2.8.15

الإيجاب المعقول - الجزء الثالث

هل نعيش اللحظة ؟

كثير منا يُردّد مقولة "عِش اللحظة" ولكن هل فعلا نحن نُدرك ما نقول؟ وهل فعلا نعيش اللحظة أم نظنّ أننا نعيشها ونحن بعيدون كل البعد عنها؟ اذا كان الانسان سارحا في ما جرى معه مؤخّرا أو حالما بما ستجلبه الأيام القريبة وهو في خضم لحظة حاضرة تستدعي حضوره، فهو من المؤكّد أنه لا يعيش اللحظة، اذ أن ذلك يمكن أن يظهر للجميع دون أي مجال للشكّ. ولكن اذا ما كان الانسان حاضرا بشكل جزئي بحيث أن جزئه الآخر هناك في الماضي أو في المستقبل فإن ذلك مما يصعب على الآخرين ملاحظته وأحيانا على الشخص نفسه، اذ هو يظنّ نفسه مع المجموعة لأنه مُدرك لما يدور حوله، ولئن توجّه اليه أحدهم لتمكّن من الإدلاء بدلوه ولكنه مع ذلك يبقى غير مندمج بشكل كلّي. انه يبقي يُراقب الزمن، والدقائق تكون عليه ثقيلة لأنه غير مندمج وغير مستمع بالتالي في لحظته الحاضرة، وهو يأخذ موقفا جانبيا فإن توجّهوا اليه كان معهم وان لم يتوجّهوا لم يُبادر هو الى التوجّه، وباختصار هو لا يشعر أنه قسم من المجموعة ولربما يشعر أنه مختلف عنها، غير متّفق معها ولا تلائمه، في حين لو حاول الاندماج فيها منذ البداية لوجدها غير ذلك.

هذا الحضور الجزئي يمكنه أن يُولّد هروبا الى الماضي أو المستقبل، مما يُساهم في حفظ وتقوية الحضور الجزئي، وهكذا تستمرّ الدائرة السلبية المُغلقة دون أن يتمكّن الانسان من اختراقها، فهو حاضر بشكل جزئي وكنتيجة من ذلك هو لا يشعر بشعور ايجابي، ولكي يُدافع عن نفسه يذهب الى الماضي الجميل أو المستقبل المرجو وبالتالي يحفظ حضوره الجزئي وهكذا. ان هذا الهروب الى الماضي أو المستقبل يعكس استعمالا لآليات دفاع تهدف الى اعادة التوازن النفسي والى اعادة الايجاب. ولكن هذه الأساليب الدفاعية تعمل عمل المُسكّن لا أكثر، ففي المرة القادمة ستنبعث نفس المشاعر السلبية الناجمة عن الحضور الجزئي وستدخل آليات الدفاع مرة أخرى الى الصورة. ومن ثم فإن هذه الآليات الدفاعية لا تُعطي للإنسان فرصة عيش اللحظة الحاضرة.

لكننا نقول أن الحضور الكلّي في اللحظة الحاضرة هو الحالة الأمثل وهو غير ممكن في حالات كثيرة، لأنه لربما سيشغل الانسان أحداثا جرت معه مؤخّرا أو أشياء مستقبلية قريبة تؤرّقه أو ينتظرها بفارغ الصبر ان كانت ايجابية وحتى أنه ستشغله أحداث حاضرة تعنيه تجري في مكان آخر غير مكان تواجده في اللحظة الحاضرة. لذلك فإن حاول الانسان أن يعيش اللحظة الحاضرة بكل قواه ولم يتمكّن من ذلك حتى النهاية، فلا يجب أن يشعر بمشاعر الذنب تجاه نفسه، ولكن أن يعمل على تصفية ذهنه وأن يجتهد في الحضور الكلّي (ذلك يمكن من خلال وسائل العلاج النفسية المختلفة على سبيل المثال).

***

ما بالنا نستعجل السلب ؟

هناك من الناس من اذا أقدموا على شيء (وخصوصا ان كانوا مُجبرين غير راغبين)، فإنهم يُضمرون في داخلهم أن ما هم مقدمون عليه سيكون سلبيا بالتأكيد ولا مجال للشكّ. انهم يُبرمجون تفكيرهم، تصرّفهم وشعورهم على أن القادم سيكون سلبيا، واذا ما قدم الأمر وجدوا ما توقّعوا حقّا، فعادوا الى أنفسهم والى من دفعهم الى العمل قائلين: "مش قلتلك انه هاي الشغلة كلها مقت بمقت ودشّرنا منها أحسن، أنا عارف شو بحكي". انهم يعودون بإحساس سلبي بلا شكّ خصوصا أنهم لم ينصاعوا لتوقّعاتهم وخالفوا رغبتهم، ولكنهم يظنّون بالمقابل أن رأيهم قد انتصر وأن تفكيرهم وتوقّعهم قد أثبته الواقع. والحقّ أن هذا لم يكن غريبا ولا مُستبعدا، فلأنّهم جاؤوا بتفكير سلبي مُسبق وبآراء مُسبقة، فإنهم قد أدخلوا أنفسهم الى دائرة السلب وبالتالي عميت أعينهم عن إبصار الإيجاب. انهم لم يأتوا نقيين من توقّعات مُسبقة ولكنهم ألقوا بظلال توقّعاتهم على الحاضر وأفسدوا بذلك على أنفسهم فرصة عيش اللحظة الحاضرة كما هي بسلبها وايجابها.

على سبيل المثال، عندما تفترض أن من ينتمي الى مجموعة عرقية أو دينية أو حزبية معيّنة، عندما تفترض أنه يكرهك وأنه لا يريد مصلحتك وأنه يمكنه أن يضرّ بك متى سنحت له الفرصة، فإن كل احتكاك معه سيُفسّر وفقا لهذه الفرضيات والآراء المُسبقة. فإن أراد أن يلفت انتباهك الى نقطة ضعف عندك لكي تُحسّنها أو ان أعطاك اشارات غير مفهومة لك أو ان مازحك أو حتى ان أراد أن يستطرد في مدحك، فإنك ستُفسّر كل ذلك على أنه نابع من الحقد ومن الكره، ولربما من رغبة بالإطاحة بك أو بإلحاق الضرر بك. ولن تتسنّى لك بالتالي فرصة الاستفادة من النقد الذي يُوجّه اليك ولا أن تستمتع بالمزحة ولا أن تهنئ بالمديح الذي يُقال لك (حتى المديح يمكنك أن تظنّه نابع من شفقة ولربما تظنّه مزيّفا).     

***

الحاضر والسيطرة

من يعتقد أن بإمكانه أن يُحرّك الظروف كيفما شاء وأن يُسيطر على لحظته الحاضرة سيطرة كاملة هو مخطئ، تماما كمن يعتقد أن لا سيطرة له على سير الأحداث في حياته وأن كل شيء مكتوب ولا مجال للتأثير. الأوّلون مغرورون بقدراتهم الانسانية وهم يخدعون أنفسهم بالسيطرة الكاملة ليشعروا بالأمان، حتى اذا ما جاءهم ما لم يكونوا يحتسبوا استيقظوا من غفوتهم وخاطبهم الواقع أن لا سيطرة كاملة لكم عليّ. انه اذا ظهر عند أحدهم مرض أو أصاب أحدهم مكروها (كحادث سير أو حادث عمل)، وقفوا مشدوهين وعندها يصيرون يتسخّطون على القدر الذي لم يكونوا يعملون له أيّ حساب. اننا لا نُعاتبهم بقدر ما نُحاول وصف حالهم، فهم ان وقعوا في مصيبة، فإن كل من يستطيع يجب أن يقف بجانبهم وأن يأخذ بأيديهم وأن ينصت الى مصيبتهم وحتى الى تسخّطهم على القدر، وبكل الأحوال فلا يجب أن يُعاتبهم أو يولّد عندهم مشاعر الإثم أو الذنب وقت وضعهم الحرج.

أما الآخرون الذين يعتقدون أن لا سيطرة لهم على حاضرهم ومستقبلهم، فهم في الحقيقة غير واثقين من قدراتهم وليس كما يقولون أنهم مؤمنون بالقدر مستمسكون به ولا يُعارضونه. ان هذا فهما أعوجا للقضاء والقدر وهو يهدف بالمقام الأول الى التغطية على عدم الثقة في القدرات. أليس الله قد خلقهم وأعطاهم فرصة الاختيار؟ ألم يأمرهم ربهم بأن يأخذوا بالأسباب وأن يجتهدوا؟ لماذا يُفوّتون على أنفسهم فرصة الاختيار وفرصة الاجتهاد والأخذ بالأسباب؟ لماذا يُفوّتون على أنفسهم فرصة كتابة تاريخهم؟ ألأنهم يعجزون عن أن يُمسكوا القلم أم لتكاسلهم عن امساكه؟

والصحيح أن لكل واحد منا سيطرة على حاضره، كل واحد يمكنه أن يكتب تاريخا ايجابيا أو سلبيا وذلك حسب اختياره، ويمكنه أن يجتهد وأن يرسم سير حياته كما يريده هو. ولكن هذه السيطرة تبقى محدودة فللظروف أيضا تأثير. لذا فإنه من الأحرى بالإنسان أن يستعمل السيطرة وأن يأخذ بها الى ما أمكنه ذلك، ولكن بالمقابل أن يعلم أن هناك قوى ما ورائية أكبر منه وأن هناك مواطن سيبرز فيها عجزه عن السيطرة، وهذا شيء طبيعي لا يستدعي توجّسا زائدا.

*** 

لا تتنازل عن السلب !

لربما يبدو العنوان غريبا بعض الشيء، اذ أننا نسمع بالعادة "تفكّرش بشكل سلبي" أو "خليك ايجابي". الا أنه لا يجب أن يكون غريبا لمن قرأ المقالات السابقة التي مهّدت لهذا المقال، فقد وضّحنا أنّ السلب والايجاب موجودان في هذه الحياة في كل شيء وحتى في الانسان ذاته، ولِلنّظر الى السلب دون انكاره أو تجميله دور كبير في مسيرة التطوّر الانساني. فإن تنازلنا عن السلب فإننا نتنازل عمليا عن جزء من هذه الحياة، عن جزء من واقع هذه الحياة ان لم يكن عن أجزاء. بكلمات أخرى، اننا نُجمّل الواقع أو نُزيّفه لنعيش في الأوهام المريحة وبذلك فإننا نُساهم في تغييب وعينا الإنساني، بدلا من أن نعيش الواقع بحلوه ومره، بإيجابه وسلبه.

ان للقدرة على رؤية السلب (في حين تواجده بشكل واضح لا يقبل التأويل)، دور فعّال في الحفاظ على الانسان وعلى من حوله وحتى على بيئته. في الماضي، كان انسان الغاب يتعرّض لأخطار كثيرة تُهدّد سلامته الجسدية، من مثل تهديد الحيوانات المفترسة، النباتات السامّة والكوارث الطبيعية. انه لو اختار الانسان أن يتغاضى عن مثل هذه الأخطار لما حافظ على نفسه ولا على من حوله، بينما لما اختار مواجهتها ورؤيتها كان بإمكانه أن يمنع شرّها وأن يزجرها عنه. انه باختياره أن يرى السلب وأن لا يتغاضى عنه، فقد يسّر الطرق لإبعاد ذاك السلب عنه. بمعنى آخر، عندما اختار أن يرى السلب، هو عمليا سعى نحو الإيجاب.

انسان اليوم يواجه كذلك السلب في حياته: عندما يتعرّض الانسان لعنف كلامي أو غير كلامي، عندما يُصاب الانسان في جسده أو عندما تتعرّض نفسه لأزمات، عندما يرى حوله فسادا بارزا. انه لو اختار الانسان أن يُفسّر العنف تجاهه بإيجاب ليُحافظ على مزاجه الايجابي، فإنه بذلك يظهر بمظهر الضعيف، الجبان، المتخاذل وعندها يمكن لمن بادره بالعنف أن يستغلّ الموقف وأن يزيد من حدّته. هذا لا يعني أن كل نتيجة عنف مثل هذا ينبغي أن تكون ضربا وتكسير دماغ كي يرى المبادر الى العنف من المُعتدَى عليه بأسا وقوّة، فالوقوف عند العنف وعدم الردّ بعنف مع القدرة على ذلك هو موقف أقوى من الرد الهمجي، انه العفو عند المقدرة. واذا ما اختار الانسان أن يُنكر اصابته أو مرضه فإن ذلك لن يُساعده في العلاج، وكذلك ان اختار أن يتغاضى عن الفساد حوله وأن ينظر فقط الى "نصف الكأس المليئة" كما يُقال فإن ذلك لن يلجم الفساد ولن يُغيّر في الواقع شيئا.

***

ماذا ان اسودّ الحاضر ؟

الحاضر هو ليس كل شيء فهناك الماضي وهناك المستقبل. فإذا ما ساء الحاضر فبإمكان الانسان أن يستعين بالماضي وخبراته والأيام الماضية وانجازاتها واللحظات التي مرّت والطاقة الايجابية التي كانت فيها. وكذلك يمكنه أن يستعين بالمستقبل وما يحمله الانسان اليه من أحلام وآمال. فإذا ما رأى الانسان كل ذلك، أدرك أن اللحظة القاسية الحاضرة ما هي الا لحظة من بين لحظات كثيرة ومحطة واحدة من محطات مرّت وأخرى ستأتي. انه يمكن للإنسان حينها أن يرى صورته العامّة وبالتالي هو لا يبقى أسير اللحظة الحاضرة. ولسنا هنا نحثّ على الهرب الى الماضي أو الى المستقبل ولكن نحثّ على أن يستعين الانسان بالماضي والمستقبل ليقوى على مواجهة لحظات الحاضر القاسية، تلك اللحظات التي تحتاج الى طاقات جسدية ونفسية كبيرة. انه بهذه الاستعانة يشحن نفسه بالطاقة الايجابية ولا يهرب من مواجهة السلب الحاضر. انه يواجهه وهو مُسلّح باللحظات الايجابية من الماضي والمستقبل. 

على الرغم من ذلك، فستبقى هناك لحظات حاضرة شديدة الوطأة ثقيلة كئيبة فيها من الخوف ومن القلق ما فيها، وهي شيء طبيعي يمكن أن يمر به كل انسان. انه في هذه اللحظات يمكن أن يعجز الانسان عن أن يرى ماضيه وعن أن يحلم بمستقبله، ذلك أن شغله الشاغل هو مصيبته التي بين يديه وتركيزه كله ينصبّ على ما أصابه من سوء. ان هذا شيء طبيعي ولا ينبغي أن يشعر الانسان أنه خرج عن الطبيعة، ولا ينبغي له أن يحزن أو أن يقلق، ذلك انه ان فعل فسيزيد الأمر سوء. ولكن أن يُعطي تلك المشاعر السلبية حقّها وأن ينتبه اليها وأن يُخرجها من ذاته، فإذا ما خرجت من الداخل الى الخارج، سنحت الفرصة لمشاعر الايجاب للخروج.

***

هيّء الظروف لمواجهة السلب !

اننا لا نطلب التهيئة لأننا نضع في بالنا أن ما سيأتي سيكون سلبيا قبل أن يأتي، ولكن لِعِلْمنا أن الواقع يحوي الايجاب والسلب، والمواقف السلبية لا بدّ منها كما أنه لا بدّ من المواقف الايجابية. والتهيئة هي من الأخذ بالأسباب وهي شيء ايجابي لأنها ستعين على مواجهة نوائب الدهر. وعندما نقول تهيئة الظروف فإننا نقصد بذلك تسخير ما يمكن السيطرة عليه في سبيل مواجهة ما لا نملك السيطرة عليه. ولكي نوضّح القصد نستعين بالمثل الشعبي "وفر قرشك الأبيض ليومك الاسود". هذا المثل يحثّ على توفير الأموال عند المقدرة على ذلك (ما يمكن السيطرة عليه) في سبيل مواجهة الأيام السوداء (ما لا نملك السيطرة عليه).

وللتهيئة وسائل كثيرة يمكن للعقل الانساني المُبدع أن يقترح منها ما لا يسعنا ذكره في صفحات كثيرة. فالرياضة الدورية يمكنها أن تُفيد في لحظات المرض أو حتى في منع المرض، العلاقات الاجتماعية يمكنها أن تُفيد في اللحظات الصعبة، الروحانية والايمان يمكنهما كذلك أن يقيَا الانسان من اليأس في لحظات العُسر، صفة الأمل (أن يُعوّد الانسان نفسه على تأمّل ورجاء الخير) يمكنها أن تكون في متناول يد الانسان عند لحظات السلب، صفة التفاؤل (أن يُعوّد الانسان نفسه على رؤية الجانب الايجابي في الأشياء) يمكنها أيضا أن تُرشد الانسان أثناء اللحظات الحَرِجَة. وهنا تبرز أهمية التهيئة، فالذي لم يعتدْ على التفاؤل في غياب نوائب الدهر، فكيف له أن يتفاءل وقت السلب؟! والذي لم يبنِ علاقات اجتماعية في لحظات الايجاب فكيف له أن يبنيها في لحظات السلب؟! ولسنا نريد من كل انسان أن يكون متفائلا أو صاحب علاقات اجتماعية مُتعدّدة، فهناك من الناس من لا تلائمه هذه الصفات، ولكن على الأقل أن يأخذ ببعض وسائل التهيئة الأخرى التي تُبقيه قادرا على مواجهة كل ما يظهر له من سلب.    

***

أنخجل من لحظات الضعف ؟

هناك من الناس من لا يمكنه أن يتخيّل نفسه في لحظة ضعف وحتى أنه لا يمكنه أن يحتمل انكشاف الآخرين الى نقطة ضعف عنده. انه يستهجن بل وربما يستنكر ظهور واحد قوي البُنية مثله، صاحب أمر ونهي بين أصحابه وأقربائه، بمظهر ذلك "الضعيف"، "الذليل"، "الذي يُشفق عليه الناس". هذه الظاهرة منتشرة في أوساطنا نحن العرب وخصوصا عند الذكور. اذا مرض شخص كهذا دعا امرأته (ولربما الأصح أن نقول فرض عليها وأمرها) أن تعزل أولاده عنه حتى لا يروه وهو ملقى في الفراش، واذا ما أصابته عاهة مستديمة عزل نفسه عن الناس "لئلا تنزل صورته في أعينهم". والسؤال، لماذا كل هذا التكلّف؟ لماذا يُحمّل أحدنا نفسه ما لا طاقة له به؟

انها مجموعة أفكار سلبية جارفة أخذها مجتمعنا عمّن عنده ضعف، وتمّ توارثها من جيل الى آخر لتُساهم في ابقاء هؤلاء الأشخاص في المؤخّرة. ليُعانوا ممّا عندهم وليُعانوا من مجتمعهم وليتفاعل العناء مع بعضه فيصير سلبا لا يحتمله انسان. فكرة مثل: من عنده ضعف فهو مُجبر على أن يخفيه لأن ذلك مُخجل! من قال أن الضعف يجب أن يكون مخجلا؟ ومن ثم فإن من عنده نقطة ضعف، فلديه نقاط قوة كثيرة مقابلها، فلِمَ نتغاضى عنها؟ ومن ذا الذي ليس عنده نقاط ضعف ولو بان شابا مثاليا في سنوات العشرين من عمره؟ لماذا نريد أن نجعل أنفسنا مثاليين في حين نحن لسنا كذلك؟ على العكس فإننا نرى أن من يحاول اظهار نقاط قوته وبطولاته ويترفّع عن البوح بتلك النقاط التي تُحرجه (خصوصا اذا ما كان هناك حاجة لذكرها)، فإنّا نراه شخصا مُبالغا في حقّ ذاته، بل وانّا لنشكّ في مدى صدقه مع نفسه أولا ومع الآخرين ثانيا.

لذا فإنه لا يجب أن نترفّع عن تلك اللحظات الصعبة التي يبرز فيها ضعفنا أحيانا، وكأنها ليست من مقامنا أو أن صورتنا الخارجية التي أخذها مجتمعنا عنا هي أهم من الالتفات الى نفسنا في لحظات السلب. ولا ينبغي أن نشعر بضيق الصدر ولا بالذنب ولا بالإثم على وجودنا بمثل تلك اللحظات الصعبة، ولا أن نتأسّف على وجودنا فيها ولا أن نتكلّف في اخفائها عنا وعمّن حولنا، كالذي يخجل من ذنب اقترفه أو من جريمة فعلها.  

***

فلنستعن بالمستقبل !

يمكن للمستقبل الذي لم يأتِ بعد أن يمدّنا بالطاقة الايجابية التي تُساعدنا في مواجهة وعيش الحاضر. فإلى المستقبل تنصبّ الآمال والطموحات وهي التي يمكنها أن تُزوّدنا بطاقتها الايجابية لنقوى على الحاضر، فإن قوينا على الحاضر تيسّرت السبيل الى الغايات الايجابية واقترب الواحد من تحصيلها. والى المستقبل تنصبّ النظرات التشاؤمية وينصبّ انعدام الأمل، وتُلقي هذه السلبية المُتوقّعة بظلالها على الحاضر وفي هذه الحالة أيضا تتيسّر السبيل لتحقيق الغايات السلبية. لهذا يمكن للمستقبل أن يكون مُعينا على الحاضر ويمكنه أن يكون غير ذلك، وهذا يتعلّق بنظرتنا اليه والى الحياة بشكل عام.

اذا ما كان هناك عند الانسان طموح يريد أن يُحقّقه أو حلم يريد أن يجعله واقعا أو رسالة يريد أن يؤدّيها، فإنه يشعر أنه يجب أن يعيش وأن يُكافح وأن يجتهد من أجل تحقيق المراد ووصول الهدف. انه يشعر أن هناك سببا لحياته وأن لحياته معنى. انه يقوم في الصباح ليُحقّق غايته وينام ليُحقّقها ويحلم بها ويراها أمام عينيه ويحكي عنها في جلساته ولربما تظهر مُقدّماتها في تصرّفاته. فإن رغب في نهضة أمته، قام في الصباح ليوقظها واذا ما نام أشغلته نهضتها وصار يدعو الى خطط نهضوية وتحوّل هو ذاته الى مثال نهضوي يُحتذى به.

أما اذا لم تكن هناك غاية ولم يكن أمل في المستقبل، فلماذا يعيش الانسان؟ ما هدف عيشه؟ الى أين يتّجه؟ في سبيل أي غاية يصحو من صباحه وفي سبيل أي غاية ينام؟ في سبيل أي غاية يُقاسي صعاب الحياة وفي سبيل أي غاية يُمرّر أيامه؟ انها ان لم تكن غاية في الأفق وان لم يكن مستقبلا مرجوا، فستظهر السوداوية في الحاضر ولربما تظهر العدمية، اذ أن كل شيء عديم القيمة ومصيره العدم، وفقا لهذه النظرة السلبية.

***

تفاءلوا بالخير تجدوه !

"تفاءلوا بالخير تجدوه" - هذا القول الشعبي يقول أن من يُغلّب الخير على الشر فإنه يجد الخير ويمكننا أن نستنتج أن من يُغلّب الشرّ على الخير فإنه يجد الشرّ. بمعنى أنه ان نظرت الى الأشياء بمنظار الايجاب وجدت الايجاب فيها وان نظرت بمنظار السلب وجدت السلب. وعلينا أن نذكر مرة أخرى أن النظر الى الايجاب لا يعني انعدام النظر الى السلب، فالنظر الى السلب في أحيان معينة يوصل الى الايجاب كما أسلفنا.  

فحوى هذا القول يتلاءم مع المصطلح الذي أطلقه علم النفس "النبوءة التي تُحقّق ذاتها". وهو يصف التوقّع المُسبق (الايجابي أو السلبي) الذي يؤكّد نفسه في المستقبل. ان ذلك يحدث لتأثّر السلوك من التوقّعات مما يجعل التوقّعات صحيحة في نهاية المطاف. النبوءة التي تكون في المستوى الفكري والتي يمكن أن تكون ايجابية أو سلبية تدفع بالإنسان الى التركّز في الايجاب أو في السلب، حتى اذا ما جاء ما يخص النبوءة تراءى للإنسان ما يتلاءم مع نبوءته مما يجعل الأمر ينتهي بتحقّق النبوءة.  

بكلمات أخرى، ان أردنا أن نزيد من الايجاب في حياتنا فإنه علينا أن نأخذ بالتفاؤل الذي يلفت انتباهنا الى الايجاب القادم، الايجاب الذي يكون في المستقبل، ولا يجعلنا متركّزين في السلب الآت. وعندها إن دخلنا الى موقف بمزاج ايجابي، لفتت انتباهنا الكلمات والايماءات والرموز الايجابية مما يجعلنا نخرج من الموقف بشعور ايجابي. والتفاؤل يجعلنا نتوقّع الخير ونحسّ بالإيجاب حتى يأتي السلب الصارخ (وهذا ما ينسجم مع المثل الشعبي: "لما بيجي وقته بيجي مقته")، انه يُبقينا أغلب الوقت في الايجاب ما لم يحدث طارئ. 

***

هل عندك آمال ؟

يمكن أن يكون للتفاؤل تأثيرا على الحاضر وعلى المستقبل بشكل مباشر، فالمتفائل يُغلّب الايجاب على السلب في حاضره وفي مستقبله. أما الأمل فيتجّه بالأساس الى المستقبل تماما كالطموحات والأحلام. فمن أصابه السلب في حاضره، أمكنه الأمل من اعادة التوازن الى حياته من خلال تأمّل الايجاب. يقول الطغرائي: "ما أَضْيَقَ العَيْشَ لَوْلاَ فُسْحَةُ الأَمَلِ"، أَي لَوْلاَ الرَّجاءُ وَما يَتَمَنَّاهُ الْمَرْءُ لَضاقَ عَيْشُهُ. فالأمل هو منفذ وهو معين في الحالة الطبيعية عموما وفي حالات العُسر خصوصا.

من أصابه المرض يمكنه أن يتأمّل خروجه منه، مما يدفعه الى الايمان بهذا الهدف وبالتالي الى بذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيقه. انه يبذل قصارى جهده ويجتهد كل الاجتهاد على أمل أن يشفى. وبذلك فهو يُبقي عند نفسه أملا بالإيجاب ويفعل كل ما يمكنه فعله من أجل تحصيل هذا الإيجاب (الشفاء). فإن حدث وتحقّق الأمل فقد جاء الإيجاب المأمول. وان حدث ولم يشفَ فإن ذلك يمكن أن يكون وقعه قاسيا بلا شك، ولكن من جهة أخرى يدرك الواحد أنه فعل كل ما بوسعه فعله مما لا يحوجه الى مشاعر الذنب وتأنيب الضمير. ولذلك من المهم الحفاظ على "الإيجاب المعقول". فعلى المريض أن يدرك أن الأمل ليس واقعا بعد، اذ أنه يمكنه أن يحصل ويمكنه أن لا يحصل. ولكن ما فائدة التشبّث بالسلب الذي لم يحصل بعد، ان كان هناك أمل بالإيجاب؟! انه من الأفضل بشكل واضح التشبّث بالإيجاب الذي لم يحصل (الأمل) لما له من أثر على الحاضر.

ومن "الإيجاب المعقول" أن يبني الواحد آمالا يمكنها أن تتحقّق. فإن كان وضع المريض حرجا الى أبعد الحدود، فلا مانع من أن يأمل بتحسّن وضعه واتزانه، أما أن يأمل بأن يقوم كالأسد في بضع أيام فلا يمكن لذلك أن يكون ايجابا معقولا. ولكن ان كان هناك احتمال ضئيل لشفائه (كـ 1%)، فإنه ان تشبّث به فذلك من التفاؤل ومن الأمل المعقول، وذلك مع ادراكه أنه يمكن لهذا الأمل أن لا يتحقّق، ورغم ذلك يختار التشبّث به ويختار أن يمسك بما بقي عنده من حياة، وهذا هو الأمل الحقيقي. في الحديث الشريف: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".
وهل وجود الأمل (وطول الأمل على الأخص) لا ينسجم مع الايمان بفناء هذه الدنيا ودوام العالم الآخر؟ انه يمكن أن ينسجم ويمكنه أن لا ينسجم وذلك بحسب نظرتنا للأمور. فإن كان الواحد غارقا في ملذّات هذه الحياة وطول أمله يُغريه بسنين طوال، فإن الأمرين السابق ذكرهما لا يمكن أن ينسجما. أما ان كان عند الواحد آمالا كثيرة يسعى جاهدا لتحقيقها، مع ادراكه أن المنيّة يمكن أن توافيه في كل وقت وحين (وهو التصوّر الأقرب الى الحقيقة) فإن الأمرين يمكن أن يجتمعا. انه فقط من يريد أن يجمع بين خيري الدنيا والآخرة وايجابهما، فقط هو من يمكنه أن يفهم هذا الانسجام وهذا الجمع. في القول المأثور ورد: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق