28.6.14

التاريخ المُنتقى، الحاضر المُصفّى


التاريخ يخدم مصالح المُسيطر في الغالب، وهو بعيد عن أن يكون مرويا بصورة حيادية. فكل دولة تُشبع مواطنيها الرواية التي تراها مناسبة، الرواية التي تراها تخدم مصالحها، لتحافظ على سيطرتها، هيمنتها، "هجمونيتها" (Hegemony)، وتُلغي كل الروايات الأخرى أو تعتبرها غير موجودة على الأطلاق! ان التاريخ صار يُتلاعب به، وبدلا من أن يكون غاية، أضحى أداة رخيصة بأيدي الحكّام والمسيطرين، ولهذا تعدّدت الافتراءات عليه. انه يُزرع به أشياء لم تكن موجودة، وينفى منه أشياء أخرى كانت موجودة أو يُتنكّر لها، ليصير تاريخا منتقىً! فما يخدم المصالح يدخل وما لا يخدمها يُلقى به في مزابل التاريخ دونما رحمة! ومثالنا على ذلك، الحضارة الغربية التي تُركّز على عصور الظلام حيث قُمع العلم في أوروبا وقُمع الفن في الاتحاد السوفييتي، وكيف أن النهضة التي جاءت، أسدت للبشرية كلها الخير كله، وأخرجت العالم من الظلام الى النور. وليس هذا تاريخا دقيقا! انه تاريخ مُنتقى يخدم مصالح المُسيطر، إذ في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعاني من عصور الظلام، كانت الحضارة الإسلامية في ذروتها! وعندما ينسبون اختراعا فإنهم يتغاضون عن الأصل، في حين كان لما توصّل إليه المسلمون دورا كبيرا في التقدّم الذي حدث في أوروبا. على سبيل المثال، خوارزميات الخوارزمي التي وضعت أساسيات علوم الحاسوب، القانون في الطب لإبن سينا وغيرها من علوم وفلسفات أُخذت أو سُرقت دون أن يُذكر مصدرها في أحسن الأحوال!

والحاضر كذلك يتم تصفيته من الشوائب التي لا تُعجب المُسيطر. الأكثرية لا تكاد تتعرّض للأقلية في حديثها الا عندما تُعطيها الشعور أنها درجة ثانية، كأن تُظهر شفقتها عليها أو أن تذكرها فقط في سياق الذمّ والسلبية! على سبيل المثال، في المحاضرات القائمة في الجامعات الإسرائيلية، المثال العربي لا يكاد يُضرب، في حين تعجّ المحاضرة بأمثلة من عالم المُسيطر، واذا ما ضُرب المثال العربي فإنه لا يُحسن إليه في الغالب وهو يُعرض بصورة مُشوهّة، ليُحطّ من قدره! ويمكن أن يكون هذا التشويه غير مقصود، إلا أن المُسيطر قد شُرّبه منذ صغره، مما يُصعّب عليه أن يتحرّر منه!  

التمس لأخيك سبعين عذرا !


يقول جعفر بن محمد: "إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرا واحدا إلى سبعين عذرا، فإن أصبته، وإلا، قل لعل له عذرا لا أعرفه"، ولا أدري لماذا اُختير الرقم سبعين بالذات (وليس هذا مبلغ همّنا في هذه المقالة) ولكنّ العبرة في التماس الكثير من الأعذار، لما يبان لنا من فعل من نعرف! عندما نبدأ اتصالا جديدا بإنسان، نتوهّم للحظات أننا صرنا نعرف كل شيء عنه، خلال شهرين، في حين هذا وهم جلي، إذ هل يمكن اقتضاب تجارب كذا وكذا من السنين في شهرين؟! ثم هل يكشف الانسان كل أسراره في أول شهرين؟! وانني لأعتقد أنه لو دام الاتصال سنينا، فإنه ستبقى هناك أمور مخفية وستبقى هناك أسرار، ولذا حتى لو ما زلتَ تحفظ اتصالا كثيفا مع صديق طفولة، وتعوده في بيته عشرات المرات في الشهر، ولا تفارقان بعضكما في الهاتف، فلا تتوقّع واهما أنك تعرف كل شيء عن أسرار صديقك، عن أسرار بيته، عن أسرار نفسه، فلربما هو نفسه غير واعٍ لهذه الأسرار! الله وحده هو من يعلم كل الأسرار وما ورائها، "وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى" (طه، 7).

ومن ثم نصير نُطلق الشكوك والظنون السيئة، رغم قلة علمنا حتى بمن نعرف حقّ المعرفة.

لماذا لا يأكل من خبزنا؟ لأنه لا يحبّنا بالتأكيد! ولم يخطر على بالنا أنه يمكن أن يكون عنده حساسية من القمح.

لماذا لا يطرح علينا السلام؟ لأنه لا يطيق رؤيتنا بالتأكيد! ولم يخطر على بالنا أنه كان ماشيا كالمغشي عليه لأن أمرا ما يشغله، أو أن عنده خلل في النظر. لماذا لا يُجالسنا؟ لأنه غير اجتماعي، غريب الأطوار! ولا يخطر على بالنا أنه مشغول في أمر هام.

لماذا يقوم من نومه في وسط الليل؟ لأنه شخص غير مفهوم، "الله يعينه على حاله". ولم يخطر على بالنا أنه ذاهب الى موعده الليلي مع ربّه.

لماذا لا نلتمس الأعذار؟! لماذا نُصرّ على تفسير أولي يحتمل الخطأ والصواب؟! وفي الغالب يحمل هذا التفسير اتهاما، شكّا، ظنّا سيئا، استهتارا بالآخر. أنفعل كل هذا من أجل أن نكون راضين عن أنفسنا؟! لننكر جهلنا؟! لنظهر أننا نعرف كل شيء عن من نعرف؟! انه وهمٌ (أننا نعرف كل شيء عن من نعرف) متبوع بوهم (أننا نملك التفسير الأكيد للتصرّف الذي يبدو لنا غريبا)، آن لنا أن نستفيق منهما!

التحوّلات الفكرية


 لا يمكن للإنسان أن يعيش في معزلٍ عن بيئته المحيطة، كما لا يمكنه أن يعيش في معزلٍ عن ذاته، فمهما اتّجه نحو الرهبنة والاعتزال، فلا بدّ له أن يحتكّ مع الطبيعة وبعض الناس ليُلبّي حاجاته الأساسية! ولو فرضنا أنه اعتزل بيئته كل الاعتزال، فإنه لا يمكنه أن يعتزل نفسه التي بين جنبيه. والبيئة المحيطة والذات الانسانية هما ديناميتان، بمعنى أنهما لا تستقران على حالة معينة، فالبيئة يمكن أن تكون فقيرة لتتحوّل الى غنية، ويمكن أن تكون خانعة لتتحوّل الى ثورية ويمكن أن يكون جسم الانسان معافىً ليتحوّل الى المرض وهكذا. لذا فإن الانسان مُعرّض دوما لهذه التغييرات وتأثيراتها (تأثيرات التغييرات) على فكره، آرائه ومواقفه! خنوع البيئة يُساهم في الغالب في خنوع الانسان، تمرّد البيئة يُساهم في تمرّد الانسان!

واذا كان العنصران الديناميان (البيئة والذات) يؤثّران على عنصر ثالث، فإنه سيكون ديناميا هو الآخر لا محالة! ان الفكر الإنساني سيكون ديناميا في بيئة دينامية! الآراء، المواقف، وجهات النظر، ستكون كذلك! اذا، لماذا نستغرب تبدّل المواقف وتغيّرها عند الأشخاص؟! ونسارع الى اتهامهم بالتناقض وبالمراءاة وبالتلّون ولربما نخوّنهم وندّعي أنهم خائفون مهادنون! هذا التحوّل يمكن أن يكون تطوّرا حقيقيا في فهم الأمور، فعندما تحدث ثورة وتُؤتي ثمارا أولية، يبدأ الناس يؤمنون مجدّدا بإمكانية التغيير ويزول واقع الخنوع، وعندها يمكن للآراء والمواقف الثورية أن تظهر. ان الواقع قد أعطى درسا للناس، فمنهم من عقل هذا الدرس واستخلص المغزى، ولذا نرى عنده تغيّرا في المواقف! أفنعتبر هذا تلوّنا؟! أم نعتبره تراجعا؟! انه أقرب ما يكون الى التطوّر! واذا أخذنا مثال الشخص الذي حلّت به مصيبة (مات له قريب، مرض جسدي مزمن ...) وكنتيجة لذلك تحوّل الى الإيمان ورجع (أو بالأحرى تقدّم) الى الدين. أفنعتبر هذا تلوّنا؟! اننا بذلك نُجهض كل امكانية لتطوّر الفكر الإنساني دون أن ندري ومن ثم نسأل لِمَ لا نتقدّم، لِمَ لا نتطوّر؟!
 

أفكار أم أشخاص ؟


 نلاحظ كثيرا في النقاشات التي تدور في الحياة اليومية أو على صفحات التواصل الاجتماعي، كلاما فيّاضا عند الحديث عن الأشخاص، وان حدث وعرض أحدهم أفكارا، فإن المعقّبين يأخذون كتابته الى التشخيص، مُبرزين بذلك عجزهم عن نقاش الأفكار، وردّ الحجّة بالحجّة والدليل بالدليل والفكرة بالفكرة. وعندها يمكن أن نرى تعليقات مادحة مثل: "انت شخص عظيم"، "بطل"، "عظمة على عظمة يا كبير"، أو تعليقات ذامّه مثل: "انت انسان غبي"، "انت مش فاهم شو بتحكي"، "انت مريض نفسي" وغيرها من المسبّات والتّهم والادّعاءات الباطلة الموجّهة الى عين الشخص، متفاديةً بذلك كل الأفكار التي طرحها الكاتب من خلال مقالته.

واذا استمعتَ الى حديث نسوة أو رجال، فإن ذكر الأشخاص ومثالبهم وأحيانا قليلة مناقبهم، لا يكاد يفلت من الجلسة. وهنا يقع الجالسون في الغيبة والنميمة، وليس هذا فحسب، وانما ينحدر الحوار الى مستويات خفيضة، وأحيانا تُنتهك الأعراض وتعلو القهقهات على فلان وعلان، وعالم الأفكار لا يُطرق بابه! اننا لا نريد أن نجعل جلساتنا كلها حلقات فكرية، إذ أن النفس تملّ وتتعب وتبحث عن مُتنفّس، وانما يمكن أن تحتوي هذه الجلسات وتلك النقاشات الفيسبوكية على تجارب حياتية، على وصف ظواهر مُلفتة للنظر صناعية أو طبيعية، على حديث عن آلام، طموحات، آمال، ذكريات جميلة! ولكنّ المشكلة تبرز عندما نحرم أنفسنا من لذّة الفكر والتفكّر، عندما نحرم أنفسنا من تذوّق عالم الأفكار، عندما نحرم أنفسنا من النقاش الحضاري الراقي، ونجعل حواراتنا كلّها شحيحة، تافهة، وضيعة، في معزل عن الأفكار! ان هذه النقاشات وهذه الجلسات الفارغة لا يمكنها أن تصنع رجالا ليقودوا التغيير في مجتمعهم، انها لا يمكن أن تُعلي الهمّة، ولا أن تحرّك تغييرا في الأمة. إذ لا يمكن لمن هو عاجز عن انشاء نقاش حضاري ثقافي، أن يقود أمّته للتحضّر وللتثقّف. كيف يقود تغييرا مجتمعيا، ان كان عاجزا عن قيادة تغييرا شخصيا؟! يقول تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد، 11).

ويصف مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" الفكر الجاهلي المحصور بعالم الأشخاص والذي وان كان فيه من عالم الأفكار (كما في المعلقات)، إلا أنه يبقى يستقي أفكاره من عالم الأشخاص:

أضعف الايمان: الطريق حقه!


انه لمن دواعي حزني أن أرى اهمالا لأضعف الإيمان واهتماما (أو اظهارا بالاهتمام) بدرجات أعلى من الإيمان. كيف يمكن أن ينبني الهرم دون القاعدة؟! كيف يمكن صعود السلم دون الدرجات الأولى؟! هل هي استهانة بالدرجات الأولى؟! هل الدرجات الأولى للصغار، للمبتدئين؟!

يقول عليه الصلاة والسلام: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً, فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ". ان اماطة الأذى عن الطريق هي أدنى شعب الإيمان وفقا لنص الحديث، أي أن أدنى درجات الإيمان اماطة الأذى عن الطريق. والأذى يمكن أن يكون كل ما يُؤذي الناس، بدءً بقشرة موز أو حجر، وانتهاءً بسيارة تُغلق الطريق الداخلة الى فناء المنزل. كيف يمكن لمن يأتي الى الصلاة مهرولا، أن يُغلق فناء منزل؟! ألا يخطر على باله، أنه يمكن أن يحدث أمر طارئ أثناء الصلاة حتى لو استمرّت عشر دقائق؟! ان اماطة الأذى عن الطريق أدنى شعب الإيمان، فكيف بمن وضع الأذى في الطريق؟! كيف بمن أغلق طريقا؟! انه ذاهب الى تحقيق أعلى شعب الإيمان، الى المسجد، ليقول: لا إله إلا الله، وفي نفس الوقت، يعجز عن تحقيق أدنى شعب الإيمان؟! هل يستقيمان؟!

ان الانسان يمكن أن يغفل أو أن ينسى أو أن يسهو (فالسهو يمكن أن يحدث في الصلاة)، الا أن تكرار الخطأ وتكرار اضافة الأذى الى الطريق ينمّ عن مشكلة معينة! انها مشكلة في فهم الدين! في الاستهانة بالناس، تعظيما لرب الناس (خلل في التعظيم)! في حصر الدين في المسجد، وجثوم الدنيا على الخارج! انه زرع (أو محاولة لزرع) الايمان في المسجد، لا يؤتي أُكُله خارجه! انه ايمان نظري، بعيد عن التطبيق العملي! ألسنا نُقرّ أنْ "ليس الإيمان بالتمنِّي ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل". الايمان تربية، قول وعمل، فيه تهذيب للسلوك وهو حالة ملازمة للإنسان، يؤتي أُكُله في كل موقف. الفطرة، التربية الايمانية من شأنها أن تدفع بالإنسان الى نبذ مثل هذا التصرّف: اغلاق مداخل البيوت ووضع الأذى على الطرقات!

ان غدا لناظره بعيد!


يقول قراد بن أجدع الكلبي: "فإن يك صدر هذا اليوم ولى، فإن غدا لناظره قريب"، ومعنى لِناظِرهِ أي لِمُنتَظرِه، يُقال: نَظَرْتُه أي انتظرته. أي أن من ينتظر غده بفارغ الصبر، فإنه سيأتي مُسرعا مُقبلا غير مُدبر، ومن يعدّ الدقائق، فلن يستشعر الوقت، إذ سيأتيه المُنتظَر على بساط من ريح! أليس يبدو هذا المعنى غريبا؟! ألا تفوح منه رائحة التناقض؟! كيف يمكن لمن يعدّ الدقائق منتظرا، أن ينسى الوقت فيبان له قُرب الغد؟! وفقا لمبلغ علمنا، فإننا نعرف أن الإحساس بالزمن يختلف من وضع الى آخر، تَبَعا للتقلّبات النفسية والمزاجية، فعندما نكون في قمة السعادة، يمكن أن ننسى الساعة، لنتفاجأ بمرور خمس ساعات على ما نعمله. ذلك يمكن أن يحدث في لحظات الاندماج القوي والانسياب مع ما نعمل. وأحيانا أخرى، عندما نملّ أو نحزن، نشعر وكأن عقارب الساعة لا تتحرّك، وأن النهار لن ينتهي. في هذه الحالة، نكون متركّزين في أنفسنا، في ساعتنا البيولوجية، في ساعتنا اليدوية.

قائل هذا البيت (قراد)، كان قد كفل الطائي، ليتمكّن (ليتمكّن الطائي) من توديع أهله قبل أن يقوم النعمان بقتله، وما حدث أنه ظلّ واقفا ينتظر الطائي، ولما اقترب الأجل وقبل ساعات من تنفيذ الحكم، قال بيت الشعر أعلاه. انه كان ينتظر قدوم الطائي، حتى لا يُنفّذ عليه حكم القتل، ولأن من عادة العرب الوفاء بالعهد، إذا بالطائي يأتي ما قبل نفاذ الوقت. بالعادة، من ينتظر ويعدّ الثواني، يكون متركّزا في نفسه، في ساعته كما أسلفنا، ولذا يشعر بتثاقل الوقت وبطئه، لتصير الساعة، ساعات في شعوره الداخلي، وليصير اليوم أياما والشهر شهورا. انها حالة مراقبة الوقت وانتظاره. قراد كان منتظرا الفرج، كان منتظرا النجاة من الموت، من الإعدام، ويمكننا أن نقول أنها نوع من المواساة استعملها قراد ليُصبّر نفسه على ضيقه وعلى مصيبته. ونحن نستعمل هذه الأيام أقوالا قريبة من قول قراد، عندما نقول: "اللي مضى من الوقت أكثر من اللي بقى"، "صبرنا كل هالوقت، ومش راح نقدر نتحمّل هلساعتين"! أي ان قولا مثل: "إن غدا لناظره قريب"، يكشف عن آلية من آليات الدفاع عن النفس (المواساة)، في حين أن ذلك لا ينفي الاحساس الباطني بتثاقل الوقت "ان غدا لناظره بعيد!".

شاهدني ودعك من أين أتيت!


كثيرا ما ردّدنا بيت الشعر: "لا تقل أصلي وفصلي يا فتى، إنما أصل الفتى ما قد حصل"، الذي يتوجّه الى المتكلّم، وغفلنا عن الطرف الثاني في العلاقة الإنسانية وهو المستمع، إذ كان من الأحرى تسطير بيت شعر للطرف الثاني من مثل: لا تنظر الى أصلي وفصلي يا فتى، إنما أصل الفتى ما قد حصل! فكما نطلب من المتكلّم أن يدع أصله وفصله، وأن يُحدّثنا عن مجموعه (ماضيه، حاضره وطموحاته)، نطلب كذلك من المستمع أن ينظر الى المتكلّم، تاركا كل الخلفيات وكل الآراء المُسبقة وكل القوالب التي من شأنها أن تُصنّف بصورة مُستعجلة قبل أن تتم مشاهدة كيان الشخص، انفراده، شخصيته المميّزة! ان هذه المعلومات المُسبقة يمكنها أن تعمي، أن تصمّ الآذان قبل مشاهدة الكيان الإنساني، لأن تأثيرها قوي وغالبا ما تتسرّب الى اللا واعي وأحيانا الى الواعي لتؤثّر على حكمنا على الأشخاص! لذا، لكي نتمكّن من الدخول صافيين الذهن، مُنصتين، مُشاهدين للإنسان الذي أمامنا، فإنه يجدر بنا أن نسمع منه أولا، أن نراه بثّا حيّا ومباشرا، دونما واسطات، حتى اذا أخذنا عنه صورة أولية، يمكننا وقتها النظر في ما يُقال عنه (مع الحذر من التلفيقات والتحريضات المبنية على أهواء شخصية). باختصار، اسمع مني قبل أن تسمع عني!

مسألة الهوية


 منذ أيام الطفولة الأولى، تبدأ هوية الإنسان بالتشكّل والتكوّن، فالطفل يبدأ بالانفصال عن أمه رويدا رويدا ويبدأ يُدرك هذا الانفصال، ويبدأ يدرك أنه انسان، يأكل، يشرب، ينام، وأنه مختلف عن النبات والحيوان والجماد. ويستمر تطوّر الهوية الى أن تصل الى الذروة في جيل المراهقة. في هذه الذروة يحدث التسارع والتقدّم الملحوظ.

وفقا لطرح الأخصائي النفسي روبرت سلمن (Robert Selman)، هناك جانبين مهمّين في تطوّر الهوية الذاتية وهما: بحث الهوية والالتزام بها. من دمج الجانبين تنتج لدينا أربع حالات ممكنه يمكن رؤيتها لدى المراهقين. الأولى هي عندما يأتي التزام بهوية معينة على أثر بحث وفحص، مما يؤدّي الى انتاج هوية ثابتة نسبيا. الثانية هي عندما يأتي التزام بهوية ما قبل البحث والفحص ويحدث هذا كثيرا في مجتمعات محافظة وعند الأقليات. الثالثة عندما يكون هناك بحث مستمر والذي لم يثمر بعد عن هوية محدّدة وبالتالي لا التزام حالي. الرابعة عندما يكون هناك امتناع عن الخوض في بحث مسألة الهوية وبالتالي لا ينوجد الالتزام.

عند العرب في الداخل الفلسطيني، وبما أن الواحد يظلّ مرتبطا ببيت والديه الى حين التعليم الأكاديمي، حيث يحدث انفصال جزئي عن البيئة العائلية وقته (انفصال أكبر يحدث وقت الزيجة عندما يخرج الولد من بيت الوالدين ليعيش في بيته الخاص)، فإن الهوية بنظري تمر بمرحلتين: في المرحلة قبل الخروج الى التعليم الأكاديمي يتبنّى الشاب النوع الثاني من الهوية، وفي مرحلة متأخّرة أكثر بعد الانكشاف الى التعليم الأكاديمي يبدأ الفرد بتطوير هوية نابعة من بحث وفحص (النوع الأول، هوية أكثر ثباتا). في المرحلة الأولى ونظرا للاعتماد Dependence)) على الوالدين في كثير من الأمور، مما يحدّ من الاستقلالية، نرى أن الولد يتبنى الهوية التي منحه اياها والداه، أو التي أرادوها له. يمكن أن نرى ذلك بوضوح، وقت اختيار موضوع التعليم الأكاديمي، إذ يتحيّر الشاب كثيرا ولا يدري ما ميوله، ويكون للوالدين تأثير كبير على القرار. ان هذه الهوية هشّة، ضعيفة، غير ثابتة، فمن أول لقاء مع الآخر تبان هشاشتها وضعفها، إذ تعلو أسئلة مثل: لماذا أنا مسلم؟ ماذا يعني كوني عربي في الداخل الفلسطيني؟ ماذا يعني ارتدائي للحجاب؟

 لذا في المرحلة الثانية، تثور التساؤلات وتعلو الشكوك، الى أن تستقر الشخصية بين فيض الشخصيات الأخرى، وتستقر الهوية بين فيض الهويات الأخرى، وعندها تظهر الهوية من النوع الأول والتي تُعتبر أكثر ثباتا. ان تقلّب الهوية هذا يمكن أن يكون نابعا من الصورة المركّبة التي تتواجد في الداخل الفلسطيني، فالأكثرية هي من اليهود والأقلية هم من العرب، وهم أي العرب يعيشون داخل دولة اسرائيل ويُعتبرون مواطنيها (على الهوية على الأقل)، في حين جذورهم، مشاعرهم، انتمائهم، اهتمامهم، يتّجه الى الأصل الفلسطيني بشكل خاص والى الأصل العربي من حولهم بشكل عام. فأن تكون عربيا فلسطينيا في دولة اسرائيل، ليس بالأمر السهل بتاتا من ناحية شعورية، مما يؤثّر على عملية بناء الهوية.

البدايات حيث النهايات !


وكأنّ يأسا جمعيا قد أصاب الناس، أو كأنّ المكتوم الجمعي صار لا يُحتمل، وبكل الأحوال فالطاقات النفسية اختفت وراء مشاعر الحرقة والألم. ان عالم الناس المشاعري في هذه الأيام مشتعل، والنار الداخلية تحرق الانسان من جوفه وتستأصل عزيمته وتثنيه عن حلمه، ولربما تدفعه الى الانكار أو الابتعاد أو الهروب، لكن تلك النار متوقّدة ولهيبها حار ورائحتها تخنق النفس الطبيعي، وكأنه بركان يزأر ايذانا بانفجار قريب، أو كأنها جهنم داخلنا، فهل هذه نفحة من نفحات جهنم؟! انها نار شريرة، لا ندري من أين أتت، ولا أين موقعها داخلنا، وهي لا تبان في أجهزة التصوير الحديثة، ولكنها هناك، داخلنا، نحسّ بها، ونتحرّق من لسعاتها. دخانها يصل الى المخّ، فيبلبلنا بلبلة تامة، فلا نعود ندري من نحن، ولا من حيث أتينا ولا الى أين نحن ذاهبون! ونخال الأرض سماء والسماء أرضا، ونظن أننا نعيش حُلُما أو نحلم أننا نحلم، ونرى الطيّب ساذجا، ونرى الباطش شجاعا، ونرى القاتل بطلا، ونرى القائل بالحق منحرفا، ونرى المخالف منشقّا، ونرى المرأة جنسا!

ان هذه النار تُوحي بالنهايات، فكم سيصبر هذا الجسد على تلك النار؟! وكم سيحتمل دون أن تتمزّق أغشيته؟! ولننطلق من قانون حفظ الطاقة، لنقول أن الطاقة الحرارية والاشعاعية التي تتوّلد داخلنا تستقرض أجزاء من طاقات العزيمة والحبّ وتلك المشاعر التي وُلدنا لنعيشها! ومن ثم فنحن لا نعيشها في الغالب، وان عشناها فنحن نتنكّر أو نبتعد أو نهرب! ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن هذه النهايات مكشوفة للجميع، وهي نهايات جمعية، بمعنى أن تأثيرها يطال الطفل كما يطال المراهق كما يطال البالغ كما يطال كبير السن، أي أنها يمكن أن تكون نهايات في بداية البدايات. هذه النهايات التي تصادفنا في البدايات توّلد فينا أسئلة وجودية، أسئلة حياتية عميقة، ولربما يُعبّر عنها أحيانا بصورة ساذجة ولكنها تبقى تدلُّ على تساؤلات عميقة، فالطفل الذي يسأل: الى أين ذهب أخي الصغير؟ لماذا لم أعدْ أراه؟ يقصد: لماذا يموت الأطفال؟ كيف سنصير كبارا مثلكم اذا استأصلتمونا أطفالا؟! هل خُلق أخي الذي يصغرني لكي يموت؟ والطفل الذي لا يجد ما يأكل، يسأل: أين الأكل يا أمي؟ وهو يقصد: لماذا انجبتمونا الى عالم الجوع؟ لماذا ضممتمونا الى عذابكم؟ أتريدون أن نتشاطره؟

وكل هذه الأسئلة تنمُّ عن سؤال جوهري واحد وهو: أين العدل في هذا العالم؟ الكبير يقتل الأطفال ويبقى عائشا هو ومن معه، والطفل يُقتل، أو يُسلب بيته أو طعامه، الغني يزداد غنىً والفقير يزداد فقرا. أين نقطة الوسط؟ لا وسط في الأرجاء، فالأطراف مريحة للأقلية المسيطرة ولبعض المتعاونين (مع الأقلية) من ضمن الأكثرية المُسيطُر عليها، والظلم يكون في الأطراف، أما العدل فهو وسطي، محافظ على وسطيته في المكان والمعنى. أين العدل في هذا العالم، عندما يُعاقب المجني عليه عقابا زائدا، كما أن الفقير يزداد فقرا. وعندما يُحرّر الجاني، كما أن الغني يزداد غنىً، ليساهم ذلك في المحافظة على الأطراف، وتقوية شأن الأطراف (الظالمة والمظلومة). ان هذا العرض لا يُذنّب المظلومين أو المقهورين، وانما يُذنّب الظالمين أو القاهرين، ولكنه من جهة أخرى لا ينفي جزءً من المسؤولية عن المظلومين. ورغم أن القاهر يحاول بكل الوسائل للمحافظة على الأطراف، ابتداءً من خلق وعي زائف وانتهاءً بكل أساليب القتل والتعذيب الوحشية، فإن الأكثرية المظلومة تستطيع مقاومة كل ذلك لما تتّحد صفوفها وتفيق من الوعي الزائف الذي تشرّبته. أما حين تبقى الأكثرية مُغفّلة أو مخدوعة أو متفرّقة، فإن هذا يصبّ في مصلحة الأقلية الظالمة، بل ويعمل لصالحها، لأنه يقوّي من شوكتها ويشجّعها على الاستمرار في بغيها.  

هذه النهايات هي نهايات مصطنعة، من بطش الأيادي، بمبادرة أهل الشر من البشر، أي بالإمكان منعها، ولذلك فهي مُستهجنة ضعفين وملعونة أضعاف المرات! فقتل الأطفال لا يتماشى مع طبيعة الكون، وهو خَرْق بشري لقوانين الطبيعة، وكذلك تيتيم الأطفال وترميل النساء وقتل الشيوخ الطاعنين في السن، وهدم البيوت الآمنة، وارعاب البشر، وقلع الشجر، وهدم المعالم، وهدم الحضارات، ونسف الأخضر واليابس، كل هذه خروقات بشرية لقوانين الطبيعة! وهي خروقات حتى لو بانت قريبة من قوانين الطبيعة - كأن يقول أحدهم هذا شيخ كبير، فقتله أو ابقائة حيّا حتى توافيه المنيّة لا يفرقان كثيرا -  لأنها تدخّل غير مشروع للإنسان في قوانين الطبيعة. ان للطبيعة انسيابها المولود، ووتيرتها الخاصة، وكل تدخّل في هذا الانسياب وفي تلك الوتيرة يعدّ خرقا. لكنّ هناك خرقا مشروعا وآخر غير مشروع، مع أنه في أغلب الأحيان يصعب وضع الحد الفاصل بينهما. لكن تبقى هناك خروقات غير مشروعة بشكل صارخ، كالأمثلة المضروبة أعلاه. لذا، فإن هذه النهايات تضرب العزم والعزيمة وتوقد النار الداخلية وتحرق الجوف كما تحرق الأخضر واليابس على أرض الواقع.

هذه النهايات تشلّ الآمال وتُثبّط العزائم اذا عجز الواحد عن فعل شيء لتغيير ذاك الواقع الأليم. ولذا فإذا أعدنا النظر الى هذه النار الداخلية، يمكن أن نرى لها تأثيرين بحسب القدرة على الفعل أو عدم القدرة. التأثير الأول يحدث عندما يشتعل الغضب وتثور المشاعر الانسانية على الظلم ويكون الانسان قادرا على الفعل، ليكون وقع هذا التأثير على الفرد سلبي كونه يتطلب منه طاقات نفسية وجسدية ليست بالبسيطة، أما وقعه على المجتمع - وهذا هو الأهم – فهو ايجابي لأنه يدفع الى تغيير الواقع البائس (مثال، محمد البوعزيزي). اذا فإيجابيات التأثير الأول تتغلّب على سلبياته. أما التأثير الثاني فيحدث عندما تثور المشاعر الانسانية ولا يقدر الفرد على الفعل، مما يمكن أن يُنتج نوعا من اليأس والقنوط وانعدام الأمل، وهذا هو الذي نتحدّث عنه من بداية المقالة. ان هذه المشاعر يمكن أن ترافق كثيرا من البدايات كما قلنا، ولك أن تتخيّل صعوبة المباشرة (البدء)، عندما تختبئ مثل هذه الأحاسيس في الباطن.

والبدايات يمكن أن تكون مرتبطة بالعمر، كأن يصطدم الطفل الصغير (الذي هو في بداية عمره) بقسوة الحياة منذ نعومة أظافره، مما يولّد بداخله مشاعرا حزينة، كئيبة، قلقة، خائفة، بدلا من أن يعيش طفولته الرقيقة الناعمة التي تتلاءم مع طبيعة نموّه. فانكشاف طفل لمثل هذه الويلات ولمثل هذه المشاعر الكئيبة هو أيضا خرق بشري لقوانين الطبيعة. كذلك فإن البدايات يمكن أن تكون مرتبطة بأعمال جديدة ينوي الفرد الشروع بها، كأن يفتتح مشروعا جديدا، أو أن يُبادر لتنظيم حفلة، أو أن يشرع في بناء بيت، أو بدء التعليم للقب جامعي وغير ذلك من الأمور الحياتية التي نعتبرها جزءً من حياتنا. لكن طعم هذه الأمور ما زال يتغيّر في ظل كل ما يحدث في العالم، وخصوصا في العالم العربي، من ظلم وانتهاك لحرمة الانسان والحيوان والنبات والجماد، حتى لم يعدْ يهنأ لفرد عيش حتى يذكر أن هناك مظلومين، فقراء ومحتاجين. لكن لماذا يسرف كثير من الناس، يعيشون العيش الرغيد، يرقصون، يخمرون ويطلبون ملذّات الحياة كلها، دون التفات الى هؤلاء المظلومين؟ الجواب يتلخّص في كلمات بسيطة وردت سابقا في هذا المقال: إنكار أو ابتعاد أو هروب، وكلها وسائل لتجاهل أو نسيان الواقع الصعب!

ان هذه النار ستشتعل في كل انسان يفهم معنى الانسانية، ولذلك لا مناص منها. كما أننا لا يجب أن نهرب منها، لأن ذلك يصير انكارا أو ابتعادا أو هروبا، وهذا الوضع لا يصبّ بطبيعة الحال في مصلحة الانسانية، لأنه في هذه الحالة، يمكن أن يسلم الفرد، أما الانسانية فتبقى أسيرة الظلم والاجحاف. أما اطفاء النار فهو حلّ يستحيل تطبيقه، إذ لا يمكن الوقوف أمام تلك المشاعر الجياشة، واذا تجرّأ أحد ووقف فسيصير يصارع ذاته، فمن جهة كله غاضب ورافض للظلم ومن جهة أخرى كله غاضب ورافض لتلك المشاعر الجيّاشة. كما أنه لا يجب أن ننسى أنه يمكن أن تكون هناك فوائد لهذه النار – كما أسلفنا سابقا – ولذا وجب ترويضها وتسخيرها في خدمة أهداف سامية. ان مثل هذه النار يمكن أن تتحوّل الى نور، اذا عقلنا فائدتها وأثرها الايجابي على المجتمع. مثل هذه النار يمكن أن تتحوّل الى محفّز على البدايات، اذا أدرك الانسان أنه خُلق في كبد، وأن بعد العسر سيأتي اليسر، وأنه من المشكلة يُولد الحلّ، وأن هذه المخاضات وتلك الصعوبات تهدف الى "خضخضة" الانسانية، لتعيد رؤيتها في واقعها المرير، فتنتج واقعا أفضل.

أخلاقية الدين !


لو أمعنا النظر في وظيفة الدين، لفهمنا أنه جاء من أجلنا ولمصلحتنا، فالله غني عن عبادتنا وعنّا وحري بالخالق أن يكون كذلك، أما نحن فلا حول لنا ولا قوة إلا بالله! فمرض السرطان يهزّنا ويهزّ جميع أبناء العائلة، والسرطان أنواع، فمنه سرطان الدم، وسرطان الأمعاء، وسرطان الثدي ... وسرطان الدم أنواع: فهناك الـ ALL والـ AML والـ CML والـ CLL، وأمراض أخرى غير السرطان لا تُعدّ ولا تُحصى. وأخطار أخرى غير الأمراض تحدق بنا من تحتنا كالبراكين والزلازل والهزّات الأرضية، ومن فوقنا كالنيازك وانهيار الأبنية والجسور، وبين أيدينا كحوادث الطرق والإصابات المختلفة والحروب. وفي البحر هناك احتمال للغرق، للضياع وللموت، وفي الجو هناك احتمال لسقوط الطائرة أو لاصطدامها بعائق أو لانحرافها عن مسارها. وهناك كوارث طبيعية أخرى كالفيضانات والأعاصير والحرائق والجفاف والأوبئة، وما لا يخطر على البال من كوارث مُفاجئة. ان الإنسان بهذا المفهوم هو ضعيف وهو محتاج لدعم متواصل ومدد مستمر، وخير دعم وخير مدد يستمده الانسان سيكون من خالقه، لأنه هو أخبر باحتياجاته وهو أعلم بما يُصلح حاله وينجّيه من كل المخاطر الى برّ الأمان.

وليس الدين كما قال قسم من الفلاسفة أنه أداة لتخويف الشعوب، وبالتالي تسهل امكانية فرض القوانين والنظم عليهم. وليس خدعة أو مخدّرا كما قال ماركس: "الدين أفيون الشعوب". وانما جوهر الدين هو الرحمة! فالقوانين والسنن الإلهية تصبّ في مصلحة البشر، والإسلام لم يُحرّم شيئا الا لحكمة معينة عرفناها أم جهلناها. وبالتالي هي قوانين من الخالق الخبير بعباده، لتُساعدهم على النجاح في اختبار الحياة الدنيا. الحياة الدنيا هي اختبار، لكنها اختبار مع اجابات مُعطاة واضحة، وما علينا الا تعبئة هذه الإجابات في المكان الصحيح لنحصل على المكافأة التي تفوق عملنا وجهدنا بأضعاف لا يعلمها الا الله!

ولو تخيّلنا العالم بدون دين وبدون أخلاق وبدون فطرة حسنة، لكان أقرب الى الغاب. فكل شيء مسموح، وبالتالي القوي يأكل الضعيف، والبقاء للأقوى، لأن الفقير سيسرق ليعيش، والغني سيسرق ليغنى أكثر، ولن يأمن أحد على ماله وممتلكاته فالكل يسرق! ولاختار الناس أن يلبسوا ما يريدون وأن يخلعوا ثيابهم متى أرادوا! والمعاشرة ستنتشر في الشوارع، ولن تنحصر بين رجل بالغ وامرأة بالغة، وانما ستكون مُبعثرة، فيمكن أن تكون بين رجل بالغ وطفلة صغيرة، وبين امرأتين أو رجلين، أو بين أخ وأخته، أو بين أب وابنته، أو بين أم وابنتها، أو بين طفلين لم يبلغا سن البلوغ لأنهما يشاهدان الجنس في الشوارع فيفعلان ما يفعله الآخرون تقليدا! وعندها ستفوح روائح الجريمة، فالقوي سيقتل الضعيف، ولربما يأكل من لحمه بعد قتله، اذ لا ممنوع ولا حرام! وسيشرب الناس ما يريدون وسيسكرون الى الذروة وستخدّرهم المخدّرات! ولن يحفظ أحد ممتلكات غيره ولا الممتلكات العامة، لأن الأنانية هي الحاكمة!

لكننا لا نتوقّع أن يصل بنو الانسان الى تلك الهاويات، لأنه حتى بغياب الدين تبقى هناك الأخلاقيات التي يُمليها العقل، وتبقى هناك الفطرة التي زرعها الله في البشر. وحتى لو شُوّهت هذه الفطرة، فإنه يبقى لها آثارا في أحيان كثيرة. وفي أسوأ الأحوال فإنه من الممكن أن تصل جماعة من الناس الى تلك الهاويات وليس كل سكّان الأرض، لأن العقلاء موجودون في كل زمان ومكان. لذلك فإننا نرى علمانيين وملحدين يتحلّون بأخلاق عالية، ذلك أنهم حكّموا عقلهم في تحديد التصرّفات الأخلاقية من غيرها. لكن على الرغم من ذلك، فإن التسامي الأخلاقي لا يصل الى ذروته، الا مع اتباع الدين الحق، لأن العقل البشري يقف عاجزا عن الإحاطة بكل جوانب المسائل الأخلاقية المختلفة، اذ يبقى في القانون الدنيوي ثغرات وفجوات. أما القانون السماوي ففيه الكمال الأخلاقي، لأنه منصوص عليه من الخالق الخبير بعباده وليس من بشر يُخطئ ويُصيب. فالاعتماد المُطلق على العقل البشري وتأليهه، يودي في النهاية الى أخطاء والى استساغة الحرام وفقا للتعريف الديني. فعلى سبيل المثال، يمكن للعقل البشري أن يُبارك معاشرة الحبيب لحبيبته، لأن السعادة ستغمر قلبين ونار الحب ستشتعل في الحبيبين، وهل هناك أحسن من الحب في هذا العالم ؟! ان المحبة هي المطلب الأسمى والكراهية هي المرفوضة ولذلك سيُبرّر العقل لنا ممارسة الحب، بما في ذلك قُبلات الشوارع وممارسة الجنس ما قبل الرباط المُقدّس. هذا التبرير نابع من قصور العقل البشري في ادراك كل الجوانب المحيطة بالمسألة وعن حصر التفكير في المدى القريب. فلربما لم يخطر على بال العقلاء أن خلافا بسيطا يمكن أن يُفرّق بين الحبيبين، لأنه لا رباط مقدّس بينهما، والافتراق يسير نسبيا! ولربما لم يخطر على بال العقلاء أن الحبيبين لا يعيشان في فراغ، فأحقاد الأقارب تتربّص بهما في حال لم يُوافق على الارتباط من أصله!

ثم ان التربية الدينية الصحيحة تُتنج في بني الإنسان رادعا داخليا عن فعل الحرام. فلو سمح قانون الدولة بفعل حرام ولو كان فعل الحرام يسيرا أو على مقربة من الإنسان، لما اقترب منه المتديّن حقّ التديّن، لأن رادعه الداخلي سيمنعه. بخلاف القانون الذي يُنتج لنا رادعا خارجيا، ولو سمح القانون بالفعل لفعله ذاك الإنسان دون أدنى تردّد، ولربما بحث عن ثغرات في القانون ليحتال عليه وليفعل ما تتوق اليه نفسه. ولذلك رغم تغنّي الدول المُتقدّمة بالأخلاقيات، نرى أن هناك نسبة الجريمة من أعلى النسب في العالم، ذلك أن الرادع هو رادع خارجي، وان استطاع المُجرم بذكائه تدبير خطّة محسوبة للهرب من أيدي القانون لفعل فعلته فورا!

السرقة !

لا يختلف اثنان في عصرنا أن السرقة هي فعل شنيع، والسارق له عقابه في القانون، ولكن كثيرا ما يغيب عن بالنا دور الدين في تحريم السرقة! على الرغم من وضوح شناعة السرقة في عصر حقوق الإنسان، فإن العالم اليوم يعاني من هذه الفعلة، ولو لم يلتفت الى كل محاولات السرقة، فكثير من المسؤولين في الدول المختلفة يسرقون أموالا ويختلسون من خزينة الدولة على حساب الشعب، بمعنى آخر يسرقون من أفراد الشعب! والدول العُظمى تسرق ونحن لا ندري، فهي تفرض هيمنتها على العقول وعلى الكنوز وعلى النفط! وتُعلن الحرب حفاظا على حقوق الإنسان ومنعا للظُلم والاضطهاد، في حين تكون غايتها خسيسة ألا وهي استعمار الشعوب ونهب ثروات البلاد والعباد! ان أمريكا بدخولها العراق قد سرقت وأفحشت في السرقة، وكذلك في دخولها لأفغانستان، والاستعمار الذي كان وما يزال هو أيضا سرقة!

فميثاق حقوق الانسان اذاً لم يضمن لنا استقامة البشر، لأنه - كما قلتُ سابقا - القانون هو مجرّد رادع خارجي. كما أنه يمكن تبرير السرقة بالاستعانة بالعقل من خلال عدة طرق، فيمكن أن يقول الإنسان لنفسه: "الدولة تسرق مني ضرائب كثيرة، وبما أني صاحب حق، يمكنني اذا السرقة من أموال الدولة متى سنحت لي الفرصة" أو "الكل يسرق، واذا لم أسرق بنفسي، فسوف أفقد كل أملاكي" أو "أنا محتاج لمزيد من المال لكي أسعد أبنائي ببيت دافئ وسيارة جديدة، ولذلك أنا مضطر لتحصيل الأموال بطريقة ذكية"! فحتى لو اعتبر الانسان نفسه سيّد العقلاء، يمكن لتفكيره أن يأخذه الى تبرير السرقة والى التخفيف من شناعتها كما يمكن ملاحظة ذلك في التبرير الأخير أعلاه. فلم يُطلق الرجل على فعلته اسم سرقة، لكي لا يشعر بالذنب على أثر فعلته، وانما أطلق عليها اسم "تحصيل الأموال بطريقة ذكية"! أما في التربية الدينية، فإن السرقة تبقى سرقة ولو كانت من عدو! فهو مال حرام لأن الإنسان يأخذ ما ليس له، وهو بالتالي يسرق أتعاب الآخرين. وهذا بطبيعة الحال لا يتّسق مع روح الإسلام الذي يقول أن الأجر على قدر المشقة، ورغم أن القصد هنا هو الأجر الأخروي ولكن المنطق هو نفس المنطق، فأن يتعب آخر وتأتي أنت لتسلبه حصيلة أتعابه دونما تعب وجهد، فهذا مما لا يقبل به الدين!

ثم ان السرقة هي فوضى عارمة بحد ذاتها، لأنها تخترق الحدود، وتخترق حقوق الآخر. فكأنّ شرعنة السرقة تقول لنا أن لا اعتبار للملكية الخاصة وما هو معك اليوم يمكن أن يصبح مع الآخر في غضون ساعات، فالحدود مُخترقة، والأموال تنتقل من المسروق الى السارق بعشوائية غريبة. وبذلك ينعدم الإحساس بالأمن والأمان ويسود احساس بالعشوائية، فلا أمان على الأملاك، وكل ملك مُرشّح لأن يُسرق! وليس يسوى أن يعمل الانسان ويجتهد ويكدّ، لكي يُحصّل قوتَ عيشه، لأن السارق سيأتي ويسرق الأموال بسهولة دونما جهد وتعب! وعندها ستثبط العزائم، وسيقل الدافع للعمل، وبالطبع سيؤثّر ذلك سلبا على سوق العمل، لأن العمال غير مُتحمّسين للعمل، وان عملوا فإنهم سيعملون بجودة منخفضة، إذ أنهم يعلمون أن لا أمان وأنّ أموالهم ستسلب! كما أن الخوف من السرقة سيسيطر عليهم، وربما يُنتج عند أحدهم تخوّفات وأزمات نفسية، كالخوف من المستقبل والخوف من المطاردة.

ومن ثم سيكون الحل الأولّي هو تشديد الأمن على الممتلكات. عندها ينصب صاحب الأملاك كاميرات المراقبة في كل مكان، صافرات الإنذار، الحراس، الكلاب، وكل ذلك يُكلّف مبالغا هائلة! فكأنّه وان نجا من السرقة، فلن ينجو من تبعات السرقة، التي تُجبره على أن يتّخذ كل وسائل الحيطة والحذر. اضافة الى أن هذا الحل ليس يقدر عليه كل أحد، ومن ثم فإن قدر عليه الواحد، فإنه لا يُنتج احساسا صادقا بالأمان، لأن الحرّاس أيضا يمكن أن يتآمروا ضد مُشغّلهم، كما أن أجهزة المراقبة والإنذار يمكن أن تقف عاجزة أمام عملية سطو مدروسة وواسعة النطاق، مما يؤكّد لنا أن هذا الحل هو حل سطحي وخارجي وهو بعيد عن أن يكون حلا جوهريا وعميقا!

أما فيما يتعلّق بسرقة الرُّعاة لرعاياهم، فإن ذلك أعظم أثرا، لأن هؤلاء المسؤولين هم قُدوة الشعب وهم بطبيعة الحال شخصيات معروفة ولها وزنها في المجتمع. فإن هم سرقوا من أموال الشعوب، فما الذي سيمنع الموظّف البسيط من أن يُسوّغ لنفسه السرقة من أموال الدولة بحجّة أنه كما تُعامِل تُعامَل؟! ان الكبار يسرقون الملايين، فهل ان سرق الموظّف البسيط عشرة ألاف سيُعتبر هذا جُرما؟! أي ان القُدوة الفاسدة، تفسد الرّعية وتُصغّر جريمة المواطن في عينه، نظرة لفظاعة جرائم القادة! وهم بالتالي يعملون عكس ما أُمروا به، فبدلا من أن يكونوا المثال الحسن للشعب، عملا بحديث رسولنا الأكرم عليه الصلاة والسلام: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، فهم يخونون الأمانة ويخونون الوطن ويخونون الشعب ويخونون الدين، لتقديمهم مصلحتهم الشخصية على مصلحة الأمة والرعية! انها الأنانية والجشع والطمع! ويمكن للسلطة أن تُغرّ الانسان، الا أنها لا تقلب طبائع العباد بأي حال من الأحوال، ولذا وجب في كل بيئة، مؤمنة كانت أم كافرة، تشغيل أجهزة مراقبة على المسؤولين. والمسؤولون بدورهم يقومون بمراقبة الشعوب، مع التشديد على أن هذه الرقابة تُشغّل كرقابة ثانوية للرقابة الذاتية التي ينبغي أن يُطوّرها التربويون في نفس الإنسان، وهي متّصلة بطبيعة الحال بالدين.

طفل يتألّم!


عندما نتحدّث عن الطفولة، فإننا نتخيّل في الغالب عالما ورديا، مليئا بالدمى، مفعما بالحب والعطف والحنان، لذلك نقول: "خليه يعيش طفولته". ان الطفولة عندنا هي البداية، الشروق، النبوت، الخروج من الظلمات الى النور، الحياة! أما الألم فهو من عالم آخر، غريب عن الطفولة، مألوف للكبار خصوصا المسنين منهم، وهو مرتبط بالنهاية، بالغروب، بالموت! انهما عالمان غريبان عن بعضهما البعض، الأطفال حياة والألم موت! الأطفال أمل والألم يأس! الأطفال عالم وردي والألم عالم قاسٍ!

وكم تكون صدمتنا قوية عندما نرى طفلا يتألّم، عندما نرى طفلا يعاني من مرض السرطان، عندما نرى طفلا موصولا بجهاز طبي، عندما نرى طفلا بريئا في مشفى، في بلد حلّت به كارثة الجوع أو الحرب أو كارثة طبيعية كزلزال أو إعصار! كم يؤلمنا رؤية طفل يتألّم! كم يؤلمنا رؤية طفل يتعذّب! كم يؤلمنا رؤية طفل يقضي طفولته في المستشفى! كم يؤلمنا رؤية طفل يصرخ ألما! كم يؤلمنا ألم الصغار، أبناء الحياة! كم يؤلمنا رؤية طفل يموت أو ميت!

نتساءل عندها أين العدل في هذا العالم؟! ماذا فعل هذا الطفل المسكين ليلقى من العذاب ما يلقى؟! هل يستحمل جسده الضعيف، قلبه الصغير، لحمه الطري، عظمه اللين؟! هل تستحمل نفسيته الناشئة؟! انه عصفور من عصافير الجنة، فلماذا تصيبه نفحة من نفحات جهنم؟! انه صغير، لكنّ ألمه كبير! انه متجّه الى الحياة، الا أن الألم (أو الموت) يُلاحقه، يُطارده! انه في البداية، الا أن النهاية تقف في وجهه! بداية ونهاية؟! هل يمكن أن يتزامنان؟! في غياب الدين، مثل هذا المشهد يمكن أن يؤدّي الى الكفر أو الى الإلحاد، نظرا لأنّ القوة الإلهية (وفقا لرؤياهم) لا تحمي هذا الطفل المسكين وغيره من الضعفاء، لا تحميهم من الشقاء، البؤس والعذاب! واذا انعدمت الحماية الإلهية، فإما أنه لا وجود للرعاية الإلهية وإما لا وجود لإله وكلاهما كفر! الا أنه اذا تأمّلنا القانون الذي يؤدّي الى استنتاجهم هذا، نكتشف أن أصله ديني، فلأن الطفل بريء (صالح باللغة الدينية) فإنه لا يستحقّ حياة الشقاء، ولأن الظالم مجرم (طالح) فإنه يستحقّ عقابا! نفس القانون الديني: الحياة الطيبة للصالحين، حياة الشقاء للطالحين! إلا أن عيب الملحدين في هذه المسألة، أنهم أرادوا تطبيق قانون سماوي على حياتهم المادية، مما أدّى بهم الى الضلال! انهم ظنوا أن الحياة الطيبة تقتصر على الرفاهية والصحة والمال، وظنوا أنها تقتصر على الحياة الدنيا، ذلك لأنهم ألغو الآخرة من حساباتهم! ان هذه الدنيا لا يتحقّق فيها عدل، وانما تمام العدل يكون يوم القيامة عند الله العدل! وما قيمة الحياة الدنيا قبال الآخرة؟! ان هذه الحياة التي حصر فيها الملحدون فكرهم لا تسوى عند الله جناح بعوضة! وبالتالي هذا الطفل الذي يتألّم، يعاني، يتعذّب، ويظهر لنا جرّاء ذلك أنه يعيش حياة البؤس والشقاء ولذا لا عدل في هذا العالم، فإنه عند عدم تغييب الآخرة، يبان لنا صغر هذا الألم قدّام النعيم المنتظر، وقصر هذه السنين قدّام حياة البقاء، وعندها نوقن أن العدل قائم، غير مُفنّد!

ذكريات، حاضر وأحلام


الماضي يحمل لنا ذكريات، منها فرحة وأخرى حزينة، منها جميلة وأخرى بشعة، منها ما نحب استذكاره وأخرى نودّ لو تمّحي من تاريخنا. وهي أي الذكريات تحمل تجاربا سابقة، ولربما أساسها تجارب سابقة، مما يمدّ بالخبرة الحياتية التي تساعد على فهم هذا العالم والتأقلم معه بصورة أفضل. والذكريات يمكن حفظها من التشوّش هذه الأيام، عبر توثيقها بمساعدة الكتابة أو التصوير أو الفن أو غيرها. لهذا الحفظ أهمية، إذ كما أن هناك تاريخ للإنسانية، فهناك تاريخ لكل انسان، ويمكن أن يكون هذا التاريخ وتلك الذكريات مصدرا للطاقة وحافزا على الاستمرار وعلى الأقل مُعلّما ومرشدا في التعامل مع اللحظة الحاضرة.

أما المستقبل فإليه تنصبّ الآمال، الأحلام، الأهداف، ولأنه لم يأتِ بعد، فإليه تُلقى الرغبات التي لم تتحقّق وكل ما تتوق إليه النفس، على أمل أن تصير هذه الأحلام وتلك الأهداف واقعا وحاضرا موجودا بين يدي المتأمّل. ولا أميل الى النظرة التشاؤمية التي تدّعي أننا لا نملك إلا اللحظة الحاضرة، فبإمكاننا أن نُغيّر الماضي عبر بناء نظرة مختلفة لنفس الذكريات والتجارب الماضية، انه بإمكاننا أن نُعيد خلق ماضينا من جديد، لنراه بصورة أخرى غير تلك التي علقت بذهننا، وذلك عن طريق Narrative Therapy مثلا. كما أنه يمكننا أن نؤثّر على مستقبلنا، اذا خطّطنا، فكّرنا وأردنا، عقلنا وتوكّلنا، لنرسم بأيدينا لوحة مستقبلنا التي نودّ رؤيتها. إلا أن مُلكنا للحظة الحاضرة أشدّ وتأثيرنا عليها أقوى، إذ أنها شاخصة بين أيدينا، موجودة، مُذلّلة، بمعنى أنها خاضعة لسيطرتنا. لذا من المنطقي أن نحاول عيشها بكل الحواس، بعقلنا وقلبنا، بكلّنا، لأننا هي ما ستُحدّد مجموعنا (عمر الإنسان عبارة عن سلسلة من اللحظات الحاضرة، ما مضى منها صار ماضيا، وما سيأتي يُعدّ مستقبلا). ورغم ملكنا وتأثيرنا وسيطرتنا عليها، الا أن ملكنا لها هو ملك غير حقيقي وسيطرتنا عليها غير حقيقية، إذ يمكن لثواني معدودة أن تُفقدنا سيطرتنا تماما اذا ما فاجأتنا سيارة على طريق سريع، على سبيل المثال. لقد كانت السيطرة على اللحظة موجودة قبل الحادث، الا أن المفاجأة (القضاء والقدر باللغة الدينية) أخفتها تماما، لتبرز أمامنا السيطرة الحقيقية، الملك الحقيقي (القدرة الإلهية). يقول ربنا جلّ وعلا: "قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيئ قدير" (آل عمران، 26).

البعد الديني، البعد الواقعي والبعد العلمي، هل من سبيل الى لقاء؟


البعد الديني يبحث في غائية الظواهر ويحاول الإجابة عن أسئلة "لماذا؟"، من خلال عرض أسباب ما ورائية. والأمثلة على ذلك كثيرة، "لماذا أصابه مرض السرطان، مع أنه كان رياضيا طوال حياته ولم يُدخّن سيجارة واحدة؟"، "لأن هذا قضاء الله وقدره، إذ يمكن أن يكون ابتلاءً من الله سبحانه وتعالى". "لماذا انتصر الشر على الخير؟"، "لحكمة إلهية نجهلها نحن، (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك امرا)".

البعد الواقعي يصف الظواهر كما هي ويحاول أن يُصوّرها للمشاهد أو للمستمع، ليراها شاخصة أمامه فيحلّلها كيفما شاء. ان هذا البعد يمكن أن نجده كثيرا في الروايات والمسرحيات والقصص التي تُصوّر شخصيات وأحداث عن طريق الوصف الدقيق العميق. انه يعالج أسئلة "ماذا". أما البعد العلمي فيتّخذ منهج الملاحظة والتجريب وتحليل الظواهر وتجزئتها ليكون بالإمكان وضع فرضيات علمية، ومن ثم فحص امكانية توكيدها. ان العلم (Science) يبحث فيما يمكن ادراكه ويستبعد أي تفسير ميتافيزيقي (غيبي) لأي مشكلة علمية. انه يحاول الإجابة عن أسئلة "كيف"، عبر بيان الآلية أو الكيفية. من هنا نلاحظ اقصاء العلم لكل ما هو ديني أو حتى لكل ما هو ما ورائي، فما عجزت الحواس عن ادراكه، فلا وجود له في العلم. هذا الانكفاء الذي أصاب العلم، كان بمثابة ردة فعل للاتجاه المعاكس تماما، حين كان العلم هو عين الدين المسيحي، لدرجة أن رجال الدين هم من كانوا يُعالجون المرضى والعلماء "الهراطقة" أُعدموا دونما رحمة.   

لقد انكفئ العلم على ذاته وصار صارما في اختيار ما يدخل إليه، وليست هنا المشكلة، إذ على العكس، فإننا نحتاج الى مثل هذه الصرامة، كي لا تُخالطه الخرافات والأساطير التي لا أساس لها. إلا أن المشكلة في خلق هذه الفجوة وهذا البعد بين العلم والدين، وكأنه لا تماس بينهما، ولا مشترك. وفي الجانب الآخر، هناك من المتديّنين من يحاولون عزل أنفسهم عن الواقع، عبر تشبّثهم بأقوال السلف دون محاولة تطوير نظرات جديدة الى الدين تكون أكثر تلائما مع الواقع المُعاش. انهم بعملهم هذا يحاولون الفصل بين البعد الديني والبعد الواقعي، لتتسع الفجوة كذلك بينهما.

ان ما أرمي اليه عبر مقالتي هذه هو محاولة التقريب بين هذه الأبعاد الثلاث والتقليل من عزلتها عن بعضها البعض، إذ هي أبعاد ونظرات مختلفة للظواهر، وهي تُكمّل بعضها البعض، غير مُتعارضة، متجاذبة، غير متنافرة، وان حدث التنافر فإنه يرجع على الأغلب الى خطأ في احدى (واحد على الأقل) هذه الأبعاد. ولنأخذ مثالا ظاهرة الزلازل. البعد الواقعي يحاول أن يصف ما جرى بالتفصيل، وكيف أن الأرض اهتزّت بعنف وخرّت الأبنية من أعلاها، الى ما الى ذلك من دمار مُوجع. كما أن هذا البعد يمكن أن يصف حالات الناس النفسية من خلال ما يتراءى للمشاهد، ورغم وعينا بأنّ البعد الواقعي لا يمكن أن يكون نقيّا خالصا، إذ لكل واحد رؤيته الخاصة للواقع، إلا أننا سنُبقي على انفراد هذا البعد. البعد العلمي يمكن أن يُسطّر الأسباب العلمية للزلزال مُستعينا بعلم الجيولوجيا، كأن يفترض حدوث حركة غير طبيعية في طبقات الأرض. البعد الديني يمكنه أن يقول أن الزلزال بمثابة ذكرى للناس، ليرجعوا الى خالقهم وليتّعظوا. هل هناك تعارض بين هذه الأبعاد؟ ان الواقعي يصف، الديني يبحث في الما ورائية، والعلمي يبحث في المُدرك، وهي أبعاد مختلفة لنفس الظاهرة، من شأنها أن تزوّدنا بالصورة المركّبة.       

لماذا ندّعي تلاقي هذه الأبعاد؟ لأنها صادرة عن نفس المصدر، ومن ذات النبع، فالذي خلق الظواهر (البعد الواقعي)، هو الذي أنزل إلينا الدين عبر الوحي (البعد الديني)، وهو الذي وهب الإنسان نعمة العقل والتفكير ليبحث ويفكّر ويُحلّل (البعد العلمي)، "عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق، 5).

اماطة الالتباس عن الاقتباس!


أحدهم قال لي مرةً: "أستغرب كيف يقتبس الخطيب أقوالا لعلماء غربيين ليسوا مسلمين خلال خطبة الجمعة. كيف يمكن اقتراف مثل هذا العمل؟!". ولو أننا استمررنا في الحديث، لكان ربما سيزيد من تطرّف رأيه، ليقول: كيف يمكن اقتراف مثل هذه الجريمة النكراء؟! انه يجب أن ندعوَ لهذا الخطيب أن يهديه ربّه الى سواء الصراط، فلا يحيد عن أقوال علماء الإسلام! انه لقول مثير للاشمئزاز ولكل تلك المشاعر السلبية البدائية، خصوصا وأن القول صادرٌ عن شاب منخرط في التعليم الأكاديمي! إلا أن هذا القول يعكس رأيا مُسبقا، والذي وفقا له، كل ما يأتي من غيرنا هو خطر على أبنائنا، هو خطر على عقولهم، انه يُعرّضهم لعملية غسيل دماغ، متناسين بذلك، أنهم هم من بدأوا عملية غسيل الدماغ عند تخويفهم من الآخر وآرائه التي يعتبرونها مضلّلة! ما الذي يُخيف في الآخر؟! ما الذي يُخيف في مُفكّر أوروبي؟! في عالم كيمياء أوروبي؟! في عالم رياضيات أمريكي؟! في فيلسوف استرالي؟!    

ان أوروبا أبدعت في مجال العلم (Science) والبحث العلمي، في حين نحن تأخرّنا، فلماذا لا ننهل من العلم حيث كان؟! أليست الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها؟! ولماذا لا نُدخل هذا العلم الى الخطب الدينية وبذلك نضيّع الفرصة الثمينة لرفع ثقافة الناس؟! ولماذا نبني الحواجز بين الدين والعلم؟! ان الخطبة هي فرصة للقائهما، لاتساقهما، لربط الدين بالواقع، للتجدّد وللتجديد! ان البحث العلمي موضوعي الى حد ما، فهو يكفر بكل ما يتّصل بالدين، وبذلك يمكننا أن نأخذ من هناك العلم الخالص. وبالنسبة للمفكّرين والفلاسفة يمكن أن نأخذ ونقتبس الأقوال المُنصفة، فنُدّعم بها كلامنا، ولا مانع من أن نقتبس الأقوال التي تتعارض مع ديننا وفكرنا اذا مع أتبعناها بنظرة نقدية. 

ورغم المسوّغات الكثيرة التي من الممكن أن نسمعها، إلا أن الأسباب الباطنية لرفض الاقتباس، تنبع كما يبدو من احساس بالنقص تجاه المتفوّق (ماديا، اقتصاديا، وربما أخلاقيا)، ولذا فإننا بدلا من أن نعترف بتخلّفنا وتقصيرنا في جانب العلم الخالص والبحث العلمي، نحاول بكل الوسائل أن نُصغّر المتفوّق، نحتقره ونزدريه، ويمكن أن نلمس ذلك من خلال أقوال مثل، "أوروبا كلها فساد وستمّحي عما قريب"، "الغرب الجاحد"، "اللا حضارة الغربية" وغيرها. اننا نظنّ أنه عندما نقتبس من أقوالهم، فإننا نعطي أهمية لهم، ونعرض تفوّقهم أمام ناظرينا، مما يثير احرجنا ويولّد احساسا بالنقص. ونبقى نظنّ أننا سنتقدّم، دون أن نأخذ من المتقدّم، فكيف سيحدث ذلك؟! الله أعلم!

انسانية هذا الدين


يقول الدكتور إدوارد غالي الذهبي في كتابه معاملة غير المسلمين في المجتمع الاسلامي: "لقد استخلصت من دراساتي وقراءاتي الشخصية أن الإسلام يرفض العنف، وأنه دين العدالة والمساواة والرحمة والمودة وحسن المعاملة للبشر جميعا، وخاصة أهل الكتاب منهم. بل إن الإسلام يأمر بالرحمة والشفقة على الحيوان، وإذا كان هذا هو موقف الإسلام بالنسبة للحيوان، فكيف بالأحرى يكون موقفه بالنسبة للإنسان؟!".

ويقول فهمي هويدي: "ان التفرقة بين الناس فيما هو دنيوي حسب اعتقادهم أو جنسهم أو لونهم، ليست من منهج الإسلام، إذ القاعدة هي المساواة، والجميع في ديار الإسلام أمة واحدة، والخلق كلهم عيال الله بالتعبير النبوي، فضلا عن أن الناس جميعا خُلقوا من نفس واحدة بالتعبير القرآني".

ويقول الشيخ الشعراوي: "ان الاسلام هو صاحب مبدأ الوحدة الوطنية بين الأكثرية والأقلية، وبين المختلفين في العقائد على السواء".

لقد أُسيء الى الإسلام عبر الزمان بسوء فهمه على أيدي أبنائه وعلى أيدي أعداءه، فأبناؤه "تعنصروا" لدينهم وانغلقوا على أنفسهم وظنّوا أنفسهم أفضل وأعلى شأنا من الآخرين. أما أعداءه فحاولوا وما زالوا يحاولون تخويف الناس من هذا الدين لينفروا منه وعنه، من خلال عرض الحقائق منزوعة عن سياقها التاريخي أو حتى تزييفها وإدخال الأكاذيب الى فيض الصدق (من مثل تحميل النبي أو العلماء ما لم يقولوا). ورغم أن هذا الدين انساني بالدرجة الأولى، إلا أن انسانيته غير بارزة كفكرة عامة عنه، ولكن كجهود فردية، فهم يُصوّرونه أنه دين السيف ودين إراقة الدماء ودين التكفير، ولكن اذا نظرتَ نظرة الميكرو الى أبنائه، فإنك ترى أكثرهم في حياتهم اليومية أقرب ما يكونون الى الإنسانية. 

هذا الدين يُصرّح بشكل واضح ويربّي أبنائه على المساواة ونبذ التفرقة، فكما يحقّ لك أنت تؤمن بما تودّ أن تؤمن به، يحقّ للآخر أن يؤمن بما يودّ أن يؤمن به! ان قضية الإيمان هي قضية بين العبد وربّه، والعبد حرٌ في اختياره، ولكن هذا لا ينفي تأثير الإيمان على العلاقات الإنسانية. إلا أن ما يجب أن يوجّه علاقاتنا هذه هي الإنسانية أو الأخلاق أو القيم الدينية السامية، ولا ينبغي للإيمان أن يشوّش على صفو هذه العلاقات، وان فعل فإنه على الأرجح ايمان زائف. انه لا فرق بين عربي ولا أعجمي في أمور الدنيا (يقول نبي الإسلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "لا فرق بين عربي و لا أعجمي و لا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى")، ولا فرق بين مسلم ومسيحي، ولا فرق بين ملحد ومؤمن في أمور الدنيا، إلا أن الفرق ينحصر في التقوى، في الإيمان، وهذه قضية بين العبد وربه. ان هذا يعني حقوقا متساوية في النظر وفي العمل، إذ يحقّ للمسيحي أن يمارس طقوسه الدينية كما يحقّ للمسلم، ويحقّ للمسلم أن يدعو الى دينه كما يحقّ للمسيحي وهكذا في الحقوق كلها. ثم ان التعامل ينطلق من كون الذي أمامك انسان، يفكّر ويشعر، يغضب ويفرح، وليس من الخلفية الدينية. لذلك يجب المحافظة على خطوط عريضة للإحسان في التعامل مع المسلم ومع المسيحي، مع اليهودي ومع الدرزي، مما لا يمنع ميل القلب الى أحد دون آخر، ولكن مرة أخرى يجب المحافظة على الإحسان، على الإنسانية، على الأخلاق في التعامل مع الجميع.

الهيبة


كلمة "هيبة" هي واحدة من الكلمات المثيرة للجدل بين الشرق والغرب، وهي منتشرة عندنا (في الشرق) انتشار النار في الهشيم، فكلّنا يسمع جملا مثل: "خليك مِهْيِب!" أو "العرض مش مِهْيب" أو "هالزلمي ما شاء الله عليه، هيبة وعظمة". هذه الكلمة مثيرة للجدل لتعدّد دلالاتها ومعانيها، ففي معجم الرائد يمكن أن نجد لها معنيين ايجابيين: احترام وكرامة، ومعنيين سلبيين نوعا ما: مخافة وحذر. والكلمات التي تقابلها في الإنجليزية تتنوّع، بدءا بـ prestige (وقار) وانتهاءً بـ fear و panic وحتى terror!

وعندما نُطلق هذه الكلمة، فإننا غالبا ما نرمي الى الوقار والى الرزانة، نرمي الى أن يكون الشخص متّزنا، عزيزا بأعين الناس الذين يرونه. انه يجب أن يتصرّف تصرّفا محدّدا حتى يُكتب من المهيبين، انه يجب أن ينصاع لقوانين مجتمعه الصارمة، وان تجرّأ على الانفلات، فإنه يتنازل عن هيبته. بكلمات أخرى، ان الهيبة هي نتاج اجتماعي، أكثر من كونها نابعة من داخل الانسان، وذلك لما فيها من تمثيل وكبت ومحاولة لإرضاء الجماهير. لكنّ الكلمة تبقى ذات اسقاطات ايجابية في الشرق، والمعنيان (احترام وكرامة) يمكن أن يتلاءمان مع المفهوم الشرقي لكلمة هيبة.

في الغرب يمكن أن يُنظر الى الشخص المهيب على أنه محافظ بشكل مبالغ فيه، منطوٍ على نفسه، منغلق، اذ لا يُصارح بأحاسيسه، فإن أحبّ أن يتقهقه، فإنه لا يفعل، لأن ذلك يحطّم هيبته أمام الناس، وان أراد أن يبكي، فإنه كذلك لا يفعل لنفس السبب. ولكونه منغلقا غامضا يمكن أن يكون مخيفا وحتى ارهابيا في النظرة الغربية، فهو شاذّ وشذوذه بارز لا يمكن تجاوزه. أي أن نفس الكلمة يمكن أن تقترن بمعنييها الآخرين (المخافة والحذر) في السياق الغربي.

لذا يمكن استعمال كلمات مثل، وقار، رزانة، بدلا من كلمة هيبة، اذ انهما ينبعان من داخل الانسان أكثر من كونهما نواتج اجتماعية. وهما نقيّتان أكثر، وأقل اثارة للجدل. يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف: "عليكم بالسكينة والوقار". وعند استعمال هذه الكلمات يمكن أن يصبح الهدف المرجو تحقيقه، أكثر صدقا (لأنه نابع من الداخل)، أوضح معالما (بدلا من هدف مثير للجدل مثل كلمة هيبة)، فأن تسعى لأن تكون انسانا وقورا رزينا، خير لك من السعي المُضني وراء الهيبة، لما ذكرنا من تعليلات أعلاه.

التخلّف الذي كان، التقدّم الذي لم يأتِ


لا يمكنني أن أصف مدى التخلّف الذي كان حين كان الأولاد يُضربون في المدارس وفي البيوت وفي الطرقات "علحامية والباردة". وعلى أيدي من؟! على أيدي مُعلّمين جَهَلَة وعلى أيدي "كبار القوم" المتفوّقين بجهلهم وتخلّفهم (في الحقيقة هم سَفَلَة القوم)! ألا تبّا لكم أيها المتخلّفين وتبّا لتربيتكم الفاشلة! أنتم لا تستحقّون خلفا، لأنكم ستعوجونهم بعد استقامتهم وستُغلقونهم بعد انفتاحهم وسترهبونهم بعد اطمئنانهم! وإلا فما الذي يُبرّر ضرب الأطفال والتنكيل بهم، شتمهم واهانتهم؟! لماذا هذا الإرهاب؟! ان الطفل عندما ينشئ في مثل هذه البيئة العنيفة، فإنه سيفهم أن العنف جزء لا يتجزّأ من هذا العالم، ان لم يفهم أنه العالم كلّه، وعندها سيحاول تطبيق العنف الذي لُقّنه، فما ان تحين الفرصة حتى يُخرج عدوانيّته دون سابق انذار. انها عملية تحفظ العنف من الانقراض عبر الأجيال!

ألم يسأل المعلّمون أنفسهم هل هناك طرقا بديلة عن التخويف والعقاب؟! لماذا لم يُفكّروا في الجانب الآخر: الجزاء على الفعل الحسن وعلى القيام بالواجب؟! لكنّهم كانوا يسعون الى رفع مقام المعلّم واحاطته بهالة من القداسة والكبرياء والعظمة، ليصل الى منزلة الإله، إله العذاب! ألا بئس به من إله! وعندما يخاف الطلاب من المعلّم ويهابونه ولا يجرؤون على النظر إليه، عندها يمكن للمعلّم أن يُعلّم كيف يشاء وبالتالي ليس مجبرا على أن يُظهر كفاءته، إذ لا يجرؤ أحد على معارضته ولو كان مخطئا! وبذلك تستمر سلسلة الدكتاتورية والسلطوية ويبقى الطالب أسيرا عند معلّمه، بدلا من أن يكون المعلم معينا له على تحقيق حرّيته وانسانيته عبر التعلّم والتثقّف. 

لكنّ اندثار عنف المعلّمين تجاه الطلاب يُعتبر قفزة نوعية الى الأمام. وربما أشعلت هذه القفزة تفاؤلا كبيرا لإمكانية التغيير، واحباطا في أعقابها إذ لم تتحقّق كل الآمال بالسرعة التي تمنيناها. على سبيل المثال، التعليم ما زال يعتمد على التلقين أكثر من اعتماده على التفكير والبحث، فالمعلّم يأتي بالمادة جاهزة ليزرعها في عقول الطلاب، ولا يترك مجالا للتعلّم التفاعلي الذي يكون فيه الطالب عنصرا فعّالا. والتخويف ما زال مستمرا ولكن بصورة ألطف، عبر أقوال مثل: "اذا ما بتدرس منيح، بتجيب علامة واطية"، "اذا ما بتقعد هادي، بقول لأبوك"، وذلك بدلا من استعمال نفس الجمل على طريق الإيجاب: "اذا درست منيح، راح تحصّل علامة منيحة"، "اذا بتقعد هادي، راح أقول لأبوك انك طالب شاطر".  

الديكتاتورية المتديّنة


هناك نوع من الديكتاتورية ترتدي لباسا دينيا لتبرّر وجودها ولتُقنع الناس بحتميّتها. انها تحتمي بغطاء الدين لتلمّع نفسها ولتبيّض وجهها القبيح ولتستقطب البسطاء، ولكن اكتشاف حقيقتها لا يستعصي على النبهاء، فالغطاء يبقى غطاءً ومن تحته ستبرز حقيقتها. انها دكتاتورية تدّعي وجود الحكم الإلهي جاهزا ولذا لا مجال للنقاش وللبحث وللأخذ والعطاء، فهذا حكم الله، وهل تجرؤ يا هذا على مخالفة حكم الله؟! هل تقول بعد قول الله قولا؟! وستُتلى عندها الآية 36 من سورة الأحزاب: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً"، ليكتمل فيلم الترهيب والتخويف، وبالتالي ينساق الواحد وراء قولهم خوفا من عقاب الرحمان.

ان النية (نية المنساق) حسنة ولكن هل انتبه الى المطبّ الذي أوقعه فيه ذلك الفاشي المتديّن؟! لقد مارس تلاعبا مقصودا أو غير مقصود في طريقة عرض الأمور، فصحيح أن الأمر والحكم الإلهي هو الحاسم في نظرتنا، الا أن السؤال يبقى ثائرا: هل هناك حكم شرعي قطعي في المسألة المعروضة؟! أم أن هناك عدة اجتهادات وعدة أفهام؟! ان المسائل القطعية في ديننا ضئيلة مقابل المسائل التي فيها يبرز الاجتهاد وتتعدّد فيها الآراء، فهي أفهام بشرية للكلام المُنزل، ولذا فهي تحتمل الاختلاف. من هنا فإنه في حالة تواجد عدة اجتهادات، فلا ينبغي التضليل والتشبث باجتهاد واحد والادعاء بأنه هو أمر الله وحكمه وبالتالي ينبغي تطبيقه دون تفكير أو بحث، وانما ينبغي الاعتراف بالحقيقة أن هذا هو اجتهاد واحد من عدّة وعندها يمكن أن تغيب الديكتاتورية المتديّنة.