27.7.14

تأمّلات في الجائزة


لا شكّ أن من صام رمضان، قد بذل جُهدا في الثبات على الطاعات والانتهاء عن المعاصي. هذا الجهد استمرّ شهرا أي أكثر من 8% من أيام السنة. انه موسم ماراثوني يأتي كل سنة! واذا كان الجُهد كبيرا، فلا بدّ أن تكون الجائزة غالية! اذ أن الإله الذي يعطينا عشر حسنات قبال كل حسنة وسيئة واحدة مقابل سيئة (ويمحوها ان تُبنا، بل ويستبدلها بحسنة) هو نفس الإله الذي يُجازي على الصوم وغيرها من الأعمال. يقول تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون" (الأنعام، 160).

يقول عليه الصلاة والسلام: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه". يمكننا أن نُقسّم الجائزة الى قسمين أساسين: الأولى عاجلة (في الدنيا) والثانية آجلة (في الآخرة). وكل واحد من هذين القسمين يحوي جوائزا فرعية، لنخرج بعدد لا يُحصى من الجوائز، ولكن لتبسيط الصورة، نودّ أن نلفت النظر الى الرئيسية منها. ان الجوائز العاجلة لا تتلخّص في فرحة العيد، ولكنّ فرحة العيد هي واحدة من الجوائز العاجلة وربما تأخذ مركزية لكون الجميع واعٍ لوجودها. فالكل يعلم أن هناك عيد الفطر، والعيد في عُرف الناس يعني الفرح.

اننا يمكن أن نتحدّث عن أربعة جوائز عاجلة يستلمها الصائم فور الفراغ من صوم رمضان. الأولى سنُسمّيها جائزة الانتهاء وهي تعني أن مجرّد الفراغ من الجهد والكدّ والتعب المُضاعف فإن ذلك يُعطي شعورا بالراحة. انه شعور يُشبه ما يشعره الانسان عند الفراغ من عمل مُجهد، كيوم عمل شاق، أو كيوم تعليمي مُطوّل، أو كامتحان مصيري. انه عندما يُدرك الانسان أن المارثون صار من ورائه وأن الفُسحة قادمة، عندها يمكنه أن يشعر بالتخفيف. الجائزة الثانية هي جائزة الإنجاز، فهو انجاز عظيم يُضاف الى سجل الانسان اذا ما أتمّ صيام رمضان وقيامه على أكمل وجه. ان هذه الجائزة لا تضمّ مجموع الأعمال وحدها ولكنها تشمل أيضا تأثيرها على عقل الانسان، نفسه وروحه. انه وفقا لهذا المفهوم فإن الانجاز ينطبع في كيان الانسان، اذ هو ليس عملا عمله الواحد وانتهى، ولكنّ أثره يبقى في الانسان. والحقّ أن الانجاز يضم عددا لا يُحصى من الانجازات، فقراءة القرآن وتدبّره هي انجاز، الصيام انجاز، الصلاة الخاشعة انجاز، قيام الليل انجاز، صلة الأرحام انجاز، الصدقة انجاز وكل عمل صالح هو انجاز. ان استحضار مجموع هذه الانجازات في نقطة النهاية (عند انتهاء شهر رمضان) يثير في النفس مشاعرا ايجابية، ذلك أنها ليست بالإنجازات الهامشية ولا بالغير محسوبة. وهي تُثير في النفس تلك المشاعر الإيجابية لأنها أعمال ايجابية، راقية ومؤثّرة في مضمونها، وكذلك، فإنها تُساهم في تقريب الانسان من كمال الإيجاب (النعيم الأبدي في الجنة).  

الجائزة الثالثة هي جائزة البقاء. انه ليس مفهوما ضمنا أن نبلغ رمضان ولا أن ننهيه، فلا تدري نفس بأي أرض تموت ولا تدري متى. لذلك يدعو المؤمن ربّه ابّان رمضان: "اللهم بلّغنا رمضان"! انه موسم الخيرات، وأن تُعطى لك فرصة لتحيا فيه، لتعيشه، لتُريَ الله منك خيرا فيه، فإن تلك نعمة كبيرة وفضل عظيم وجائزة لا تُقدّر بثمن. لذلك واجب علينا أن يكون كلنا مشاعر حمد وامتنان لخالقنا على أن بلّغنا هذا الشهر الفضيل الكريم وأن بلّغنا العشر الأواخر منه وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر! أما الجائزة الرابعة فهي جائزة العيد. انها الجائزة التي يحدث فيها الانتقال الفعلي من الامتناع عن الأكل الى الأخذ مما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات، ومن الجهد المُضاعف الى تحصيل أقساط من الراحة ومن العمل والحرث الى الفرح بالنتيجة.

ان هذه الجوائز وخصوصا جائزة العيد، لتسير وفقا لما يُسمّى بعلم النفس "Operant conditioning"، والذي بموجبه فإن إعطاء تشجيع (جائزة كمثال) مع إتمام عمل معين فإن ذلك يزيد الإنتاج والعمل. ان هذه الجوائز من شأنها أن تكون مزوّدا للطاقة ومحفّزا للاستمرار والحمد لله رب العالمين.

26.7.14

تأمّلات في النهاية


لكل بداية نهاية، فكما أن لفترة الدراسة الجامعية بداية فلها نهاية أيضا، وكما أن لرحلة استجمامية بداية فلها نهاية كذلك، وكما أن لبداية شهر رمضان بداية فله نهاية أيضا. والنهايات ترتبط بشكل عام بالنهاية الكبرى (الموت)، اذ هي تُحييها في النفوس بشكل واعٍ أو غير واعٍ. ولولا البداية التي تتبع النهاية، لما تخطّت النفس ألم النهاية والوداع والفراق، فنهاية الفترة الجامعية تعقبها فترة عمل، ونهاية الرحلة الاستجمامية يعقبها عودة الى البرنامج الاعتيادي، ونهاية شهر رمضان يعقبها عيد الفطر. لكن علينا أن لا ننكر أن النهاية، الوداع والفراق، كل ذلك يُثير فينا عواطفا جيّاشا ووابلا من المشاعر. ان النهاية بهذا المعنى ليست حدثا عابرا وانما محطة تستحقّ التوقّف والتأمّل.

الموت هو النهاية الكبرى، لأنه بحدوثه تنتهي حياة وتبدأ أخرى (عند من يؤمن بالحياة الأخرى)! حياة أخرى تختلف عن حياتنا هذه، قوانينها تختلف، طبيعتها تختلف! ان كل النهايات داخلة في الحياة الدنيا، ما عدا نهاية الموت، اذ هي الحد الفاصل بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى. ولهذا فهي مميّزة عن غيرها من النهايات! بحدوثها يختفي الانسان من على ظهر الأرض ليدخل في باطنها، ينتهي ضحكه، بكاؤه، كلامه ولربما أهمّ ما ينتهي هو عمله (اذ الأمور السابقة داخلة في العمل). عندها ينتهي الحرث ويبدأ الحصاد! عندها ينتهي الامتحان وتظهر النتيجة الأوليّة! ولن ينفع الندم على الحرث الكاسد ولا على الإساءة في الامتحان! يقول تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون، 99-100). ويقول جلّ في علاه في آية أخرى: "وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المنافقون، 10-11).

انها النهاية التي اذا ما أتت فلا نملك ردّها ولا ينفعنا الفرار منها! ولأن الانسان المؤمن يطمع الى مزيد من عمل صالح ومزيد من تقوى، فإن هذه النهاية تُوجعه وتُحزنه من جهة أولى. وهي تُريحه وتسعده من جهة أخرى لأنها تأخذه من دنيا الكدّ والتعب الى لقاء من يحبّ، الى لقاء ربّه الذي خلقه والى عالم النعيم الأبدي. وبالتالي الموت لا يبقى حدثا سلبيا، اذ تدخل اليه معاني ايجابية، من مثل، لقاء المحبّ لحبيبه (خالقه)، النجاة من العذاب والدخول في النعيم الأبدي. ولعلّ ما يخفّف من وطأة الموت هو استمرار الأثر الطيّب الذي يتركه الانسان خلفه. يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". فرغم أن العمل الآني ينتهي، الا أن آثار الأعمال التي سبقت الموت تستمرّ تُلقي بأثرها على الميت ما استمرّ خيرها.

واذا كان الشهر يُولد، فإنه يموت أيضا. شهر رمضان الذي أظلّنا يهمّ بالذهاب، انه سيذهب دونما عودة (القصد رمضان الحالي)، انه سيطوي صحائفه. انه يلفظ أنفاسه الأخيرة، فمن أحسن فيه فطوبى له ومن أساء فلا يملك اعادة عجلاته الى الوراء، ولكنّه يُعوّل على ما بقي من الزمن بعده. انها نهاية محزنة، مؤلمة، مميتة، اذ أن شهر الخيرات يولّي! شهر الإحسان يُعلن انتهائه! أجوائه تنسلّ من بيننا! نسماته تتراجع! ويبقى الانسان مع ما قدّم فيه، ويحاسب نفسه على ما لم يقدّم ويؤنّب ضميره على التقصير أو حتى على عدم الزيادة في الإحسان. ان هذا الجو الحزين يمكن التماسه في النفوس التي تعلّق قلبها برمضان، ولعلّ ما تردّده المآذن في ليالي رمضان الأخيرة "لا أوحش الله منك يا رمضان"، لهو تعبير جليّ عن مثل هذه المشاعر الحزينة ابّان الفراق. أما من جهة أخرى، فالمؤمن يفرح بالأعمال التي قدّمها ويرجو الله أن تُتقبّل. انه يصحو فجأة من انغماسه وخشوعه لتأسره لحظات رمضان الأخيرة، فتدفعه الى تلخيص جهوده وتتويجها بالتاج الرمضاني. وتُفرح المؤمن أيضا هدية تعقب الصيام مباشرة وهي عيد الفطر. يقول عليه الصلاة والسلام: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".

25.7.14

تأمّلات في البحث عن الليلة


اذا تأمّلنا في الغموض الذي يُحيط بليلة القدر من حيث زمانها، فإننا نخرج بحكم ودروس يجدر بنا أن نستحضرها. انها ليلة ثمينة وهي تتواجد في زماننا كل عام، ولكننا لا نملك أن نُحدّدها بسهولة. وبالطبع لا يمكننا تحديدها مُسبقا، على خلاف من يفترضون وقوعها في ليلة السابع والعشرين من رمضان. انها مجرّد فرضية تحتاج الى اثبات! هذه الليلة التي يقول فيها الحقّ تعالى: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" (القدر، 3-5). انها خير من ألف شهر! أي هي خير من 29000 يوم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرمها، فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا مَحروم". ان فضلها كبير وأكبر من أن يُوصف، وأجرها عظيم وأعظم من يُتصوّر، وهي غنيمة لا تُقدّر بثمن!

ولكن لماذا أُخفيت عنا؟! لماذا لم تكن واضحة كالشمس خصوصا وأنها فريدة من نوعها؟! يقول صلى الله عليه وسلم: "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، ويقول أيضا: "أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنُسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر". ان احتمال تواجدها في العشر الأواخر من رمضان هو كبير جدا، ولكن هذا لا يمنع تواجدها في غير ليلة من لياليه. الحافظ ابن حجر أورد أكثر من أربعين قولا فيها، منها أنَّها أول ليلة من رمضان، ومنها أنها ليلة النصف. ان اخفائها يدفع الى البحث عنها، فلو كانت مُحدّدة لما بزغت حاجة البحث. والبحث هو رسالة من رسائل اخفائها، اذ أن الأهداف لا تأتي الينا على طبق من ذهب، الاكتشافات لا تكتشف نفسها بنفسها. انها بحاجة الى الانسان الذي يملك مَلَكة العقل ليُشّغل قدراته في البحث، السعي، الاجتهاد والاكتشاف. وكل ذلك يصبّ في مصلحته، اذ أن الاكتشافات الدنيوية، ستساهم في تيسير المعيشة، والاكتشافات المُتعلّقة بالعالم الآخر (كإصابة ليلة القدر)، ستساعد هذا المخلوق المحدود عمره بمضاعفة أجره.

ان اخفاء هذه الليلة يتّسق مع روح شريعة الإسلام، اذ أن المسائل القطعية محدودة ومعدودة، في حين أن المسائل التي يبرز فيها الاجتهاد أكثر من أن تُعدّ وتُحصى. انه لم يُرَد لنا أن نتناول كل تفاصيل حياتنا مكتوبة جاهزة، لأن ذلك لا يُنشئ انسانا فاعلا في بناء الحضارة. انه لو كانت كل التفاصيل مكتوبة فستكون حياة الناس آلية، ستفقد روحها وربما معناها! انها رسالة للناس لئلا يبقوا يُردّدوا: "المكتوب ما منه مهروب"، ولكن ليأخذوا بالأسباب، ليعقِلوا وليفهموا أن الحياة تحتاج الى جدّ واجتهاد! انها رسالة للبحث عن الخالق، عن آياته، عن الحضارة، عن الثقافة وعن الحكمة! انها الرسالة التي تسعى الى تحفيز الانسان! انها تُعيد للإنسان ايمانه بقدراته، فخالقه يتوقّع منه نجاحا في التحدّي!

أما الرسالة الأخرى لإخفاء الليلة فتتلخّص في محدودية علم الانسان. انه رغم التقدّم العلمي ورغم التطوّر الحضاري، الا أن الانسان ما زال يقف عاجزا أمام آيات الله الكونية، كالزلازل والبراكين (هل يملك الانسان أن يمنعهما؟!)، وحتى الظواهر الايجابية كالشمس والرياح (هل يملك الانسان أن يُخفي ضوء الشمس أم هل يمكنه أن يُسكن الرياح؟!). كذلك الحال مع ليلة القدر وغيرها من الأمور التي لا تزال غير واضحة، فلا جهاز سحري يمكنه أن يُحدّد هذه الليلة الثمينة ولا مجموع العبقرية البشرية يستطيع فعل ذلك. انه في هذه الحالات يبرز العجز الانساني ومحدودية العلم. واذا جمعنا هذه الرسالة مع الرسالة السابقة، وجدنا أنهما يعكسان تركيبة هذا الانسان، فمن جهة هو قادر بإذن خالقه على بناء حضارة واختراع واكتشاف الكثير من الخبايا. ومن جهة أخرى، يبرز عجزه وقلة حيلته في حالات أخرى، ليعلم أن الله هو القادر وهو الفاعل الحقيقي ولئلا يغترّ بعلمه. 

تأمّلات في الاطمئنان


كلمة "اطمأنّ" تعني: سكن وثَبَتَ واستقر (معجم المعاني). وهي تُشير الى الراحة النفسية والى السكينة والهدوء بعد اندثار القلق والهلع. وقد وردت كلمة "اطمأن" ومشتقاتها في القرآن الكريم في عدّة مواضع، منها قوله تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد، 28)، وفي قوله تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" (الفجر، آخر السورة). ان الله سبحانه وتعالى قد سمّى هذه النفس بالمطمئنة وأمرها أن ترجع اليها، وهذا يعني أنها مطمئنة ما قبل موتها، مطمئنة في حياتها الدنيا. أي أن حصول الاطمئنان في هذه الحياة ممكن.

انه من طبيعة الحياة الدنيا أنها لا تستقرّ على حال، فهي متقلّبة، متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان. انه كما قيل: "يوم لك ويوم عليك" وأيضا "يوم عسل ويوم بصل"، وذلك تعبيرا عن عدم الاستقرار، وعن الصعود والنزول. ان في الحياة مسرّات وفيها أحزان، فيها ملذّات وفيها مشقّات، فيها نجاحات وفيها صعوبات، فيها حلول وفيها مشاكل، فيها حلو وفيها مر. وليس فقط أن هذه الحياة لا تستقرّ على حال، وانما هي لا تستقرّ على الايجاب أيضا، فالسلبية داخلة فيها سواء رغبنا بذلك أم لم نرغب. ان الهوّة واسعة بين ذروة الايجاب (ازدهار حضارة كمثال) وبين ذروة السلب (حرب طاحنة ودمار شامل كمثال). ولنا أن نتخيّل حال من يبقى حبيس هذا التذبذب بين الايجاب والسلب، ومن يرى بحياته الدنيا حياته الوحيدة التي لا وجود لما بعدها. انه سيتذبذب بتذبذب هذه الحياة، سيفرح عندما تُفرحه، وسيحزن عندما تُحزنه، ولو أطالت عليه الحزن لربما سيكتئب. انه عندها تُضحي الحياة المُتحكّم بهذا الانسان الضعيف، وهو يصير منصاعا لأوامرها. صحيح أن الانسان يُحاول أن يُغيّر أي أن يؤثّر على هذه الحياة، ولكن هذا التأثير يعكس تأثّرا أوليا بطبيعتها (طبيعة الحياة التي تحوي الايجاب والسلب)، فهو عمليا يحاول أن يزيد من لحظات الفرح وأن يستبعد قدر الإمكان لحظات الحزن. انه يحاول أن يزيد من اللذة وأن يُقلّل من الألم قدر الإمكان، أو يحاول أن يحوّل هذه الحياة الدنيا الى جنة الله على الأرض. لذا فإننا ندّعي أن النفس المحصورة في هذه الحياة، لا يمكنها تحصيل الاطمئنان وذلك لسببين: الأول وهو أنها تتقلّب بتقلّب هذه الحياة (نوع من الاضطراب). الثاني لأنها تُريد اقحام الحياة الدنيا ما ليس يتلاءم مع طبيعتها، وهو جعلها جنة الله على الأرض. انه عند محاولة خلق الجنة في هذه الحياة، فستتعدّد خيبات الأمل وسيكثر اليأس، لأن هذه محاولة غير ممكنه من أصلها.

لكنّ النفس المؤمنة تختلف عن سابقتها، اذ هي تؤمن بعالم آخر، عالم ما وراء المادة، عالم مثالي لا ألم فيه، وهي تربط جزءا من آمالها بذاك العالم الذي لم يأتِ بعد. بمعنى أنها لا تظلّ محصورة في تقلّبات الحياة الدنيا، وبالتالي تقلّ وطأة هذه التقلّبات عليها. بل ان هذه التقلّبات تُستبدل باستقرار مُستمدّ من العالم الآخر. ان العالم الآخر هو العالم المثالي، هو الذي لا سلبية فيه، انه مستقرّ على الايجاب. وايمان به وسعي اليه، سيُدخل استقرارا على النفس من استقراره. وعندها يمكن للاطمئنان أن يظهر، اذ هو كما قلنا مرادف للسكون، للاستقرار وللسكينة. 

انه عندما يدخل الايمان بالعالم الآخر الى الصورة، فإنها تزداد تركيبا، اذ الأمور لا تعود أحادية الجانب (كما في النظرة المادية) ولا تعود مسطّحة. فما نكره يمكن أن يكون خيرا لنا، وما نحبّ يمكن أن يكون شرّا لنا. يقول تعالى: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم" (البقرة، 216). ولنضرب مثالا على ما نكره وهو المرض. انه يمكن أن يكون هذا المرض فرصة للعودة الى الخالق أو تنقية من ذنوب أو امتحان الهي، وبكل الأحوال فالسلبية الآنية تضمحل اذا ما قورنت بالنعيم الأبدي. بالمقابل المال شيء نحبّه، ولكنه يمكن أن يودي الى بُعد عن طريق الحقّ، وبالتالي رغم الايجاب الآني، الا أن تأثيره بعيد الأمد سلبي الى أبعد الحدود (في هذه الحالة وليس دائما)، اذ هو يضرّ بالنعيم الأبدي ولربما يُوصل الانسان الى العذاب. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له". ان نوائب الدهر والمصائب التي تقع على رؤوس العباد، لا يمكن أن تُحطّم هؤلاء المؤمنين، اذ هم يرون أن هذه الحياة محطّة ولذا لا قيمة لها قبال النعيم الأبدي الذي ينتظرونه. ولا يعني هذا أنهم لا يتأثّرون، ولكنّ الايمان الذي عندهم يجعلهم ثابتين، مستقرّين، متوازنين في انفعالاتهم، وهم لا يخرجون عن دائرة الشكر والصبر. دائرتان (على عكس الاندفاعية) يجلبان لهم الاستقرار ويُنمّيان عندهم الطمأنينة.

22.7.14

تأمّلات في القُرب


لنفرض أن شخصين بدءا يقتربان من بعضهما وزادا في القُرب بشكل ملحوظ، الى أن زالت كثير من الحواجز والتكلّفات الاجتماعية بينهما. هل سنرى تفرّغا من أحدهما للآخر طوال الوقت؟ بمعنى، هل يمكننا القول أن الأول اذا طلب الثاني، فإنه حتما سيجده في كل وقت؟! وهل يمكننا القول أن اذا أصابت الأول مشكلة فإنه سيجد الثاني كله آذان صاغية وسيحلّ له مشكلته بشكل حتمي؟! وهل يمكننا أن نجزم أن كل فِعْلٍ من أحدهما، يأخذ بالحسبان مصلحة الآخر؟! وهل يمكننا أن نجزم أن لن يحدث أن يضرّ أحدهما بالآخر؟! ماذا لو تمزّقت العلاقة؟! ماذا لو دخلت العداوة مكان المحبة؟! أيأمن الواحد على أسراره المكشوفة في هذه الحالة؟!

ولو تأمّلنا في أصدق علاقة انسانية في هذا الكون، في علاقة الأم بولدها، لوجدنا أن فيها بُعدا معيّنا لا يمكن انكاره، فالأم هي الأم، والولد هو الولد. هذا البعد حيوي لمثل هذه العلاقة الانسانية، وهو يصبّ في انشاء كائنين بشريين مستقلّين. الأخصائيين النفسيين يتحدّثون عن انفصال الولد عن الأم. مالير (Margaret Mahler) تتحدّث عن ولادة جسدية وعن ولادة نفسية للطفل. في الولادة النفسية، ينتقل الطفل تدريجيا من الحالة التي يشعر فيها أنه ممزوج مع أمه الى الحالة التي يكون فيها تمييز بين شخصيتين منفصلتين، واللتان يجمعهما اتصال عاطفي متواصل. أي أنه رغم وجود الاتصال العاطفي المستمر والعميق، الا أنه يبقى هناك كيانين وشخصيتين بينهما بعد معين. هذا البعد رغم أنه صغير، الا أنه موجود! ولنا أن نفكّر أنه في كل علاقة بشرية تبقى هناك أسرار غير مكشوفة، وتبقى هناك مصالح، ويبقى هناك بُعد معين!

لكن اذا تأمّلنا علاقة الانسان بخالقه، وجدنا فيها ما لا ينوجد في أي علاقة انسانية. عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: "قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْي فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا". انه الخالق العظيم، الذي يمكننا أن نجده في كل وقت وحين، في كل مكان. في الليل كما في النهار. وقت الضراء كما وقت السراء. وحاشاه أن يقول لنا – كما يفعل البشر - أن لا مجال لمناجاتي في لحظة معينة! انه جلّ في علاه الذي قال في كتابه العزيز: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون". ان سمائه مفتوحة لنا على الدوام وهو غني عنا، وأرض قلوبنا نُغلقها أحيانا كثيرة ونحن محتاجون اليه على الدوام! ومع ذلك فهو لا يرفضنا وانما يدعونا اليه! "أوحى الله إلى داود عليه السلام فقال: يا داود لو يعلم المدبرون عني انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي ولتقطعت أوصالهم لمحبتي، يا داود هذه إرادتي بالمدبرين عني فكيف بالمقبلين علي" (الإحياء). وليس التعامل مع الخالق كالتعامل مع البشر، فالإنسان يضع حدودا (مصرّح عنها أو مفهومة ضمنا) اذا ما ازداد الاقتراب، أما في علاقة العبد بربّه، فإن العبد كلما تقرّب الى ربه، اكتشف أن بإمكانه زيادة القُرب أكثر، ولم يرَ حواجزا وانما على العكس قبولا ونشوة. روى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال: "إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة".

انه الخالق المطّلع على سرّنا وجهرنا، على ما أعلنا وما أخفيا، على تفكيرنا، على قلوبنا، على أحاسيسنا، على تصرّفاتنا. اننا مكشوفون بالكامل أمام خالقنا، ومع ذلك لا نشعر أن ذلك يُهدّد أمننا، وانما على العكس فإن هذا يطمئننا من جهة (اذ هناك من هو مطّلع على همومنا ومشاكلنا) ومن جهة أخرى يُثير فينا قلقا وجوديا طبيعيا (نظرا للمراقبة الإلهية الدائمة). اننا نتوجّه الى خالقنا بمشاعر مختلطة، مشاعر الرغبة والرهبة، رغبة برحمته وعدله، وخوفا من غضبه وعذابه! ورغم أننا نتوجّه الى القادر على كل شيء، الى القوي، الى القاهر، فإن مشاعر الرهبة لا تمنعنا من الرغبة، اذ لا ملجأ ولا منجا منه الا إليه! ولأننا نؤمن أنه لن يضرّ بنا حاشاه (وانما على العكس يريد أن يُسعدنا وينجينا من الهلاك)، فنحن نشعر بطمأنينة وأمان أكثر كلما زدنا في القُرب منه.

19.7.14

تأمّلات في العمل الصالح


كل انسان، مؤمن كان أم مُلحد، مسلم كان أم غير مسلم، يمكنه أن يعمل أعمالا صالحة، كمثل، اطعام الفقير، مرافقة الكفيف، اماطة الأذى عن الطريق وغيرها من الأعمال التي يتفق جُلّ الناس ان لم يكن كلّهم على صلاحها، حُسنها وجمالها. انها أعمال تحظى باحترام وتوقير المجتمع، كما أن فاعلها يحظى بردّ فعل ايجابي من مجتمعه. بعض الناس يفعلها ليتحصّل له هذا الاحترام والتوقير، أي المكانة الاجتماعية بين أبناء مجتمعه. البعض الآخر يفعلها ليشعر أنه شخص جيّد، وليستمتع بذاك الشعور الجميل الذي يُخلّفه العمل الصالح. وهناك من يؤمن بمبادئ معينة ويتشبّث بأخلاق عالية، ولذا يعتبر مساعدة الآخر على سبيل المثال ضرورة يصعب عليه تخطّيها.   

إلا أنه عندما نُضيف الجانب الديني فإن دائرة العمل الصالح تتوسّع، وتُضاف لها معاني جديدة. ان الدائرة تتوسّع لأنه تُضاف أعمال أخرى الى العمل الصالح، كمثل، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج والعبادات بمجملها. كما أن دائرة أهداف الأعمال الصالحة تتوسّع، اذ هي لا تبقى حبيسة النظرة قصيرة الأمد، وانما تتجّه العيون بالأساس الى الهدف طويل الأمد، الى العالم الأخروي، الى عالم البقاء. انه لا يبقى همّ عامل العمل المكانة الاجتماعية ولا الشعور الجميل اللحظي ولكن همّه الأساسي يتجّه الى ارضاء خالقه سبحانه وتعالى. اننا لا ننكر الأهداف المرحلية ولا نُقلّل من قيمتها، ولكننا نضعها في مكانها، اذ صحيح أن الشعور الجميل اللحظي هو شيء جيد وهو نوع من مكافأة أولية على العمل الصالح، ولا مانع من أن نستمتع بهذا الشعور، ولكن الذي يجب أن يقف أمام ناظرينا طوال الوقت هو تلك الغاية السامية التي خُلقنا من أجلها. ربنا جلّ وعلا يقول: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات، 56). ان هذه الآية تدفعنا الى الوقوف على تعريف العبادة. ابن تيمية يُعرّف العبادة على أنها: "اسم جامع لكل ما يُحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". ابن القيم يُعرّفها على أنها: "غاية الحب لله عزَّ وجلَّ مع غاية الذل له، التي تحث على العمل لطاعته، والانزجار عن نواهيه". أي أن العبادة لا تنحصر في العبادات والشعائر، وانما يدخل فيها العمل الصالح بكل أنواعه وكل الأعمال المُباحة اذا ما رافقتها النية. ان الحياة تُضحي كلّها لله، فالأكل، النوم، الجماع، التعليم، العمل، يصبح كل ذلك عبادة، ان كان على منهج الخالق وخالصا لوجهه. ان الحياة تُضحي ملآى بالأعمال الصالحة. "العمل الصالح لا يُقْبَل إلا إذا كان خالصاً وصواباً. خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السُنَّة" (النابلسي).

ثم ان بين العمل الصالح والايمان علاقة متبادلة، اذ أن الايمان يؤثّر على العمل الصالح وتأثيره كبير، وكذلك العمل الصالح يؤثّر على الايمان. ان التأثير الأول يظهر، لأن الايمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل، فالعمل الصالح حلقة تُكمّل الايمان. ان القصة تبدأ بالإيمان، اذ أنه موجود منذ لحظات الانسان الأولى متمثّلا بالفطرة. لذلك فإن العمل الصالح يتبع الايمان. يقول تعالى في مواطن عديدة من الذكر الحكيم: "الذي آمنوا وعملوا الصالحات". انه التغيير الداخلي الذي يعقبه تغيير خارجي، انها الثورة الداخلية التي تعقبها ثورة خارجية، وهذا ما ينسجم مع روح هذا الدين وروح هذا القرآن. "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد، 11). أما التأثير الثاني (تأثير العمل الصالح على الايمان) فهو أشبه بالأثر الرجعي (العائد) الذي تتركه الأعمال الصالحة على صاحبها. انه عندما يتبرّع الواحد لبناء مؤسسة عامة ويرى الفائدة والتيسير الذي جلبه عمله الصالح للناس، فإن ذلك يترك أثرا فيه، أثرا يزيد من شعوره الايجابي، أثرا يرفع به ايمانه. واذا ما أردنا أن ندمج التأثيرين فإننا نخرج بسلسلة مُركّبة بعض الشيء. هذه السلسلة تبدأ بالفطرة أي بالإيمان الأولي واقامة الشعائر لا تنفكّ تُنمّي هذا الايمان كلما ضَعُفَ، كما أن الشعائر هي أجلّ الأعمال الصالحة لأنها تدفع الى الأعمال الصالحة الأخرى (في شتى مجالات الحياة). فالفطرة أو الإيمان الأولى يدفعان الى اقامة الشعائر (أجلّ الأعمال الصالحة)، واقامة الشعائر تُلقي بأثرها على الايمان (ترفع نسبه)، مما يدفع الى مزيد من الأعمال الصالحة، ومن ثم تُلقي هذه الأعمال بأثرها على الايمان وهكذا فإن هذا التفاعل المُتبادل المركّب لا يعرف نهاية. واذا ما تذكّرنا مفهوم العبادة العام (كما عرّفناه أعلاه)، فهمنا أن هذه السلسلة يمكنها أن تندمج مع حياة كل واحد منا، فالعبادة لا تشتمل فقط على الشعائر، والعمل الصالح لا يشمل فقط انفاق الأموال، وانما الأعمال الدنيوية التي يمكن أن تبدو لنا وضيعة يمكنها أن تدخل في دائرة العبادة والعمل الصالح. يقول صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحـدنا شهوته ويكون لـه فيها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر".

16.7.14

تأمّلات في الصوم


الصوم عند المسلمين يعني الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة (معجم اللغة العربية المعاصر). انها أمور اذا ما أمسك الانسان عنها، فإنه يدخل في الصوم، ولا يمكنه أن يدخل في الصوم دون الإمساك عنها، بمعنى أنها شرط للدخول في الصوم. فإذا ما حقّق متطلّبات الصوم العامة، دخل في الصيام، ولكن هذا لا يعني أن كل الصائمين متساوون في الأجر، ففيه يبرز التفاضل. اذ لا يُعقل أن يكون من قضى نهاره متسخّطا على دنياه والناس، كمن قضى نهاره فرحا بمنحة الصوم، وان حدث وأحسّ من نفسه غيظا كظمه وقال: "اللهم اني صائم"! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش". ان الصوم بهذا المعنى مدرسة تربوية، وينبغي أن يُلقي بأثره على النفس الانسانية. لهذا الصوم آثار ونتائج، وأجلّ هذه الآثار ارتقاء الروح وتفعيل الايمان وكذلك ارتقاء أخلاقيات الفرد. أي أن الصوم يُحدث تغييرا داخليا في نفس الانسان (الروح والايمان)، وعلى أثره يحدث التغيير الخارجي (ارتقاء أخلاقيات الفرد). لذلك وبما أن هذه النتائج تتبع الصيام، لم يتمّ وضعها كشرط مُسبق للدخول في الصوم. فلم يتم اشتراط كظم الغيظ أو الغيبة والنميمة مثلا، لأن الصوم هو واحد من الوسائل التي ستتكفّل بمعالجتها.

الصوم يؤثّر على مركّبات الانسان الأربع: الجسد، النفس، العقل والروح. الجسد يجوع، يعطش ويتعب. النفس تكبح شهواتها، فيضعف فجورها وتزداد تقواها. العقل يدرك معاني الصوم وآثاره. الروح تُلخّص كل ذلك وتستحضره لترتقي. واذا ما ركّزنا في أثر الصوم على النفس، اكتشفنا كم هي عظيمة دروس وآثار الصوم النفسية والتربوية. فرويد يرى أن الجهاز النفسي مكوّن من ثلاثة أقسام: "الهو" (id)، الأنا (ego) والأنا الأعلى (super-ego).  "الهو" يحوي كل ما هو مورث وموجود منذ الولادة، وهو يحوي الغرائز التي تنبعث من البدن. يطيع "الهو" مبدأ اللذة "Pleasure principle"، وهو لا يراعي المنطق أو الأخلاق أو الواقع. أما الأنا فيقبض على زمام الرغبات الغريزية التي تنبعث من "الهو"، فيسمح بإشباع ما يشاء منها ويكبت ما يرى ضرورة كبته مراعيا في ذلك مبدأ الواقع "Reality principle". ويمثل الأنا الحكمة وسلامة العقل على خلاف "الهو" الذي يحوي الانفعالات. أما الأنا الأعلى وهو ما يُعرف عادة بالضمير، فيمثل ما هو سام في الطبيعة الانسانية. فمع تطوّر الانسان تتكوّن داخله سلطة نفسية داخلية تأخذ تراقبه، تصدر إليه الأوامر، تنقده وتهدّده بالعقاب (كتاب الأنا والهو لفرويد).

وعندما يمسك الانسان عن الأكل والشرب والجماع داخلا بذلك في الصوم، فإنه عمليا يتخلّص من سطوة مبدأ اللذة. "الهو" يطلب شهوة الأكل وشهوة الجنس، ويريد أن يُخضع الانسان لمبدئه، مبدأ اللذة، ولكن النفس الصائمة تُفهمه أنه ليس هو الحاكم وليس هو الموجّه وليس هو كل شيء. لكنها الى جانب ذلك، لا تنكره ولا تتغاضى عنه، اذ أنه من وقت الإفطار الى السحور يمكنها أن تروي هذه الشهوات ضمن الضوابط المُحدّدة. الضوابط التي ربّاها الصيام عليها. أي أن الصيام يقوم بضبط "الهو" أو الغريزة، وبذلك يحدث التحرّر من الانصياع الدائم لمبدأ اللذة.

ان بين "الهو" والأنا الأعلى صراع مستمر، والأنا هو الوسيط بينهما. "الأنا" يحاول ارضاء الطرفين ("الهو" والأنا الأعلى)، كي يعيش الانسان بتوازن نفسي. الأنا الأعلى يتطوّر جراء التربية الدينية وزرع الأخلاق والقيم في النفس الانسانية. بمعنى أن الذي يدفع الانسان للصيام هو الأنا الأعلى. انه في فترة الصيام يُحبَس "الهو" وبالتالي يقلّ تأثيره على الأنا، وبالمقابل يأخذ الأنا الأعلى زمام القيادة. والأنا الأعلى كما قلنا يحوي الضمير، الأخلاق، القيم الحسنة وكل ما هو سام في الطبيعة الانسانية. لذا فإنه عندما يقود، يُتوقّع أن يكون تأثيره أقوى على الأنا، وبذلك فإن الأنا يتعرّض أكثر لتأثير الدين، الضمير، الأخلاق والقيم الحسنة. من هنا نتوقّع أن يتحلّى الصائم بأخلاقيات عالية، لأن توقّعنا هذا يُلامس المراد من الصيام. الا أن ما يحدث أحيانا أن "الهو" يُفلت من الحبس المفروض عليه قبل الأوان، ولا نريد الدخول في أسباب انفلاته، ولكنّ ذلك يظهر في تصرّفات عدوانية مثلا. ان هذا الحظر المفروض على "الهو" يروّضه، يؤدّبه، يضبطه ولا ننكر أنه حظر ليس بالبسيط، ولكن لكي يحدث الارتقاء، يحتاج الانسان الى مثل هذا التدريب من فترة الى أخرى. واذا ما انتهى وقت الصيام، رُفع الحظر عن "الهو" وظلّ الأنا الأعلى متواجدا، لكن الأنا يبقى مع أثر الصيام.  

15.7.14

تأمّلات في القرآن


اذا كان الكون كتاب الله المنظور، فإن القرآن هو كتاب الله المسطور. ولا شكّ أن بينهما ترابط، فبينما يحوي الأول آيات الله الكونية، فإن الثاني يحوي آيات الله المكتوبة، وكلها آيات. ان القرآن هو المُعجِزة الخالدة الذي لا ننفكّ نكتشف عجائبه وخباياه! انه المُتعبّد بتلاوته! انه الذي يُبكي العيون من وقعه! انه الذي ينقّي القلوب! انه الذي يُذهب الأحزان! انه الموجّه! انه الذي قال فيه الوليد بن المغيرة: "والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".

لا يمكننا أن ننهي الكلام في تأثير هذا الكتاب الجليل على الانسان المؤمن، فضلا عن تأثيره على جميع البشر المُستعدّين لسماعه. وان هذا التأثير الكبير يتحصّل نظرا لتوافر عدد من مفاهيم الجمال. وأول هذه المفاهيم (لا نقصد هنا الترتيب) هو الجمال الصوتي، الذي يُدخل للآذان أنغاما فريدة، أنغام تسير على مقام وتتفنّن في الابهار. انها ليست قراءة عادية، ليست قراءة نشرة أخبار ولا كتاب عادي، ولكنها تلاوة وتجويد. وفيها من التفنّن ما فيها! وفيها من تفاوت القدرات ما فيها! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به". وقد قال النبي عن أبي موسى الأشعري: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود". انها القراءة التي تخرج من الأعماق اذا، من القلوب، لتصل الى أعماق المُستمعين، الى قلوبهم. ولو أسمعت من لا يفهم العربية تلاوة جميلة لآيات الذكر الحكيم، لتأثّر منها ولأحسّ بالأحاسيس والمشاعر الممزوجة داخلها!

النوع الثاني من الجمال هو جمال الفهم. فعندما يُضاف الى الجمال الصوتي جمال الفهم، يتضاعف التأثير وتزداد وطأته. وكلما زاد فهم المستمع، زاد استمتاعه بما يسمع، اذ يمكنه عندها أن يلتقط المعاني المؤثّرة وبالتالي يتأثّر من تأثيرها. انه يمكنه أن يتخيّل، يتصوّر، يقرّب المعاني، مما يجعله يعيش في فضاء كل آية رحلة كونية لا تُعرف نهايتها! ان كل آية – كما آيات الكون – تحوي فضاء واسعا في جمال الفهم. واذا كان فهم آيات هذا الكتاب، دراسته وبحثه لا تنتهي، فإن تجدّد جمال الفهم كذلك لا ينتهي. انه يمكن للقارئ أن يقرأ الآية كل مرة بعيون جديدة. هذا الجمال يستعين بالقدرة العقلية لفهم الآيات، وعندما يتحقّق الفهم يُلقي بتأثيره على القلب. يقول تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد" (الزمر، 23).

النوع الثالث هو جمال الموقف، فأن تقف مصلّيا قبال الكعبة الشريفة ليس كأن تصلّي في مسجد الحيّ، وأن تصلّي في الأقصى ليس كأن تصلّي في مصلى المشفى، وأن تصلّي في جماعة المسجد ليس كأن تصلّي في البيت. انه في كل هذه الحالات يمكن أن تتلو أو تسمع نفس الآيات، ولكن الموقف أو السياق يختلف. انه عند الكعبة تتدافع المشاعر الجيّاشة لعظم الموقف، وفي الأقصى تدمع العيون حَزَنا على حاله الكئيب، وفي جماعة المسجد تُلقي وحدة الصف بتأثيرها. ان لهذه السياقات المختلفة تأثيرات مختلفة، وتأثيراتها ترتبط بتعلّمنا الاجتماعي، فلأننا نؤمن أن المسجد الحرام هو أعظم المساجد نتوقّع موقفا مؤثرا، ولأننا نؤمن أن الأقصى هو ثالث الحرمين الشريفين وقبلتنا الأولى نتوقّع موقفا مؤثرا كذلك. هذا النوع من الجمال يتحرّك من خلال النفس التي تتأثّر من السياق أو المحيط.

النوع الرابع هو جمال الشعور، فأن تشعر أن الله يُلقي اليك بكلامه، بوصاياه، بوحيه، مع شعورك بعظمة الخالق وصغر نفسك، يجعلك تقف خاشعا متصدّعا من خشية الله. انه كلام لا يُقدّر بثمن، يُلقى من الخالق العظيم الى المخلوق الضعيف! وأن تشعر وتتذكّر كم عانى النبي صلى الله عليه وسلم والسابقون من أجل أن تصلنا هذه المعجزة الخالدة! جمال الشعور هذا يتحرّك من خلال الروح والقلب. انه هو الذي يجعل الواحد يُحلّق في علّيين، وهو مرتبط بالأنواع السابقة من الجمال، فبعد أن يتحقّق الجمال الصوتي وجمال الفهم وجمال الموقف، يشتعل جمال الشعور ويزداد نوره. ولنا أن نستنتج أن اذا أردنا تلاوة متدبّرة خاشعة، فإنه لمن المنطقي الجمع بين أنواع الجمال الأربعة: جمال الصوت، جمال الفهم (العقل)، جمال الموقف (النفس) وجمال الشعور (الروح). 

13.7.14

تأمّلات في الصلاة


اننا نؤمن بالغائية التي تعني أن لكل أمر غاية وحكمة، وأسئلة مثل، لماذا خُلق الكون؟ لماذا خُلقت الحياة؟ لماذا الشقاء والتألّم؟ هي أسئلة تبحث في الغائية. وأسئلة مثل، لماذا الصلاة؟ لماذا الصيام؟ هي كذلك أسئلة تسأل عن الغاية. واذا كانت الصلاة تتكوّن من عدة هيئات، فانه يمكننا أن نقول أن اذا كان للصلاة غايات كلية، فإن لهيئاتها غايات جزئية. ولسنا نبحث عن الغايات بشكل عام، ولكننا نتركّز في الغايات النفسية من الهيئات المختلفة. 

الصلاة ترمي الى احياء الروح وصيانة الفطرة وتهذيب الغريزة. وهي مدرسة روحانية، توجّه تفكير الانسان، احساسه وسلوكه. ويمكننا أن نضرب اليوغا كمثال مقابل للصلاة، رغم أنه لا مجال للمساواة بينهما، اذ أن الصلاة مؤيّدة بوحي رباني ولمصلّيها أجر. اذا تمعّنا في الاستقامة، وجدنا أنها بداية التعظيم، اذ أن الوقوف يعكس اهتماما واحتراما. فعندما يسقط شهداء نقف دقيقة صمت حزنا على فقدانهم، وعندما يريد مُستمع أن يسأل محاضرا فإنه ان وقف أعطى هيئة مختلفة للسؤال، واذا ما قدم شخص ذو أهمية فإن الجالسين يقفون لاستقباله. والوقوف بين يدي الله أعظم الوقوف لأنه يحمل هذه المعاني وأكثر. انه وقوف جسدي فالجسد منتصب والرأس مطأطأ اذعانا وتسليما لعظمة الخالق، ووقوف نفسي اذ نكفّ عن مجاملة من حولنا، ووقوف عقلي اذ يتعالى العقل عن الماديات، ووقوف روحي اذ الروح تُعلن قيامتها.

والركوع هو هيئة تزيد في التعظيم وتزيد في التسليم والاذعان. والممثل يركع أمام جمهوره في نهاية عرض المسرحية، ليعبّر عن شكره وامتنانه لهم، وليُظهر تقديره وتعظيمه لمجيئهم الى العرض ومكوثهم حتى آخره. والركوع بين يدي الله أعظم الركوع لأنه يحمل تسبيحات التعظيم، ولأنه يحمل شكرا وحمدا على ما لا يُحصى من النعم. أما السجود فهو غاية التعظيم وغاية الاذعان والخضوع، ولا نكاد نراه في أي نشاط آخر سوى التعبّد. انه نشاط خاص بالعبادة! وعندما يكون الانسان في الأسفل، عند الأرض، جميع أطرافه ملاصقة لها، يُطلق تسبيحات "سبحان ربي الأعلى"، الموجّهة الى السماء. انه عبر هذه الهيئة يدخل في أسمى معاني العبودية (عبر الالتصاق بالأرض)، وبالمقابل، يُظهر أسمى معاني التعظيم والتبجيل (عبر التسبيحات). انه في هيئة السجود يكون الانسان في مكانته الحقيقية في هذا الكون، انه يكون في مكانته الحقيقية أمام عظمة خالقه. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".

والصلاة تفعّل مركّبات الانسان الأربع الأساسية: الجسد، العقل، النفس، الروح. فالجسد غير جامد، وانما يستقيم، يركع، ينحني ويسجد. انه متواجد في حركة مُتناغمة مُنظّمة، وهو يعرف الخطوات القادمة، ويتذكّر الخطوات السابقة. والعقل يتفكّر ويتأمّل ويتدبّر في آيات القرآن، ويخاطبه ربه فيقول له في صلاته: "أفلا يعقلون"، "أفلا يفقهون"، "أفلا يتدبّرون". والنفس تتأثّر من وقع تلاوة القرآن والتسبيحات وذاك الصف المتكاتف وتلك الحركات المضبوطة. والروح - وهي المركّب الذي يأخذ مركزية في الصلاة - تتفعّل، لأن الانسان يخرج من دائرة الماديات، ويفرغ ذهنه من الأشغال الدنيوية، ليسيح في فضاء حرية الروح. انها لحظات يمكن للإنسان فيها أن ينسى الركض المستمر في هذه الحياة، ليقف وقفة ويأخذ فاصلا من عناء التفكير الدنيوي ومن عناء الركض. ان الصلاة بهذا المعنى تدريب للجسد، للعقل، للنفس وللروح.   

والصلاة هي ملك الجميع، ولا تختص بها فئة دون غيرها. فهي ليست كالزكاة يُعافى منها الفقراء، وهي ليست كالصيام يُعافى منه المرضى. انها لا تحتاج الى مهارات عالية، ولا الى تعليم أكاديمي، ولا الى دفع أموال كدورات اليوغا. ولكنها تحتاج الى انسان! ان كل انسان يمكنه أن يمارسها، غني أو فقير، معافى أو عاجز، أكاديمي أو فلاح، ولذا فهي تُظهر قيمة المساواة في أبهى صورها. فالغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، والكبير والصغير، والأكاديمي والفلاح، كلهم متساوون عند وقوفهم بين يدي الله. ويأخذ العلماء درجة أو درجات على العامة اذا ما استعانوا بعلمهم في التفكّر والتأمّل، ولكن هذا لا يظهر في الصلاة بشكل جلي، فالتفضيل هنا يبقى سرا بين العبد وربه. 

10.7.14

تأمّلات في الكون


اذا تأمّلنا في الكون، وجدنا فيه آيات تنطق بالحق وتشير الى الحقيقة. ولقد زادت الاكتشافات العلمية من الآيات المُدركة، اذ عُدنا نرى كواكب لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، وصارت المراكب الفضائية تصل الى مناطق بعيدة خارج كوكبنا، والأقمار الصناعية تُلقي بالمعلومات الكثيرة الى العالم الانساني. رغم ذلك نرى مدّا الحاديا! أفهي الآيات توقّفت عن النطق بالحق أم أنها صارت لا تجد من لا يُلقي لها بالا؟! ان الآيات الكونية موجودة منذ خلق الله الكون، ولكن الذي يختلف هو تفسير الانسان لهذه الآيات، فبينما اعتبر ثلة من الأقدمين الشمس على أنها آلهتهم، نعتبرها اليوم نجمة واحدة من نجوم كثيرة، وهي أقرب النجوم الينا ولذا يصلنا ضوؤها وحرارتها. ان الآية ظلّت موجودة ولم تختلف ماهيتها، ولكن التفسير الانساني هو الذي اختلف. يقول تعالى: "وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" (يوسف، 105). ورد في التفسير الوسيط: "العبرة والعظمة الدالة على وحدانية الله وقدرته، يمر بها هؤلاء المشركون فلا يلتفتون إليها ، ولا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون بها ، لأن بصائرهم قد انطمست بسبب استحواذ الأهواء والشهوات والعناد عليها".

انه عندما يذهب أحدهم الى معرض رسوم فنية، فتعجبه وتشدّ أنظاره لوحة من اللوحات، فإن ذلك يدفع به الى أن يسأل عن راسمها، عن مالكها، عن موجِدها. ان الانبهار أثار حبّ الاستطلاع عنده، مما دفع به الى البحث والتنقيب عن موجِد هذا الابهار. كذلك عندما تبهرنا البحار على ضخامتها وقوة أمواجها، وعندما تبهرنا الشمس التي تضيء كل شيء، وعندما تبهرنا الشلالات الضخمة، تطفو عندنا وعند كل عاقل أسئلة حول موجِد هذه الموجودات. من أوجدها؟! من أوجد هذه البحار والمحيطات؟! من أوجد الجبال المُخيفة؟! من أوجد الحيوانات الكثيرة أنواعها؟! من أوجد تركيبة الهواء التي تناسبنا؟! من أوجد الجاذبية التي تناسبنا؟! من أوجد الليل الذي يُسكِننا؟! من أوجد الحبّ؟!

أيمكن لهذا الكون المُحكم في تنظيمه، المُعجز في تركيبه، المبهر في مرآه، أن يكوّن نفسه بنفسه؟! انه لا يُعقل أن تقوم المادة العمياء، بهذا التخطيط وهذا التنظيم! هل يمكن لإنسان أن يوجد هذا الكون؟! هل يمكن لكائن حي آخر يعيش في زماننا ومكاننا أن يوجده؟! أرونا اياه ان كنتم صادقين! هذه الأسئلة التي تبحث عن موجِد لهذه الموجودات المصمّمة تصميما ذكيا، توصلنا الى برهان التصميم أو البرهان الكوني (Design/ Cosmic Argument)، والذي وفقا له: "بنية الكون وقوانينه تدل على وجود المصمم الذكي أو الإله الخالق" (كتاب رحلة عقل). كما أن التلاؤم والانسجام بين الانسان وعالمه، وكون الانسان يستطيع أن يعيش في هذا الكوكب، ليدلّان على وجود من هيئ الانسان وهيئ هذا العالم، ليكون بإمكانه العيش فيه. انه ليس حدثا اعتباطيا، ولكنه مصمّما ومحسوبا. وهذا يُوصلنا الى البرهان الثاني الذي يُدعى مفهوم المبدأ البشري (Anthropic Principle)، حيث يعني: "أن الإله قد صمّم الكون على هذه الهيئة ليكون مناسبا لنشأة الحياة بصفة عامة، ونشأة الانسان بصفة خاصة" (نفس المصدر السابق).

قسم من الناس يرى قدرة الخالق في هذه الآيات الكونية، وتزيده ايمانا كلما أمعن النظر فيها وتفكّر. انها بالنسبة له ذكرى، وكما أن القرآن عنده هو كتاب الله المسطور، فالكون بالنسبة له كتاب الله المنظور. يقول تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آيات 190+191 من سورة آل عمران). قسم آخر يُعرضون عن هذه الآيات كما قلنا سابقا، اما بوعيهم واما بغير وعيهم. والقسم الثالث هم من أقنعوا أنفسهم بتفسير غير منطقي، كقولهم أن كوننا قديم ولا بداية له، لكن العلم أقرّ بوجود بداية لهذا الكون! وعندها لجأ الملاحدة الى القول بأن لكوننا بداية ولكنه لا يحتاج الى موجِد أول! وكلما سُدّ عليهم باب فتحوا بابا آخر واستمروا يُطلقون الفرضيات الهشّة. ولكن لئن سئلت أحدهم من أوجَد تلك الصورة الفنية المعلّقة في المعرض، لقال لك مؤكّد أنه فعل انسان. أما حين تسأله وفقا لنفس المنطق، من الذي أوجد الموجودات في عالمنا، فإنه يسوغ حسب رأيهم أن لا يكون موجِد لها! 

8.7.14

تأمّلات في المجتمع الصناعي


المجتمع الصناعي هو ذاك المجتمع الذي يرفع من شأن الآلة ويقدّسها، وهو بتقديسه هذا يقدّس الانتاج. وهو نابع ولا ينفكّ يغذّي مبناه الاجتماعي من النظرة المادية، التي تُعلي الكمّ على الكيف، والمادة على الروح، والظاهر على الباطن. واذا نظرنا الى نقطة نشأة هذا المجتمع الصناعي، أي الى الثورة الصناعية، نرى أنها تنصبغ بالمادية بشكل واضح. فلماذا سمّوها ثورة صناعية؟! ألأنها تصنع أخلاقا؟! أم لكونها تصنع روحانية وتأمّلات فكرية؟! انها ثورة في صناعة الماديات.

الفيلسوف علي عزّت بيجوفيتش يوضّح لنا الفرق بين الثقافة والحضارة في كتابه "الاسلام بين الشرق والغرب"، فهو يرى أن "الثقافة تبدأ بالتمهيد السماوي بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة، وستظل الثقافة تُعنى بعلاقة الانسان بتلك السماء التي هبط منها، فكل شيء في اطار الثقافة اما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمّل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان". أما الحضارة فهو يُعرّفها على أنها "استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، التبادل المادي بين الانسان والطبيعة. هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. هنا لا نرى انسانا مرتبكا في مشاكله الدينية، أو مشكلة "هاملت" أو مشكلة "الإخوة كرامازوف"، انما هو عضو المجتمع الغُفل، وظيفته أن يتعامل مع سلع الطبيعة ويغيّر العالم بعمله وفقا لاحتياجاته". أي أن الثقافة تعلو على المادة وتتفوّق عليها، في حين أن الحضارة تبقى حبيسة الماديات. 

ان المادية تغلغلت الى القلوب وفي أحيان تمكّنت منها، وأثّرت على قراراتنا دون أن ندري حتى صارت موجّها لنا في كل مجالات الحياة. الشعائر الدينية نفسها لم تسلم من طغيان المادية! ولنضرب مثالا. أحيانا يفكّر الواحد منا، أن اذا كانت الصلاة في البيت تستغرق خمس دقائق، فلماذا نذهب الى المسجد ليأخذ ذلك ربع ساعة اضافية من الوقت؟! أليس من الصحيح الحرص على الوقت خصوصا وأننا في عصر السرعة؟! اذا أعدنا النظر في هذا التفكير وجدناه ماديا بحتا، اذ أن ما فعله العقل هو مقارنة كمّية بسيطة بين اقامة نفس العمل (في الظاهر) في البيت وبين اقامته في الخارج. ليستنتج أنه حيثما يوجد ربح أكثر (ربح أكثر للوقت) فذاك الخيار الأفضل.     

ولكن العقل المادي لا ينتبه الى عوامل أخرى تستعصي عليه، وربما يتجاهلها لأنها تُظهر عجزه. العقل المادي يستصعب فهم لحظات التأمّل ولحظات الخشوع. وهو يستغرب كيف لهذا الانسان أن يصفن ساعات في آية كونية دون أن ينتج شيئا محسوسا ودون أن يحقّق أرباحا ملموسة! ويستغرب كيف له أن يقف ساعات بين يدي خالقه متجاهلا عجلات الانتاج حوله! ولو تفكّر ذلك الشخص الذي فضّل صلاة بيته على صلاة المسجد لحساب مادي بسيط، لفهم أن حسابه خاطئ، اذ صحيح أنه يوفّر وقتا، ولكن عمله في كلا الحالتين غير متطابق وبالتالي لا يُثمر عن نفس النتائج. ثم لو أردنا أن نحسب الأمور حسابا ماديا خالصا، لوجدنا أن الصورة تبقى ناقصة. فعلى سبيل المثال، ما الذي يفسّر استغراق مهمة في حالة معينة وقتا أكثر بكثير، من استغراق نفس المهمة معنا في حالة ثانية؟! اننا نعلم أنه تدخل عوامل كثيرة في التأثير على مدى تركيزنا، من مثل، مستوى اليقظة، المزاج النفسي وغيرها، واننا لنعتقد بوجود عوامل أخرى لم يتم الكشف عنها الى الآن. وذاك مثل الذي صرف وقتا أكثر في صلاة المسجد، اذ يمكن أن يستعيض عن هذا الوقت وزيادة عليه اذا ما شرح الله صدره للمهمة التي يودّ تنفيذها. اننا لا نُلغي وجود عوامل نفسية يستطيع الانسان ادراكها ولكننا أيضا لا نلغي وجود عوامل ما ورائية نعجز عن ادراكها.   

اننا لا نرفض المادية ولا نقدّسها. اننا نرى أنها جانب واحد من هذه الحياة، ولذا فإن التركّز بها دون غيرها، يقلّص الصورة ويجعلها ضيّقة. ان المادية تدخل في غالبية الأمور حتى في الشعائر الروحانية (عدد ركعات الصلاة، ساعات الصيام، عدد ختمات القرآن وغيرها)، ولكنها لا ينبغي أن تسيطر عليها ولا أن تكون همّنا الأول والأخير. الطبيعة على طبيعتها كلها ماديات ولكنها اذا ما التقت مع الانسان ظهرت أمورا أسمى، كالتأمّل والتفكّر والتسامي الروحي، وظهرت الثقافة ولم تبقَ مجرّد حضارة.  

6.7.14

تأمّلات في الطبيعة


اذا تأمّلنا في الطبيعة، وجدناها مرآة لطبيعة هذا الكون. فالسهول الخضراء والينابيع الصافية والجداول والأنهار والشلالات التي تُبهر الأنظار وتدفع بنا الى التقاط كمّ هائل من الصور، والأشجار على أنواعها والغابات والحيوانات والطيور، والبحار والمحيطات والجبال والتلال، تدخل كلها في الوجه الأول للطبيعة، وهو الوجه الحسن الخيري. الوجه الآخر يشمل كل ما نُسمّيه كوارث طبيعية، من مثل، هزّات أرضية، زلازل، أعاصير، براكين وغيرها. هذا الوجه القبيح الشرّي هو الوجه الآخر للطبيعة. انها الطبيعة التي تحمل خيرا وشرا، كما أن هذا الكون يحمل خيرا وشرا، ولذا فهي مرآة لهذا الكون.

ولا شكّ أن هذه التركيبة التي تحوي المتضادين (الخير والشر)، موجودة أيضا في الانسان، فهو يحمل نزعة الخير ونزعة الشر كذلك. الانسان بطبيعته (منذ خروجه الى هذه الدنيا في لحظة الولادة) يحمل هاتين النزعتين. نزعة الخير التي تتمثّل عنده بالفطرة، ونزعة الشر التي تتمثّل بالغريزة. والبيئة وحياة الاجتماع يُنمّيان كل واحد منهما ويُغلّبان أحدهما على الآخر. كذلك الطبيعة بطبيعتها (بدون تدخّل الانسان) تحوي تلك النزعة الخيّرة التي يمكننا أن نُسمّيها فطرة الطبيعة، وهي تشمل كل ذلك الحسن الذي وصفناه والذي يلمسه كلنا عند تجوالنا بين أحضانها. وأيضا تحوي النزعة الشريرة التي يُمكننا أن نُسمّيها غريزة الطبيعة، وهي تشمل الكوارث الطبيعية. أي أننا نجد تشابها ملحوظا بين طبيعة الانسان وطبيعة الطبيعة، مما يُشير الى الانسجام الطبيعي بين هذا المخلوق والطبيعة.

وكلما رجعنا أكثر في الزمن، وجدنا أن هذا الانسجام كان متواجدا أكثر. في الماضي، كان الانسان صديق الطبيعة ورفيقها. فالصداقة ظهرت في علاقة الإحسان المُتبادلة بين الانسان والطبيعة. الفلاح على سبيل المثال، كان يزرع أرضه ويعتني بها كما تعتني الأم بطفلها، وعندما يحين موعد الحصاد تردّ له الجميل بالجميل والاحسان بالإحسان من خلال محاصيل وفيرة وغنية (غنية بالمركّبات الطبيعية). والمرافقة ظهرت في تواجد الانسان اليومي الاعتيادي والعيش بين أحضانها، ويمكننا أن نقول أن الطبيعة حَوَت الانسان عندما قبلته ضيفا مُسالما بين أحضانها، وهو بادلها هذا الاحتواء، فحواها داخله أيضا ولم يكن يحتاج الى التقاط الصور الكثيرة ليُبقيها حيّة داخله. ولذا تأثّر الشعراء والكتاب بالطبيعة وكانت مُلهمتهم الأولى.

أما حين حدث الانفصال والابتعاد، وفي أعقابهما الجفاء وتضعضع العلاقة بين الانسان والطبيعة، قلّ الانسجام وصارت العلاقة صراعية أكثر منها انسجامية. لقد عزل الانسان نفسه عن الطبيعة وتمركز في المدن، وقلّ عدد الفلاحين بشكل ملحوظ، مما دفع بإنسان العصر الى أن يبحث عن وسائل لإعادة ذاك الرابط الطبيعي بينه وبين والطبيعة، من خلال رحلات ومغامرات طويلة في الطبيعة على سبيل المثال. هذه العلاقة الصراعية نجمت عن المجتمع الصناعي والنظرة المادية الخالصة للأمور، فعندما يضع الانسان نُصب عينيه زيادة أرباحه بكل وسيلة ممكنة، فإن ذلك يزيد من حدّة الأنانية والسيطرة السلبية. هذا المجتمع الصناعي يسمح لنفسه أن يستغلّ الطبيعة لمصلحته، كأن يُطلق كميات هائلة من الغازات السامة الى طبقة الأوزون وكأن يقطع غابات بأكملها دونما رحمة. ان العلاقة أضحت علاقة مُسيطر ومُسيطر عليه، فالإنسان يسعى الى امتصاص خير الطبيعة من جهة، والى كفّ أذاها عنه من جهة أخرى.   
بهذا المعنى، فإن الانسان صار يتعامل مع الطبيعة من دافع غريزي. ان اهتمامه محصور في ذاته وهو يسعى الى احكام السيطرة. انه يسعى لأن يكون الغالب في ما صوّره صراع بقاء أو قانون غاب. واذا تعامل الانسان مع الطبيعة من دافع غريزي، فإنها لن تتردّد بالردّ عليه بالمثل، اذ هي الأخرى تعامله من دافع غريزي. ولهذا نرى حالات الطقس المتطرّفة، التقلّبات الجوية، ازدياد الزلازل، ظاهرة الدفيئة وغيرها. لكن الفطرة الانسانية لا ينفكّ تأثيرها، ومهما سيطرت الغريزة فإن شيئا من الفطرة سيعلن انتصاره، ولذلك نرى جمعيات حماية الطبيعة ونسمع الأصوات التي تدعو للتفكير في الطبيعة. تماما كما أن فطرة الطبيعة لا تنفكّ تؤثّر علينا وتبهرنا بجمالها وسحرها!   

4.7.14

تأمّلات في التربية الأولى


منذ خروج الطفل من بطن أمه الى الحياة (وحتى قبل ذلك)، يبدأ يتشرّب ممن ومما حوله. انه ينطلق مع فطرة وغريزة الى عالم مليء بالتأثيرات المقصودة والغير مقصودة. هذا الطفل لا ينولد الى فراغ، وانما الى جوّ عائلي، وهو يؤثّر على هذا الجوّ ويتأثّر منه. وهو ينولد الى مجتمع، ويبدأ يجمع رويدا رويدا مسمّيات اجتماعية، فوالديه يُسمّيانه ابنا، ومجتمعه يُسمّيه مواطنا، ومدرسته تُسمّيه طالبا وغير ذلك من الوظائف الاجتماعية.

وللوالدين أن يتخيّلا أنهما يحصلان على هدية من السماء، هدية غالية، روح، وهما من يتوليّان رعايتها ويتحمّلان مسؤوليتها، ويستطيعان عبر أقوالهما وأفعالهما أن يبنياها من الأساس. وليست الرعاية تنحصر في تأمين مأكل ومشرب، فهذه أمور تتجّه الى الجسد، ولكن الرعاية تتجاوز ذلك. ان في الانسان أربع مكوّنات أساسية وهي: الجسد، العقل، النفس والروح. هذا الجسد هو فقط واحد منها، واهتمام حصري به هو بداية تشويه الصورة وبداية التربية الغير ناجعة.  

السنوات الأولى تبقى هي الحاسمة، لأنه فيها تُبنى الأساسات التي تُشيّد عليها الثانويات لاحقا. انه ان كانت الأساسات معوّجة، فسنحتاج الى جهود مضاعفة لإعادة ترميم البناء، وأحيانا سنعجز عن ذلك بفعل قوة الغرس الأولي. ولذلك قيل "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، فالنقش في الحجر ممكن وسهل نسبيا، وهو متين وصامد، رغم الظروف البيئية المحيطة. كبار علماء النفس شدّدوا على السنوات الأولى لحياة الطفل، فذاك فرويد عبر نظريته التطورية، يركّز على المراحل الثلاث الأولى التي تمتدّ عبر السنوات الست الأولى من حياة الطفل. كذلك عالم النفس بولبي ومن خلال نظرية "الاتصال"، ادعى أنّ إنشاء رابط اجتماعي آمن مع الطفل هو الأساس للتطوّر السليم. هذا الرابط يحدث عادة مع شخصية الأم، فإن كان رابطا آمنا، انطبعت الشخصية الآمنة في جوف الطفل وصار ينظر الى الناس من حوله وفقا لهذا الانطباع الآمن. أما ان كان الرابط مع شخصية الأم غير آمن، فإن الطفل يمكن أن يفهم أن العالم كله غير آمن، ولذا لا ينبغي له أن يثق بأحد.

والتربية لا تنحصر في ارشادات وتعليمات، وانما هي تشمل كل ما يصدر عن الوالدين من قول أو فعل. انها واسعة جدا، أكثر مما نتخيل! حتى أنها تشمل الأقوال والأفعال ما قبل بداية حياة الزوجية، اذ أن أقوال الأب قبل أبوته وأقوال الأم قبل أمومتها، تنمّ عن شخصية معينة وعن أنماط تفكير، ولا يمكن قلب هذه الشخصية وأنماط التفكير رأسا على عقب، عند مجيء الولد. انها تستمرّ تُلقي بتأثيرها على المولود! ولذلك، عند اختيار شريك حياة، يجدر بنا أن نمعن النظر في أن شريك الحياة سيكون شريكا في تربية الأبناء أيضا وسيؤثّر بشخصيته وأنماط تفكيره عليهم. كما أن الأفعال قبل الحياة الزوجية تؤثّر، اذ أن لاختيار طريقة بناء البيت وديكوره على سبيل المثال أثر كذلك. فإن كان البيت آمنا، فهم الطفل أنه في هذا العالم يمكن بناء حيّز آمن رغم الأخطار المحيطة. وان كانت هناك حديقة أمام المنزل، تذوّت فيه جمال الطبيعة وحبّها. 

والتربية تشمل أيضا طريقة تعامل الزوجين مع بعضهما البعض لأنهما المثل الأعلى بالنسبة للطفل، وهي تشمل المحطّات التلفزيونية والإعلام الذي ينكشف اليه الولد، والألعاب والدمى التي ينكشف اليها، وألعاب الحاسوب والقصص التي يسمعها قبل النوم، وغيرها الكثير من الأمور، وبالتأكيد علاقة كل واحد من الوالدين بولدهما. ان التربية بهذا المفهوم تجربة تُعاش أكثر من دروس تُلقى. ثم ان هذه تأثيرات تطال الولد وهو قابع في بيته، فما بالنا بالتأثيرات التي ينكشف اليها في الخارج؟! الا أننا نؤمن أن اذا كانت التأثيرات الداخلية ايجابية وموجّهة لأهداف سامية، فإن التأثيرات الخارجية ستتذلّل كما تذلّلت الأولى. اذ أن التربية الأولى هي التي تبني الأطر الأساسية، الأفكار الأساسية والفرضيات الأساسية، وان كانت كل هذه حسنة وانسجمت مع الفطرة، فإن الأخرى ستكون منساقة للحُسن الأولي.

2.7.14

تأمّلات في الفطرة


الفطرة هي "الخِلقة التي يكون عليها كل موجود أَوّلَ خَلْقِه" أو "الطبيعة السليمة لم تُشَب بعَيْب" أو "ما ركَّزه الله في الإنسان من قدرة على معرفة الإيمان" (معجم الوسيط ومعجم اللغة العربية المعاصر). ورغم أنها تعريفات من جهات مختلفة، الا أن ما يجمعها هو اشارتها الى تلك التهيئة وذاك الاعداد اللذان يُطبعان في النفس ويولدان بمولدها. انه المبنى الأوّلي الذي يمكنه أن يستقطب اليه مبانٍ أخرى تدعمه أو تدحضه، تقوّيه أو تُضعفه، تُحييه أو تُميته.

هذه الفطرة طبيعية وغير مكتسبة، لأنها تكون مزروعة هناك من لحظات حياة الانسان الأولى. ورغم أننا لا نراها ولا نلتقطها بحواسنا في الغالب، بحكم قدرة التعبير المحدودة لدى الطفل، الا أننا نرى تأكيدا لوجودها في النصوص الدينية. يقول تعالى: "أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم، 30). يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "إنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره، كما تقدّم عند قوله تعالى: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) (الأعراف، 172)، وفي الحديث: "إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم"". وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، إِمَّا شَاكِرًا، وَإِمَّا كَفُورًا".

ولعلّ ما سطّره العالم دين هامر في كتابه The God Gene: How faith is Hardwired in our genes""، والذي نشره عام 2004، هو محاولة أولية للكشف عن هذه الفطرة المطبوعة في الانسان. هامر يتحدّث عن أن الإنسان يرث مجموعة من الجينات التي تجعله مستعدا لتقبّل مفاهيم الألوهية والدين، وذلك ما يُعرف بـ "God Gene Hypothesis".

ان الانسان ينطلق الى العالم مع ارشاد هذه الفطرة وتوجيهها، ولربما ذلك لئلا يكون للناس حجّة على خالقهم أن لم يهدهم اليه. الا أن هذه الفطرة تنولد الى بيئة، مما يُعرّضها للاحتكاك بموجّهات بيئية، تبدأ عادة بتربية الوالدين والبيئة المحيطة، لتنتهي الى التأثيرات المجتمعية وتأثيرات العولمة والاعلام وما شابه. من هنا فهي مُعرّضة للتشويه أو للتنمية تَبَعا للبيئة المحيطة، ودرجة التشويه أو التنمية تختلف أيضا. فذاك الطفل الذي يولد لعائلة سبّاقة في عالم الإجرام، تتعرّض فطرته لتشويه عنيف. ذاك الطفل الذي يولد في بيئة تقدّس حقوق الانسان ولكنها تُربّي على الانفلات الجنسي، تتعرّض الى تشويه أيضا الا أنه أقل شدّة من الأول. ورغم أنه من المنطقي حفظ ما ولدته لنا الطبيعة وتنميته، بدلا من تشويهه وتدميره، اذ أن ذلك يتلاءم مع النمو الطبيعي للإنسان، الا أن المشكلة تكمن في أن هناك من لا يعترف بوجود مثل هذا المركّب الذي نُسمّيه نحن فطرة. 

فرويد على سبيل المثال لم يلتفت الى مركّب الفطرة، بل ادّعى أن الأنا الأعلى وهو الذي يشتمل على الضمير والأخلاق والمثاليات يتطوّر في مرحلة متأخّرة وهو بهذا المعنى مُكتسب. ان الطبيعة وفقا لفرويد لا تمنح فطرة ولا أخلاقا، ولكنها تمنح شيئا واحدا ووحيدا وهو الغريزة. هذا التوجّه ينسجم مع النظرة المادية التي لا تعترف الا بما تلتقط عبر حواسها، فالتصرّفات الغريزية البيولوجية يمكن رؤيتها عند الطفل. ان مجتمع فرويد هو الذي يوجّه للأخلاق والقيم، في حين أن الطبيعة تمنح الغريزة ومطلب اللذّة. أما نحن فندّعي أن الطبيعة تمنح الغريزة وتمنح الفطرة الى جانبها (يقول تعالى: "فألهمها فجورها وتقواها")، والمجتمع هو الذي يوجّههما، فهو (المجتمع) يمكن أن يثير الغريزة ويضعف الفطرة، وكذلك يمكنه أن يضبط الغريزة وينمّي الفطرة. ولأن هذه الفطرة كلها حسن، فإننا نسعى الى احيائها والدعوة الى تنميتها منذ سنوات الطفل الأولى عبر التربية، بعكس ما تدعو اليه المادية التي تفطن لها في جيل متأخّر، وحتى وان فطنت لها فإنها لا تعيرها ذاك الاهتمام الذي يليق بقدرها. ولكننا نقول أن الطبيعة تبقى حيّة بدرجة معينة، مهما فعلت البيئة لاستئصالها أو لمحقها، وكما أن فرويد يقول أن كبت الغريزة لن يدوم وأن الطبيعة لا بد لها أن تنتصر، فكذلك نقول أن الفطرة لا يمكن أن تُكبت طويلا، ولا بد لطبيعتها أن تنتصر.