8.4.16

المأساة السورية ...

كل كلام يُكتب في وصف المأساة السورية سيكون ناقصا وكل فيديو يُظهر تلك المعاناة سيكون مجحفا، ذلك أن تلك المأساة التي يعيشها ملايين لا يمكن لأي كلمات أو لقطات أن تعبّر عنها، فهي هناك يوما وراء يوم، لحظة وراء لحظة وأثرها قد طال الملايين ونغّص حياتهم وعكّر صفو أيامهم، ورغم ذلك فإننا سنحاول تقريب ذاك الواقع البائس.
فهناك القتل في الشوارع، وهناك الدم يلطّخ الأراضي والمباني، وهناك الجثث، وهناك الأبنية المنهارة والعمارات المحطّمة والجوامع المهدّمة، وهناك الأطفال الذين يبكون حزنا على فقدان والديهم أمام أعينهم وهناك المرأة التي تبكي زوجها بعد أن صار أشلاء، وهناك الجوع وهناك كل شيء لا ينتمي الى الحياة، هناك الموت. بمعنى أن آثار تلك المأساة لا تنحصر في الجسد، فليست المسألة مقتل أشخاص واصابة آخرين وحسب، وليست المسألة فقر وجوع وانعدام للمأوى، ولكنها أكبر من ذلك بكثير، اذ هي جروح نفسية الى جانب الجروح الجسدية، ولنا أن نتخيّل مدى الحزن والاكتئاب عند من مرّوا بتلك الويلات، ولنا أن نتخيّل مدى الآثار النفسية للصدمات التي لا تعدّ ولا تحصى، ولنا أن نتخيّل مدى القلق والخوف الذي يرافق الكبار كما الصغار. هل يعرف الأطفال هناك النوم؟ هل ينتظرون الأكل الوفير؟ هل يطلبون لعبة أو عيدا؟ هل يفكّرون بالمدرسة وهل يحلمون بمستقبلهم؟ أم أنهم يتمنّون أن لا ينزل صاروخا على دارهم؟ وأن لا يسمعوا صوت انفجار؟ وأن لا يُسيطر الخوف والهذيان على نفوسهم؟ وأن لا يبردوا في الليل؟ وأن لا يجوعوا؟ وأن لا يفزعوا من نومهم؟

الحرب وغريزة الموت ...
وانه لمن المثير للعجب كيف أن الحروب كانت هي المسيطرة على التاريخ الإنساني، رغم أنه كان بالإمكان أن يعيش الانسان الى جانب أخيه الانسان بسلام وأمان، دون أن يضرّ أحدهما بالآخر ودون أن تحتاج البشرية الى حروب، فالحروب تُغلّب طرفا على آخر ولكن لا يمكنها أن تُغلّب الجميع، بمعنى أنه لا بد من أن يكون هناك طرفا خاسرا. اذا ما هي وظيفة الحروب وما الحاجة التي دعت اليها؟ علينا أن ندرك أن الحروب تنجم في الغالب عن تعنّت طرف واحد على الأقل وضيق فكره وتشبّثه بأفكار غير قابلة للنقاش. في حالة تعنّت طرف واحد، يضطر الطرف الآخر الى الدخول في صراع مع الطرف الأول، لأنه لا يتسنّى له تحقيق الغايات السامية دون استعمال القوة، نظرا لرفض الطرف الأول أي نوع من الحوار أو النقاش. في هذه الحالة، تكون الحرب حدثا طارئا جبريا وغايتها تكون تغليب العدل على الظلم أو نصر الحق على الباطل وفقا للمصطلحات الدينية. أما عندما يتعنّت الطرفين ويكون كلاهما منغلقا على فكره رافضا الحوار والنقاش، فإنه عندها لا يمكن للحرب أن تكون تغليبا لعدل على ظلم ولا تغليبا لحق على باطل، لأنه لو طلب أحد الطرفين ذلك لما كان متعنّتا برأيه وفكره، وانما ذلك أقرب ما يكون الى صراع المصالح اللا منتهي.
أولئك المتعنّتون هم الذين يجرّون البشرية باستمرار الى حروب دامية، وهم الذين يحصلون على ألقاب متعدّدة مثل "الأشرار"، "أهل الباطل"، "الظالمين"، المجرمين"، وبسببهم يلحق الأذى بالأبرياء والصالحين كالأطفال والأشخاص الذين لا حول لهم ولا قوة. تركيبتهم النفسية تكون غير سليمة، اذ أن غريزة الموت وفقا لمصطلحات التحليل النفسي تكون هي المسيطرة عندهم وهي المحرّك الأساسي، مما يدفعهم الى تدمير الأشياء والقضاء عليها لا لغاية معينة ولكن لأنهم يهنؤون بالتدمير ويتمتعون بالتخريب على الآخرين. هم يظنون أن نجاحهم لا يتحقّق الا اذا دمّروا ما حولهم وأبدوا سيطرتهم التامّة من خلال البطش والتنكيل والتدمير. هؤلاء يجترّون الأشخاص الأصحاء الذين تكون غريزة الحياة هي مُحرّكهم الى الحرب والى غريزة الموت رغما عن أنفهم. وبذلك فإن الذين يواجهون مرضى النفوس أولئك يفعّلون غريزة الموت عندهم ليقووا على المواجهة ولئلا يغريهم العيش الهني في ظاهره، ولكنهم يفعّلون تلك الغريزة لمواجهة الظلم ولتخليص العالم من هؤلاء المرضى وليُقام العدل على الأرض. فهم يضحّون بأنفسهم من أجل الآخرين، أي يفعّلون غريزة الموت عندهم لينعم الآخرين بغريزة الحياة، بمعنى أن قصدهم ومحرّكهم الطبيعي والأساسي يبقى غريزة الحياة.

أخيار وأشرار ...
انه كان بالإمكان وضع جميع من ينزعون الى الحرب والقتال في خانة واحدة، فكلهم يمتلكون غريزة موت مسيطرة وكلهم مهوسون بسفك الدماء وازهاق الأرواح، ولكن ليس هذا من الإنصاف وليس من الحقيقة الكاملة بشيء. انما وعينا لمفاهيم الخير والشر والعدل والظلم يحتّم علينا أن نفصل بين من يقاتل لأجل القتال والتدمير والسيطرة وبين من يقاتل من أجل إقامة العدل على الأرض ودحر الظلم. أما الفريق الأول فهم الذين يشعلون الحروب وهم الذين يمتلكون غريزة الموت بداخلهم. انهم يحبّون الهدم فتراهم يُعكّرون صفو الأجواء ويبطلون ما فعله الآخرون وربما يذهبون الى تدمير ما حصّلوه وخطف أرواحهم. ثقتهم بنفسهم مزعزعة وهم لا يشعرون أنهم قادرون على فعل أشياء تحظى بتقدير مجتمعهم ولذا فهم يسعون الى ابراز أنفسهم ودعم ثقتهم وسيطرتهم من خلال استعمال القوّة والعنف، مما يعني أن نزوعهم الى القتال لا يهدف الى تحقيق غايات سامية ولكن الى الوصول الى مصالح شخصية ضيّقة. الفريق الثاني هم الذين يضطرون الى استعمال القوة وهم بالتالي يفعّلون غريزة الموت لينعم آخرون بغريزة الحياة. ان القتال ليس هو هدفهم وليس هو محرّكهم، فهم يريدون البناء لا الهدم، السلام لا الحرب، الحوار والنقاش لا النزاع. انهم يريدون إيصال البشرية الى مكان أفضل وهم يدركون جيدا أنه لا يمكن للحروب أن تساهم في تقدّم البشرية ولا أن تدفع الى الإمام، بمعنى أن الحرب تناقض ايمانهم وأهدافهم وتركيبتهم النفسية. ولكنهم ينزعون اليها مضطرين بعد أن جرّبوا كل الوسائل الأخرى، فيقاتلون لاجتثاث السرطان من المجتمع ولإزالة الورم الخبيث المتأصّل في جسد الأمة، هذا الورم الذي لا ينفكّ يبثّ سمومه ويعوّق مسيرة التقدّم الإنساني. فإزالته يمكن أن تكون صعبة ويمكن أن تستغرق سنينا، ولكن الحاجة دعت الى استئصاله والأمل بالحياة الأفضل بعد الخلاص منه يدفع نحو القضاء عليه، أي أن التغاضي عنه ومحاولة التعايش معه والسكوت عنه لا يعود ممكنا ولا يعود خيارا مجديا.

الا أن الأطفال يستصعبون قبول الحرب، وحُقّ لهم ذلك لأن بنيتهم النفسية تحتوي على غريزة الحياة بالأساس ومن الصعب عليهم أن يفعّلوا غريزة الموت، كما أن الكبار يمكنهم أن يتراجعوا في لحظات معينة الى مراحل طفولية فيرفضون فكرة الحرب من أساسها، ولهذا ينبغي التذكير بالفكرة التي وُلدت لأجلها الحرب ألا وهي دحر الظلم وإقامة العدل. فالواجب التأكيد على أن غريزة الحياة هي التي يجب أن تكون المحرّك الأساسي ولكن لمواجهة مرضى النفوس تم تفعيل غريزة الموت لوقت محدود، وعليه فإنه علينا أن نحذر من أن تتحوّل غريزة الموت الى محرّك الأطفال الأساسي فيصيروا ناقمين على الوجود وعلى الموجودين بلا تمييز بين صالح وطالح، لذا فهم أيضا يجب أن يفهموا أن الحرب الدائرة ما هي الا حدث طارئ لمواجهة مجموعة من الأشرار وأن الذين يقاتلون الأشرار هم مجموعة الأخيار الذين يسعون الى تخليص العالم منهم. ان ذلك يتحقّق في حال لم يكن الأطفال منكشفين على الشرور على الدوام، بل تم بدلا من ذلك احياء طفولتهم بالقدر المستطاع. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق