16.7.14

تأمّلات في الصوم


الصوم عند المسلمين يعني الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة (معجم اللغة العربية المعاصر). انها أمور اذا ما أمسك الانسان عنها، فإنه يدخل في الصوم، ولا يمكنه أن يدخل في الصوم دون الإمساك عنها، بمعنى أنها شرط للدخول في الصوم. فإذا ما حقّق متطلّبات الصوم العامة، دخل في الصيام، ولكن هذا لا يعني أن كل الصائمين متساوون في الأجر، ففيه يبرز التفاضل. اذ لا يُعقل أن يكون من قضى نهاره متسخّطا على دنياه والناس، كمن قضى نهاره فرحا بمنحة الصوم، وان حدث وأحسّ من نفسه غيظا كظمه وقال: "اللهم اني صائم"! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش". ان الصوم بهذا المعنى مدرسة تربوية، وينبغي أن يُلقي بأثره على النفس الانسانية. لهذا الصوم آثار ونتائج، وأجلّ هذه الآثار ارتقاء الروح وتفعيل الايمان وكذلك ارتقاء أخلاقيات الفرد. أي أن الصوم يُحدث تغييرا داخليا في نفس الانسان (الروح والايمان)، وعلى أثره يحدث التغيير الخارجي (ارتقاء أخلاقيات الفرد). لذلك وبما أن هذه النتائج تتبع الصيام، لم يتمّ وضعها كشرط مُسبق للدخول في الصوم. فلم يتم اشتراط كظم الغيظ أو الغيبة والنميمة مثلا، لأن الصوم هو واحد من الوسائل التي ستتكفّل بمعالجتها.

الصوم يؤثّر على مركّبات الانسان الأربع: الجسد، النفس، العقل والروح. الجسد يجوع، يعطش ويتعب. النفس تكبح شهواتها، فيضعف فجورها وتزداد تقواها. العقل يدرك معاني الصوم وآثاره. الروح تُلخّص كل ذلك وتستحضره لترتقي. واذا ما ركّزنا في أثر الصوم على النفس، اكتشفنا كم هي عظيمة دروس وآثار الصوم النفسية والتربوية. فرويد يرى أن الجهاز النفسي مكوّن من ثلاثة أقسام: "الهو" (id)، الأنا (ego) والأنا الأعلى (super-ego).  "الهو" يحوي كل ما هو مورث وموجود منذ الولادة، وهو يحوي الغرائز التي تنبعث من البدن. يطيع "الهو" مبدأ اللذة "Pleasure principle"، وهو لا يراعي المنطق أو الأخلاق أو الواقع. أما الأنا فيقبض على زمام الرغبات الغريزية التي تنبعث من "الهو"، فيسمح بإشباع ما يشاء منها ويكبت ما يرى ضرورة كبته مراعيا في ذلك مبدأ الواقع "Reality principle". ويمثل الأنا الحكمة وسلامة العقل على خلاف "الهو" الذي يحوي الانفعالات. أما الأنا الأعلى وهو ما يُعرف عادة بالضمير، فيمثل ما هو سام في الطبيعة الانسانية. فمع تطوّر الانسان تتكوّن داخله سلطة نفسية داخلية تأخذ تراقبه، تصدر إليه الأوامر، تنقده وتهدّده بالعقاب (كتاب الأنا والهو لفرويد).

وعندما يمسك الانسان عن الأكل والشرب والجماع داخلا بذلك في الصوم، فإنه عمليا يتخلّص من سطوة مبدأ اللذة. "الهو" يطلب شهوة الأكل وشهوة الجنس، ويريد أن يُخضع الانسان لمبدئه، مبدأ اللذة، ولكن النفس الصائمة تُفهمه أنه ليس هو الحاكم وليس هو الموجّه وليس هو كل شيء. لكنها الى جانب ذلك، لا تنكره ولا تتغاضى عنه، اذ أنه من وقت الإفطار الى السحور يمكنها أن تروي هذه الشهوات ضمن الضوابط المُحدّدة. الضوابط التي ربّاها الصيام عليها. أي أن الصيام يقوم بضبط "الهو" أو الغريزة، وبذلك يحدث التحرّر من الانصياع الدائم لمبدأ اللذة.

ان بين "الهو" والأنا الأعلى صراع مستمر، والأنا هو الوسيط بينهما. "الأنا" يحاول ارضاء الطرفين ("الهو" والأنا الأعلى)، كي يعيش الانسان بتوازن نفسي. الأنا الأعلى يتطوّر جراء التربية الدينية وزرع الأخلاق والقيم في النفس الانسانية. بمعنى أن الذي يدفع الانسان للصيام هو الأنا الأعلى. انه في فترة الصيام يُحبَس "الهو" وبالتالي يقلّ تأثيره على الأنا، وبالمقابل يأخذ الأنا الأعلى زمام القيادة. والأنا الأعلى كما قلنا يحوي الضمير، الأخلاق، القيم الحسنة وكل ما هو سام في الطبيعة الانسانية. لذا فإنه عندما يقود، يُتوقّع أن يكون تأثيره أقوى على الأنا، وبذلك فإن الأنا يتعرّض أكثر لتأثير الدين، الضمير، الأخلاق والقيم الحسنة. من هنا نتوقّع أن يتحلّى الصائم بأخلاقيات عالية، لأن توقّعنا هذا يُلامس المراد من الصيام. الا أن ما يحدث أحيانا أن "الهو" يُفلت من الحبس المفروض عليه قبل الأوان، ولا نريد الدخول في أسباب انفلاته، ولكنّ ذلك يظهر في تصرّفات عدوانية مثلا. ان هذا الحظر المفروض على "الهو" يروّضه، يؤدّبه، يضبطه ولا ننكر أنه حظر ليس بالبسيط، ولكن لكي يحدث الارتقاء، يحتاج الانسان الى مثل هذا التدريب من فترة الى أخرى. واذا ما انتهى وقت الصيام، رُفع الحظر عن "الهو" وظلّ الأنا الأعلى متواجدا، لكن الأنا يبقى مع أثر الصيام.