26.7.14

تأمّلات في النهاية


لكل بداية نهاية، فكما أن لفترة الدراسة الجامعية بداية فلها نهاية أيضا، وكما أن لرحلة استجمامية بداية فلها نهاية كذلك، وكما أن لبداية شهر رمضان بداية فله نهاية أيضا. والنهايات ترتبط بشكل عام بالنهاية الكبرى (الموت)، اذ هي تُحييها في النفوس بشكل واعٍ أو غير واعٍ. ولولا البداية التي تتبع النهاية، لما تخطّت النفس ألم النهاية والوداع والفراق، فنهاية الفترة الجامعية تعقبها فترة عمل، ونهاية الرحلة الاستجمامية يعقبها عودة الى البرنامج الاعتيادي، ونهاية شهر رمضان يعقبها عيد الفطر. لكن علينا أن لا ننكر أن النهاية، الوداع والفراق، كل ذلك يُثير فينا عواطفا جيّاشا ووابلا من المشاعر. ان النهاية بهذا المعنى ليست حدثا عابرا وانما محطة تستحقّ التوقّف والتأمّل.

الموت هو النهاية الكبرى، لأنه بحدوثه تنتهي حياة وتبدأ أخرى (عند من يؤمن بالحياة الأخرى)! حياة أخرى تختلف عن حياتنا هذه، قوانينها تختلف، طبيعتها تختلف! ان كل النهايات داخلة في الحياة الدنيا، ما عدا نهاية الموت، اذ هي الحد الفاصل بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى. ولهذا فهي مميّزة عن غيرها من النهايات! بحدوثها يختفي الانسان من على ظهر الأرض ليدخل في باطنها، ينتهي ضحكه، بكاؤه، كلامه ولربما أهمّ ما ينتهي هو عمله (اذ الأمور السابقة داخلة في العمل). عندها ينتهي الحرث ويبدأ الحصاد! عندها ينتهي الامتحان وتظهر النتيجة الأوليّة! ولن ينفع الندم على الحرث الكاسد ولا على الإساءة في الامتحان! يقول تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون، 99-100). ويقول جلّ في علاه في آية أخرى: "وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المنافقون، 10-11).

انها النهاية التي اذا ما أتت فلا نملك ردّها ولا ينفعنا الفرار منها! ولأن الانسان المؤمن يطمع الى مزيد من عمل صالح ومزيد من تقوى، فإن هذه النهاية تُوجعه وتُحزنه من جهة أولى. وهي تُريحه وتسعده من جهة أخرى لأنها تأخذه من دنيا الكدّ والتعب الى لقاء من يحبّ، الى لقاء ربّه الذي خلقه والى عالم النعيم الأبدي. وبالتالي الموت لا يبقى حدثا سلبيا، اذ تدخل اليه معاني ايجابية، من مثل، لقاء المحبّ لحبيبه (خالقه)، النجاة من العذاب والدخول في النعيم الأبدي. ولعلّ ما يخفّف من وطأة الموت هو استمرار الأثر الطيّب الذي يتركه الانسان خلفه. يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". فرغم أن العمل الآني ينتهي، الا أن آثار الأعمال التي سبقت الموت تستمرّ تُلقي بأثرها على الميت ما استمرّ خيرها.

واذا كان الشهر يُولد، فإنه يموت أيضا. شهر رمضان الذي أظلّنا يهمّ بالذهاب، انه سيذهب دونما عودة (القصد رمضان الحالي)، انه سيطوي صحائفه. انه يلفظ أنفاسه الأخيرة، فمن أحسن فيه فطوبى له ومن أساء فلا يملك اعادة عجلاته الى الوراء، ولكنّه يُعوّل على ما بقي من الزمن بعده. انها نهاية محزنة، مؤلمة، مميتة، اذ أن شهر الخيرات يولّي! شهر الإحسان يُعلن انتهائه! أجوائه تنسلّ من بيننا! نسماته تتراجع! ويبقى الانسان مع ما قدّم فيه، ويحاسب نفسه على ما لم يقدّم ويؤنّب ضميره على التقصير أو حتى على عدم الزيادة في الإحسان. ان هذا الجو الحزين يمكن التماسه في النفوس التي تعلّق قلبها برمضان، ولعلّ ما تردّده المآذن في ليالي رمضان الأخيرة "لا أوحش الله منك يا رمضان"، لهو تعبير جليّ عن مثل هذه المشاعر الحزينة ابّان الفراق. أما من جهة أخرى، فالمؤمن يفرح بالأعمال التي قدّمها ويرجو الله أن تُتقبّل. انه يصحو فجأة من انغماسه وخشوعه لتأسره لحظات رمضان الأخيرة، فتدفعه الى تلخيص جهوده وتتويجها بالتاج الرمضاني. وتُفرح المؤمن أيضا هدية تعقب الصيام مباشرة وهي عيد الفطر. يقول عليه الصلاة والسلام: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".