28.5.14

المسجد ليس للغنم


لهذه الجملة معنيان مقصودان، أحدهما محسوس والآخر رمزي. أما الأول فيذهب الى النظافة والتطهّر قبل القدوم الى المسجد، فمع أهمية صلاة الجماعة وصلاة المسجد وعظيم فضلهما، الا أنه ينبغي مراعاة الآداب الواردة في هذا الباب. لا يُعقل أن يقدم من تفوح منه رائحة الغنم أو أي رائحة كريهة أخرى الى المسجد ليلتحق بصلاة الجماعة، لأنه بفعلته هذه يعكس أنانية وايثارا للذات. ان أنانيته جليّة كونه سيُعكّر صفو صلاة عدد من المصلّين المساكين الذين سيجانبونه، وربما سيُخرجهم من خشوعهم ليذهب بهم الى حظيرة الغنم ايحاءً من الرائحة الكريهة. انه سيُخرجهم من الخشوع الى الرائحة الكريهة، من الروحانيات الى الماديات، من السماء الى الأرض، من الروح الى الطين! وهو سيتصنّع الخشوع وسيطيل الركوع والسجود وسيأخذ كلّ راحته، ومن حوله يتعذّبون، يعانون، يكادون يختنقون وهو لا يعيرهم أي اعتبار، فهو بين يدي ربّه! يا له من خشوع زائف، عندما تؤذي من حولك! عندما تؤذي جيرانك! ألم يسمع هذا الخاشع قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؟! هذا هو المعنى المحسوس للجملة.

أما المعنى الرمزي فيرمي الى غائية تعاهد المسجد. ان المسجد هو صرح تربوي، روحاني، تشتعل فيه كل خصائص الروح، وتنطلق منه الأخلاق والفضائل. انه المكان الذي يربط الانسان بحريته القصوى، حين يتحرّر من هموم الدنيا كلها، من مشاغلها، من دناياها، من ماديتها، ليُحلّق في سماء الحرية، خالي البال، صافي الذهن، منغمسا في عالم السماء، عالم الروح، عالم اللا نهاية! انه صرح يُربّي أحرارا وينشئهم كذلك! أما حين تدخل الأفهام العقيمة للدين، عندها تحدث النكسة وتعود كلمة الغنم الى حيّز المسجد! عندما تُحاول تلك الأفهام أن تسلب المصلّين حريتهم لتصيّرهم عبيدا ولتحرمهم – بإدراكهم أو بغير إدراكهم – من نعمة التعقّل والتفكير ليُردّدوا ما قال الآباء والأجداد والمشايخ، عندها تبدأ البوصلة بالضياع وتحدث رجّة داخل المسجد لا يمكن أن يدوم استقرارها. المسجد يساهم في انشاء الانسان الحر العاقل، وهم يريدون غنما! هم يريدون غنما تصلي والمسجد يريد أرواحا تصلي! أمسجد وغنم؟! 

سخافة استنتاجنا !


"اذا قال راي ثاني غير راينا فبالتأكيد هو ضدّنا"

"اذا اغتصبوها معناها بالتأكيد هي اللي كان ممشاها مش منيح"

"اذا ما أبعدليش معناها شايف حاله علي"

"اذا ما ابتسمليش معناها مش طايق يشوفني"

مثل هذه الاستنتاجات المتسرّعة يمكن أن يؤدّي الى ما لا يُحمد عقباه! مثل هذه الاستنتاجات يمكن أن يؤدّي الى كوارث، رغم كونها أقرب الى الخيال منها الى الواقع! أقل ما يقال عن هذه الاستنتاجات أنها متسرّعة، غير مؤسّسة، ظنّية، وبالتالي ستكون في الغالب غير صحيحة، خيالية وغير واقعية. ومع ذلك يمكن أن تؤدّي الى كوارث! فإذا اعتبرنا كل اختلاف في الرأي هجوما وعملا "ضد"، فإننا سنقمع صاحب الرأي المُخالف وسنقمع رأيه، والقمع يتّخذ مناحٍ عنيفة، بدءا بالتأليب ضد صاحب الرأي المخالف وانتهاءً بمحاولات لقتله أو للنيل من أهله ومقرّبيه. ان مثل هذا المجتمع لا يمكن الا أن يكون عدوانيا بالدرجة الأولى، فقمع الرأي والرأي الآخر، هو مسّ صارخ بحريات الانسان وأداة المسّ التي تُستعمل هي العدوانية والعنف. واذا استنتجنا على كل بنت تم اغتصابها أنها المُذنبة بالضرورة، فإننا نظلم البنت مرّتين، مرة عند اغتصابها ومرة عند اتهامها بما لم تفعل (معاملتها كمجرمة في حين كونها ضحية). واذا استنتجنا على كل من لم يُخلِ لنا الطريق، أنه متكبّر علينا، فإننا نولّد مشاعرا سلبية (كراهية وحقد وغيرها) غير ضرورية ونظلم الشخص الذي قبالنا. لماذا لا يخطر على بالنا أن من لم يبتسم لنا ربما يمرّ بظروف صعبة تُعكّر صفو مزاجه وتجعله حزينا لتمّحي البسمة عن وجهه لا اراديا؟! ولماذا لا يخطر على بالنا أن هذا هو طبعه وليس موجّها ضدّنا بشكل شخصي، فهو دائم "الكشرة" أمام الجميع؟! ولماذا لا يخطر على بالنا إذ لم يخلِ لنا الطريق، أنه ربما عنده أمر طارئ يدفعه الى الاستعجال؟! لماذا نستعجل الاستنتاج؟! لماذا لا نعطي الفرصة لعقلنا ليلتمس الأعذار، الأسباب الأخرى، الصورة المركّبة؟! لماذا نحسم استنتاجاتنا من أول نظرة؟! هل لنظنّ أنفسنا أذكياء، نبهاء، لا تقهرنا أي ظاهرة (حتى الظاهرة الانسانية)؟! 

من قال لك هذا؟


هل هذا قولك؟ هل هو نابع من جوّاك؟ أم أنه قول قيل لك أو قيل على مسمع من أذنيك؟ أم قول حفظته دون أن تعيه؟ أم قول لُقّنته؟

ان الأسئلة أعلاه تُعنى بالبحث عن المصدر. من أين جاء ادعاؤك الأول ومن أين ينبع الثاني؟

اننا يمكن أن نُقسّم الأقوال بحسب المصادر الى أربعة أنواع: قول نابع من الداخل ومفهوم (مفهوم للقائل)، قول نابع من الداخل وغير مفهوم، قول نابع من الخارج ومفهوم وقول نابع من الخارج وغير مفهوم. أما النوع الأول (قول نابع من الداخل ومفهوم) فيدخل فيه كل قول ينبع من داخل الانسان وهو فاهم، مدرك وواعٍ لمعناه. هذا النوع من القول ينبع في الغالب جرّاء التأمّل والتفكّر، وهو يعكس أعلى مستويات الوعي الانساني، ذلك كأن يدرك الانسان جرّاء تجربته شيئا ذي قيمة عن نفسه أو عن العالم. النوع الثاني (قول نابع من الداخل وغير مفهوم) يعني كل قول ينبع من داخل الانسان ولكنّه لا يكون مُدركا وواعيا له. قول كهذا يمكن أن يظهر في زلة فرويدية أو في التنويم المغناطيسي أو في الاختبارات الاسقاطية، وكلها طرق يمكنها أن تكشف عن اللا واعي، فالقول ينبع من داخل الانسان ولكنه غير متواجد في وعيه. العلاج النفسي يمكن أن يساعد الانسان على أن يصبح واعيا أكثر لهذه الجوانب اللا واعية.

النوع الثالث (قول نابع من الخارج ومفهوم) يعني أن تسمع قولا من أحدهم، فتفهمه، تعيه وتعقله ومن ثم تُعيد صياغته بكلماتك لإيصال الفكرة أو تحافظ على نفس الكلمات ان كنتَ مُقتبساً. مثالنا على ذلك، الاستشهاد بأقوال العلماء والمفكّرين لتدعيم الرأي. النوع الرابع (نوع نابع من الخارج وغير مفهوم) وهو الشائع في زماننا هذا، حيث يُردّد كثير من الناس ما لا يعون معناه وما لا يعقلون. فهو قول قاله أحدهم وتمّ تبنّيه دون النظر مجدّدا في مرماه ودون محاولة استقصاء معناه، وانما تم الاكتفاء بترديده على الألسن كالببغاوات. هذه الأقوال لكونها دارجة على الألسن، انتقلت من واحد الى آخر، متعدّية حاجز العقل (الا عند القلّة)، لتنشر معناها المتعارف عليه بين الناس وبالتالي لتُساهم في توكيد المعاني الضمنية ولتتسرّب الى اللا واعي فتستقرّ هناك. مثال على مثل شعبي مُتردّد على الألسن أكثر من تردّده على العقول: "امشي الزيق الزيق وقول يا رب الستيرة"، هل ينتج لنا هذا المثل انسانا فعّالا؟! هل ينتج انسانا مُبدعا خلّاقا؟! ان ترديد مثل هذه الأقوال نابع من ويساهم في انتاج الخراف التي تتّبع ما يُقال لها! طائعة، لا تخالف، لا تنتقد ولا تجادل! ما تسمع هو عين ما تقول!

الرؤية في الضباب


ان هذا العصر أشبه بحالة الطقس الضبابية التي لا يكاد يرى الواحد فيها الطريق التي ينوي سلوكها. فإذا نظر الى السماء وجدها ضبابية ووجد الشمس عندها متلاشية، واذا نظر يمنة وجد الضباب نفسه والأشجار التي كان يراها كل يوم لم تَعُد تبان رغم وجودها، والبيوت المتلاصقة كذلك انمحت من مجال الرؤية رغم وجودها، واذا نظر يسرة فالمشهد يستنسخ نفسه وكأنّ مرآة وُضعت في النصف لتعكس الجانب الأول على الثاني أو الجانب الثاني على الأول، فلا فرق! والأمام أكثر ما يحزّ في نفسه، إذ عبره سيسير! ولكنّ الأمام لا يسمح له أن يراه دفعة واحدة وانما يُقسّطه هيئته أقساطا أقساطا تضامنا مع الجو الضبابي. انه مجبور على الاستمرار في المسير، فالحياة عموما وعقارب الساعة خصوصا لا تنتظر أحدا، وان تنازل وقرّر التقهقر الى الوراء فإنه سيصادف نفس المشهد، إلا أنه سيكون من الأعسر عليه أن يتراجع الى الخلف في مثل هذا الجو الضبابي.    

السماء انقطع وحيها ولكنها تركت لنا المعجزة الخالدة، وعن اليمين (الشرق) يأتينا الاستبداد وقمع حريات المواطن العربي، وثورات وانقلابات وفوضى وعدم استقرار، وعن اليسار (الغرب) تأتينا الاتهامات بالتخلّف والرجعية والهمجية ومن هناك تتولّد نظرية المؤامرة، وفي الأمام يقف المستقبل غير واضح المعالم، وفي الخلف يتسمّر الماضي الذي يُجنى عليه ويُشوّش ويُحرّف بكل الطرق، ونحن في الوسط مجبورون على الاستمرار في المسير رغم صعوبة الرؤية ورغم الضباب المحيط بنا من كل مكان. هل سنبقى ننتظر زوال الضباب؟! لا! سنكمل المسير ولكن بخطىً ثابتة، متوازنة، متعقّلة، متوكّلة، لكي لا يكون سيرنا عبثا ولكي لا نضلّ الطريق. اننا مجبورون على اضاءة الطريق بكل ما أوتينا من وسائل (تجربة سابقة، تعقّل ...)، كي نقاوم الضباب الكثيف ولئلا ننحرف عن المسار. 

طلب الشهرة


قرأتُ في احدى الفتاوى فيما يتعلّق بطلب الشهرة نصّا مفاده: "طلب الشهرة مذموم بكل حال، والمؤمن مخبت متواضع، لا يحب أن يُشار إليه بالأصابع، ومن أعظم ما يفسد على المرء سعيه إلى ربه: حبه للشهرة، والشرف في الناس، والرئاسة عليهم" (موقع الإسلام سؤال وجواب، فتوى رقم 177655). ولست أبغي في تعليقي هذا مخالفة الفتوى لغرض المخالفة، ولكنّي أودّ أن أعرض رؤية مختلفة، تستدعي التأمّل والتفكّر بنظري. 

ان من يطلب الشهرة بين الناس وفقط الشهرة من خلال أفعاله، يحصر تفكيره في رأي المخلوق ويبقى أسير رأي الناس، مما يمكن أن يذهب به شرقا أو غربا وبالتالي يفقد البوصلة والرسالة التي يودّ ايصالها، نظرا لتعدّد آراء الناس ولأن ارضاء الناس كل الناس غاية لا تُدرك. أما من يُعدّد النوايا، فينوي بفعلته اصابة شهرة وينوي أيضا الإحسان والعطاء والبذل، فهو مختلف وأحسن حالا من الأول، لأنه لا يبقى لصيق طلب رضى الناس، وانما يتطلّع أيضا الى الأخلاقيات والروحانيات.

أما النقطة الأساسية في هذا التعليق فتتمحور حول الهدف المرحلي أو البيني، والذي بدوره يُفضي الى الهدف النهائي. فوفقا للرؤية التي أعرضها هنا، الشهرة تُعتبر هدفا مرحليا، وهي وسيلة للوصول الى الهدف النهائي. فمثلا، الشيخ الذي يسعى لحصد أكبر عدد من المعجبين في مواقع التواصل الاجتماعي، هو عمليا يسعى الى الشهرة بين الناس، ولا عيب من الإقرار والمفاخرة بذلك، إذ أن مطلب الشهرة لا يُعتبر مطلبا دنيئا من الناحية الأخلاقية. ثم ان هذا الشيخ يطلب الشهرة ليحقّق غايته المنشودة التي تقف أمام ناظريه طوال الوقت، فهو لا يتوق بالنهاية الى تصفيق الجماهير ولا الى المجد ولا الى السلطة، ولكنّه يتوق الى ايصال رسالته والتأثير على الجماهير. أي أنه يستغلّ قاعدته الجماهيرية لإيصال الرسالة، ولتحقيق أهداف نبيلة وغير شخصية، فالشهرة عنده وسيلة وليست هدفا نهائيا. ان القاعدة الجماهيرية هي حلقة المُرسَل اليهم، والشيخ هنا هو المرسِل وكي تمرّ الرسالة نحتاج الى كلا الحلقتين، فلو فرضنا وجود المرسِل وانعدام المُرسَل اليه، فهل ستكون هناك فائدة مُعتبرة للرسالة؟! ان الرسالة بهذه الحالة يمكن أن تظلّ حبيسة كتاب أو مخطوطة الى أن يشاء الله لها أن تخرج الى النور، كما أنها يمكن أن تندثر.    

وفقا للرؤية المعروضة هنا، ليس هناك تعارض بين طلب الشهرة الدنيوية وإخلاص النية لله عزّ وجلّ، فالشهرة هي الوسيلة والهدف النهائي خالص لوجه الله تعالى. بل ان هناك انسجام بينهما، اذ أن من يضع نصب عينيه النية الخالصة لله عزّ وجلّ كهدف نهائي (محبة السماء)، ويطلب الشهرة الدنيوية كوسيلة (محبة الأرض)، يسعى لأن يكون شخصاً طيّبا حتى يُحبّ في الأرض والسماء. بكلمات أخرى، يمكن أن نقول أنه يطلب حبّ السماء والشهرة هناك كهدف نهائي، وهو يطلب حبّ الناس والشهرة بينهم كوسيلة للوصول الى الهدف النهائي. يقول مولانا عزّ وجلّ في حديث قدسي: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" (محبة وشهرة في السماء + محبة وشهرة في الأرض).