وهو ليس لجُرم ارتكبه الساكنون وإنما لأن من يسكنون في العيسوية هم عرب!

15.9.12

كتاب كلمات في الوسطية الإسلامية ومعالمها/ د. يوسف القرضاوي


يبدأ الكتاب بعرض تعريف عام للوسطية الإسلامية التي هي نفسها التوازن والإعتدال، إذ أنه لا يوجد منهج أو نظام يضعه بشر إلا وفيه من الإفراط أو التفريط، ولأن ظاهرة التوازن موجودة في الكون كله، فإنه من الحري بالرسالة الخالدة أن تحتويها وتنسجم مع توازن الكون. والوسطية تعني أشياء كثيرة منها: العدل، وتعني الإستقامة وهي دليل الخيرية وهي تمثّل الأمان وهي دليل القوة وهي مركز الوحدة.

أما مظاهر الوسطية فإنها تتجلى في وسطية الإسلام في الإعتقاد، ووسطيته في العبادات والشعائر ووسطيته في الأخلاق ووسطيته في التشريع، والوسطية تضمن التوازن بين الفردية والجماعية. أما أهم جزء في هذا الكتاب فهو الحديث عن معالم الوسطية الثلاثين والتي يلخّصها الشيخ القرضاوي في آخر الكتاب وإليكم ملخّصها:

1. الفهم الشمولي التكاملي للإسلام بوصفه: عقيدة وشريعة، علما وعملا، عبادة ومعاملة، ثقافة وأخلاقا، حقا وقوة، دعوة ودولة، دينا ودنيا، حضارة وأمة.
2. الإيمان بمرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، للتشريع والتوجيه للحياة الإسلامية، مع ضرورة فهم النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية.
3. ترسيخ المعاني والقيم الربانية، والتركيز على عبادة الله تعالى بوصفها الغاية التي خلق لها الإنسان، وهي تتجلى في الشعائر الأربع الكبرى، وما يليها من ذكر الله والدعاء والاستغفار، هذا بالإضافة إلى العبادات الباطنية: من صدق النية والإخلاص لله، والخشية له... وغيرها، وهي أساس التصوف الحقيقي الذي يقوم على (الصدق مع الحق، والخُلُق مع الخَلق).
4. فهم التكاليف والأعمال فهما متوازنا، يضعها في مراتبها الشرعية، ويُنزل كل تكليف منزلته وفق ما جاءت به النصوص؛ فلا يتقدم ما حقُّه التأخر، ولا يتأخر ما حقه التقدم، وهو ما أطلقنا عليه اسم (فقه الأولويات).
5. تأكيد الدعوة إلى تجديد (الفقه القرآني والنبوي)، وهو يضم عدة ألوان من الفقه المنشود: فقه سنن الكون، وفقه مقاصد الشرع، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الاختلاف، والفقه الحضاري، وفقه التغيير، وفقه الواقع، إلى جانب (فقه الأولويات).
6. التركيز على القيم الأخلاقية التي عني بها الإسلام، سواء كانت أخلاقا فردية أم اجتماعية، ورفض موقف الذين يعتبرون العبادات الشعائرية هي كل شيء، وموقف الذين يعتبرون الأخلاق كل شيء.
7. تجديد الدين من داخله، وإحياء مبدأ الاجتهاد الذي لا تحيا الشريعة إلا به، على أن يكون الاجتهاد من أهله وفي محله.
8. الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، مع ضرورة مراعاة الثبات في الأهداف والغايات وفي الأصول والكليات، والمرونة والتطور في الوسائل والآليات وفي الفروع والجزئيات.
9. تبني منهج التيسير والتخفيف في الفقه والفتوى، وإن كان ولا بد من التشديد، فليكن في الأصول لا في الفروع. والتيسير المطلوب هنا لا يعني تبرير الواقع، أو مجاراة الغرب، أو إرضاء الحكام.
10. تطوير مناهج الدعوة إلى الإسلام: للمسلمين تفقيها للتعاليم، وتصحيحا للمفاهيم، وتثبيتا وتذكيرا للمؤمنين وبيانا لحقائق الإسلام، وردا على أباطيل خصومه. ولغير المسلمين باعتبار دعوة الإسلام دعوة عالمية، مع تبني منهج التبشير في الدعوة؛ ليتكامل مع التيسير في الفتوى.
11. التدرج الحكيم: في الدعوة والتعليم والإفتاء والتغيير، وعدم استعجال الشيء قبل أوانه، والثمرة قبل نضجها. والتدرج سنة كونية كما هو سنة شرعية.
12. تأكيد الدعوة إلى المزج بين الروحانية والمادية، بين الربانية والإنسانية، بين العقل والوجدان؛ بحيث يأخذ كل جانب منها حقه، دون طغيان على الجانب الآخر. ومن هنا تتكامل العناية بالعبادة والثقافة والرياضة والفنون؛ فالعبادة تغذي الروح، والثقافة تغذي العقل، والرياضة تغذي الجسم، والفن يغذي الوجدان.
13. الدعوة إلى السلام مع كل مَن بسط يده للسلام، مع التمسك بفرضية الجهاد في سبيل الله للدفاع عن حرمة الدين والمقدسات، وعن المستضعفين في الأرض، والوقوف في وجه الفراعنة والمستكبرين في الأرض. مع ضرورة بيان أنواع الجهاد: النفسي والدعوي والمدني وغيرها.
14. توعية الأمة بأن الجهاد مفروض عليها فرض عين لتحرير أرضها من كل سلطان أجنبي مسلط عليها، وأول أرض يجب تحريرها هي أرض فلسطين.
15. الاعتراف بحقوق الأقليات الدينية ومعاملتهم بما أوجبه لهم الإسلام من تركهم وما يدينون، والتأكيد على أنهم من (أهل دار الإسلام)، ومقتضى هذا أنهم بلغة عصرنا (مواطنون)، لهم ما لنا وعليهم ما عليهم إلا ما اقتضاه التميز الديني.
16. احترام العقل والتفكير، والدعوة إلى النظر والتدبر في آيات الله الكونية والتنزيلية، وتكوين العقلية العلمية، ومقاومة الجمود والتقليد الأعمى للآباء أو للسادة والكبراء، أو لعامة الناس. ونفي التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح.
17. الدعوة إلى المبادئ والقيم الإنسانية والاجتماعية؛ مثل: العدل والشورى والحرية والكرامة، وحقوق الإنسان.
18. توكيد ما جاء به الإسلام من إعطاء المرأة حقوقها ومكانتها وكرامتها، وتحريرها من رواسب عصور التخلف والتراجع الإسلامي، ومن غوائل الغزو الحضاري الغربي الذي أخرج المرأة من فطرتها، ولم يراعِ أنوثتها.
19. العناية بأمر الأسرة باعتبارها الدعامة الأولى لقيام المجتمع الصالح، ورعاية حقوق كل من الزوجين على صاحبه، وعدم اللجوء إلى الطلاق إلا إذا تعذر الوفاق، وشرعية تعدد الزوجات بقيوده وشروطه، دون توسع ولا تحريم.
20. احترام حق الشعوب في اختيار حكامها من الأقوياء الأمناء، دون تزييف لإرادتها، أو فرض حاكم عليها يقودها رغم أنوفها، ولها أن تسائله وتحاسبه، وتعزله إذا تمادى في غيه بالطرق السلمية.
21. تقوية اقتصاد الأمة، والعمل على تكاملها فيما بينها؛ حتى تكتفي اكتفاء ذاتيا، وبناء هذا الاقتصاد على فقه الشريعة ومقاصدها، والتخطيط العلمي والسعي العملي لتأسيس اقتصاد إسلامي متميز عن الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الشيوعي.
22. الإيمان بوجود الأمة الإسلامية وخلودها، والإيمان بفرضية وحدتها، وبالأخوة الدينية بين أبنائها، على اختلاف مدارسها ومذاهبها، واعتبار الفرق المختلفة كلها من الأمة الواحدة، ما دامت تصلي إلى القبلة، وتؤمن بالقرآن الكريم، وبالسنة المشرفة.
23. تحسين الظن بكل من شهد الشهادتين، وصلى إلى القبلة، ولم يصدر منه ما يخالفها بيقين، والأصل حمل حال المسلم على الصلاح ما أمكن ذلك، وتجنب التفسيق والتكفير ما وُجد إلى التجنب سبيل، ولا سيما ما كان سببه التأويل.
24. العناية بالأقليات الإسلامية في العالم؛ باعتبارها جزءا من الأمة المسلمة، وعلى الأمة أن تعينهم على أن يعيشوا بإسلامهم في مجتمعاتهم؛ عناصر حية فاعلة، وإن يكن لهم فقههم الخاص، وأن يكون شعارها: استقامة على الدين بلا انغلاق، واندماج في المجتمع بلا ذوبان.
25. الإيمان بالتعددية الدينية والعرقية واللغوية والثقافية والسياسية، وضرورة التعايش بين الحضارات، والتلاقح بين الثقافات، وتفاعل بعضها مع بعض، واقتباس بعضها من بعض، دون انكماش ولا استعلاء.
26. العناية بعمارة الأرض، وتحقيق التنمية المتكاملة مادية وبشرية، ورعاية البيئة بكل مكوناتها، والتعاون على كل ما ييسر المعيشة للناس، وكل ما يشيع الجمال في الحياة، واعتبار ذلك عبادة وجهادا في سبيل الله.
27. حث دعاة الإصلاح والتغيير على مقاومة التخلف والفساد؛ فالتخلف يعطل عقل الأمة، والفساد يعطل ضميرها. ولا يكون الإصلاح حقيقيا إلا إذا تم بإرادتنا وبأيدينا، لا أن يُفرض علينا، ومدخل كل إصلاح هو إصلاح الأنظمة السياسية المستبدة، وأساس كل تغيير هو تغيير الإنسان من داخله.
28. العمل على تجميع كل القوى العاملة لنصرة الإسلام في صف واحد، وليس من الضروري -بل لعله ليس من المفيد- أن يجتمعوا في جماعة أو حركة واحدة، على أن الاختلاف والتعدد بين العاملين لا يضر إذا كان اختلاف تنوع وتخصص لا اختلاف صراع وتناقض.
29. الإشادة بما قدمته أمتنا من منجزات تاريخية بهرت العالم، ومن فتوحات في زمن قياسي، كانت تحريرا للشعوب من مستعبديها، والتنويه بما أسسته أمتنا من حضارة جمعت بين العلم والإيمان، وعدم الاكتفاء بالتغني بأمجاده، والبكاء على مآسيه؛ بل واجبنا هو استلهام الماضي، والارتقاء بالحاضر، واستشراف المستقبل.
30. الانتفاع بأفضل ما في تراثنا الرحب المتنوع: من ضبط الفقهاء، وتأصيل الأصوليين، وحفظ المحدثين، وعقلانية المتكلمين، وروحانية المتصوفين، ورواية المؤرخين، ورقة الأدباء والشعراء، وتأمل الحكماء، وتجارب العلماء، مع العلم بأن هذا التراث كله غير معصوم؛ فهو قابل للنقد والمراجعة والمناقشة والترجيح أو التضعيف. ولكن الأمة في مجموعها لا تجتمع على ضلالة.

8.9.12

ثورة في المساجد - الجزء الأول


المساجد هي بيوت الله في أرضه وهي أطهر بقاعها، ولها حرمة يجب احترامها وآداب يجدر الإنتباه إليها. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل نحترم مساجدنا؟ هل روح مساجدنا هي روح مساجد الدولة الإسلامية أيام الفترة المحمّدية والخلافة الراشدة؟ هل الزخرفة الإسلامية على الجدران وكتابة الآيات القرآنية واسم الجلالة واسم النبي الأكرم والصحابة تجعل مساجدنا من أحسن ما يكون؟ أم أننا في حُلُم ووهم وآن لنا أن ندرك الحقيقة وإن كانت مُرّة؟

من المعلوم لنا أن الوحدة قوّة وأن الفُرقة ضعف، وأن القشّة الواحدة تُكسر وأن حزمة القش تصمد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإنما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمّم مكارم الأخلاق، وما كان للإسلام أن يُفرّق، ولكنّه على العكس يجمع، يجمع الجميع على كلمة التوحيد وعلى حب الله وحب رسوله وعلى مكارم الأخلاق التامة، فهذا رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام يُآخي بين الأوس والخزرج ويطوي صفحة حروبات استمرت سنينا ويُآخي بين المهاجرين والأنصار وحتى بين المهاجرين أنفسهم، لتصير أمة الإسلام أمة واحدة كما أراد الله لها أن تكون. إنها روح الإسلام الصحيح الذي ينهل من النبعين الصافيين: الكتاب والسنة، إنه إسلام الأمة الواحدة، الإسلام الذي ينظر إلى الجوهر ولا ينحصر بالمظهر، الإسلام الذي يجمع ولا يُفرّق، إسلام الوحدة القلبية، إسلام النهضة، وفي هذا يقول ربنا جلّ وعلا: وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" (الأنفال، 63)،  "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون" (آل عمران، 103)، ويقول تعالى أيضا: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون" (الحجرات، 10). 

لكن في مجتمعنا المسلم اليوم هناك مسجد للصوفية وآخر للحركة الإسلامية الشمالية وآخر للحركة الإسلامية الجنوبية، وآخر لعائلة كذا وآخر للشيخ فلان وأتباعه وإلى غير ذلك من المظاهر الحزبية التي تُفرّق ولا تجمع! فما الذي أصابنا حتى شاعت بيننا هذه الحزبية المقيتة بيد أننا في الأصل أمة الإسلام الأمة الواحدة الموحِّدة؟! والأغرب من ذلك أننا استسغنا هذا التشرذم وقلنا: ليس في الإمكان أبدع مما كان! إن كنا لا نستطيع إحداث الثورة التي سنتحدّث عنها (وهو مجرّد وهم حُفّظناه جيّدا)، فإنه علينا على الأقل أن نعترف بخطئنا وأن نكون واعين له، عندها لن تخطر ببالنا فكرة إستحالة التغيير وستبدأ الخطوات نحو الإصلاح.

هل سمع أحدنا أو قرأ في التاريخ الإسلامي عن مسجد خاص بالأنصار أو مسجد آخر للمهاجرين أو مسجد لبني هاشم أو مسجد للأوس أو الخزرج؟ كلا، بل كانت روح المساجد منسجمة مع روح هذا الدين الشامل لكل جنس وعرق ولون، فكل الفروقات الطبقية التي سيطرت على العقل الجاهلي ذابت والتقت على كلمة التوحيد، وفي هذا يقول عليه الصلاة وأفضل السلام: "لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمى على عربي ، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض ، إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب". لكن، ما بالنا عكسنا الآية فجعلنا المساجد وسيلة للتفرقة، في حين كانت وسيلة لجمع المسلمين؟ كيف لا (أي كيف لم تكن وسيلة للجمع) ومنها انطلقت الدعوة وأشرق فجر الدولة الإسلامية التي اتّسعت رقعتها من الشرق إلى الغرب؟! 

5.9.12

ثقافتنا بين الإنفتاح والإنغلاق/ د. يوسف القرضاوي

فكر القرضاوي الوسطي يتكرر في هذا الكتاب، حيث يخلص إلى أنه لا ينبغي أن نرتدع من أخذ ما ينفعنا من عند غيرنا، أي من عند غيرنا من الثقافات، لأن الحوار الثقافي يساهم في بناء الأمم، ولأن الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق الناس بها، ولأن سنة الله قد جرت بأن يتخلّل الباطل بعض الحق الذي لا ينتبه إليه إلا أولو الأبصار، ولكن علينا أن نحذر من انفتاح ما قبل النضج إذ كيف لمن لم يفهم ثقافته أن يفهم الثقافة الأخرى، وأن نحذر أيضا من الإنفتاح المتساهل في الأخذ، والإنفتاح المبهور بثقافة الغير.

فالثقافة كما يذكر تعريفها في الكتاب: "أفكار ومعارف وإدراكات، ممزوجة بقيم وعقائديات، ووجدانيات، تعبّر عنها أخلاق وعبادات، وآداب وسلوكيات، كما تعبّر عنها علوم وآداب وفنون متنوعات، وماديات ومعنويات"، والثقافة الإسلامية على وجه الخصوص تجسّد التنوّع في إطار الوحدة، وهي تدعو إلى حوار الحضارات والثقافات، ولكنها ترفض الغزو الثقافي ولا تحبّ النقل الثقافي الذي يتمثّل بالتلقين. ويختتم القرضاوي كتابه بمثالين يجسّدان الإنفتاح الحسن على الثقافات الأخرى وهما شخصيتان لهما ثقلهما في العالم الإسلامي: أبو حامد الغزالي وابن رشد. ولكن بالنسبة لإبن رشد: هل هو حقا مثال للإنفتاح الحسن لأنه يُصرّح بنفسه أن أرسطو قدوته، إلى درجة أنه قال "فسبحان الذي خصّه – أي أرسطو -  بالكمال الإنساني". 

إقتباسات من الكتاب:  




كتاب مشكلات في طريق الحياة الإسلامية/ الشيخ محمد الغزالي


إنه كتاب ثري بالمعلومات الدينية المعروضة بالشكل الذي يتلائم مع القرن العشرين، وهو يحوي سبع فصول وعناوينها: صور جديدة وعديدة للأعمال الصالحة، في الثقافة والتربية والأخلاق، كلام في الإسلام، محنة اللغة العربية والأخطار التي تكتنفها، بين الإعتدال والتطرّف، المتاجرة بالخلاف خيانة عظمى، فقه الدعوة الإسلامية ومشكلة الدعاة.

وأول موضوع يفتتح الكاتب به كلامه هو مشكلة الإنشغال بالعلوم الدينية والتعمّق بها وترك بقية العلوم الدنيوية والأخذ بالأسباب، ظانّين أن العلوم الشرعية هي السبيل الوحيد إلى معرفة الله، في حين أن الكيمياء والفيزياء وبقية العلوم تفتقر إلى من يُحسنها في العالم الإسلامي، وأحد أسباب هذا الإشكال هو قصور في فهم الأولويات. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه: "كثير من الشباب يظنون التقوى بذل وقت أكبر في القراءات الدينية، والأخذ بقدر يسير من شئون الدنيا وعلوم الحياة، ولعمري إن الإسلام لا يكسب خيرا من هذا المسلك، ولا تنتصر عقائده إذا كان أهله في بلاهة الهنود الحمر، وكان أعداؤه يملكون "مكوك" الفضاء!!"

ويتطرّق الكتاب أيضا بشكل سريع إلى مواضيع عدة مثل: التغيير الذي جاء به الإسلام، علاقة الإسلام بالعروبة، الإسلام والمرأة، الأسرة وأهميتها، وظيفة المال الإجتماعية، الحكم كأمانة ومسؤولية، إلى أن يصل إلى العصر الحديث. ويصيح محذّرا: "اللغة العربية في خطر، أدركوها قبل فوات الأوان!"، فللقضاء على الإسلام يحاول الإستعمار القضاء على العربية، وعندهم وسائل شتى مثل الشعر المرسل الذي لا يصلك منه أي معنى (ليس هذا تعميما على الشعر المرسل ولكن كثير منه يفتقد المعنى المفيد). ويستمر الشيخ محمد في عرضه إلى أن يصل إلى أعماق الفقه الإسلامي، فيعرض وجوه الإختلاف بين الفقهاء ويحكي لنا عن المحكم والمتشابه وعن التأويل والتفويض، وعن مخاطر التجسيم وعن النص القرآني ورواية الآحاد وعن الإجتهاد والتقليد، ويخلص إلى ضرورة التعاون في الكثير المتفق عليه وترك الخلاف في الفرعيات.

3.9.12

المُقتصَد في الإقتصاد - الجزء الثالث والأخير


في المطبوعات
الطرف الآخر من الحديث هو عن المطبوعات، ويشمل كل الإعلانات والمناشير والدعوات التي يبرع الإخوة في توزيعها بعد صلاة الجمعة أو في أي فرصة أخرى. لقد تأخّر المسلمون سابقا في استيعاب فكرة الطباعة بدعوى حرمة التصوير، وكما يبدو اليوم فإنهم يتأخّرون في استيعاب فكرة تكنولوجيا المعلومات ومدى فاعلية الشبكة العنكبوتية. بالطبع، لسنا بصدد تحريم الطباعة مرة أخرى، ولكن ينبغي النظر في كمية المطبوعات وضرورتها لأن كثير من المعلومات اليوم يمكن أن تُنقل بالإنترنت وبمكبّرات الصوت ومن خلال خطب الجمعة أو عبر لافتات كبيرة تُعلّق في مدخل المؤسسات الحيوية في كل بلد.

كثير من المؤسسات اليوم صارت تستعمل صفحات الإنترنت بدل الورق المطبوع وفي ذلك خير كثير بإذن الله، لأن الإقتصاد في الورق يعني جهد بشري أقل في صناعة الورق ومواد خام أقل، ومخلّفات بيئية أقل جراء عملية الإحراق وجهد بشري وتكلفة أقل في إعادة التدوير.

علينا أن نسأل أنفسنا قبل طباعة أي كمية من الأوراق: هل هي ضرورية؟ هل هناك إمكانية أخرى لتمرير نفس المعلومات بنفس النجاعة أو ربما بنجاعة أكبر؟ فما فائدة بطاقة تهنئة بالعيد إن كانت يمكن أن تكون كلامية؟ وما فائدة مطوية مليئة بالأحاديث والآيات الشريفة إن علمنا أن أغلب الناس لن يقرأها وإن كنا نستطيع أن نمرّر محتواها في خطبة الجمعة وفي المواقع المختلفة؟ فإن مثل هذه المطويّة ستجبرنا على ألّا نلقي بها في القمامة تعظيما لما تحوي من آيات قرآنية، وسنكدّسها في البيت وسنشعل بها النيران حين يكتمل النصاب وسينجم عنها تلويث للبيئة! المرحلة الأخرى التي يجب أن ننتبه إليها بعد أن نصل إلى أنه لا مناص من الطباعة هي: هل بالإمكان تقليل التكلفة كي لا يكون فعلنا إسرافا؟ ما حاجتي إلى منشور بطول نصف متر إن كانت ورقة صغيرة تكفي؟ وما حاجتي إلى طباعة ملوّنة وإلى أجود أنواع الورق إن كان الورق البسيط والطباعة بالأبيض والأسود يفيان بالحاجة؟ سيقولون لك: العين تأكل أيضا، لكن أليس من الحري بنا أن نغذّي الأفواه قبل تغذية العيون؟ ثم من قال أني لا أستطيع تنسيق منشور جذّاب بسعر قليل؟ أم إن فلان يقلّد علان ويزايد عليه ليريَ الناس مدى بأسه؟

هل ينبغي إلغاء الجرائد المطبوعة والكتب وإعلانات الحملات التجارية؟
لم نقل هذا، فلا شكّ أن للطابعات دور أساسي في ثورة ثقافية ملحوظة، وما قلناه أنه ينبغي التنازل عن الغير ضروري، ولا تدخل في الغير ضروري الكتب الثقافية لما فيها من النفع للقارئ، ولا الجرائد لكونها وسيلة إتصال حيوية بمستجدّات العالم، ولا إعلانات الحملات التجارية لكونها جزء من الدعاية التي يجب أن تصلّ إلى أكبر عدد من الجمهور وأن تبقى بيد الزبون لكي يعرف ماذا سيشتري بالتحديد. لكن مع ذلك يجب لفت النظر والإلتفات إلى الثروة الإلكترونية الموجودة على صفحات الإنترنت، فبدل أن تقتني كتابا بثلاثين شاقلا يمكنك أن تقرأه من ملف "PDF"، والمواقع الإخبارية والمحطّات التلفزيونية يمكنها أن تحتلنك بكل جديد على مدار الساعة، والمدوّنات بدل المقالات المطبوعة وشبكات التواصل الإجتماعي يمكنها أن تحلّ مكان بطاقات التهاني. 

ثلاث كتب في مقال واحد: رواية شرفة رجل الثلج، رأيت رام الله، الهروب إلى الخطر


رواية شرفة رجل الثلج/ إبراهيم نصر الله

إنها رواية الإنسان العربي المقهور الذي يرى الويلات من حكومته، فبدل أن تكون الحكومة عونا للمواطن العادي، تكون عليه وبالا، ويبقى حاجز الخوف يحول بينه وبين المطالبة بحقه. إنها السياسة المخابراتية التي ترصد كل حركة يخطوها المواطن، فتفتح له الملفات الضخمة مذ قبل الولادة، إلى أن يصير الخوف من الحكومة كابوس يخطف الأمان والإطمئنان، ويخطف حب الأولاد، فما الذي يدعو الإنسان إلى قهر أبنائه كما قُهر هو؟! والخوف يرافقه كسر للطموح، وكبت للرغبات، فيبقى الإنسان في مكانه المجتمعي دون تقدّم، ولو تقدّم شيئا لأرسلت الحكومة له غرابا يفقأ عينيه لئلا ينعم أكثر من اللازم. 

إنها الرواية التي تعيد رواية نفسها ولكن بأسلوب آخر أكثر توسّعا وربما يُضفي هذا بعض الغموض على الرواية إذ أن نهايتها أسطر فارغة في فصل "ما ظلّ خفيا"، وربما يُضفي عليها بعض الملل. ويلخّص بطل الرواية بهجت حبيب معاناته في كلمات قليلة عندما يقول: "هذه أوطان أشبه بالفنادق، لن يسمحوا لك أن تحبها، الشيء الوحيد المسموح به هنا أن تكون قوي وتدّعي، مثلهم، حبها لتلتهمها أكثر فأكثر. هذه أوطان لثلاثه: ابن غني، وابن قبيلة، وابن نظام."

وقفة مع نصفية "رأيت رام الله"

كتاب رأيت رام الله يطرح قضايا مهمة جدا على الصعيد السياسي، والجميل في الأمر أن الكاتب يعرض لنا المعاناة والألم والشوق إلى الوطن من وجهة نظر من عاش هذا الواقع الصعب، فنراه يصف لنا عبور الجسر ونراه يصف المستوطنات كأنها جراثيم داخل الجسم الحي. لكني وددت لو كان أسلوب الكتاب أكثر تشويقا، وهذا كان يمكن أن يحدث لو طوّر الكاتب الحبكة القصصية أو جعل فيها خيطا دراميا يمر من خلال الصور التي يعرضها.

الهروب إلى الخطر/ أجاثا كريستي

لا أدري لماذا أطلقوا عليها اسم رواية في حين أنها في الحقيقة مجموعة قصص بوليسية. إنها قصص من عالم الإجرام، وهي نتاج للحضارة المادية التي تمتهن حياة الإنسان وتستبيحها فتقتل لأجل متاع في الدنيا قليل. القتل صار أهون شيء، والسيناريو صار أكثر تعقيدا بفعل تراكم الخبرة في الإجرام، ولذا فإن التحقيق يطول في كل قضية وأخرى، ولكن لا بدّ للمجرم أن يقع ولو بعد حين، ولذا فإجرام المجرم هو هروب إلى الخطر في حين يظن هو أنه يهرب منه. الترجمة إلى العربية في النسخة التي قرأتها لم تكن متقنة وهناك أخطاء لغوية ومطبعية تعيق على القراءة السلسة.