6.5.14

حرية الاختيار


كلمة إكراه هي مصدر الفعل أَكْرَه، وتعني: "استخدام الضَّغط أو القوَّة استخدامًا غير مشروع أو غير مطابق للفقه أو للقانون للتَّأثير على إرادة فرد ما" (معجم اللغة العربية المعاصر). هذه الكلمة تنحدر من الجذر "ك، ر، هـ"، وهو نفس الجذر الذي تنحدر منه كلمتا كراهية وكُرْه، وفي هذا ايحاء بتقارب المعاني، فهل النفس تطيق الإكراه أم انها تكرهه وتتقيّئه لثقله عليها؟ 

الإكراه لا يمكن أن يأتي بخير، لأنه يتعارض ويمسّ بحرية الانسان التي وُلدت معه، فالله خلق الانسان حرّا وترك له حرية الاختيار. الله خلق الانسان ولم يُجبره على أن يؤمن به أو أن يكفر، أن يُصلّي له أو لا، أن يسبّح بحمده أو لا، أن يصوم له أو لا، أن يحجّ له أو لا، أن يعمل الخير أو الشرّ. لكن الخالق جلّ وعلا أعطاه كل الإمكانيات وبسطها أمام ناظريه ليختار، فهذا طريق الحقّ الواسع وتلك طرق الضلال، الأول جزاؤه الجنة والأخرى عقابها النار. اذاً لا إكراه، فأنت يمكنك أن تختار ما تشاء، لكن عليك أن تفهم جيّدا أن النتيجة ستكون وفقا لاختياراتك. يقول الله عزّ وجل في كتابه العزيز: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس، 99). ويقول في آية أخرى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (هود، 118+119).

الانسان حرٌ باختياراته من جهة، وهو مسؤول عنها من جهة أخرى. ولكي لا يُخدع هذا المخلوق الضعيف أمام عظمة الكون، ولكي لا يُغفّل ولكي لا يقول لم أكن أدري، بعث الله رسالاته الى الناس ولم يمنع العناية الآلهية عنهم، علّهم لا يضيعوا وعلّهم لا يفقدوا البوصلة. ان وضوح المعادلة (معادلة الجزاء والعقاب) ينبغي أن يؤثّر على اختيارات الفرد، وهذا التأثير لا يُلغي امكانية الاختيار، فبالرغم منه يمكن أن يختار الانسان أن يكفر بهذه المعادلة، أن يكفر بوجود الإله وبوجود الجنة والنار ولكن عليه أن يتحمّل مسؤولية اختياراته. ولو لم نكن أحرارا في اختياراتنا، فهل من العدل أن نُحاسب على ما لم نختر؟! هل من العدل أن يُفرض علينا شيء ونُحاسب عليه؟!

الا أن بعض البشر يريدون حرمان الناس من حرية الاختيار، يُكرهونهم ويودّون لو يتبعون خيارات أسيادهم، دون تفكير أو بحث أو نقاش. فكما أن الكنيسة قطعت رأس كل مارق تجرّأ على مخالفة أمر من أمور الدين، كذلك هناك من المسلمين اليوم من ينتهجون نفس النهج، فيقمعون رغبة الاطّلاع والبحث والتفكير، ينبذون من يخالف في مسألة فقهية، ويكرهون بناتهم على لبس الحجاب. وهناك ما يُفرض بصورة خفية وغير مباشرة، من مثل دين الآباء والأجداد، الأفكار المُسبقة، الشخصية وكل ما يتشرّبه الانسان من أفكار من بيئته أثناء طفولته. ان تأثير هذه الأشياء يكاد يكون مفروغا منه، ولكن على الآباء توعية الأبناء بوجود هذا التأثير وبإمكانية الاختيار، رغما عن هذه التأثيرات التي لا مفرّ منها. ولنتذكر أن الله قد تركنا أحرارا في اختياراتنا، فكيف نُكْره بعضنا بعضا ونحرم بعضنا حرية الاختيار؟!  

المجتمع الذي لا يرحم


اذا نظرنا الى مجتمعنا، أدركنا مدى القسوة التي نُبديها في أحيان كثيرة تجاه الضحية! نعدم حسّنا الانساني ونستبدله بتذنيب واحتقار وهجران، ونُطلق المُسوّغات والحجج الواهية لكي نبرّر قسوتنا! نعكس الحقائق لكي تصير الضحية مجرمة وجانية! وليس انعدام الرحمة هذا موجّها بشكل حصري الى الإناث، ولكنه يطال الذكور أيضا، رغم أنه بارز أكثر في حال الإناث، مما ينسجم مع المجتمع الذي ما زال يُبرز اضطهاده ضد المرأة. فالمرأة المُطلّقة تعاني من مجتمعها أكثر من طليقها، إذ أن المجتمع يتّهمها بالسّر وبالعلن وينسى زوجها، ينعتها بأنها امرأة غير صالحة، لا تصلح للزواج، عاصية لزوجها، ويُغلق أمامها باب الزواج لتبقى حبيسة بيت أمها وأبيها. لربما كانت هي المظلومة! لربما كان زوجها يضربها جهارا نهارا! لربما كان زوجها لا يُطاق! لربما كانت المشكلة نابعة من الطرفين! لماذا تتحمّل المرأة الضحية أعباءً ليست هي المسؤولة عنها؟! لماذا يُعذّبها المجتمع فوق ما عذّبها طليقها؟!

والمريض يُعاني من مجتمعه أكثر مما يعاني من مرضه، وهذا يصحّ في حال المرض الجسدي والنفسي، وهو أشد بروزا في حال المرض النفسي. فلو دري المجتمع أن أحدهم يعاني من مرض جسدي مزمن، لصاروا ينظرون إليه بأعين الشفقة في أحسن الأحوال، ويتفادونه أو يتغاضون عنه أو يسخرون منه في أحوال أخرى. أيستحق من يعاني من مرضه، أن يعاني من مجتمعه أيضا؟! لماذا نُذيقه عذاب الضّعف في الحياة الدنيا؟! والانسان الذي يعاني من مرض نفسي، يتم تشطيب اسمه من قائمة بني البشر، وتُبذل الجهود الحثيثة لتفاديه ولتفادي أي احتكاك بسيط معه، ليحصل بذلك على النعت الذي يشلّ أمله شلّا ويقذفه قذفا من مجتمعه دون أمل بعودة، انه "مجنون"! أليس هذا المريض أيضا يعاني من مرضه؟! ان احتمالات الشفاء ورادة والعلاجات موجودة (أيضا للأمراض النفسية)، فلماذا نحمّله معاناة غير مُبرّرة، ولماذا نقذفه قذفا من بيننا؟! لماذا عليه أن يعاني من داخله وخارجه؟! لماذا عليه أن يعاني كِفليْن؟! ان وصمة العار التي نطبعها على الضحية هي وصمة عار بحد ذاتها، اذ أننا نتنكّر لأبسط الأحاسيس الإنسانية! انه ينبغي أن نستبدل هذه القسوة بالرحمة، وان لم نرحم فعلى الأقل أن نكفّ أذانا عن الضحية. 

طريقتي في الكتابة


أحببت أن أُفرد لهذا الموضوع مقالة، رغم أنني أكتب هنا عن ما أكتب، أكتب عن طريقتي في الكتابة. لذا، يمكن تصنيف هذه المقالة في خانة "الميتا\Meta"، فكما أنه هناك مصطلح يصف ادراك الإدراك أو التفكير في التفكير (Metacognition)، نطلق مصطلحا يصف كتابة الكتابة. بكل الأحوال، الكتابة التي اكتبها تنطلق في الغالب من الواقع، فعندما أرى ظاهرة تشدّ انتباهي، أحاول أن أصفها وأصف ما يرتبط بها بواسطة الكلمات، واذا ما أردت الانطلاق من مادة نظرية، فإني أسعى في الغالب الى ايجاد وتسطير نقاط التلاقي مع الواقع. هو الدمج ما بين النظرية والواقع اذاً والذي يعكس تركيبة الحياة. تبدأ الكتابة من عنوان صغير أو فكرة مركزية أسطّرها، لكي تُلهمني الخطوط العريضة لما أودّ الكتابة عنه. أثناء الكتابة أستعين بتوارد الأفكار (Free association)، وبتلاقحها مع عالم النظرية الذي اكتسبته من خلال دراستي الأكاديمية والقراءات المختلفة، اضافة الى الخبرة الحياتية التي تمدّ بالنظرة الواقعية الى الحياة.

وعندما تخرج الكلمات من الداخل الى الخارج، من الجوف - الذي يحوي القلب والعقل - الى الخارج عن طريق ملف "وورد"، أترك الناتج لفترة من الزمن حتى يختمر. ان الأمر يقرب الى العجين، فعندما يتم تحضير العجين، ينبغي تركه لفترة من الزمن حتى يختمر، ومن ثم المباشرة في تحضير المنتج النهائي منه. كذلك الكتابة، فعندما تنتظم الكلمات في مسودة أوليّة، تحتاج الى فترة طالت أو قصرت من الزمن، حتى يسهل تنقيحها واعادة النظر في أفكارها. الا أن الكتابة تختلف اختلافا جوهريا عن العجين، ذلك كوننا ننتظر تغيّرا كامنا في العجين (أن يختمر لوحده)، ولكننا نحن من سيساهم في دفع عجلات اعادة النظر، التنقيح، التعديل والتغيير في حال الكتابة. بعد الانتهاء من الكتابة الأولية، تظلّ في الغالب حبيس أفكارك الأولية، ويصعب عندها ايجاد نقاط الضعف، الثغرات، ويصعب نقد المكتوب، أما حين تأخذ فاصلا زمنيا وتعود الى نفس الكتابة فستشعر باختلاف النظرة وذلك سيساعدك على القاء نظرة فوقية أكثر، بحيث أنك لا تبقى حبيس أفكارك الأولية. ان الأمر أشبه بالنظر الى نفس المنتج وبواسطة نفس العيون ولكن من زاوية رؤية مختلفة. لذا، فإنني في الغالب لا أنشر الكتابات التي أكتبها فور الفراغ من كتابتها، وانما أتركها جانبا وأبدأ بكتابة غيرها، لأعود اليها بعد فترة زمنية طالت أو قصرت فأقرئها من جديد بعيون فاحصة متفحّصة.

المخاض


ان الأمة العربية والاسلامية تمر بأحداث عصيبة وسنين عجاف، يصعب على العاقل أن يفلت من وطأة تأثيرها أو أن يتجاهلها. الا أن بعد العسر يسرا، فهذا وعد من الخالق! والشدّة لا يمكن أن تدوم، لأن دوام الحال من المحال! ولذا علينا أن نكون واعين لأن ما تمرّ به الأمة العربية اليوم هو أشبه بالمخاض. الأمة العربية سبتت طويلا وخفت حسّها سنينا وكنا نتمنّى لو تستيقظ، لو تغضب، لو تقول "كفى!". لقد مرّت عليها سنون رضخت فيها للاستعمار الذي يُروّض المُستَعمَر ويجعله "حيوانا أليفا طيّعا"، حتى جاءت نقطة الصحوة، نقطة الانطلاق، نقطة الثورة، نقطة النهوض، نقطة بداية النهضة. لقد كانت الأمة العربية في هذه الفترة كالأم ما قبل مخاض الولادة، فصحيح أنها كانت تتألّم من فترة الى أخرى، ولكنها كانت تُحاول أن تتناسى هذه الآلام لتتعايش مع الوضع الموجود، ولكن حين وصل الألم الى الذروة ولم يعد يُطاق، أعلنت الأم دخولها مرحلة المخاض، وكذا الأمة العربية حين ثارت وبدأت تصحو، أعلنت أنها دخلت هذه الفترة الحرجة المؤلمة والمُبشّرة بالخير في نفس الوقت. 

فترة المخاض هذه ليست بالفترة الهينة، ففيها آلام وفيها تضحيات، فكما أن الأم تُضحّي بروحها، بجسدها وبقلبها لتمنح الحياة، فكذا ستكون هناك تضحيات انسانية وغير انسانية في سبيل الوصول الى حياة أفضل وعيش كريم، في سبيل منح الحياة الأفضل للآخرين وللخَلَف. ويمكن أن تطول هذه الفترة في نظرنا، لأننا ننتظر النتيجة بكل ترقّب، وعيوننا تكاد لا تغفل عن اليسر المنتظر. ويمكن أن تطول حقيقة (رغم قصرها في ميزان الزمان)، فالتغيير لا يأتي بيوم وليلة وانما قضت سنة الكون أن لا يتم التمكين حتى يحدث الابتلاء، وفي هذا قانون سببي جلي، فلكي تكون مهيأً وأهلا للتمكين، عليك أن تكون قد تخطّيت الصعاب والمخاضات وأثبتّ كفاءتك وجدارتك. ان الأمة العربية والاسلامية على حالها اليوم تكاد لا تستحقّ النصر ولا التمكين لما فيها من انحرافات عن طريق بناء الحضارة، ولذا فإن كل ما يمرّ على الأمة هو عمليا لمصلحتها، فكل هذا يهدف الى زعزعتها، ايقاظها، تدريبها وافهامها أن التحدّي المنتظر للنهوض كبير وأنه يحتاج الى جدّ وعمل. ذلك يشبه ما تمر به الأم من عناء وآلام، ليفهم الوالدين وكل البشر أن هذه الروح غالية ولذا يجب صيانتها وتربيتها أحسن تربية. انه ابتلاء للأم ما قبل تمكينها (ابتلاء بالآلام والمخاض قبل التمكين عبر بناء الأسرة). أما الثمرة المنتظرة، النتيجة المرجوّة، اليسر المرتقب فهو حياة كريمة، فالمولود هو الحياة وأمه تمنحه الحياة الكريمة عبر توفير الحاجات الضرورية له من مأكل ومشرب وملبس ومأوى ومأمن. كذلك النتيجة التي تتبع المخاضات في حال الأمة: حياة كريمة تضمن للإنسان حقوقه الطبيعية (التي وُلد معها واليها).

الفُرقة التافهة


أحيانا أفكّر في فُرقتنا نحن العرب، في تشتتنا، في تكفيرنا لبعض، في تخويننا لبعض، في إلغائنا لإنسانية بعضنا البعض، في تكبّرنا على بعض، في سفكنا لدماء بعضنا البعض، وأستغرب من مدى تفاهة فُرقتنا، من مدى تفاهة اقتتالنا! لا نعرف كيف نتفق ولا نعرف كيف نختلف؟! ما هذا؟! ما بالنا لا نختلف على شيء يستحق الاختلاف؟! ما بالنا لا نراعي أدبا واحدا من آداب الاختلاف؟! هل كل اختلاف هو خلاف؟!
ان الناظر الى حال أمتنا العربية، يكتشف تفاهة فُرقتنا، فنحن نعيش في ظلّ نفس الظروف الصعبة من استعمار واستغلال ونهب لثروات البلاد (رغد العيش لدى بعض الدول والأفراد هو غطاء آني، آن لصاحبه أن يعيَ ما وراءه)، نتكلّم نفس اللغة، نتشاطر نفس التاريخ، نطمح لحياة كريمة. أي أن ماضينا مشترك، حاضرنا مشترك ومستقبلنا كذلك، فلماذا نفترق اذا؟! 

واذا نظرنا الى حال العرب في الداخل الفلسطيني لوجدنا نفس الصورة وربما أسوأ، فذلك الحزب الشيوعي وتلك الحركة الاسلامية الشمالية وتلك الجنوبية. هؤلاء يريدون الدخول في الكنيست الاسرائيلي وأولئك يرفضون ويتهمّون الأوّلين بالخيانة والعمالة في بعض الأحيان. والكل يرفض الكل، والمزايدات على الوطنية وتوزيع شهادات حُسن السلوك وتوزيع الاتهامات العشوائية على المختلفين (الذين هم مخالفين أيضا في نظرنا). والسؤال لماذا؟! ألسنا نملك تاريخا مشتركا؟! أليست النكبة والنكسة (وغيرها من الأحداث والرموز الوطنية) مشتركة لجميعنا؟! ألم نتعرّض لنفس التهجير ولنفس الاغتصاب؟! ألا نتكلّم نفس اللغة؟! ألا نملك نفس القيم والعادات والتقاليد؟! ألا نملك نفس الثقافة؟! ألسنا نطالب بنفس الحقوق؟! ألسنا نواجه نفس المحتلّ؟! أليس كلنا يريد الحفاظ على المقدّسات (الاسلامية والمسيحية وغيرها)؟ أليس أغلبنا يحامي عن المسجد الأقصى كما عن كنيسة القيامة؟! ولو تصوّرنا أن أحد الغربيين سئلنا ما سبب فُرقتكم، لتلعثمنا ولصرنا نُدلي بحجج لا ترقى الى مستوى الإقناع! وهو بدوره سيصعّب علينا ويقول: "فرضا لو أن دخول الكنيست هي نقطة جوهرية، هل هذا سبب يدعو الى الفُرقة؟ الاختلاف يعطي فرصة للنقاش، لتلاقح الأفكار وليس للخلاف". "هل انتماءاتكم الدينية المختلفة ستُعكّر صفو جمعكم؟! لماذا لا تنظرون الى المشترك الذي بينكم؟! فبالنهاية لو اخترت أن تبحث عن الفروق فستجد فروقا بين أخويْن وبين توأمين وفي الشخص نفسه (تغيّر المواقف بمرور الزمان)". 

الكلام المعسول


هناك اطراءات يستعملها الناس تعكس تصفيقا حارا للشخص أو للشيء المراد مدحه ليس أكثر! أحيانا عندما يُقال لأحدهم: "أنت مبدع، أنت بطل، أنت متميّز، أنت عظيم"، وعندما يصف أحدهم مؤسسة معينة فيقول: "مؤسسة سبّاقة في عمل الخير، رائدة في كل ما تعمل، لا تكلّ ولا تملّ، نبراس للأمم"، وعندما يكتب المدرّس للطالب: "تقدّمه العام ممتاز. أرجو له دوام التقدّم والنجاح". مثل هذه الكلمات يمكن أن تُقال لفلان ولعلّان ولو استبدلت اسما مكان آخر لما استطعت التمييز، والمثال الأخير يُستعمل منذ فجر تاريخ الشهادات المدرسية كما يبدو وهو موحّد لجميع الطلاب الممتازين. ذلك يرمز الى أن مثل هذه الكلمات تُقال أحيانا كثيرة بعفوية وبتكرار "ببغاوي" دون امعان النظر في مدى ملائمتها للمراد مدحه! فهي لا تنبع من تفكير عقلاني ولا من عاطفة صادقة، وهي تُشبه ما يتلفّظه الناس من عبارات دارجة، كمثل ما يُقال للتعبير عن الترحاب: "تفضّل عنّا"! هل تقصد فعلا ما تقول؟! ولو تفضّل الشخص لأُحرجتَ ولاتهمتّه بقلّة الذوق! من دعاه؟!

"أنت أفضل رئيس في تاريخ البلد، عملك الدؤوب وجهودك المتفانية لا نجدها عند غيرك" - كلمات شاعرية قيلت في حضرة كل رئيس. هل فعلا نقصد ما نقول؟! لكي يكون الاطراء صادقا ينبغي أن ينبع من واحد من مصدرين على الأقل: تفكير عقلاني أو عاطفة صادقة (أو كلاهما). التفكير العقلاني يدفعك الى اعادة النظر في ما تقول لتسأل نفسك: هل هو فعلا أفضل رئيس في تاريخ البلد؟ ما هي الأدلة على ذلك؟ هل قولي ينبع من دراسة مُقارِنَة؟ أم هو مجرّد "زت حكي"؟ هل الشخص الذي أمامي هو مبدع بحقّ؟ ماذا يعني الابداع؟ هل هو بطل؟ ماذا تعني البطولة؟ هل تقدم الطالب ممتاز فعلا؟ هل تقدّمه ينبني فقط على علاماته؟ ماذا عن قدراته الاجتماعية، هل تقدمه فيها ممتاز أيضا؟ انها الأسئلة التي تُؤسّس لإطراء أكثر قُربا من الشخص أو الشيء المراد مدحه، وعندها يمكن التمييز بين اطراء وآخر، وذلك يعود بالفائدة على المادح والممدوح، فالمادح يُعمل عقله ويعكس تفكيره الحقيقي، والممدوح يأخذ صورة أوضح عن حاله ولا يبقى مخدوعا عبر الاطراءات التي أكل عليها الدهر وشرب. ثم ان هذا الاطراء المؤسّس يُساهم في فتح المجال للنقد ولا يجتثّه من جذوره كما في حال الاطراءات الشاعرية التي تعوّدنا عليها.     

أحيانا ينبع الاطراء من عاطفة جيّاشة، فأنت مُعجب بفنان أو بكاتب معين وذلك يولّد داخلك أحاسيسا وعواطفا تريد أن تُعبّر عن نفسها. لكن علينا أن نحذر هنا من مطبّ المبالغة ومن العاطفة الغير صادقة، كأن تُحاول اقناع نفسك بحبّك لمُشغّلك أو لرئيسك ولذا تُصرّح باطراءات شاعرية تفوح منها رائحة المُبالغة، لتكفّر عن ذنبك الداخلي وعن النقطة السوداء في قلبك تجاه ذلك المسؤول. ثم عند أول منحنى أو عند أول مشكلة تتكشّف العواطف الصادقة (الكراهية الدفينة). لذا ينبغي أن يسأل الواحد نفسه: هل فعلا هذا ما أحسّ تجاه الشخص أو تجاه الشيء؟! هل أنا صادق مع نفسي ومع الآخر؟!

الانسياق (Conformity)


كثير من الناس ينساقون مع رأي الأغلبية ويكتمون رأيهم المُختلف أو يقمعونه أو يُقنعون أنفسهم أن رأيهم موافق لرأي الأغلبية، وهذا نوع من أنواع الانسياق أو الامتثال (بالإنجليزية: كونفورمتي). الانسياق يشمل تغييرا في سلوك أو معتقدات الفرد تبعا لمعايير وقوانين المجموعة أو المجتمع. لكنّ هذا الانسياق ليس حتما أن يكون سلبيا، بمعنى أن الانسياق غير مساوٍ للخضوع أو للخنوع، وانما يمكن أن يكون الانسان مقتنعا فعلا برأي الأغلبية، ولذا فهو يسمح للتأثير المجتمعي أن يطاله عن رضى واستحباب، لأنه في النهاية سيصبّ في مصلحة الفرد الذي سيتكيّف مع بيئته ويندمج في مجتمعه، وفي مصلحة المجتمع الذي ستقوى روابطه. ان الجانب السلبي من الانسياق هو ما وصفناه في الجملة الأولى من هذا المقال، اذ يكون للفرد رأيا آخر ولكنّه لا يُبديه، خوفا من ردّة فعل الأغلبية وكي لا يظهر اختلافه في المجموعة.  

فلو رأى نفعا تمّ التغاضي عنه أو ضررا تمّ الوقوع فيه، لما كفّل نفسه عناء اقناع الآخرين بجدوى رأيه المُختلف، ولفضّل قرار المجموعة الحالي على ادخال رأي جديد ونقاش مُضنٍ، منساقا بذلك مع المثل الشعبي: "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس". ان الانسان يحبّ أن يندمج مع المجموعة ولو كان ذلك على حساب تنازلات، فللمجوعة أفضلياتها وميّزاتها، ولكنّ كثيرين يفكّرون أنهم اذا خرجوا عن رأي الأغلبية فسيصيرون حتما منبوذين أو مرفوضين أو مُضطهدين وليس هذا صحيحا! إذ يمكن أن يُدلي الانسان برأيه المُختلف ويحاول اقناع الآخرين به، واذا لم يتمّ أخذه فهذا لا يعني أنه تم اخراج الانسان من المجموعة، فخلاف الرأي لا ينبغي أن يُفسد للودّ قضية! هذا الخوف المُبالغ به من ردّة فعل الأغلبية يعكس خوفا أعمق وهو خوف من الرفض، اذ أن الانسان يأمل القبول ويمقت رفض الآخرين اياه، وذلك ما يمكن أن يُغذّي حاجاته الاجتماعية.

ثم ان ابداء الرأي المُختلف يُظهر الفرد مختلفا وربما شاذّا عن المجموعة، مما يضعه في المركز ويُسلّط عليه الأضواء، كي يشرح رأيه ويحاول اقناع الآخرين بأفضليته، هذا في حال كانت المجموعة فضولية لسماع وفهم الرأي المُختلف. أما في حالات أخرى، فيمكن أن تتجاهل المجموعة صاحب الرأي المختلف وتُعيد الحديث الى حيّز الأغلبية. في حالة كون المجموعة فضولية، فإن صاحب الرأي المختلف يحتاج الى بذل طاقات أكبر من الباقين من أجل شرح الرأي أو الموقف المُختلف واقناع المجموعة، علاوة على القدرة على التواجد في المركز أمام المجموعة. إلا أنه علينا أن نحذر من أن نستغلّ هذا المركز لغايات وأغراض شخصية، كأن نُعارض أو نبدي رأيا مختلفا، فقط لنبرز ولتتجّه الأضواء نحونا وليس لأننا مؤمنون بما نقول.