25.7.14

تأمّلات في البحث عن الليلة


اذا تأمّلنا في الغموض الذي يُحيط بليلة القدر من حيث زمانها، فإننا نخرج بحكم ودروس يجدر بنا أن نستحضرها. انها ليلة ثمينة وهي تتواجد في زماننا كل عام، ولكننا لا نملك أن نُحدّدها بسهولة. وبالطبع لا يمكننا تحديدها مُسبقا، على خلاف من يفترضون وقوعها في ليلة السابع والعشرين من رمضان. انها مجرّد فرضية تحتاج الى اثبات! هذه الليلة التي يقول فيها الحقّ تعالى: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" (القدر، 3-5). انها خير من ألف شهر! أي هي خير من 29000 يوم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرمها، فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا مَحروم". ان فضلها كبير وأكبر من أن يُوصف، وأجرها عظيم وأعظم من يُتصوّر، وهي غنيمة لا تُقدّر بثمن!

ولكن لماذا أُخفيت عنا؟! لماذا لم تكن واضحة كالشمس خصوصا وأنها فريدة من نوعها؟! يقول صلى الله عليه وسلم: "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، ويقول أيضا: "أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنُسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر". ان احتمال تواجدها في العشر الأواخر من رمضان هو كبير جدا، ولكن هذا لا يمنع تواجدها في غير ليلة من لياليه. الحافظ ابن حجر أورد أكثر من أربعين قولا فيها، منها أنَّها أول ليلة من رمضان، ومنها أنها ليلة النصف. ان اخفائها يدفع الى البحث عنها، فلو كانت مُحدّدة لما بزغت حاجة البحث. والبحث هو رسالة من رسائل اخفائها، اذ أن الأهداف لا تأتي الينا على طبق من ذهب، الاكتشافات لا تكتشف نفسها بنفسها. انها بحاجة الى الانسان الذي يملك مَلَكة العقل ليُشّغل قدراته في البحث، السعي، الاجتهاد والاكتشاف. وكل ذلك يصبّ في مصلحته، اذ أن الاكتشافات الدنيوية، ستساهم في تيسير المعيشة، والاكتشافات المُتعلّقة بالعالم الآخر (كإصابة ليلة القدر)، ستساعد هذا المخلوق المحدود عمره بمضاعفة أجره.

ان اخفاء هذه الليلة يتّسق مع روح شريعة الإسلام، اذ أن المسائل القطعية محدودة ومعدودة، في حين أن المسائل التي يبرز فيها الاجتهاد أكثر من أن تُعدّ وتُحصى. انه لم يُرَد لنا أن نتناول كل تفاصيل حياتنا مكتوبة جاهزة، لأن ذلك لا يُنشئ انسانا فاعلا في بناء الحضارة. انه لو كانت كل التفاصيل مكتوبة فستكون حياة الناس آلية، ستفقد روحها وربما معناها! انها رسالة للناس لئلا يبقوا يُردّدوا: "المكتوب ما منه مهروب"، ولكن ليأخذوا بالأسباب، ليعقِلوا وليفهموا أن الحياة تحتاج الى جدّ واجتهاد! انها رسالة للبحث عن الخالق، عن آياته، عن الحضارة، عن الثقافة وعن الحكمة! انها الرسالة التي تسعى الى تحفيز الانسان! انها تُعيد للإنسان ايمانه بقدراته، فخالقه يتوقّع منه نجاحا في التحدّي!

أما الرسالة الأخرى لإخفاء الليلة فتتلخّص في محدودية علم الانسان. انه رغم التقدّم العلمي ورغم التطوّر الحضاري، الا أن الانسان ما زال يقف عاجزا أمام آيات الله الكونية، كالزلازل والبراكين (هل يملك الانسان أن يمنعهما؟!)، وحتى الظواهر الايجابية كالشمس والرياح (هل يملك الانسان أن يُخفي ضوء الشمس أم هل يمكنه أن يُسكن الرياح؟!). كذلك الحال مع ليلة القدر وغيرها من الأمور التي لا تزال غير واضحة، فلا جهاز سحري يمكنه أن يُحدّد هذه الليلة الثمينة ولا مجموع العبقرية البشرية يستطيع فعل ذلك. انه في هذه الحالات يبرز العجز الانساني ومحدودية العلم. واذا جمعنا هذه الرسالة مع الرسالة السابقة، وجدنا أنهما يعكسان تركيبة هذا الانسان، فمن جهة هو قادر بإذن خالقه على بناء حضارة واختراع واكتشاف الكثير من الخبايا. ومن جهة أخرى، يبرز عجزه وقلة حيلته في حالات أخرى، ليعلم أن الله هو القادر وهو الفاعل الحقيقي ولئلا يغترّ بعلمه. 

تأمّلات في الاطمئنان


كلمة "اطمأنّ" تعني: سكن وثَبَتَ واستقر (معجم المعاني). وهي تُشير الى الراحة النفسية والى السكينة والهدوء بعد اندثار القلق والهلع. وقد وردت كلمة "اطمأن" ومشتقاتها في القرآن الكريم في عدّة مواضع، منها قوله تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد، 28)، وفي قوله تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" (الفجر، آخر السورة). ان الله سبحانه وتعالى قد سمّى هذه النفس بالمطمئنة وأمرها أن ترجع اليها، وهذا يعني أنها مطمئنة ما قبل موتها، مطمئنة في حياتها الدنيا. أي أن حصول الاطمئنان في هذه الحياة ممكن.

انه من طبيعة الحياة الدنيا أنها لا تستقرّ على حال، فهي متقلّبة، متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان. انه كما قيل: "يوم لك ويوم عليك" وأيضا "يوم عسل ويوم بصل"، وذلك تعبيرا عن عدم الاستقرار، وعن الصعود والنزول. ان في الحياة مسرّات وفيها أحزان، فيها ملذّات وفيها مشقّات، فيها نجاحات وفيها صعوبات، فيها حلول وفيها مشاكل، فيها حلو وفيها مر. وليس فقط أن هذه الحياة لا تستقرّ على حال، وانما هي لا تستقرّ على الايجاب أيضا، فالسلبية داخلة فيها سواء رغبنا بذلك أم لم نرغب. ان الهوّة واسعة بين ذروة الايجاب (ازدهار حضارة كمثال) وبين ذروة السلب (حرب طاحنة ودمار شامل كمثال). ولنا أن نتخيّل حال من يبقى حبيس هذا التذبذب بين الايجاب والسلب، ومن يرى بحياته الدنيا حياته الوحيدة التي لا وجود لما بعدها. انه سيتذبذب بتذبذب هذه الحياة، سيفرح عندما تُفرحه، وسيحزن عندما تُحزنه، ولو أطالت عليه الحزن لربما سيكتئب. انه عندها تُضحي الحياة المُتحكّم بهذا الانسان الضعيف، وهو يصير منصاعا لأوامرها. صحيح أن الانسان يُحاول أن يُغيّر أي أن يؤثّر على هذه الحياة، ولكن هذا التأثير يعكس تأثّرا أوليا بطبيعتها (طبيعة الحياة التي تحوي الايجاب والسلب)، فهو عمليا يحاول أن يزيد من لحظات الفرح وأن يستبعد قدر الإمكان لحظات الحزن. انه يحاول أن يزيد من اللذة وأن يُقلّل من الألم قدر الإمكان، أو يحاول أن يحوّل هذه الحياة الدنيا الى جنة الله على الأرض. لذا فإننا ندّعي أن النفس المحصورة في هذه الحياة، لا يمكنها تحصيل الاطمئنان وذلك لسببين: الأول وهو أنها تتقلّب بتقلّب هذه الحياة (نوع من الاضطراب). الثاني لأنها تُريد اقحام الحياة الدنيا ما ليس يتلاءم مع طبيعتها، وهو جعلها جنة الله على الأرض. انه عند محاولة خلق الجنة في هذه الحياة، فستتعدّد خيبات الأمل وسيكثر اليأس، لأن هذه محاولة غير ممكنه من أصلها.

لكنّ النفس المؤمنة تختلف عن سابقتها، اذ هي تؤمن بعالم آخر، عالم ما وراء المادة، عالم مثالي لا ألم فيه، وهي تربط جزءا من آمالها بذاك العالم الذي لم يأتِ بعد. بمعنى أنها لا تظلّ محصورة في تقلّبات الحياة الدنيا، وبالتالي تقلّ وطأة هذه التقلّبات عليها. بل ان هذه التقلّبات تُستبدل باستقرار مُستمدّ من العالم الآخر. ان العالم الآخر هو العالم المثالي، هو الذي لا سلبية فيه، انه مستقرّ على الايجاب. وايمان به وسعي اليه، سيُدخل استقرارا على النفس من استقراره. وعندها يمكن للاطمئنان أن يظهر، اذ هو كما قلنا مرادف للسكون، للاستقرار وللسكينة. 

انه عندما يدخل الايمان بالعالم الآخر الى الصورة، فإنها تزداد تركيبا، اذ الأمور لا تعود أحادية الجانب (كما في النظرة المادية) ولا تعود مسطّحة. فما نكره يمكن أن يكون خيرا لنا، وما نحبّ يمكن أن يكون شرّا لنا. يقول تعالى: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم" (البقرة، 216). ولنضرب مثالا على ما نكره وهو المرض. انه يمكن أن يكون هذا المرض فرصة للعودة الى الخالق أو تنقية من ذنوب أو امتحان الهي، وبكل الأحوال فالسلبية الآنية تضمحل اذا ما قورنت بالنعيم الأبدي. بالمقابل المال شيء نحبّه، ولكنه يمكن أن يودي الى بُعد عن طريق الحقّ، وبالتالي رغم الايجاب الآني، الا أن تأثيره بعيد الأمد سلبي الى أبعد الحدود (في هذه الحالة وليس دائما)، اذ هو يضرّ بالنعيم الأبدي ولربما يُوصل الانسان الى العذاب. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له". ان نوائب الدهر والمصائب التي تقع على رؤوس العباد، لا يمكن أن تُحطّم هؤلاء المؤمنين، اذ هم يرون أن هذه الحياة محطّة ولذا لا قيمة لها قبال النعيم الأبدي الذي ينتظرونه. ولا يعني هذا أنهم لا يتأثّرون، ولكنّ الايمان الذي عندهم يجعلهم ثابتين، مستقرّين، متوازنين في انفعالاتهم، وهم لا يخرجون عن دائرة الشكر والصبر. دائرتان (على عكس الاندفاعية) يجلبان لهم الاستقرار ويُنمّيان عندهم الطمأنينة.