2.8.15

مكارم الأخلاق


الأخلاق، ما هي ؟

في معرض حديثه عن الأخلاق، يقول علي عزّت بيجوفيتش: "ليست الأخلاق كما عرّفها الرواقيون (الحياة في انسجام مع الطبيعة)، انما هي على الأرجح الحياة ضد الطبيعة، بشرط أن تكون كلمة طبيعة مفهومة بمعناها الصحيح. الأخلاق كالإنسان هي أيضا لا عقلانية .. لا طبيعية، بل فوق طبيعية. فلا يوجد انسان طبيعي ولا أخلاق طبيعية. فالإنسان في حدود الطبيعة ليس انسانا، بل هو على أحسن الفروض حيوان ذو عقل. وكذلك الأخلاق - محدودة بالطبيعة - ليست أخلاقا انما على الأرجح شكل من أشكال الأنانية .. أنانية حكيمة مُستنيرة". وقد أرفق بيجوفيتش في الهوامش ملحوظة تُحاول ايضاح المعنى الذي ترمي اليه كلمة طبيعة: "ذكر بعضهم أن كلمة طبيعة تُستخدم في 52 معنى مختلفا. ونحن نعني بها في هذا السياق جميع الحقائق فيما وراء جوهر الانسان، ومن ثم فهي تعني عالم الإنسان الدنيوي مشتملا على جسمه وذكائه وكل ما يتّصل بهما".

ولا شكّ أن بيجوفيتش قد أوضح من خلال قولته هذه هشاشة الإلحاد الأخلاقي، ليصل الى النتيجة أنه يوجد مُلحدون على أخلاق ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي. ومرجع ذلك الى أن الإلحاد يحصر نظرته في المادة، في المُدرك، في الطبيعة، وبذلك عندما يُحاول تفسير السلوك الأخلاقي فإنه يُفسّره بمنظار مادي مثل المصلحة والخوف من العقاب وغيرهما. وهكذا فإن النظرة المادية تتنازل عن جوهر الأخلاق الما ورائي والفوق طبيعي. ويبدو أن استخدام كلمة طبيعة في هذا السياق (ورغم ايضاح معناها المقصود) لم يكن مُوفّقا، وانه كان من الأجدر استخدام عبارة "الطبيعة الحيوانية". ذلك لأننا نؤمن أن البذرة التي تكون مُهيّأة لتقبّل الأخلاق والسلوكيات الأخلاقية تكون هناك منذ الولادة وهذه البذرة تُسمّى "الفطرة". اذا ما تمّ تنشئة هذه الفطرة تنشئة سليمة فإنها ستثمر عن الأخلاق. الى جانب الفطرة، تُولد مع الانسان الغريزة الحيوانية التي ان أُطلق لها العنان فإنها تأخذ بالإنسان الى سلوكيات حيوانية وان ضُبطت فإنها تُفضي الى السلوكيات المقبولة اجتماعيا. بيجوفيتش نفسه يدعم هذه الثنائية (ثنائية الفطرة والغريزة) عندما يقول: "ان المساحة الجوّانية للإنسان شاسعة تكاد تكون لا نهائية. فهو قادر على أبشع أنواع الجرائم وعلى أنبل التضحيات". بكلمات أخرى، فإن الأخلاق تقف ضد الطبيعة الحيوانية الغريزية ولكنها تقف مع الطبيعة الانسانية الفطرية. تجدر الإشارة الى أن الأخلاق لا تكبت الغريزة ولكنها تضبطها وتوجّهها بما يتناسب مع الفطرة والسلوك الأخلاقي والاجتماعي المقبول. 

واننا نتّفق مع بيجوفيتش على أن الأخلاق تتعدّى حدود العقلانية، حدود المنطق الانساني، فكل انسان وكل فريق يمكنه أن يُسوّغ لنفسه وأن يُصدر التبريرات وأن يُشرعن أفعاله. ولذا جاء الوحي الربّاني ليُرشدنا في حيرتنا، ليُخرجنا من تخبّطنا، ليُنقذنا من تلاعب الفُرقاء بنا، فيرسم لنا خارطة أخلاقية، يستعصي على البشرية كلها أن تهتدي اليها دونه. ولكن بعد أن سلّمنا بهذه الأخلاق وآمنا به واستيقنتها قلوبنا، فإنه لا مانع من أن نبحث في الحكمة من ورائها وأن نبحث في اسقاطاتها علينا وعلى مجتمعنا وفي اسقاطات انعدامها، مما يعزّز بلا شكّ ايماننا ويجعله ايمانا نيّرا وواعيا، ولهذا كانت سلسلة المقالات هذه.

***

لِمَ الأخلاق ؟

المقاصد الفردية

للأخلاق مقاصد كثيرة نُجملها في مقصدين أساسيين. أما الأول فهو الجانب الفردي. عندما يستمسك الانسان بالأخلاق فإنه يُخرج ما به من خير ويُخرج ما به من حبّ وعطف واحسان وغيرها من صفات حميدة. ولا شكّ أن نزعة الخير موجودة في الانسان منذ الولادة (هي التي تُسمّى بالفطرة) وهي يمكنها أن تتطوّر أو أن تتقهقر بحسب البيئة التي وُلد اليها الانسان وبحسب اختياره ولكنها بكل الأحوال لا تختفي تماما، اذ يمكن اعادة احيائها اذا ما عزم الانسان على ذلك. وعندما يُخرج الانسان ما به من خير عبر أخلاقه، فإنه يرى الخير الذي كان مختبئا داخله، يراه شاخصا أمامه ويسمعه ويحسّه. انه يجعله حيّا محسوسا وعندها يمكن لحواس الانسان أن تلتقط هذا الخير مرة أخرى فتُعيده الى الانسان فينتشي ويرتاح وتسكن نفسه اذا ما رأى ما بدر عنه من خيرات. انه يرتاح وقتها ويرتاح ما بعدها، ذلك لأنه يبقى يأمل أن جميله الذي فعله سيُثمر عن جميل، فإن ضاق حاله فسيجد من يساعده وان طرق بابا فسيجد من يُلبّيه. وهذا الاثمار يُمكن أن يكون على أيدي البشر الذين أرادوا هم أيضا أن يُحسنوا الى من أحسن اليهم أو الى من عُرف بإحسانه، وبكل الأحوال فإنه سيُثمر عن جزاء وثواب من عند الخالق. يقول تعالى: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" (الرحمان، 60).

ثم ان أخذ الانسان بالأخلاق ليجعله يُحقّق انسانيته غاية تحقيقها. ومرجع ذلك أن الانسان يملك حرية الاختيار، فهو يمكنه أن يختار نزعة الشر أو أن يختار نزعة الخير، بعكس الكائن الحيواني الذي وان بدرت منه تصرّفات "أخلاقية" (كعطف الحيوان على صغاره) فإن ذلك يكون جراء الإلهام الذي أودعه الله فيه وليس نتيجة لحرية اختيار ما بين خير وشر. الا أن الانسان الذي يأخذ بالأخلاق، يختار عمليا أن يكبح جماح نزعة الشر وأن يُطوّر من نزعة الخير وذلك بعد أن أعمل عقله وتفكّر وفكّر فاختار الخير على الشر. وقد كان بإمكانه أن يختار الشر، ولكنه اختار الخير واختار أن يستمسك بالأخلاق بعد أن أعمل عقله، وبذلك هو حقّق أسمى معاني الانسانية. انه لم يُخلق ملاكا ولم يُخلق حيوانا ولكنه خُلق انسانا فيه من نزعة الخير ومن نزعة الشر وعندما اختار أن يُغلّب الخير على الشر، فإنه اختار عمليا أن يكون انسانا في أبهى صورة.

يتبع ...

***

لِمَ الأخلاق ؟

المقاصد الجمعية

أما المقصد الأساسي الآخر للأخلاق فهو الجانب الجمعي، أي اجتماع الانسان بالإنسان والبناء المجتمعي بشكل عام. عندما يستمسك كل واحد من أبناء المجتمع بالأخلاق فإنه بذلك يُحقّق وظيفة الإستخلاف التي أرادها الله لنا. يقول تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة". ذلك أن هذا الانسان يسعى الى نشر الخير بين البشر وفي الأرض. انه ان رأى فقيرا فإنه يُطعمه من القليل الذي معه، وان رأى ضريرا فإنه يركض اليه ليعبر معه الشارع، وان رأى من يحتاج الى مساعدة ركض نحوه واقترح عليه، وان رأى شرّا حاول اصلاحه بأحسن الطرق وأنجعها، وان رأى خيرا فإنه يفرح ويدفع نحو ابقائه وان باغته شر فإنه يحزن ويُحاول معالجته. بمعنى أن الخير الذي داخله لا يبقى حبيس الدائرة الضيّقة التي يعيش فيها، ولكنه يتعدّاه الى أبعد الحدود وينتشر منه الى حيث دبّ وحيث لم يدبّ.

واذا ما انتشر هذا الخير بين الناس، تنظّمت حياتهم وصار كل واحد يعرف ما له وما عليه ولم يعتدِ أحد على أحد. فالسرقة هي اعتداء والغشّ هو اعتداء والخداع هو اعتداء والظلم هو اعتداء والافتراء هو اعتداء والسخرية هي اعتداء والقتل هو اعتداء. فإذا ما انتشر الخير بين الناس فإننا نتوقّع أن تنحسر هذه الأمور التي هي ضدّ الخير، ولكننا لا نتوقّع اختفائها عن وجه هذه البسيطة بأي حال من الأحوال. هذا النظام وذاك الاحترام المُتبادل للحقوق والواجبات يُوصل الى توطيد العلاقات ما بين بني البشر، ذلك لأنه يمكن للأمان الذي يسود أن يبني عند الواحد ثقة بأخيه الانسان وأن يبني عنده ثقة بمجتمعه. واذا ما توطّدت العلاقات، فإنه يمكن للسعي المجتمعي المشترك أن يبدأ وذلك في سبيل بناء الحضارة وتشييدها وتأسيس الثقافة واثراءها. انه ان تضافرت الجهود كان بالإمكان بناء الحضارة والثقافة، وهذا هو غاية الاستخلاف في هذه الأرض.   

***

الصدق هو الأساس

الصدق هو أساس كل خير والكذب هو أساس كل شر. ذلك أنه من كان صادقا مع نفسه، صعب عليه أن يكذب عليها وأن يخدعها بمبرّرات وتسويغات لا يقبلها عقل ولا منطق. فلا يخطر على باله، على سبيل المثال، أن يرتكب جريمة قتل ومن ثم يُسوّغ لنفسه أن المقتول كان يستحقّ ذلك وأنه لم يفعل فعلته الا لأنه كان يريد أن يُلقّنه درسا قاسيا لا ينساه أبد الدهر. انه لا يسعى الى اعطاء مُبرّرات لأفعال مُشينة ينوي أن يرتكبها (ولذا فهو لا يفعلها ويمتنع عنها) وانه لا يرمي الى تبرير أفعال تُخجل الضمير الحيّ. وبذلك فهو لا يقع في فخّ الكذب على الذات والبعد عن الحقيقة ولكنه يبقى مُستمسكا بالعقل الصريح وبما أهداه ربّه من هدي كيّما لا ينجر وراء التبرير والانخداع.

كما أنه لا يسعى الى تغييب نفسه ولا يطلب أن يُحال بينها وبين الحقيقة ولكنه على العكس من ذلك يريد زيادة الوعي بها وهو يسعى الى ابصارها على حقيقتها. انه لا يشبعها وهما مريحا ولكنه يدفعها نحو الحقيقة وان كانت مُرّة. بمعنى أن العلاقة التي تكون بين الانسان ونفسه في هذه الحالة تكون علاقة مُنفتحة، علاقة صادقة، علاقة صريحة، فهو من جهة لا يُخبّئ عن نفسه ولا يخدعها، ومن جهة أخرى هو يسعى الى زيادة وعيه بنفسه والى النظر فيها كما هي. هذه العلاقة الصادقة تُثمر عن ثقة بين الانسان ونفسه، اذ هو يعيش بانسجام داخلي وعنده وعي بذاته ولذا فهو لا يخاف من البيئة ولا يخاف مما يحدث وسيحدث معه، فهو يُدرك أنه في مكان آمن مع نفسه وأن لا شيء يدعوه الى التغطية والى التسويغ والى التبرير. انه ان أصاب عرف أن ذلك من الأخلاقيات التي زرعها الله فيه، وان أخطأ عن قصد أو عن غير قصد نظر الى خطئه دون تسويغ أو تبرير محاولا أن يفهم ما دفعه الى ذلك.   

ومن تعوّد على الصدق مع نفسه، لم يدعه شيء الى أن يكذب على الآخرين، فهو لا يحتاج الى أن يُغطّي على أفعال شنيعة ارتكبها ولا على نزوات ظاهرة عنده لأن هذه الأفعال الشنيعة غير موجودة عنده أصلا. ان باطنه مشرق وما من شيء مُخجل حتى يُخبّئه وما من شيء فاحش حتى ينكره وما من قلب أسود حتى يُخفيه عمّن حوله. بمعنى أنه لا يتعامل مع الآخرين وهو يخاف أن يكتشفوا وجهه الحقيقي ولكنه يتعامل معهم بثقة لأنه يعرف ما عنده وهو واثق بما عنده وهو يعلم أن ما عنده يسرّ الخاطر. انه لا يتصرّف وفقا لمنطق الخائف ولكن بمنطق الواثق، وهذه الثقة تصل الى الآخرين وتُساهم في بناء العلاقات الواثقة معهم. فكما أنه لا يكذب على نفسه فهو كذلك لا يكذب على الآخرين، اذ لو أراد أن يُنبّه أحدا الى سوء عنده لم يذكر ذلك من وراءه ولكنه يضع ذلك بين يديه وبأسلوب حسن. وكذلك فإنه من كان صادقا مع الآخرين لم يغشّ ولم يخدع ولم يسخر ولم يظلم ولم يفترِ.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ ( أي يبالغ فيه ويجتهد ) حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا". والبر كلمة جامعة تدل على كل وجوه الخير ومختلف الأعمال الصالحات، والفجور في أصله هو الميل والانحراف عن الحق.

***

كيف يُبعدنا الكذب عن ذواتنا ؟

هناك من يمكنه أن يقول: "أنا سرقت لأني محتاج للمصاري، وبعدين اذا اللي معهم مصاري ما بدهم يعطوا اللي ما معهم، احنا منوخذ حقنا منهم بالقوة"، ويمكنه أن يحلف أيمانا مغلّظة على صدق حاجته، ويمكنه أن يجلب التبريرات الدينية وغيرها: "ربنا قال انه للفقير حق محفوظ عند الغني، مش أنا". ومن الناس من يمكنه أن يقول: "أنا بسكر لأنه هموم الحياة هاي الأيام كثيرة وما في حدا بقدر يتحمّلها بدون ما يسكر شوي". ومنهم من يمكنه أن يقول: "أنا أقتل هؤلاء الناس لأنهم خرجوا عن طاعتي ولأنهم أرادوا أن يسرقوا البلاد وأن يعيثوا فيها فسادا". وكم من مرّات سمعنا فيها تبريرات خصوصا على نسق التبرير الأخير: "هم كفار ولذا لا مانع من سفك دماءهم"، "انهم يريدون نشر مذهبهم بيننا فلنقاتلهم قبل أن يتمكّنوا من ذلك". ونحن نسمع هذه التبريرات وهذه الخدع في سبيل ابادة أمم وجماعات وشعوب.

وهذه التبريرات هي مواقف دفاعية تدلّ على أن القائل يُدرك في جوّاه أنه يرتكب جرما أو اثما ولكنه بالرغم من ذلك يختار أن يذبّ عن فعلته وأن يكذب على نفسه وأن يقنع نفسه أن ما يفعله صحيح بسبب كذا وكذا. وهو يصل الى درجة عالية من الايمان بفعلته، حتى أنه ليمكننا أن نقول عنه: "كذب الكذبة وصدّقها". انه كذب على نفسه عندما أخبرها أن قتله لهؤلاء البشر مسموح به، وجرّاء الممارسة والاعتياد والتسويغ المستمر والدعم الزائف الذي يحظى به، صار يؤمن أنه في المسار الصحيح وأنه يجب أن يستمر.

في علم النفس هناك ما يُعرف بالـ "Cognitive dissonance"، وهي نظرية تدّعي أن الاستمرارية (الاستمرارية بنفس النهج وبنفس المواقف) هي دافع مركزي عند الانسان. الانسان الذي يؤمن بموقف معين ولكنه يتصرّف خلافه، سيشعر بشعور غير مريح ولن يحسّ بانسجام في ذاته. عندها يمكن لهذا الشعور أن يجعله يُغيّر موقفه الذي يؤمن به أو أن يُغيّر تصرّفه. فمثلا، الذي يدرك في أعماقه أن السرقة هي ممنوعة ولكنه يفعلها بالرغم من ذلك (على أثر الظروف الصعبة) سيشعر في بادئ الأمر بشعور غير مريح، ولكي يتغلّب على هذا الشعور يمكنه أن يبدأ يُسوّغ لنفسه فيصير يعتقد أن السرقة مسموحة في حالات معينة. والذي يقتل يمكنه أن يُغيّر من موقفه ليصير يؤمن: "انه كان من الضروري قتله حتى لا يعيث في الأرض فسادا". وانه لمن الواضح أنها تسويغات واهنة وتبريرات ضعيفة يمكن تحطيمها في ثوان معدودة، فالعقل الصريح يرفضها ويستهجنها من فوره، ولكن على الرغم من ذلك تجد من يؤمن بها ومن تصير حجّته وتبريره، وهنا يمكن رؤية البعد عن الذات بجلاء. انه لو حاورت مثل هذا الشخص لاكتشفت أنه يؤمن في جوّاه أن فعلته شنيعة وأنها جرم ولكنه يُحاول أن يُقنع نفسه وأن يدافع عنها كي يعيش بسلام مع ذاته، بالرغم من وجود مثل هذه الأعمال المُشينة في حياته.

***

كيف يُبعدنا الكذب عن الحقيقة ؟

لو افترضنا أن عالما قام بتزييف تجربة علمية وأن مقاله قد نُشر في مجلة علمية عالية الشأن دون أن تتمّ ملاحظة الزيف الذي افتعله، مما أسفر عن ملاحم بين العلماء ومناظرات وحوارات لا نهاية لها، على أثر النتائج المختلفة التي سطّرها العالم السابق ذكره. انه قد أحدث ضجّة علمية كبيرة وامتصّ كثير من الجهود العلمية ولربما أحدث بلبلة كبيرة في أواسط العلماء، وكل ذلك في سبيل مآرب شخصية خسيسة. انه فضّل مصلحته الشخصية وشهرته العلمية ووضعها فوق مصلحة الكل، انه ضحّى بالعلم وأساء له وأشغله عن قضايا أخرى بدلا من أن يكون مُعينا على تطوّره وعلى بنائه. والحقيقة؟ انه قد نحر الحقيقة وتنازل عنها منذ زمن، لما أن قال أن لديه نتائج علمية جديدة ومختلفة، ليخلط بفعلته الحقيقي بالمُزيّف والصدق بالكذب والصحيح بالخطأ.

ولو كذب أحدهم على شخصية معروفة أو على دين معين، لاختلطت كذلك الحقائق بالأباطيل ولتاه الناس بين من يدّعي الحقيقة كذبا وبين الحقيقة عينها ولربما ضلّ كثير طريقهم على أثر هذا التلبيس. ولذا جاء الوعيد شديدا على من افترى على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم شيئا لم يقله: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

واننا لنرى أنه في كلا الحالتين – حالة الكذب العلمي وحالة الكذب الديني – وفي حال الكذب بشكل عام، هناك بُعد عن الحقيقة. اذ أنه يصير من الصعب التمييز بين الصحيح والخطأ، بين الحقّ والباطل، بين الحقيقي والمُزيّف، على أثر ادخال الافتراءات والنزوات الشخصية التي لا تسعى أصلا الى البحث عن الحقيقة، فكيف لها أن تُحصّلها ؟! ولكننا نقول على الرغم من ذلك، أنه لو التبست الحقائق سنينا ولو جرّ البحث عنها جهودا ولو طال غيابها ولو تعمّق الشكّ وافترق الناس، فلا بدّ للحقيقة أن تظهر في النهاية ولا بدّ لبني البشر أن يهتدوا اليها بمساعدة الارشاد الإلهي.

***

علاقات اجتماعية مُهدّدة

اذا ظهر الكذب بين شخصين اثنين، فإن ذلك يمسّ بصدق العلاقة التي بينهما وبالتالي يُضعفها ويُضعف الثقة المتبادلة التي هي أساسها. انه عندما تخرج العلاقة عن دائرة الصدق فإن الشكوك تبدأ تحوم حول كل قول يصدر من الآخر، ذلك أنه يمكن أن يكون قولا صادقا أو كاذبا. واذا أردنا أن ترجع العلاقة الى دائرة الصدق التي كانت فيها، فإنها تحتاج الى اقناع بالطارئ الذي حصل (ما الذي دعا الشخص الى الكذب؟) والى فترة فحص واختبار تعتريها المُسائلات والشكوك. ذلك في العلاقة بين شخصين، فما بالنا ان انتشر الكذب بين الناس؟ فإذا ما ظهر الكذب بين الناس، لم يعد الواحد يُميّز بين الصدق والكذب أو بين الحقيقة والتدليس، مما يجعل الناس تتلخبط لترى أحيانا الكذب صدقا والصدق كذبا.

وعندها فإن الوضع الطبيعي يكون أن الانسان مشكوك في كلامه حتى يمرّ فترة فحص يثبت فيها صدقه، بمعنى أن الوضع الغير مألوف والطارئ هو أن يكون الانسان صادقا. ذلك بدلا من أن يكون الوضع الطبيعي هو أن الانسان موثوق في كلامه وصادق في أقواله. ولنا أن نتخيّل مدى التكلّف الذي سينجم عن ذلك ومدى القلق النفسي الذي سيعيشه الناس. فإن أرادت شابة أو أراد شاب أن يتزوج فإنه لا يكفيه ما يسمعه من الشخص نفسه ومن المحيطين به ولكنه يذهب الى استعمال التحقيق والمُسائلة والى الطرق التي تعمل على نسق جهاز كشف الكذب. واذا ما أراد أحد أن يسافر من دولة الى أخرى فإن الفحوصات الأساسية لا تفي بضرورة الأمن مما يستدعي فحصا دقيقا يُنفَض فيه الانسان نفضا حتى يُثبت لهم أنه بريء وأنه صادق في قوله.

انه اذاً انعدام للثقة المتبادلة بين الناس وانعدام للثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب، فالكل يعتبر الكل كذابا أو على الأقل مشكوكا في صدقه حتى يثبت عكس ذلك. هذا الاحساس الشاكّ الذي يبثّه كل انسان تجاه أخيه الانسان في مجتمع مريض كهذا، والذي يتلقى مثله في حالات أخرى، يُهدّد العلاقات الاجتماعية بين الناس بل وينسفها نسفا ويقضي عليها. ان العلاقات الاجتماعية تضمحل الى أبعد الحدود، ذلك أن الواحد يحاول أن يمتنع عن دائرة الشك الثقيلة على النفس، واذا ما كانت علاقة اجتماعية فإنها تكون سطحية في الغالب بعيدة عن المشاركة النفسية العميقة أو انها تكون مُزيّفة يُظهر الواحد فيها ما لا يتلاءم مع مكنوناته القلبية. وهل بعد كل هذه الشكوك وهذا الزيّف وهذه الوحدة راحة نفسية؟ كيف يمكن للراحة النفسية أن تكون وأنت تشكّ في الآخر وهو يشكّ فيك؟ كيف يمكنها أن تكون والعلاقات الاجتماعية ضحلة والوحدة التي يشعر بها الانسان أكبر من أن تُوصف؟ كيف يمكنها أن تكون والمشاركة النفسية الصادقة شبه معدومة؟ كم يمكن للجوف أن يحتمل في بيئة كاذبة شكّاكّة؟

***

انهيار حضاري وثقافي

يُعرّف علي عزّت بيجوفيتش في كتابه "الاسلام بين الشرق والغرب" الحضارة على أنها "استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، التبادل المادي بين الانسان والطبيعة. هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم". بمعنى أن الحضارة تتجّه بالأساس الى الماديات. فخامة العمران، البنى التحتية، المدن الراقية، التقدّم الصناعي والتكنولوجي والتقدّم العلمي، كل ذلك يتبع الى الحضارة. فإذا ما ساد الكذب في المجتمع وانتشرت الشكوك وصار الواحد لا يثق بأخيه الانسان، فكيف له أن يضع يده في يده لكي يتعاونوا معا على بناء الحضارة؟! على سبيل المثال، لو أراد شخص أن يبني بيتا (مظهر من مظاهر الحضارة) ولم يجد عامل البناء الذي يثق به وبعمله، فكيف له أن يبنيه؟! ولنفرض أنه استطاع اتمام البناء، فإن ذلك لن يكون الا بعد عناء كبير في ايجاد العامل الصادق أولا ومن ثم في محاولة تدارك البناء ان ظهرت مماطلة العامل أو ظهر عدم اتقانه لعمله!

ومرجع ذلك الى أن الحضارة لا يمكن بناؤها على يدي فرد واحد ولكنها تحتاج الى أيدي تتوافق على بناء الحضارة. فإن كان هناك من يريدون تشييد البناء الحضاري ولم تتواجد الأيدي الكثيرة، لم تنشأ الحضارة أو ان نشأت فإنها ستنشأ بصعوبة وستكون بدائية. وان تواجدت الأيدي ولم يتواجد من يريدون ومن يتفقون على تأسيس البناء الحضاري، صَعُبَ أو حتى استحال بزوغ الحضارة. وان تواجدت الأيدي وتواجد من يريدون الشر كإشعال الحروب الطائفية التي لا نهاية لها، فليس فقط أن البناء الحضاري لن يتطوّر ولكنه سيندثر. انه ان لم تكن هناك ثقة متبادلة بين الناس فإن الأيادي لن تتشابك ولن تتضافر الجهود وستبقى هناك جهود فردية عاجزة عن تشييد بناء حضاري.

أما الثقافة فإن بيجوفيتش يعرّفها على أنها "تبدأ بالتمهيد السماوي بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة، وستظل الثقافة تُعنى بعلاقة الانسان بتلك السماء التي هبط منها، فكل شيء في اطار الثقافة اما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمّل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان". هذه الثقافة لا يمكن أن تتواجد ما دام الكذب منتشرا، لأنها تنبني على الأخلاق وعلى الصدق. ولو تواجدت الجهود ولو تضافرت في سبيل تطوير الثقافة في مجتمع يقوم على الكذب واللا أخلاق، فإنها لن تنشأ ثقافة بأي حال من الأحوال، ولكن ما يمكن أن ينشأ هو ترهات تُلهي الناس وتُبعدهم عن ذواتهم وعن الحقيقة وعن الثقافة.

***

أوجه الكذب

لا ينحصر الكذب في القول الكاذب الذي يُخالف ما في الحقيقة وما في الواقع، ولكنه يتعدّاه ليشمل الكذب في التفكير والكذب في الفعل والكذب في الشعور. انه ان صار يُسوّغ الانسان لنفسه أفعالا شنيعة أو لا أخلاقية عبر مُغالطات منطقية فإنه قد وقع عمليا في مطبّ الكذب على التفكير، وان صار يفعل الفعلة اللا أخلاقية وكأنها شرعية، عادية، متلائمة مع الواقع فإنه قد وقع في الكذب في الفعل، وانه ان صار يحسّ تجاه الفعلة اللا أخلاقية التي يفعلها بإحساس ايجابي أو بنوع من اللا مبالاة فإنه قد وقع في الكذب على الشعور. والحقيقة أن مرجع كل ذلك هو الكذب على التفكير، فلو اعتقد الانسان أن الفعلة الشنيعة أو اللا أخلاقية هي عادية، لا بأس بها أو حتى جيدة، فإن ذلك يدفع الى الكذب في الفعل والى الكذب في الشعور، بمعنى أن الانسان يصير يمارس الفعلة بانعدام للمبالاة أو بأريحية وشعوره السلبي (كمشاعر الذنب) يتضاءل تدريجيا الى أن ينحسر الى أبعد الحدود.

الغشّ هو وجه من أوجه الكذب، ذلك أنه ينضوي على تغطية حقيقة الشيء وتزيينه وتجميله بما لا يتلاءم مع حقيقته، فالبائع يمكن أن يغشّ المشتري ان باعه بضاعة أطال في الاطراء عليها وعلى جودتها في حين هي لا تصل الى نصف ما قال عنها من كلام، والزوج يمكن أن يغشّ زوجته ان بالغ في لفت النظر الى مناقبه وأشاحه عن مثالبه وهكذا. والخداع هو وجه من أوجه الكذب. يُقال "رَجُلٌ خَدَّاعٌ أي مضلِّل، يكون ظاهره على غير باطنه" (قاموس المعاني). والغيبة والنميمة هما من أوجه الكذب، ذلك لأن الذي يستغيب أو الذي ينمّ يعرض وجهه الحسن أمام الآخر وربما يخدعه بمعسول الكلام، حتى اذا ما فارقه أخرج كل ما يضمره تجاهه من مشاعر سلبية عبر الغيبة والنميمة. اذاً هو كذب على الآخر، فما يُقال قدّامه شيء وما يُقال من وراء ظهره هو شيء آخر. الافتراء والبهتان هما أيضا من أوجه الكذب البائنة التي لا تحتاج الى تفسير، فهما اختلاق لحقائق لا أصل لها ولأشياء لا وجود لها في الواقع. ولربما لبيان شدّة الافتراء وللتشديد على شناعة القول، سمّى الاسلام اتهام المرأة العفيفة الطاهرة بالزنى قذفا ووضع لذلك حدّا. عندما يُقال قَذَفَ فإن ذلك يعني "ألقى وأنزل إنزالا شديدا" (معجم كلمات القرآن).

والسخرية هي أيضا من أوجه الكذب. اذ أن الذي يسخر يحاول أن يحطّ من قدر الآخر وأن يُحقّره ويُصغّره، في حين أنه لا يبلغ ذلك، فكل ما في الأمر أنه بسخريته يخدع نفسه ويكذب عليها عبر ابراز نقاط قوته والتغاضي عن نقاط ضعفه (لا يرى نفسه كما هي) ويكذب على نفسه مرة أخرى عندما يُبرز نقاط ضعف الآخر ويتغاضى عن نقاط قوته (لا يرى الآخر كما هو). انه يكذب على نفسه مرتين بسخريته هذه، مرة عندما يختلق صورة كاذبة لنفسه ومرة عندما يختلق صورة كاذبة للآخر، وكما يُقال بالعامية "ماخذ بحاله مقلب". يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ".

والظلم هو من أوجه الكذب. اذ أن الظالم يكذب على نفسه، فهو ينسى أو يتناسى مكانته الحقيقية في هذا العالم، ينسى أو يتناسى أن لا حول له ولا قوة وأن قدرته وقوته مهما بالغت وتعالت فإنها محدودة وزائلة حتما. فهو ان ملك قدرة على أخيه الانسان، فإنها حتما ستكون قدرة محدودة بعظمتها (كما يُقال: فوق القوي من هو أقوى منه) وحتما ستكون قدرة محدودة بالزمن اذ أنها لن تدوم. فذلك الانسان الذي تغرّه قدرته اللحظية ويحاول أن يستغلّها في سبل الظلم، فإنه بعيد عن حقيقته الانسانية ولربما توهّم للحظة أو للحظات أنه إله أو أنه مقتدر على كل شيء، وكل ذلك أوهام طفولية ساذجة.

***

خطيئة القتل والكذب

لو أن القاتل يُدرك حقا ما سأكتبه هنا من أسطر قليلة لما فكّر في أن يقترب من فعلته الشنيعة ولا خطر على باله أن يقوم بها أو بجزء منها. ولكنها لحظات يكذب فيها الانسان على نفسه كذبا شنيعا فيدفع به ذلك الى فعل كاذب شنيع. اننا نؤمن أن الله هو الذي خلق هذا الانسان، هو الذي خلقه من طين لازب وأودع فيه روحا، وهو الذي سخّر له هذا العالم الذي يتلاءم مع احتياجاته، وحدّد له عمرا وساعة يقبض فيها اليه تلك الروح التي أودعها فيه. وأسجد له الملائكة واستخلفه في الأرض وهيّء له جنة ينعم فيها أو نارا يستعر فيها.

ومن ثم يأتي من يُعلن تحكّمه برقاب الناس وهو منهم! يأتي ليقول أنه قادر على تحديد مصير انسان وهو غير قادر! يأتي ظانّا نفسه الها يحيي من شاء ويُميت من شاء وهو ليس كذلك! وهو يعلن كل ذلك عبر فعلته الشنيعة التي ما كان ليُقدم عليها لولا كذبه على ذاته. انه ظنّ لوهلة أن عنده قدرة على أخيه الانسان، كيف لا وعنده السلاح الذي يمكنه أن يقضي على المقصود بثوان معدودة، وظن أيضا أن له أن يستغلّ قدرته هذه في سبيل تحقيق مآربه ولكنه قد غاب عن باله أنه مسؤول عن كل أفعاله. انه نسي أنه من بني البشر، أنه من لحم ودم، أنه سيموت يوما وسيبلى جسده وستفارق روحه جسده، وغرّته قدرته اللحظية على فعل ما لا يمكنه تحمّل عقباه. انه كذب على نفسه بأن أقنعها أن له قدرة على احياء من شاء واماته من شاء، فهو يترك من يشاء حيا ويقص رقبة من يشاء اماتته. والواضح أنه اغترار بالقدرة اللحظية التي يملكها. فلو تحقّق له مأربه واستطاع أن يقضي على من أراد أن ينهي حياته، فإن ذلك لا يعني أن عنده قدرة على الإماتة. لأن الحقيقة تقول أن الخالق الذي خلق البشر هو الذي جعل موت فلان على يديه واستعمله على ذلك، ولا يعني ذلك أن الانسان سُيّر الى ذلك ولكنه هو من اختار ذاك الطريق الذي أودى به بوعيه أو بعدمه الى ارتكاب جريمة يندى لها الجبين.

وبئس به من شر أن يُستعمل الانسان في سبيل اقامة الشر! انه عكس وظيفة الاستخلاف في هذه الأرض، فبدلا من أن يقوم ذلك الانسان بتوظيف الطاقات الانسانية من أجل إعمار الأرض وتشييد الحضارة والثقافة فيها، فإنه يقوم بتدمير ذاك الانسان وتدمير الأواصر الاجتماعية وبالتالي اعاقة التقدم الحضاري والثقافي. انه بدل من أن تتجّه الجهود الى البناء والحركة فإنها تتجه الى الهدم والجمود. لذلك فإن صاعقة جريمة القتل تكون كبيرة، اذ هي لا تنسجم مع سير الحياة الطبيعي ولا تنسجم مع وظيفة الاستخلاف ولا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ولا مع الفطرة التي فطر الله عليها هذا العالم.  

***

خطيئة القتل والمجتمع

بقدر ما هي غالية حياة الانسان، فإن حياة المجتمع ان جاز التعبير أغلى وأهمّ وأدعى الى الحفظ، وليس ذلك فقط لتفاضل العدد ولكن للأواصر الاجتماعية وللترابط المجتمعي. انه لو كان هناك أفراد مُتفرّقون لما نشئ مجتمع ولما نشئت حضارة ولا ثقافة تجمع بني البشر، ولكن لما كان الاجتماع حاجة في نفس الانسان، نزع الى تأسيس البناء المجتمعي الذي فيه يمكنه أن يسدّ حاجاته الأساسية والثانوية بشكل أفضل وأيسر.

ولنا أن نتخيّل ماذا يمكن للقاتل أن يفعل عندما يُقدم على فعلته السوداء النكراء. انه يخلخل هذا البناء المجتمعي ويضربه في أساساته، اذ لو لم تنشئ هناك ثقة بين الناس ولو لم يعتقدوا أن المجتمع سيحفظ دمائهم وسيذبّ عنهم اذا ما باغتهم خطر خارجي، لما صار اجتماعهم ولما سكن بعضهم الى بعض. فذاك القاتل الغبي أعاد الناس بفعلته الى الوراء ليمتحن من جديد كل واحد منهم أواصره الاجتماعية وليُعيد النظر في الأمن الذي كان يتوقّعه في مجتمعه. انه قد أحدث فيهم ما لم يكن متفقا عليه وما لم يرغبه أحد عندما أراد الانسان أن يجتمع بأخيه الانسان، فالغاية كانت شبك الأيادي ليتحصّل لكل واحد حاجاته الأساسية من أكل وشرب وأمن واطمئنان. لكن هذا الذي أُحدث هو عكس ما اجتمع عليه الناس في بادئ الأمر، انه خيانة للعهد الانساني وطعنة يطعنها القاتل في ظهر مجتمعه.

وهو خيانة للخالق الذي أراد من عباده أن يخلفوه في أرضه وأن يُصلحوا وينصروا بعضهم بعضا ويشدّ بعضهم بعضا ليصيروا كالبنيان المرصوص. ذلك بدلا من أن يكونوا أفرادا مُتفرّقين أو قبائل متناحرة كما كان في الجاهلية. يقول تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ". ان الخالق أراد من الجهود كلها أن تتجّه الى صلاح المجتمع ككل، لا أن تضيع في ما يفسد على الناس جمعهم ولا أن تذهب الى حمام دماء لا يدع للناس مجالا لتحقيق وظيفة الاستخلاف.

فالذي يرتكب جريمة القتل هو عمليا يكذب على نفسه مرتين فيما يتعلق بعلاقته مع مجتمعه. أما الكذبة الأولى التي يكذب بها على نفسه فهي عندما يظنّ أنه غني عن البشر وأن لا حاجة له الى أن يحفظ أواصره الاجتماعية، فيُقدم على فعلته النكراء متنكّرا لحاجته في الاجتماع. وأول ما يُزجّ به في السجن وأول ما يقاطعه الناس يحسّ بالوحدة وبحاجته الى الاجتماع ببني جلدته. أما الكذبة الثانية التي يخدع بها نفسه هي عندما يحيد عن وظيفة الاستخلاف، وكأنه لا يعير البناء المجتمعي أي اهتمام ولا يهمّه أمر مجتمعه البتة.

***

ما الذي يدفعك الى القتل؟

وفقا لفرويد، ينبع العنف من "غريزة الموت" التي تظهر بصورتها الأولية كأنها موجّهة إلى الداخل (لتدمير الذات) ومن ثم تتجّه إلى الخارج. بمعنى أن جريمة القتل التي تتجّه الى الخارج، ما هي الا نتاج غريزة حيوانية مزروعة في الانسان. ونحن لا ننكر وجود الغريزة في الانسان، ولكننا نعلم أيضا أنها الجانب المنخفض في الانسان الذي ان أُطلق له العنان فإنه يفعل فعلات يندى لها الجبين، فهو لا يخضع لمنطق ولا لعقل ولا لدين ولا لأخلاقيات ولا للمتعارف عليه اجتماعيا. ولكنه يسير في طريق واحد أحادي الجانب، هو طريق طلب اللذة والبعد عن الألم ولا يهمّه كيف يتحصّل له ذلك، فكل الطرق مشروعة وكل شيء عنده مباح.

لكن ما الغريزة الا مركّب واحد من بين المركّبات التي عند الانسان، فهناك كما يقول فرويد "الأنا" و"الأنا الأعلى" أو كما نقول نحن هناك أيضا النفس والعقل والروح. وكل حالة يأخذ فيها أحد المركّبات السابق ذكرها حيّزا أكثر على حساب الأخريات فإنها حالة خارجة عن التوازن المطلوب، وفي حالات معينة يمكنها أن تكون حالة مرضية. واذا ما رجعنا للحديث عن الذي يُقدم على فعلة القتل النكراء، فإنه يمكننا القول أنه ينساق عمليا وراء غريزته الحيوانية وهي التي تكون مُرشده وإلهه آنذاك. انه انفراد بالغريزة دون غيرها وهو ما يجعل الانسان أقرب ما يكون الى الحيوان بل أدنى، ذلك لأن عنده العقل والروح والنفس ولم يستعمل أيا منهما. انه لو استعمل عقله الصريح لما قيد الى التسويغ والى التبرير ولو نظر الى روحه لما غرّته غريزته ولو نظر الى نفسه لعلم أن فيها أيضا ما يأبى أن يسلّم أمره الى فحش الجريمة.

ولكنه الكذب على الذات الذي جعل الانسان تبعا لغريزته، فتغاضى عن عقله الذي ميّزه الله به عن سائر المخلوقات وغضّ الطرف عن روحه التي هي من عند الله ونسيَ نفسه فلم يأخذها الى صلاحها. انه ترك كل مركّباته التي تُعليه عن الحيوانية واتبع أدناها، انه ترك انسانيته واتبع حيوانيته، ولعمرك ان هذا لهو البعد عن الذات ولهو الكذب الجلي على النفس.   

***

السارق كاذب

الذي تسوّغ له نفسه أن يسرق فإنها تسوّغ له أن يكذب. ذلك أنه لو تأمّلنا في عملية السرقة لوجدنا أنها لا تنسجم مع مفهوم العدل، ففيها يسلب السارق ما لا يحقّ له وما لا يتعب فيه وما ليس ملكه. انها تتعارض على طول الخط مع العدل، فهل من العدل أن يأخذ الواحد عنوة ما لا يتبع له، وهل من العدل أن يأخذ عنوة ما لم يتعب فيه؟ انه من الواضح أنه ليس من العدل، فحتى الأطفال يعلمون أن ما لهم هو لهم وأنه لا يحقّ لأحد أن يسلبهم اياه. فما بال السارق اذ ينزل الى ما دون فهم الأطفال، فيسلب ما ليس له؟ ما باله يحدث في مجتمعه مرضا مميتا؟

الا أنه هو الكذب على الذات، فرغم علمه أن ذاك الشيء لا يتبع له ولا يحقّ له، الا أنه يُسوّغ لنفسه سرقته ويقنعها بشرعية فعلته. يقول لها: "أنا أحقّ بذاك الشي منه" أو "انه كان لي من قبل فلم يُرد صاحبه الحالي أن يبيعني اياه فحُقّ لي أن أسرقه" أو "الكل يسرق من الكل أفكون أنا المختلف؟" أو "السرقة شغل، فيها تخطيط وفيها مخاطرة وفيها تعب" والى ذلك من تبريرات وتسويغات. ان ذاك السارق يعلم بداخله أنه يسلب شيئا ليس له وأنه يأخذه بطريقة غير شرعيه ولكنه على الرغم من ذلك يكذب على نفسه ويقنعها أنه يجب أن يصير له ولو لم يتعب فيه.

هذا السارق يكذب أيضا على مجتمعه بالإضافة الى كذبه على ذاته، فهو وكأنه يوحي اليهم أن الأجر ليس على قدر المشقة ولذا لا حاجة الى الاجتهاد ولا حاجة الى العمل. انه يُعطي لهم مثالا كاذبا عن تحصيل أجر بمجهود قليل، فكأنه يقول لهم: شاهدوني ها أنا ذا حصلت على مغانم كثيرة دون أن أشقى وأتعب. عندها يمكن للحمقى من بني مجتمعه أن ينخدعوا بكذبته هذه فيسيروا على نهجه، ولكن الفطِنين هم أولئك الذي يُدركون الجوانب التي تتعالى على المادية في تلك الفعلة، فهم يعلمون أنها فعلة ليست أخلاقية ولا منطقية ولا عادلة. ذاك السارق الكاذب يُحدث خللا مجتمعيا بوعيه أو بعدمه، فهو يُشجّع بفعلته على الفوضى وعلى التكاسل (فإن كانت السرقة أسهل، فلمَ لا نسرق؟) وهو يُشجّع على التقصير في العمل أو حتى تركه مطلقا والى الاتجاه الى سلب مجهود الآخرين. فهي طاقات انسانية تذهب سدى وتضيع لأنها وبدل أن تُسخّر في خدمة المجتمع والنهضة به عبر الأعمال المختلفة التي تساهم في تطويره، سُخرّت لتنهش دعائمه من الداخل ولتُقوّض بنيانه عبر جرائم السرقة التي تؤذي أبناء المجتمع.

***

البناء الأسري والكذب عليه

كثير من المفكّرين والفلاسفة تحدّثوا عن دور الأسرة المهم في البناء المجتمعي، ولكي لا نُردّد ذات الأقوال نحاول أن نعرض هنا أهمية الأسرة عبر المنطق البسيط الواضح. المجتمع يتكوّن من أفراد والأفراد ينقسمون الى ذكور واناث. وقد وضع خالقنا في الذكور والاناث على حد سواء ميلا طبيعيا الى الجنس الآخر، انها حاجة للاتصال بالجنس الآخر وهي ترمي الى التناسل الذي يُفضي الى استمرار الجنس البشري وبقائه. اذا ما اتصل الذكر بالأنثى بطريقة عشوائية فإن غاية التناسل يمكن أن تحدث وغاية بقاء المجتمع يمكن أن تحفظ، ولكن هذه الغايات كلها مادية بيولوجية، ماذا عن الغايات النفسية؟ ان الأخيرة لا يمكن أن تُصان الا في اطار يكون فيه أب وأم جيدين بشكل كاف كما يُسمّي ذلك عالم النفس وينيكوت (صحيح أن وينيكوت تحدّث بالأساس عن الأم الجيدة بشكل كاف ولكن يمكن الاستنتاج بالنسبة للأب بالاستعانة بنفس المنطق).

لذلك جاء الاسلام ونظمّ العلاقات بين الجنسين عبر العلاقة الزوجية التي أسماها بالميثاق الغليظ فرفع بذلك من مكانة الأسرة. كما وحرّم كل علاقة لا تتمّ في اطار الزواج حتى لا ينهدم البناء الأسري وحتى لا تخرج الى هذه الدنيا أنفس لا تجد الأم الجيدة بشكل كاف والأب الجيد بشكل كاف. سيقول لك: ان مقدّمات العلاقة الجنسية وحتى العلاقة الجنسية نفسها لن تُفضي الى نسل اذا ما تم اتخاذ وسائل منع الحمل، فلماذا اذا هذا التحريم؟ والجواب على هذا السؤال هو أن السائل يتعامل مع القضية بصورة مادية بحتة ولا يأخذ بالاعتبار حاجات الانسان النفسية، فكل علاقة جنسية تتواجد فيها شحنات عاطفية وطاقات نفسية (وليس فقط خلايا تكاثر) واذا ما ذهبت هذه الطاقات وتلك الشحنات العاطفية الى علاقة خارج اطار الزواج فإن ذلك سيكون بالتأكيد على حساب العلاقة التي في اطار الزواج. فإن كان الحديث عن أعزب أو عزباء، فالعلاقة التي تكون خارج اطار الزواج ستذهب بطاقته/ها النفسية اليها وسيكون ذلك على حساب توجيهها الى بناء علاقة زوجية راسخة، وان كان الحديث عن متزوّج/ة فالعلاقة الاضافية التي هي خارج الزواج ستكون على حساب العلاقة الزوجية. لذلك فإن تحريم أي علاقة خارج اطار الزواج كان من أجل توجيه الطاقات الجسدية والنفسية الى مكان واحد، وعندها لن تتشتت طاقة الانسان النفسية بين زوجة وحبيبة وبين زوج وصاحب، ولكنها ستذهب كلها الى العلاقة المقدّسة وسيمكّن ذلك الأب والأم أن يكونا والدين جيدين بشكل كاف ولن يعاني الأولاد من والد غائب أو والد حاضر غائب أو والد حاضر بشكل جزئي (نقصد الحضور الجسدي والنفسي).

وما كان ذلك التشديد على الحضور الجسدي والنفسي الكامل الا للتأكيد على أهمية هذه العلاقة، فهي ليست لحظة تسلية وحسب وهي ليست متعة فقط، ولكنه لقاء يمكنه أن يلد مجتمعا أخلاقيا أو مجتمعا فاسدا. انه دفع نحو أخذ المسؤولية في ممارسة هذه العلاقة، فكأنّ الذي يمارسها خارج اطار الزواج يتهرّب من مسؤوليته تجاه مجتمعه. ولو أفضى الانسان بطاقته الجسدية والنفسية الى العلاقة الزوجية الطاهرة ولم يفضي بهما الى غيرها لكان حضوره الجسدي والنفسي كاملا ولتمكّن من انشاء وتربية أبنائه على أحسن نحو، أما ان كان مُشتتا بين علاقات متعدّدة فإن حضوره سيكون منقوصا ولن يكون مربّيا صالحا مما سيضرّ بطبيعة الحال بأولاده. لهذا فإن الزنى ومقدّماته هو كذب على الذات وعلى المجتمع. هو كذب على الذات لأن الانسان يُشتّت نفسه بين زوجة وحبيبة كي لا يُنشأ علاقة عميقة صادقة، وهو كذب على المجتمع لأن الانسان يذهب بطاقته النفسية والجسدية الى ما لا يُصلح حال مجتمعه. والمثلية كذلك هي كذب على الذات وعلى المجتمع ففيها حياد عن الطبيعة وتوجيه للطاقة النفسية والجسدية الى مكان غير صحيح لا يساهم في تطوّر المجتمع.

 

ثقافة العقلانية والكذب عليها    

كلنا يعلم أن الله قد ميّز الانسان عن سائر المخلوقات بالعقل وعلى أثر هذا التمييز والتفضيل استمر الانسان بالتفوّق والتفاضل على سائر المخلوقات، فاكتشف خبايا ومكنونات هذا الكون واخترع ما يسدّ حاجته ويسهّل عيشه. واذا ما زال هذا العقل أو خفّت سطوته، فإن الانسانية تُستبدل بالحيوانية ويزول عندها تفاضل الانسان على سائر المخلوقات. والعجب أن هناك من يختار تغييب العقل أو جزء منه عبر تناول المسكرات على أنواعها وهم يُقنعون أنفسهم بأقوال شتى من مثل: "كلها لحظات وسنعود الى الوعي التام، كلنا يحتاج الى أن يُريح دماغه من الهموم" أو "دعنا نفرح قليلا وننسى، أينبغي أن نكون كل الوقت حاضرين ذهنيا" أو "هي كمية قليلة لا تُذهب العقل بتاتا". والحقّ أن في كل واحد من هذه الأقوال هناك كذب على الذات، فكل لحظة سكر أو كل نسبة سكر ستذهب بطاقة ذهنية الى العبث ولن يكون بالإمكان استردادها.

ولنا أن نتخيّل رجلا قضى ساعات معدودة كل أسبوع في احتساء المسكرات، فإن بدا لنا أنها فسحة صغيرة يريح بها الانسان نفسه، فإنه ان نظرنا الى مجمل الساعات التي قضاها في حياته تحت تأثير مسكر فإننا سنجدها ساعات كثيرة جدا. ولو أن كل واحد من أبناء المجتمع أضاع مثل هذه الساعات سدى، لنتج اهدار مجتمعي لا يمكن وصفه لطاقات ذهنية كانت يمكن أن تُوظّف في سبيل البناء الحضاري والثقافي. والنتيجة أن ذلك سيكون على حساب التقدّم الانساني وعلى حساب التفاضل على الحيواني. وما ذلك الا لأنه هو ذا العقل ميزتنا وأساس مجدنا وحضارتنا وثقافتنا، ومنا من اختار صدّه عنا. لذلك فإن من كبار العلماء الذين يحترمون عقولهم من حرّم على نفسه المسكرات كلها كي لا تُلهيه عن ميزته العقلية وعن عطائه المتفاني للعلم، وأحد هؤلاء العلماء هو داروين صاحب نظرية تطوّر الأنواع.

والصحيح أن كل سعي وراء المُسكرات يُضمر في داخله هربا من الحياة، من الواقع، من المواجهة، من التفكير، من المسؤولية. ذاك الذي يُسكر دماغه ولو بنسبة بسيطة هو عمليا يهرب من المسؤولية التي حمّله الله اياها عندما ميّزه بالعقل، هو يهرب من وظيفة الاستخلاف ووظيفة اعمار هذه الأرض ويهرب من ابصار الأمور على حقيقتها. انه يختار له وهما مريحا ويختار بعدا عن الواقع وبعدا عن ذاته، وفي كل ذلك كذب على الذات.

ولا شكّ لدينا أن خالقنا أرادنا حاضرين كليا في معترك هذه الحياة، يقظين، صاحين، واعين، مدركين، عقلانيين، لنكون متفرّغين كليا للبناء الحضاري الذي يحتاج الى عقل مُدبّر حاضر والى البناء الثقافي الذي يحتاج الى انسان سوي واع. ان هذه الحياة جدّ وهي دار عمل واجتهاد ولا وقت فيها لسكرة صغيرة أو كبيرة تذهب بجزء من العقل أو كله لما في ذلك من حياد عن غاية العمل والاعمار والبناء الحضاري والثقافي. لذلك جاء الاسلام وحرّم كل أنواع المسكرات لأنه أراد أمة صاحية واعية، لا أمة تعمه في سكراتها. أراد أمة تُعمل عقلها كل وقت وحين وتعمل وتجتهد في كل نواحي الحياة. أراد أمة على قدر المسؤولية، أمة تدرك أن المسؤولية في هذه الحياة لا تحتمل سكرة صغيرة أو كبيرة. وقد أثمر هذا الارشاد عن حضارة دامت ثماني قرون لم يعرف لها التاريخ مثيلا، كيف لا وما هذا الا نتاج حثّ مستمر وحضّ كبير على اعمال العقل وعدم التنازل عن أي جزء منه لأي فترة كانت.

الإيجاب المعقول - الجزء الثالث

هل نعيش اللحظة ؟

كثير منا يُردّد مقولة "عِش اللحظة" ولكن هل فعلا نحن نُدرك ما نقول؟ وهل فعلا نعيش اللحظة أم نظنّ أننا نعيشها ونحن بعيدون كل البعد عنها؟ اذا كان الانسان سارحا في ما جرى معه مؤخّرا أو حالما بما ستجلبه الأيام القريبة وهو في خضم لحظة حاضرة تستدعي حضوره، فهو من المؤكّد أنه لا يعيش اللحظة، اذ أن ذلك يمكن أن يظهر للجميع دون أي مجال للشكّ. ولكن اذا ما كان الانسان حاضرا بشكل جزئي بحيث أن جزئه الآخر هناك في الماضي أو في المستقبل فإن ذلك مما يصعب على الآخرين ملاحظته وأحيانا على الشخص نفسه، اذ هو يظنّ نفسه مع المجموعة لأنه مُدرك لما يدور حوله، ولئن توجّه اليه أحدهم لتمكّن من الإدلاء بدلوه ولكنه مع ذلك يبقى غير مندمج بشكل كلّي. انه يبقي يُراقب الزمن، والدقائق تكون عليه ثقيلة لأنه غير مندمج وغير مستمع بالتالي في لحظته الحاضرة، وهو يأخذ موقفا جانبيا فإن توجّهوا اليه كان معهم وان لم يتوجّهوا لم يُبادر هو الى التوجّه، وباختصار هو لا يشعر أنه قسم من المجموعة ولربما يشعر أنه مختلف عنها، غير متّفق معها ولا تلائمه، في حين لو حاول الاندماج فيها منذ البداية لوجدها غير ذلك.

هذا الحضور الجزئي يمكنه أن يُولّد هروبا الى الماضي أو المستقبل، مما يُساهم في حفظ وتقوية الحضور الجزئي، وهكذا تستمرّ الدائرة السلبية المُغلقة دون أن يتمكّن الانسان من اختراقها، فهو حاضر بشكل جزئي وكنتيجة من ذلك هو لا يشعر بشعور ايجابي، ولكي يُدافع عن نفسه يذهب الى الماضي الجميل أو المستقبل المرجو وبالتالي يحفظ حضوره الجزئي وهكذا. ان هذا الهروب الى الماضي أو المستقبل يعكس استعمالا لآليات دفاع تهدف الى اعادة التوازن النفسي والى اعادة الايجاب. ولكن هذه الأساليب الدفاعية تعمل عمل المُسكّن لا أكثر، ففي المرة القادمة ستنبعث نفس المشاعر السلبية الناجمة عن الحضور الجزئي وستدخل آليات الدفاع مرة أخرى الى الصورة. ومن ثم فإن هذه الآليات الدفاعية لا تُعطي للإنسان فرصة عيش اللحظة الحاضرة.

لكننا نقول أن الحضور الكلّي في اللحظة الحاضرة هو الحالة الأمثل وهو غير ممكن في حالات كثيرة، لأنه لربما سيشغل الانسان أحداثا جرت معه مؤخّرا أو أشياء مستقبلية قريبة تؤرّقه أو ينتظرها بفارغ الصبر ان كانت ايجابية وحتى أنه ستشغله أحداث حاضرة تعنيه تجري في مكان آخر غير مكان تواجده في اللحظة الحاضرة. لذلك فإن حاول الانسان أن يعيش اللحظة الحاضرة بكل قواه ولم يتمكّن من ذلك حتى النهاية، فلا يجب أن يشعر بمشاعر الذنب تجاه نفسه، ولكن أن يعمل على تصفية ذهنه وأن يجتهد في الحضور الكلّي (ذلك يمكن من خلال وسائل العلاج النفسية المختلفة على سبيل المثال).

***

ما بالنا نستعجل السلب ؟

هناك من الناس من اذا أقدموا على شيء (وخصوصا ان كانوا مُجبرين غير راغبين)، فإنهم يُضمرون في داخلهم أن ما هم مقدمون عليه سيكون سلبيا بالتأكيد ولا مجال للشكّ. انهم يُبرمجون تفكيرهم، تصرّفهم وشعورهم على أن القادم سيكون سلبيا، واذا ما قدم الأمر وجدوا ما توقّعوا حقّا، فعادوا الى أنفسهم والى من دفعهم الى العمل قائلين: "مش قلتلك انه هاي الشغلة كلها مقت بمقت ودشّرنا منها أحسن، أنا عارف شو بحكي". انهم يعودون بإحساس سلبي بلا شكّ خصوصا أنهم لم ينصاعوا لتوقّعاتهم وخالفوا رغبتهم، ولكنهم يظنّون بالمقابل أن رأيهم قد انتصر وأن تفكيرهم وتوقّعهم قد أثبته الواقع. والحقّ أن هذا لم يكن غريبا ولا مُستبعدا، فلأنّهم جاؤوا بتفكير سلبي مُسبق وبآراء مُسبقة، فإنهم قد أدخلوا أنفسهم الى دائرة السلب وبالتالي عميت أعينهم عن إبصار الإيجاب. انهم لم يأتوا نقيين من توقّعات مُسبقة ولكنهم ألقوا بظلال توقّعاتهم على الحاضر وأفسدوا بذلك على أنفسهم فرصة عيش اللحظة الحاضرة كما هي بسلبها وايجابها.

على سبيل المثال، عندما تفترض أن من ينتمي الى مجموعة عرقية أو دينية أو حزبية معيّنة، عندما تفترض أنه يكرهك وأنه لا يريد مصلحتك وأنه يمكنه أن يضرّ بك متى سنحت له الفرصة، فإن كل احتكاك معه سيُفسّر وفقا لهذه الفرضيات والآراء المُسبقة. فإن أراد أن يلفت انتباهك الى نقطة ضعف عندك لكي تُحسّنها أو ان أعطاك اشارات غير مفهومة لك أو ان مازحك أو حتى ان أراد أن يستطرد في مدحك، فإنك ستُفسّر كل ذلك على أنه نابع من الحقد ومن الكره، ولربما من رغبة بالإطاحة بك أو بإلحاق الضرر بك. ولن تتسنّى لك بالتالي فرصة الاستفادة من النقد الذي يُوجّه اليك ولا أن تستمتع بالمزحة ولا أن تهنئ بالمديح الذي يُقال لك (حتى المديح يمكنك أن تظنّه نابع من شفقة ولربما تظنّه مزيّفا).     

***

الحاضر والسيطرة

من يعتقد أن بإمكانه أن يُحرّك الظروف كيفما شاء وأن يُسيطر على لحظته الحاضرة سيطرة كاملة هو مخطئ، تماما كمن يعتقد أن لا سيطرة له على سير الأحداث في حياته وأن كل شيء مكتوب ولا مجال للتأثير. الأوّلون مغرورون بقدراتهم الانسانية وهم يخدعون أنفسهم بالسيطرة الكاملة ليشعروا بالأمان، حتى اذا ما جاءهم ما لم يكونوا يحتسبوا استيقظوا من غفوتهم وخاطبهم الواقع أن لا سيطرة كاملة لكم عليّ. انه اذا ظهر عند أحدهم مرض أو أصاب أحدهم مكروها (كحادث سير أو حادث عمل)، وقفوا مشدوهين وعندها يصيرون يتسخّطون على القدر الذي لم يكونوا يعملون له أيّ حساب. اننا لا نُعاتبهم بقدر ما نُحاول وصف حالهم، فهم ان وقعوا في مصيبة، فإن كل من يستطيع يجب أن يقف بجانبهم وأن يأخذ بأيديهم وأن ينصت الى مصيبتهم وحتى الى تسخّطهم على القدر، وبكل الأحوال فلا يجب أن يُعاتبهم أو يولّد عندهم مشاعر الإثم أو الذنب وقت وضعهم الحرج.

أما الآخرون الذين يعتقدون أن لا سيطرة لهم على حاضرهم ومستقبلهم، فهم في الحقيقة غير واثقين من قدراتهم وليس كما يقولون أنهم مؤمنون بالقدر مستمسكون به ولا يُعارضونه. ان هذا فهما أعوجا للقضاء والقدر وهو يهدف بالمقام الأول الى التغطية على عدم الثقة في القدرات. أليس الله قد خلقهم وأعطاهم فرصة الاختيار؟ ألم يأمرهم ربهم بأن يأخذوا بالأسباب وأن يجتهدوا؟ لماذا يُفوّتون على أنفسهم فرصة الاختيار وفرصة الاجتهاد والأخذ بالأسباب؟ لماذا يُفوّتون على أنفسهم فرصة كتابة تاريخهم؟ ألأنهم يعجزون عن أن يُمسكوا القلم أم لتكاسلهم عن امساكه؟

والصحيح أن لكل واحد منا سيطرة على حاضره، كل واحد يمكنه أن يكتب تاريخا ايجابيا أو سلبيا وذلك حسب اختياره، ويمكنه أن يجتهد وأن يرسم سير حياته كما يريده هو. ولكن هذه السيطرة تبقى محدودة فللظروف أيضا تأثير. لذا فإنه من الأحرى بالإنسان أن يستعمل السيطرة وأن يأخذ بها الى ما أمكنه ذلك، ولكن بالمقابل أن يعلم أن هناك قوى ما ورائية أكبر منه وأن هناك مواطن سيبرز فيها عجزه عن السيطرة، وهذا شيء طبيعي لا يستدعي توجّسا زائدا.

*** 

لا تتنازل عن السلب !

لربما يبدو العنوان غريبا بعض الشيء، اذ أننا نسمع بالعادة "تفكّرش بشكل سلبي" أو "خليك ايجابي". الا أنه لا يجب أن يكون غريبا لمن قرأ المقالات السابقة التي مهّدت لهذا المقال، فقد وضّحنا أنّ السلب والايجاب موجودان في هذه الحياة في كل شيء وحتى في الانسان ذاته، ولِلنّظر الى السلب دون انكاره أو تجميله دور كبير في مسيرة التطوّر الانساني. فإن تنازلنا عن السلب فإننا نتنازل عمليا عن جزء من هذه الحياة، عن جزء من واقع هذه الحياة ان لم يكن عن أجزاء. بكلمات أخرى، اننا نُجمّل الواقع أو نُزيّفه لنعيش في الأوهام المريحة وبذلك فإننا نُساهم في تغييب وعينا الإنساني، بدلا من أن نعيش الواقع بحلوه ومره، بإيجابه وسلبه.

ان للقدرة على رؤية السلب (في حين تواجده بشكل واضح لا يقبل التأويل)، دور فعّال في الحفاظ على الانسان وعلى من حوله وحتى على بيئته. في الماضي، كان انسان الغاب يتعرّض لأخطار كثيرة تُهدّد سلامته الجسدية، من مثل تهديد الحيوانات المفترسة، النباتات السامّة والكوارث الطبيعية. انه لو اختار الانسان أن يتغاضى عن مثل هذه الأخطار لما حافظ على نفسه ولا على من حوله، بينما لما اختار مواجهتها ورؤيتها كان بإمكانه أن يمنع شرّها وأن يزجرها عنه. انه باختياره أن يرى السلب وأن لا يتغاضى عنه، فقد يسّر الطرق لإبعاد ذاك السلب عنه. بمعنى آخر، عندما اختار أن يرى السلب، هو عمليا سعى نحو الإيجاب.

انسان اليوم يواجه كذلك السلب في حياته: عندما يتعرّض الانسان لعنف كلامي أو غير كلامي، عندما يُصاب الانسان في جسده أو عندما تتعرّض نفسه لأزمات، عندما يرى حوله فسادا بارزا. انه لو اختار الانسان أن يُفسّر العنف تجاهه بإيجاب ليُحافظ على مزاجه الايجابي، فإنه بذلك يظهر بمظهر الضعيف، الجبان، المتخاذل وعندها يمكن لمن بادره بالعنف أن يستغلّ الموقف وأن يزيد من حدّته. هذا لا يعني أن كل نتيجة عنف مثل هذا ينبغي أن تكون ضربا وتكسير دماغ كي يرى المبادر الى العنف من المُعتدَى عليه بأسا وقوّة، فالوقوف عند العنف وعدم الردّ بعنف مع القدرة على ذلك هو موقف أقوى من الرد الهمجي، انه العفو عند المقدرة. واذا ما اختار الانسان أن يُنكر اصابته أو مرضه فإن ذلك لن يُساعده في العلاج، وكذلك ان اختار أن يتغاضى عن الفساد حوله وأن ينظر فقط الى "نصف الكأس المليئة" كما يُقال فإن ذلك لن يلجم الفساد ولن يُغيّر في الواقع شيئا.

***

ماذا ان اسودّ الحاضر ؟

الحاضر هو ليس كل شيء فهناك الماضي وهناك المستقبل. فإذا ما ساء الحاضر فبإمكان الانسان أن يستعين بالماضي وخبراته والأيام الماضية وانجازاتها واللحظات التي مرّت والطاقة الايجابية التي كانت فيها. وكذلك يمكنه أن يستعين بالمستقبل وما يحمله الانسان اليه من أحلام وآمال. فإذا ما رأى الانسان كل ذلك، أدرك أن اللحظة القاسية الحاضرة ما هي الا لحظة من بين لحظات كثيرة ومحطة واحدة من محطات مرّت وأخرى ستأتي. انه يمكن للإنسان حينها أن يرى صورته العامّة وبالتالي هو لا يبقى أسير اللحظة الحاضرة. ولسنا هنا نحثّ على الهرب الى الماضي أو الى المستقبل ولكن نحثّ على أن يستعين الانسان بالماضي والمستقبل ليقوى على مواجهة لحظات الحاضر القاسية، تلك اللحظات التي تحتاج الى طاقات جسدية ونفسية كبيرة. انه بهذه الاستعانة يشحن نفسه بالطاقة الايجابية ولا يهرب من مواجهة السلب الحاضر. انه يواجهه وهو مُسلّح باللحظات الايجابية من الماضي والمستقبل. 

على الرغم من ذلك، فستبقى هناك لحظات حاضرة شديدة الوطأة ثقيلة كئيبة فيها من الخوف ومن القلق ما فيها، وهي شيء طبيعي يمكن أن يمر به كل انسان. انه في هذه اللحظات يمكن أن يعجز الانسان عن أن يرى ماضيه وعن أن يحلم بمستقبله، ذلك أن شغله الشاغل هو مصيبته التي بين يديه وتركيزه كله ينصبّ على ما أصابه من سوء. ان هذا شيء طبيعي ولا ينبغي أن يشعر الانسان أنه خرج عن الطبيعة، ولا ينبغي له أن يحزن أو أن يقلق، ذلك انه ان فعل فسيزيد الأمر سوء. ولكن أن يُعطي تلك المشاعر السلبية حقّها وأن ينتبه اليها وأن يُخرجها من ذاته، فإذا ما خرجت من الداخل الى الخارج، سنحت الفرصة لمشاعر الايجاب للخروج.

***

هيّء الظروف لمواجهة السلب !

اننا لا نطلب التهيئة لأننا نضع في بالنا أن ما سيأتي سيكون سلبيا قبل أن يأتي، ولكن لِعِلْمنا أن الواقع يحوي الايجاب والسلب، والمواقف السلبية لا بدّ منها كما أنه لا بدّ من المواقف الايجابية. والتهيئة هي من الأخذ بالأسباب وهي شيء ايجابي لأنها ستعين على مواجهة نوائب الدهر. وعندما نقول تهيئة الظروف فإننا نقصد بذلك تسخير ما يمكن السيطرة عليه في سبيل مواجهة ما لا نملك السيطرة عليه. ولكي نوضّح القصد نستعين بالمثل الشعبي "وفر قرشك الأبيض ليومك الاسود". هذا المثل يحثّ على توفير الأموال عند المقدرة على ذلك (ما يمكن السيطرة عليه) في سبيل مواجهة الأيام السوداء (ما لا نملك السيطرة عليه).

وللتهيئة وسائل كثيرة يمكن للعقل الانساني المُبدع أن يقترح منها ما لا يسعنا ذكره في صفحات كثيرة. فالرياضة الدورية يمكنها أن تُفيد في لحظات المرض أو حتى في منع المرض، العلاقات الاجتماعية يمكنها أن تُفيد في اللحظات الصعبة، الروحانية والايمان يمكنهما كذلك أن يقيَا الانسان من اليأس في لحظات العُسر، صفة الأمل (أن يُعوّد الانسان نفسه على تأمّل ورجاء الخير) يمكنها أن تكون في متناول يد الانسان عند لحظات السلب، صفة التفاؤل (أن يُعوّد الانسان نفسه على رؤية الجانب الايجابي في الأشياء) يمكنها أيضا أن تُرشد الانسان أثناء اللحظات الحَرِجَة. وهنا تبرز أهمية التهيئة، فالذي لم يعتدْ على التفاؤل في غياب نوائب الدهر، فكيف له أن يتفاءل وقت السلب؟! والذي لم يبنِ علاقات اجتماعية في لحظات الايجاب فكيف له أن يبنيها في لحظات السلب؟! ولسنا نريد من كل انسان أن يكون متفائلا أو صاحب علاقات اجتماعية مُتعدّدة، فهناك من الناس من لا تلائمه هذه الصفات، ولكن على الأقل أن يأخذ ببعض وسائل التهيئة الأخرى التي تُبقيه قادرا على مواجهة كل ما يظهر له من سلب.    

***

أنخجل من لحظات الضعف ؟

هناك من الناس من لا يمكنه أن يتخيّل نفسه في لحظة ضعف وحتى أنه لا يمكنه أن يحتمل انكشاف الآخرين الى نقطة ضعف عنده. انه يستهجن بل وربما يستنكر ظهور واحد قوي البُنية مثله، صاحب أمر ونهي بين أصحابه وأقربائه، بمظهر ذلك "الضعيف"، "الذليل"، "الذي يُشفق عليه الناس". هذه الظاهرة منتشرة في أوساطنا نحن العرب وخصوصا عند الذكور. اذا مرض شخص كهذا دعا امرأته (ولربما الأصح أن نقول فرض عليها وأمرها) أن تعزل أولاده عنه حتى لا يروه وهو ملقى في الفراش، واذا ما أصابته عاهة مستديمة عزل نفسه عن الناس "لئلا تنزل صورته في أعينهم". والسؤال، لماذا كل هذا التكلّف؟ لماذا يُحمّل أحدنا نفسه ما لا طاقة له به؟

انها مجموعة أفكار سلبية جارفة أخذها مجتمعنا عمّن عنده ضعف، وتمّ توارثها من جيل الى آخر لتُساهم في ابقاء هؤلاء الأشخاص في المؤخّرة. ليُعانوا ممّا عندهم وليُعانوا من مجتمعهم وليتفاعل العناء مع بعضه فيصير سلبا لا يحتمله انسان. فكرة مثل: من عنده ضعف فهو مُجبر على أن يخفيه لأن ذلك مُخجل! من قال أن الضعف يجب أن يكون مخجلا؟ ومن ثم فإن من عنده نقطة ضعف، فلديه نقاط قوة كثيرة مقابلها، فلِمَ نتغاضى عنها؟ ومن ذا الذي ليس عنده نقاط ضعف ولو بان شابا مثاليا في سنوات العشرين من عمره؟ لماذا نريد أن نجعل أنفسنا مثاليين في حين نحن لسنا كذلك؟ على العكس فإننا نرى أن من يحاول اظهار نقاط قوته وبطولاته ويترفّع عن البوح بتلك النقاط التي تُحرجه (خصوصا اذا ما كان هناك حاجة لذكرها)، فإنّا نراه شخصا مُبالغا في حقّ ذاته، بل وانّا لنشكّ في مدى صدقه مع نفسه أولا ومع الآخرين ثانيا.

لذا فإنه لا يجب أن نترفّع عن تلك اللحظات الصعبة التي يبرز فيها ضعفنا أحيانا، وكأنها ليست من مقامنا أو أن صورتنا الخارجية التي أخذها مجتمعنا عنا هي أهم من الالتفات الى نفسنا في لحظات السلب. ولا ينبغي أن نشعر بضيق الصدر ولا بالذنب ولا بالإثم على وجودنا بمثل تلك اللحظات الصعبة، ولا أن نتأسّف على وجودنا فيها ولا أن نتكلّف في اخفائها عنا وعمّن حولنا، كالذي يخجل من ذنب اقترفه أو من جريمة فعلها.  

***

فلنستعن بالمستقبل !

يمكن للمستقبل الذي لم يأتِ بعد أن يمدّنا بالطاقة الايجابية التي تُساعدنا في مواجهة وعيش الحاضر. فإلى المستقبل تنصبّ الآمال والطموحات وهي التي يمكنها أن تُزوّدنا بطاقتها الايجابية لنقوى على الحاضر، فإن قوينا على الحاضر تيسّرت السبيل الى الغايات الايجابية واقترب الواحد من تحصيلها. والى المستقبل تنصبّ النظرات التشاؤمية وينصبّ انعدام الأمل، وتُلقي هذه السلبية المُتوقّعة بظلالها على الحاضر وفي هذه الحالة أيضا تتيسّر السبيل لتحقيق الغايات السلبية. لهذا يمكن للمستقبل أن يكون مُعينا على الحاضر ويمكنه أن يكون غير ذلك، وهذا يتعلّق بنظرتنا اليه والى الحياة بشكل عام.

اذا ما كان هناك عند الانسان طموح يريد أن يُحقّقه أو حلم يريد أن يجعله واقعا أو رسالة يريد أن يؤدّيها، فإنه يشعر أنه يجب أن يعيش وأن يُكافح وأن يجتهد من أجل تحقيق المراد ووصول الهدف. انه يشعر أن هناك سببا لحياته وأن لحياته معنى. انه يقوم في الصباح ليُحقّق غايته وينام ليُحقّقها ويحلم بها ويراها أمام عينيه ويحكي عنها في جلساته ولربما تظهر مُقدّماتها في تصرّفاته. فإن رغب في نهضة أمته، قام في الصباح ليوقظها واذا ما نام أشغلته نهضتها وصار يدعو الى خطط نهضوية وتحوّل هو ذاته الى مثال نهضوي يُحتذى به.

أما اذا لم تكن هناك غاية ولم يكن أمل في المستقبل، فلماذا يعيش الانسان؟ ما هدف عيشه؟ الى أين يتّجه؟ في سبيل أي غاية يصحو من صباحه وفي سبيل أي غاية ينام؟ في سبيل أي غاية يُقاسي صعاب الحياة وفي سبيل أي غاية يُمرّر أيامه؟ انها ان لم تكن غاية في الأفق وان لم يكن مستقبلا مرجوا، فستظهر السوداوية في الحاضر ولربما تظهر العدمية، اذ أن كل شيء عديم القيمة ومصيره العدم، وفقا لهذه النظرة السلبية.

***

تفاءلوا بالخير تجدوه !

"تفاءلوا بالخير تجدوه" - هذا القول الشعبي يقول أن من يُغلّب الخير على الشر فإنه يجد الخير ويمكننا أن نستنتج أن من يُغلّب الشرّ على الخير فإنه يجد الشرّ. بمعنى أنه ان نظرت الى الأشياء بمنظار الايجاب وجدت الايجاب فيها وان نظرت بمنظار السلب وجدت السلب. وعلينا أن نذكر مرة أخرى أن النظر الى الايجاب لا يعني انعدام النظر الى السلب، فالنظر الى السلب في أحيان معينة يوصل الى الايجاب كما أسلفنا.  

فحوى هذا القول يتلاءم مع المصطلح الذي أطلقه علم النفس "النبوءة التي تُحقّق ذاتها". وهو يصف التوقّع المُسبق (الايجابي أو السلبي) الذي يؤكّد نفسه في المستقبل. ان ذلك يحدث لتأثّر السلوك من التوقّعات مما يجعل التوقّعات صحيحة في نهاية المطاف. النبوءة التي تكون في المستوى الفكري والتي يمكن أن تكون ايجابية أو سلبية تدفع بالإنسان الى التركّز في الايجاب أو في السلب، حتى اذا ما جاء ما يخص النبوءة تراءى للإنسان ما يتلاءم مع نبوءته مما يجعل الأمر ينتهي بتحقّق النبوءة.  

بكلمات أخرى، ان أردنا أن نزيد من الايجاب في حياتنا فإنه علينا أن نأخذ بالتفاؤل الذي يلفت انتباهنا الى الايجاب القادم، الايجاب الذي يكون في المستقبل، ولا يجعلنا متركّزين في السلب الآت. وعندها إن دخلنا الى موقف بمزاج ايجابي، لفتت انتباهنا الكلمات والايماءات والرموز الايجابية مما يجعلنا نخرج من الموقف بشعور ايجابي. والتفاؤل يجعلنا نتوقّع الخير ونحسّ بالإيجاب حتى يأتي السلب الصارخ (وهذا ما ينسجم مع المثل الشعبي: "لما بيجي وقته بيجي مقته")، انه يُبقينا أغلب الوقت في الايجاب ما لم يحدث طارئ. 

***

هل عندك آمال ؟

يمكن أن يكون للتفاؤل تأثيرا على الحاضر وعلى المستقبل بشكل مباشر، فالمتفائل يُغلّب الايجاب على السلب في حاضره وفي مستقبله. أما الأمل فيتجّه بالأساس الى المستقبل تماما كالطموحات والأحلام. فمن أصابه السلب في حاضره، أمكنه الأمل من اعادة التوازن الى حياته من خلال تأمّل الايجاب. يقول الطغرائي: "ما أَضْيَقَ العَيْشَ لَوْلاَ فُسْحَةُ الأَمَلِ"، أَي لَوْلاَ الرَّجاءُ وَما يَتَمَنَّاهُ الْمَرْءُ لَضاقَ عَيْشُهُ. فالأمل هو منفذ وهو معين في الحالة الطبيعية عموما وفي حالات العُسر خصوصا.

من أصابه المرض يمكنه أن يتأمّل خروجه منه، مما يدفعه الى الايمان بهذا الهدف وبالتالي الى بذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيقه. انه يبذل قصارى جهده ويجتهد كل الاجتهاد على أمل أن يشفى. وبذلك فهو يُبقي عند نفسه أملا بالإيجاب ويفعل كل ما يمكنه فعله من أجل تحصيل هذا الإيجاب (الشفاء). فإن حدث وتحقّق الأمل فقد جاء الإيجاب المأمول. وان حدث ولم يشفَ فإن ذلك يمكن أن يكون وقعه قاسيا بلا شك، ولكن من جهة أخرى يدرك الواحد أنه فعل كل ما بوسعه فعله مما لا يحوجه الى مشاعر الذنب وتأنيب الضمير. ولذلك من المهم الحفاظ على "الإيجاب المعقول". فعلى المريض أن يدرك أن الأمل ليس واقعا بعد، اذ أنه يمكنه أن يحصل ويمكنه أن لا يحصل. ولكن ما فائدة التشبّث بالسلب الذي لم يحصل بعد، ان كان هناك أمل بالإيجاب؟! انه من الأفضل بشكل واضح التشبّث بالإيجاب الذي لم يحصل (الأمل) لما له من أثر على الحاضر.

ومن "الإيجاب المعقول" أن يبني الواحد آمالا يمكنها أن تتحقّق. فإن كان وضع المريض حرجا الى أبعد الحدود، فلا مانع من أن يأمل بتحسّن وضعه واتزانه، أما أن يأمل بأن يقوم كالأسد في بضع أيام فلا يمكن لذلك أن يكون ايجابا معقولا. ولكن ان كان هناك احتمال ضئيل لشفائه (كـ 1%)، فإنه ان تشبّث به فذلك من التفاؤل ومن الأمل المعقول، وذلك مع ادراكه أنه يمكن لهذا الأمل أن لا يتحقّق، ورغم ذلك يختار التشبّث به ويختار أن يمسك بما بقي عنده من حياة، وهذا هو الأمل الحقيقي. في الحديث الشريف: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".
وهل وجود الأمل (وطول الأمل على الأخص) لا ينسجم مع الايمان بفناء هذه الدنيا ودوام العالم الآخر؟ انه يمكن أن ينسجم ويمكنه أن لا ينسجم وذلك بحسب نظرتنا للأمور. فإن كان الواحد غارقا في ملذّات هذه الحياة وطول أمله يُغريه بسنين طوال، فإن الأمرين السابق ذكرهما لا يمكن أن ينسجما. أما ان كان عند الواحد آمالا كثيرة يسعى جاهدا لتحقيقها، مع ادراكه أن المنيّة يمكن أن توافيه في كل وقت وحين (وهو التصوّر الأقرب الى الحقيقة) فإن الأمرين يمكن أن يجتمعا. انه فقط من يريد أن يجمع بين خيري الدنيا والآخرة وايجابهما، فقط هو من يمكنه أن يفهم هذا الانسجام وهذا الجمع. في القول المأثور ورد: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"

الإيجاب المعقول - الجزء الثاني


هل نترك السلب ؟

انه ان قلنا أن السلب لا يعنينا وأننا سنغضّ الطرف عنه فإن ذلك لن يُغيّر في الواقع شيئا وانما سيُغيّر في تفسيرنا لهذا الواقع. والواقع يحوي الإيجاب والسلب كما أسلفنا، والحياة فيها من الإيجاب وفيها من السلب، والإنسان فيه كذلك من الإيجاب ومن السلب. فلو اخترنا أن نُفكّر بإيجاب كل الوقت وأن ننظر الى نصف الكأس المليئة رغما عن كل شيء لما حال ذلك بيننا وبين السلب، بل لربما سلّطه علينا أكثر. ان هذا التغاضي يُشبه رؤية الخطر (كاعتداء انسان على آخر) ومن ثم اغماض العينين كما يفعل الأطفال أو الهرب كما يفعل الخائف. فهل ذلك يُنجي من الخطر أم يُقلّص فرص مواجهته والتغلّب عليه؟

ان التفكير الايجابي يجب أن يكون ايجابا معقولا، بمعنى أن يرى الايجاب ايجابا وما يحتمل الايجاب ايجابا ولكن ألّا يتغاضى عن رؤية السلب سلبا. فإن السلب موجود في هذه الحياة لا يمكن منعه ولا تفاديه بالمطلق، اذ لو اخترت أن ترى الكون بأعين الايجاب في صباح يوم مُشمس لما منع ذلك شخصا سيء القلب من ابراز شر ظاهر لا يحتمل تفسيرا مُغايرا. انه يمكن رؤية الواقع بإيجاب لا يحصره الا سلب لا يقبل التأويل، واذا ما ظهر هذا السلب فلا يختار الواحد أن ينكره، بل أن يراه كما هو ليُحاول معالجته وليُقعده مقعده كي يعود الى مسار الإيجاب.

***

لماذا نخوض في السلب ؟

لا يمكننا تعريف السلب تعريفا دقيقا لأن النظرة الشخصية والتفسير يدخلان اليه كما يدخلان الى الإيجاب، فالقول الذي يعتبره أحدهم سلبا يمكن أن يعتبره الآخر ايجابا. وذلك يرجع الى تعدّد الأفهام وتعدّد النظرات الشخصية وكل ذلك يعود بدوره الى تجربة الانسان الشخصية وحياته الخاصة. فلو عانى أحد من تنكيل أبناء جيله به في طفولته فإنه لربما تضايق من مزح يهزأ من مقامه في كبره، ولو عاش طفولة فيها العطف والحنان لما هزّه مزح أحدهم أو استهزائه، بل لربما ردّ بالمثل ولم ينزع جوّ المزح الايجابي عن ايجابيته.

وهنا تتضّح لنا أهمية الخوض في السلب. انه ان عاش أحد موقفا سلبيا، فإنه يمكنه أن يختار انكاره أو أن يُعيد النظر فيه. اذا ما اختار الخيار الأول فإنه يحمي نفسه من السلب الذي عاشه ولكنّه يبقى هناك في اللا واعي، وفي الحالات الحَرِجة (غضب، توتّر، يأس) فإن هذا السلب يطفو ويخرج من مخبئه. أما اذا ما اُختير الخيار الثاني فإن الانسان يُعطي نفسه فرصة معالجة السلب الذي عاشه وبذلك فهو لا يهرب منه ولا يتنكّر لوجوده. انه ان أعاد النظر في السلب الذي عاشه فإنه يمكنه أن يخرج بالعظات والعبر وذلك يمكنه أن يفيد الانسان في فهم ذاته أولا وقبل كل شيء، ذلك أنه يعرف ما هو السلب الجلي (الذي يتضايق منه كل الناس) وما هو السلب الذي يتّصل بتاريخه الشخصي. فإن كان عنده حساسية لموقف معين أو لطريقة معينة في الكلام فإنه يصير واعيا لذلك مما يمكنه من تهيئة سبل مواجهة مواقف شبيهة في المستقبل. انه يمكنه عندها أن يلاءم الظروف المحيطة به كما يُحبّ وأن يُخرج عندها الطاقات الإيجابية داخله في وسط تلك البيئة المريحة التي ركّبها بنفسه.

بكلمات أخرى، اعادة النظر في السلب الذي عاشه الانسان تُعطي الانسان فرصة اعادة ترتيب الماضي وما يحمله من سلب ولربما حتى صبغه بصبغة الايجاب، وذلك ما يمكن تحقيقه في العلاج السردي (Narrative therapy). هذا العلاج للماضي الحزين المُوجع يُلقي بأثره على الحاضر، ليتغذّى الحاضر من ايجابية السرد البديل بشكل غير مباشر كما تغذّى الماضي بشكل مباشر. والمستقبل يتغذّى كذلك اذ أن الوعي الذي زاد والسرد البديل الايجابي يؤثّران على المواقف المشابهة وحتى على المواقف الجديدة. لنصل الى أن النتيجة أن الخوض في السلب هو مما يُكمّل الإيجاب، على العكس من الإنكار الذي وان غطّى السلب فإنه لا ينفكّ يُلقي بآثاره السلبية على الانسان.  

***

السلب المعقول

كما أن في الايجاب ايجاب معقول وايجاب غير معقول فإن في السلب سلب معقول وسلب غير معقول. التفكير السلبي المعقول أو السلب المعقول هو التفكير الذي يحتمل أن يصير واقعا، والذي يُقرّر احتماله من عدمه هو مجموع أصوات الناس العقلاء الطبيعيين. فإن فكّر أحدهم أنه يمكنه أن يقع وأن يصاب بإصابات بالغة اذا ما وقف عند حافة مرتفع دون أن يأخذ بوسائل الأمان التي تحميه، أو ان فكّر آخر أنه يمكن أن يصطدم بسيارة أخرى اذا ما ساق بطريقة جنونية، أو ان فكّر ثالث أن حالته المرضية ستسوء لأنه لم يأخذ الدواء المطلوب، فإن كل ذلك يُعتبر من السلب المعقول أي الذي يُعقل حدوثه. ان هذا السلب المعقول له وظيفة حيوية في حماية الانسان وبالتالي في ابقائه في مسار الايجاب (تفكير سلبي صغير يمكنه أن يمنع أحداث سلبية طويلة). بمعنى آخر، فإن السلب المعقول يخدم الايجاب أو أنه يُفضي الى الايجاب.

أما السلب الغير معقول فهو التفكير الذي لا يكاد يحتمل أن يصير واقعا (يمكن أن يصير واقعا في حالات استثنائية نادرة). ومثل ذلك من يفكّر أنه يمكن أن يقع وأن يُصاب بشلل كلّي أو أن يموت اذا ما وقف عند حافة مرتفع وذلك رغم أخذه وسائل الحيطة والحذر كلها (كأن يكون مربوطا بحبال بصورة مُحكمة أو أن يكون بعيدا بُعدا كافيا عن الحافة التي يتواجد عندها جدار عال متين). ان هذه الحالة تفرق عن سابقتها المشابهة لها بشدة الخوف نسبة للموقف، ففي الحالة الأولى كان الخوف طبيعيا نظرا لانعدام الحماية، وهذا الخوف قد أخذ صاحبه الى الحيطة والحذر. أما في الحالة الثاني فقد زاد الخوف عن حدّه لأن الحماية كانت موجودة ورغم ذلك الخوف كان أشدّ.

ويمكن لهذا الخوف أن يكون أشدّ الى أن يصل الى حالات مرضية – كأن يُفكّر أحدهم أن مصيبة ستحدث اذا ما قاد السيارة ولا يهمّ ان ساق بحذر أم لا، مما يؤدّي الى الامتناع عن السياقة أو الى خوف فائق يظهر في الجسد (كنبض قلب سريع، تنفّس غير منتظم وغيرها) وفي النفس (كتفكير مُتكرّر وكإحساس بالرعب) اذا ما أُجبر على السياقة. أو ان أُصيب أحدهم بخوف مرضي من المرض أو الموت، وذلك دون علاقة ان أخذ الدواء أم لا أو ان تحسّن وضعه الصحي أم لا. هذه الأمثلة الثلاث الأخيرة (الخوف المبالغ به عند المرتفع، عند السياقة، عند المرض) هي من السلب الغير معقول، ذلك أنه يصعب حدوث ما يخشاه الانسان. ان قولنا عنها أنها سلب غير معقول لا يعني أن ندعها أو نتنكّر لها وانما أن نسعى الى علاجها خصوصا اذا كنا نتكلّم عن حالات مرضية.

***

علاقتنا مع ذاتنا والزمن

ان العلاقة ما بين الذات وبين الزمن هي علاقة مُتبادلة، بمعنى أن الذات تؤثّر على الزمن وهي بدورها تتأثّر منه. فإن تصالح الواحد مع ماضيه وحاضره ومستقبله فإنه سيكون متصالحا مع ذاته وان تصالح مع ذاته فإنه سيتصالح مع ماضيه وحاضره ومستقبله. وان أحبّ نفسه فسيحبّ ماضيه وحاضره ومستقبله وان رأى نفسه كما هي فإنه سيرى ماضيه وحاضره ومستقبله، أما ان كره نفسه وكره رؤيتها فإنه سيكره رؤية ماضيه وحاضره ومستقبله. انه بذلك يُغيّب نفسه عن نفسه ويجعلها غريبة في بيتها مستوحشة، وذلك يُساهم في انحسار الوعي الذاتي ولربما يمحقه تماما.

والزمن في تقدّم ولكننا يمكن أن نرجع به الى الوراء عبر الذكريات، والذات في تطوّر أو تدهور. أحيانا تظهر لنا الأحداث القريبة منا زمنيا وكأنها نهاية العالم أو أنها كارثة لا مخرج منها، ومن ثم فإذا مرّت الأيام وتطاول الزمان خفّت وطأة هذه الأحداث على النفس. وما كان ذلك الا لانتقال هذه الأحداث من الحاضر الى الماضي. تأثير الزمان هذا لا نجد له تأثيرا مُناظرا في حال المكان، فلو نقلنا انسانا مهموما أو مُكتئبا من مكان الى آخر ومن جنة أرضية الى أخرى، لوجدنا تأثيرا مُتواضعا للمكان قبال الزمان. وهنا تبرز أهمية الزمان وعظمة تأثيره. في الحالات المرضية أو حتى في الحالات التي تطمح الى مزيد من وعي بالذات فإننا نسعى الى البحث في الماضي وأحيانا في الحاضر كيّما نضيء بالوعي نقاط الضعف كما نقاط القوة وكيّما نُلقي الضوء على المُسبّبات المُمكنة. اننا نرجع الى الماضي كي نُحسّن الحاضر وكي نضمن المستقبل. انها لعبة الزمن التي تلقي بأثرها على الذات، فلكي يُصلح الدهر ما أفسده فإنه يأخذ بأيدينا من الماضي الى الحاضر، ولكي نُصلح ما أفسده نأخذ بالأيدي من الحاضر الى الماضي.  

وكم من رجل قطع الأرض شرقا وغربا باحثا عن الراحة والسعادة ثم عاد الى بلاده فوجدها في ذاته؟! انه ان رأينا ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا (محطّات زمننا) بإيجاب فإننا سنرى ذاتنا بإيجاب، وان رأيناها بسلب فإننا سنرى ذاتنا بسلب. فأولى لنا أن نتصالح مع زماننا، مع ماضينا، حاضرنا ومستقبلنا. 

***

ذكريات

ان لكل انسان منا ذكريات، منها السعيدة ومنها الحزينة ومنها الايجابية ومنها السلبية. وهي موجودة فينا، في وعينا أو لا وعينا، ويمكن لإيجابها أن يطفو عند مواجهة حدث ايجابي في الحاضر ويمكن لسلبها أن يطفو عند مواجهة حدث سلبي في الحاضر. انه في اللحظات الحزينة يخال الانسان أن تاريخه كله وذكرياته كلها حزينة كئيبة وفي لحظات الفرح يخال أن تاريخه كله ناصع، كله ايجابي، بل وربما مثالي. والصحيح أن في تاريخ كل واحد منا وفي ذكرياته، هناك ايجاب وسلب. 

الوعي بمثل هذه الذكريات هو أمر حيوي وتبرز حيويته عندما نلمس أثر هذه الذكريات على حاضرنا ومستقبلنا. انها لا تنفكّ تُلقي بأثرها على الحاضر والمستقبل. انها لا تختفي ولا تمّحي ولا ينقطع أثرها ولو كنا غير واعيين لها ولأثرها. اذا ذُكر "أ" عندنا أصابنا الاشمئزاز وتعكّر مزاجنا واذا ذُكر "ب" ظهرت علامات الانبساط علينا واستبشرنا بالخير. واذا حللت بمكان تعرفه، تبادر اليك شعور بالحنين والشوق لتلك الأيام أو باغتك شعور سلبي تستصعب وصفه وبالتأكيد لا ترغب بأن تعيشه مرة أخرى. وما كان كل ذلك الا لاتصال أولئك الأشخاص وتلكم الأمكنة بمشاعر الايجاب والسلب. انها حُفظت هناك في أعماقنا ولما أن لاقت محفّزا يأذن لها بالخروج، خرجت وأحيت فينا من جديد ذكريات ماضية.

***

ذكريات فردية وجمعية

هناك من الذكريات ما لا نحياه بشكل مباشر وانما ترتبط بدوائر انتمائنا الدينية، القومية والانسانية وغيرها. لذلك فهي تؤثّر علينا بشكل غير مباشر. انها تُمرّر الينا على الدوام ونحن ننكشف اليها بشكل مُتكرّر عبر الأوصاف الكلامية أو الأعمال الفنية أو التاريخ المكتوب. وهي تُؤثّر علينا لأنها أثّرت على آبائنا وأجدادنا وعلى دوائر انتمائنا. ونحن نعتبر أنفسنا أحفادا لمن هزّتهم هذه الأحداث بحلوها ومرّها. 

النكبات التي مرّت على أجدادنا لا تنفكّ تُؤلمنا ولا تنفكّ تُلقي بأثرها السلبي علينا وبالمقابل الأمجاد التي كانت لنا والتقدّم الذي كان لا ينفكّ يُحيي فينا العزيمة والاصرار والى غير ذلك من مشاعر ايجابية. انها أحداث جرت مع أجدادنا وأجداد أجدادنا ولكنها نُقلت من جيل الى جيل وحُفظت الى يومنا مع ما تُولّده من مشاعر ايجابية أو سلبية. وكأنّنا توارثناها في ذاكرتنا الانسانية. عالم النفس يونغ يتحدّث عن اللا وعي الجمعي الذي يحفظ تاريخ البشرية منذ القدم وهو يؤثّر علينا على الدوام ويُحيي فينا ما كان في الانسان الذي سبقنا.   

ان ذلك يعني أننا لا نُولد الى فراغ وانما الى زمان سبقته أزمنة وستتبعه أزمنة وكأننا بمثابة حلقة تسبقها حلقات وتتبعها حلقات. ولا شكّ أننا نتأثّر من الحلقات التي سبقتنا وخاصة من التي نعتبر أنفسنا من صُلبها، وكذلك نُؤثّر على الحلقات التي تتبع بالفعل الذي نرسمه في حاضرنا. انه يمكن للإنسان أن يتنكّر لما قبله ولما بعده فيعتبر نفسه فردا لا شأن له بالآخرين، ولكن ذلك لا يعني أن هذا اللا وعي الجمعي لا يؤثّر على هذا الانسان "الفرد"، فهو يُؤثّر عليه من حيث لا يدري هو.  

***

هل لنا من الماضي شيء ؟

يمكننا أن نُسيطر على الماضي، فنحن من نُقرّر اذا ما كنا نريد أن نفتح دفاتر الماضي أم نطويها، اذا ما كنا نريد أن نستحضر لحظاته أم نتركها هناك في اللا واعي. لكن في لحظات معينة تنحسر هذه السيطرة فتخرج الى الواعي موادا غير واعية فتُؤثّر على حاضرنا ومستقبلنا. من منا لا يذكر لحظات باغتته فيها مشاعر غريبة سلبية أو ايجابية؟ اللحظة الحاضرة لا تُولّد هذه المشاعر بشكل مباشر ولكنها توحي بها وتستدعي استحضارها من مخبأها في اللا واعي، لتخرج من حيث لا يدري الانسان وليتلخبط بين شعور الحاضر وشعور الماضي الذي خرج لتوّه من مخبأه.

أغلب الناس يتغاضون عن هذه المشاعر أو ربما يقومون بخطوات عملية كردّة فعل على مشاعر كهذه (كترك الموقف في حال الشعور السلبي أو ملازمته في حال الشعور الايجابي). والمشكلة في مثل ردود الفعل هذه أنها لا تُعطي الانسان مجالا لأن يوسّع ويُطوّر من وعيه، اذ هو لا يقف عند مشاعره ولا يعرف ماهيتها مما يُفقده محاولة النظر اليها دون آليات الدفاع (انه لا يسأل نفسه: لماذا باغتني هذا الشعور في مثل هذا الموقف بالذات؟)، وبذلك يبقى بعيدا عن نفسه ولا يزيد من الوعي بها. واذا ما تكرّر نفس الموقف أو موقف مشابه عاد اليه نفس الشعور الايجابي أو السلبي الغريب، ولم يكن واعيا له ولسبب وجوده في مثل ذاك الظرف، وبالتالي أفقد نفسه فرصة زيادة السيطرة على الماضي. ان الماضي بقي هو مُحرّكه، بدلا من أن يكون هو محرّك الماضي.     

***

كيف نُحيي الذكريات ؟

اذا ما تساءلنا كيف نجعل حياتنا حياة طيبة، حياة سعيدة، فإنه من المُتوقّع أن نقول أن ذلك بسيط، اذ أنه كلما زدنا من اللحظات الايجابية وقلّلنا بالمقابل من اللحظات السلبية فإن ذلك سيساهم في جعل حياتنا حياة طيبة سعيدة. لكن اذا ما دخلنا الى فلسفة ذلك والى التطبيق فإن الأمور ستزداد تركيبا. ولكي نُبسّط الأمور نقول أنه بإمكاننا أن نستدعي لحظات الماضي الايجابية فنستمدّ من طاقتها طاقة تُقوّينا في الحاضر وأن نستدعي لحظات الماضي السلبية في مواقف ملائمة كيّما تشفى روحنا من ضنكها ومضايقتها. وقد يبدو ذلك غريبا أن نستدعي اللحظات السلبية. اننا لا نختلف على أن استدعاء اللحظات الايجابية الماضية سيكون له أثر ايجابي على الحاضر، وذلك يمكن أن يتمّ في جلسات الأصدقاء الذين يبادرون أو ينجرّون الى احياء ذكريات الماضي التي تجمعهم أو في جلسة مع الذات يستعرض فيها الانسان أيامه الغابرة (نجاحات، انجازات، انتاجات، قدرات طوّرها، مهارات اكتسبها، أثر تركه وغيرها)، أو في جلسة مع الأقارب يُدلي فيها كل بدلوه عن أيام الطفولة الجميلة التي تُثير الاشتياق وتوقد الحنين.

ومن ثم فإن كل ما يحفظ الذكريات الايجابية يمكن أن يكون وسيلة لزيادة لحظات الايجاب. الصور الفوتوغرافية التي تُسطّر لحظات الفرح واللحظات الثمينة يمكنها أن تُحيي طاقة الايجاب التي عشناها وأن تُقوّينا في لحظات الضعف، الشهادات المُعلّقة يمكنها أن تُحيي فينا انجازاتنا وقدراتنا، الهدايا التي تُذكّرنا بمن نُحبّ، الكتابات التي تبعث فينا أفكارنا، الأعمال الفنية التي تُشجّعنا على المواصلة.

لكن كما قلنا فإن استدعاء لحظات السلب يمكن أن يظهر غريبا، فقد يسأل سائل: لماذا أُذكّر نفسي بالهمّ بعد أن نسيته؟ لماذا أنظر في لحظات الماضي التعيسة التي لا أقدر على تحسينها؟ والصحيح أن هذه الأسئلة تتضمّن فرضيات غير دقيقة لا تساهم الا في زيادة تغييب الوعي. فلماذا افترض السائل أن لحظات السلب ستكون همّا على قلبه ولماذا افترض أنه نسي لحظات السلب ولماذا افترض أنه لا يقدر على تحسين تلك اللحظات؟ في الحقيقة فإن لاستدعاء لحظات السلب أغراض ايجابية كثيرة، فالبوح بلحظات السلب الماضية يهدف في النهاية الى الوصول الى الايجاب. كثير منا يقول لمن أصابه هم أو سوء: فضفض! وهذه فعلا احدى الغايات التي يمكننا أن نُسمّيها "اخراج ما يؤلم وما يهمّ من الداخل الى الخارج"، وعندما تصل هذه "الفضفضة" الى من يحسن الانصات، فإنه سيحاول اعادتها الى قائلها بصورة مُنظّمة أكثر ولربما يصبغها بصبغة الايجاب ان كان ذكيا حذقا. ولذلك نقول أن هذه "الفضفضة" يجب أن تتمّ عند من يحسن الانصات، كالأخصائيين النفسيين أو الاجتماعيين أو حتى عند صديق يُحسن الانصات. والدليل على أن هذه "الفضفضة" تُفضي الى الايجاب أن الانسان يشعر بعد أن لقي من يسمعه ويسمع وجعه، يشعر بخروج طاقة سلبية منه وحلول شعور مريح. اننا بذلك نُحيي لحظات الماضي الايجابية ونستدعي السلبية كيّما نُخفّف من وطأة سلبيتها أو نصبغها بصبغة الايجاب.

***

كيف نعيش مع لحظات الماضي القاسية ؟

انه يمكننا أن نستعمل آليات الدفاع المختلفة، الأوليّة منها والمُتقدّمة، عند مواجهة أحداث الماضي القاسية التي يمكن أن تكون شديدة الوطأة (موت قريب) أو عابرة (كموقف مُحرج)، ويمكنها أن تكون حديثة عهد أو بعيدة. ولمواجهتها يمكن للإنسان أن يذهب بوعيه أو بعدمه الى الدفاع عن الذات، وأسوأ سُبُل المواجهة هو استعمال آليات الدفاع الأولية كالإنكار، ففي هذه الحالة يُنكر الإنسان وجود الحدث القاسي في ماضيه رغم وجوده في الحقيقة (كأن يُؤمن أنّ أباه ما زال حيّا رغم موته). أسلوب المواجهة الثاني هو استعمال آليات الدفاع المُتقدّمة كالكبت، فعندها يكون الانسان واعيا لما أصابه من حدث قاس ولكنه يُحاول أن يُنسي نفسه أو أن يذهب بالحدث المؤلم الى اللا واعي. في هذه الحالات، يخسر الانسان فرصة زيادة وعيه بذاته ولربما يخلق لنفسه وعيا زائفا مُريحا بشكل مؤقت ولكنه بالمقابل يحافظ على ذاته بمساعدة آليات الدفاع. 

أما اذا استعمل الانسان آليات الدفاع في لحظات معينة وكان قادرا على مواجهة الأحداث القاسية والنظر اليها واماطة آليات الدفاع في لحظات أخرى، فإنه بذلك لا يعزل نفسه عن ماضيه ولا يمتنع عن مواجهته. انه يواجه الحدث القاسي رغم صعوبة الانكشاف اليه ورغم صعوبة استذكاره وعيشه مرة أخرى، ولكنه يفعل ذلك لأنه موقن أنه سيفهم نفسه بشكل أفضل وأنه ستخفّ وطأة هذا "الوحش المخيف" في داخله وأنه سيشعر بارتياح يدوم أكثر مقارنة بالارتياح المؤقت الذي تجلبه آليات الدفاع. ورغم ميلنا الى تفضيل سبيل المواجهة الأخير، الا أننا نعتقد أن ليس كل ظرف يسمح للإنسان بسبيل المواجهة هذا، ففي حالة حدث قاسي حديث أو في حالة حدث قاسي شديد الوطأة أو حتى عند عدم وجود امكانيات الدعم الكافية، فإن الانسان يمكن أن يُفضّل الإبقاء على أساليب الدفاع (وهذا ليس سيئا في مثل هذه الحالات).

***

هل للماضي سطوة على الحاضر ؟

يمكن للماضي أن يؤثّر على الحاضر بشكل مُبالغ فيه في حالات مُعينة، حتى أنه ليكون الشخص في الحاضر وما كأنّه فيه وهو يرى الأشياء أمامه وما كأنّه يراها وهو يسمع من حوله وما كأنّه يسمع. ولكنّ عقله، بصره وسمعه هناك في الماضي، في ما جرى وهو لا يقدر على أن يتحرّر من سطوة الماضي. يمكننا أن نُصادف حالات كهذه في الأيام التي تكون قريبة من الأحداث السلبية القاسية. يأتي الحدث السلبي بشكل مفاجئ فيهزّ الانسان هزّا ويُزعزعه مما يترك أثرا بالغا في النفس، فيمتدّ هذا الأثر من الماضي الى الحاضر وتُصبغ أيام الواحد بصبغة ذاك الحدث الصعب. وبالعادة كلّما مرّ وقت أكثر، كلّما خفّت سطوة الماضي على الحاضر وكلّما عاد الانسان الى واقعه ليحيا حاضره بدلا من أن يحيا ماضيه. واذا ما طال تأثير الماضي على الحاضر فإن ذلك يمكن أن يخرج عن الطبيعة ليدخل في الحالات المرضية، كمرض التأقلم أو الاكتئاب وغيرهما.

وفي حالات معينة يمكن لحدث ايجابي كبير أن يؤثّر على الحاضر، فلا يكون الانسان منشغلا في اللحظة التي هو بصددها وانما في استذكار لحظات الإيجاب القويّة التي مرّت به. انه يكون مُشتتا بين الحدث الماضي الجميل وبين اللحظة الحاضرة، وبالتالي هو يفقد فُرص اللحظة الحاضرة ان لم يتدارك الأمر.