15.4.14

الانسانية ...


ان للتربية المتخلّفة دور كبير في ايقاد الكراهية، الحقد والنفور من الآخر المختلف، وغالبا ما تأخذ هذه الكراهية وهذا النفور شكل الطائفية، الحزبية والعائلية. يُشرّب الطفل منذ صغره مفاهيم طائفته ويظنّ لوهلة أنها كل العالم وأن كل الناس (الذين يشاهدهم في التلفاز أيضا) مثله تماما، ورغم أنهم يُحاولون تشريبه حبّ طائفته والتغاضي عن الآخرين المختلفين أو حتى زرع كراهيتهم في نفس الطفل، الا أنه يعجز عن التفريق بين نفسه وبين أطفال آخرين، ولذلك يمكن لأطفال من ثقافات مختلفة أن يندمجوا بسرعة وأن يتصاحبوا سريعا، رغم أن الكبار يُحرجون من مثل هذا الاتصال ولربما يقودهم ذلك الى منع استمراريته عبر الفصل بين الطفلين. الطفل يرى أن الطفل الذي قباله يضحك مثله، يبكي مثله، يأكل مثله، ينام مثله، يلعب مثله، وبكلمات أكثر نُضجا، يراه انسانا مثله! ان هذا الحب الفطري الساذج يدلّ على طبيعة الانسان الذي لا يُفرّق بينه وبين أخيه الانسان. أما آن لنا أن نتعلّم من الأطفال كم نشبه بعضنا نحن بني الانسان؟! ان في عالم الحيوان أصناف وأنواع، ومنها أصناف تتفق وتعيش بسلام وتناغم مدهشين، ونحن صنف واحد نعجز عن أن نعيش دون حروبات وكراهية؟! وعندنا عقل أيضا؟! أنستعمله؟! أم أننا نستعمله ضد أنفسنا؟!      

ومن ثم يكبر الطفل، ليكتشف بعد فترة أن المفاهيم (قسم كبير منها سطحية) التي تشرّبها غير موجودة عند الجميع وأن هناك من يختلف. يبدأ الطفل بإثارة أسئلة مثل: لماذا لا يلبسون مثلنا؟! لماذا لا يأكلون مثل أكلنا؟! لماذا لا يُصلّون مثلنا؟! وأجوبة الكبار تتنوّع من تغاضي مقصود الى محاولة لبيان أن الآخرين أقلّ فهما وأنهم مساكين ولربما يصل المشوار الى زرع فكرة أنهم حطب جهنم، لأنهم حادوا عن الطريق المستقيم! ان الفكرة التي تصل الى الفتيان، فحواها أن فرقتك هي الفرقة الناجية، هي الفرقة الصائبة وكل الفئات الأخرى منحرفة أو مخطئة. هذه التفرقة التي ترفع من شأن الطائفة التي جاء منها الطفل وتحطّ من قدر الطوائف الأخرى، تساهم في زرع الاحتقار، الكراهية والحقد في النفوس، فيبدأ الفتى يحتقر المختلف لأنه أقل شأنا منه، يرفضه ولا يقبله، وذلك يوّلد انعدام الانسجام، البعد، الكراهية والحقد. ولنا أن نتخيّل اذا اعتبر كل واحد من الطرفين أن الطرف الآخر هو أقل شأنا، لتصير معركة طائفية تتمحور حول من هو الأحسن ومن الأفضل، ومثل هذا الجدال لا يمكن أن يصل إلا الى طريق مسدود. اننا لا نُعارض تعزيز القيم والمبادئ التي يكتسبها الفرد من بيته ومن بيئته المحيطة، ولكننا نرفض أن تحتوي هذه المبادئ على رفض الآخر، التحذير من الاتصال معه والحطّ من قيمته، اننا نرفض إلغاء انسانية الانسان الآخر.  

واذا ما سنحت الفرصة للشاب (المنشغل في بناء هويته في تلك الفترة) بالخروج والتحرّر من العقلية الطائفية المنغلقة (وليس ذلك بالتحرّر السهل، فما زال قسم من الكبار عاجز عنه)، فإنه يبدأ برؤية الآخر كما هو، يبدأ برؤية ما عند الآخر من مبادئ وقيم، يبدأ برؤية عالم الآخر المركّب أيضا، يبدأ برؤية أفكاره، أحاسيسه، انفعالاته والأهم من ذلك كله، يبدأ برؤية انسانيته، ويرجع بذلك الى الحب الفطري، الى حيث الانطلاقة، الى حيث الطبيعة البشرية التي شُوهّت لفترة طالت أو قصرت بفعل البيئة المنغلقة. تبدأ جسور التواصل تنبني وتبدأ مرحلة تلاقح الأفكار، ولا يخاف الانسان الواثق من ذاته، أن ينكشف لأفكار الآخر، لعاداته وتقاليده، لأنه مؤمن بما عنده، ولكنّه يسعى دوما الى توسيع آفاقه ورؤية الحياة على حقيقتها، على تركيبتها. يكتشف الفرد عندها أن الآخر ليس أقل شأنا كما حُفّظ من قبل، وأنه لديه عالمه الخاص والذي هو منسجم معه والذي هو يؤمن به، وعندها يأتي الفضول المتبادل، الاحترام المتبادل، الحب الفطري المتبادل، ويفهم الفرد أنه مهما اختلف الآخر في مبادئه وآرائه ومواقفه فهو يبقى انسانا!    

حكم وأمثال شعبية - الجزء الأول


الحكم والأمثال الشعبية هي جزء مهم من التراث، وأهميتها تبرز في كونها تعبّر عن آهات، آلام، أفكار وخبرات الشعوب وعامة الناس، وهي تنبع من احساسهم الصادق ومن تجربتهم الطويلة مع الأيام، ولذا فدراستها وفهمها يساعدان على فهم نفسية الشعوب، وما هي التغييرات التي طرأت منذ أن قيلت، وما هي تَبِعات هذه الأمثال، بمعنى كيف ترتبط النفسية التراثية بنفسية الحاضر. فكلمة شعبية تُوحي بأمرين هامين: الأول أن هذه الأمثال نابعة من تجربة الناس وهي بذلك قريبة من الواقع، والأمر الآخر أن هذه الأمثال مستعملة وشائعة بين الناس، مما يدلّ على عظيم أثرها على نفسية الشعب، ومن هنا تبرز أهميتها.

الأمثال مأخوذة من كتاب: الحكم والأمثال الشعبية في الديار الشامية لمحمد سعيد مبيّض




 
 









13.4.14

الانسان كأداة

ان مما يبخس قيمة الانسان هو اعتباره أداة من بين أدوات عدّة، فلا يكاد يُفرّق بينه وبين الآلة! بل هو أقل من آلة، فهو أقرب ما يكون الى البرغي الذي هو جزء من الآلة! ان هذا الانسان البرغي لا يدري بالبراغي الأخرى ولا يدري ما هي وظيفتها ولا يدري أي علاقة تربطه بها، ولذا هو عاجز عن فهم غائية الآلة وغائية المنظومة أو المؤسسة. انه يعرف شيئا واحدا فقط، وهو عالمه المحصور الذي رُسم له من قبل، دون أن تتم مشاورته! وبالطبع فلا يتم استشارته فيما يتعلق بمستقبل عمله ولا يتم سماع اقتراحاته، فهو المُنفّذ وأسياده هم الذين يرسمون ويُخطّطون. ان اسياده معنيون بهذه الدكتاتورية التي هي أشبه بالرعاة والغنم، لأنهم بذلك يُحافظون على مصالحهم، على سلطتهم، على دكتاتوريتهم وهم يوفّرون وجع رأس متوقّع وجدالات ونقاشات لها أول، ليس لها آخر. ويمنعون الانتقاد، يمنعون الأخذ والعطاء، يمنعون ضياع الوقت، يمنعون من الموظّف "المتفلسف" أن يُظهر تفلسفه ويُساهمون في زيادة الإنتاج وازدهار الاقتصاد، على حساب انسانية وقيمة الموظفين المبخوسين.
لكنّ هذا الكبت وهذا الاستغلال لا يدوم طويلا، ولا بدّ للموظفين المقهورين أن يصحو من كبوتهم وأن يطالبوا بحقوقهم الأساسية في المعرفة والسؤال واسماع آرائهم والتعبير عن امتعاضاتهم ومشاكلهم. ان هذا التحكّم بالإنسان والتنكّر لعقله، لحسّه ولإنسانيته، من خلال التعامل معه كبرغي في أداة، لا بدّ أن يؤدّي الى انفجار، لأن الكبت المستمر لا يمكن أن يدوم. ان الانسان العاقل لا يمكن أن يعيش في ظل هذا الاستعباد وفي ظل هذا الاستخراف (التعامل مع الموظّف كخروف مطيع)، ولا يمكن أن يبقى حبيس عالم رُسمت له حدوده من ذي قبل، ولا يمكن أن يبقى مُغفّلا ولا يمكن أن يبقى مضطهدا في سؤاله.

الموظّف: "لماذا يا سيّدي تريدني أن أفعل كذا"؟ السيد: "نفّذ ولا تسأل كثيرا، سيّدك يُفكّر بالنيابة عنك، افعل انت وستأخذ راتبك في آخر الشهر". إلا أن هذا المنع من الاطّلاع على الصورة الكاملة، يمكن أن يُخبّئ في ثناياه غايات خسيسة، فالموظّف الأول يُحضّر المركّب الأول، الموظّف الثاني يُحضّر المركّب الثاني، السيد يجمعها جميعا وتنتج قنبلة ذرية تُساهم في قتل ملايين البشر. هل وافق جميع الموظفين على مثل هذا المنتج؟! هل دروا بماهية المنتج أصلا؟!   

12.4.14

من ذا الذي يستغرب انحباس الأمطار ؟!

القتل مستفحل، لدرجة أنه بات مظهرا من مظاهر الحياة في بعض الدول (سوريا، مصر، العراق)، رائحة الدماء، الأرواح البريئة التي تُزهق، الكره، الحقد، العدوانية. أين الحب في الدول العربية؟ أين الإنسان؟ والاستعمار جاثم على صدورنا وهو يسعى للحفاظ على هيمنته ومصالحه وابقائنا على جهلنا وهمجيتنا، وقسم منا يتعاون مع هذا الاستعمار بشكل علني أو غير علني، بشكل واعٍ أو غير واعٍ. هؤلاء المتعاونين يُسلّمون ثروات البلد للمستعمِر، يُساندونه في سيطرته ويتآمرون معه (مع المستعمر) ضد اخوانهم. هذا الاستعمار هو في الحقيقة استعباد، إذ أنه يبخس قيمة انسان العالم الثالث، وبالتالي يُبرّر استباحته واستباحة ثرواته وكل المؤامرات ضده. انه استعمار يقسم العالم الى فريقين: الأقلية المُسيطرة والأغلبية المُسيطَر عليها، المغلوب على أمرها! ومن ثم نسأل أين العدل في هذا العالم؟! انه فعلنا وخيارنا نحن بني الانسان! 

ولنسأل: هل نستحقّ المطر أصلا؟ أينزل علينا هذا الخير ونحن نرفع الشر الى السماء؟ أينزل لكي تختلط طهارته، نقاؤه، صفاؤه مع قذارة الدماء المسفوكة، فينتزع لونه وتذهب رائحته؟ أينزل لكي يروي القاتلين الظالمين فيزيدوا من فُحش قتلهم؟ انها تفسيرات الجزاء والعقاب ولكنّ التفسيرات المادية تُكمّلها أو تتوافق معها! ان ما يشغل الأمة العربية في أيامنا هي حاجات أساسية، مثل الأكل والشرب، الأمن والأمان، الراتب... وحيث هناك ثورات، هناك انشغال بقضايا أساسية، مثل الحريات والمساواة. ان كل هذا الانشغال بهذه الأشياء والقضايا الأساسية يمنع بالتالي التفكير في ومراعاة أمور أكثر تطوّرا وأكثر تركيبا (والتي لا شكّ أنها تصبّ في مصلحة الانسانية ككل)، مثل، المحافظة على البيئة. لو سألت أحدا من العالم العربي: هل تهتمّون بإعادة انتاج منتجات البلاستيك والورق، لسخر منك وقال: "نحن ما زلنا نُطالب بالأساسيات كالحريات والمساواة والعيش الكريم، الكماليات هذه ليست بالبال". القتل يأتي على حساب تطوير الانسان، فبدلا من بذل الطاقات الانسانية في سبيل تطوير العلم وأدوات العيش، تذهب الطاقات الى ما يساهم في هدم الانسان، الحضارة، أدوات العيش والعلم. صحيح أن الغاية بعيدة الأمد تستحقّ التضحية ولكنّ هذا لا ينفي انشغالنا بالأساسيات وعدم تفرّغنا لما نسمّيه كماليات. ان من بين هذه الكماليات أنه ينبغي الانتباه الى كميات الغازات السامة المنطلقة من البلد حتى نحافظ على طبقة الأوزون الجوية، فهل الانشغال بالقتل والاستعمار، يُتيح المجال لإنسان العالم الثالث أن ينتبه لهذه الأمور، وهل ذلك يتيح المجال لمراقبة الدول الصناعية العظمى (نظرا لأن الأضواء مُسلّطة على العالم الثالث)؟ ان هذه الأضواء تسمح للجلاد (المستعمِر) أن يمرق من تحت عين الرقيب وبالتالي تساهم الإنسانية في تدمير نفسها، وتدمير كوكبها، من خلال تدمير طبقة الأوزون، مما يزيد من ظاهرة الدفيئة (ارتفاع درجات حرارة كوكب الأرض، حالات طقس متطرّف ...). فهل ما زلنا نستغرب انحباس الأمطار؟! 

الترويض الحيواني في العالم الإنساني

أثناء ركوبي في احدى الحافلات، لفتت انتباهي بنت صغيرة، تحمل حقيبتها على ظهرها وكما يبدو أنها ذاهبة الى المدرسة. كانت البنت برفقة أمها وأخيها الصغير، ورغم الصمت النسبي الذي خيّم على الحافلة، عدا الأصوات الصادرة عن المحرّك والمكيّف، كانت الفتاة مُنسجمة مع عالمها الطفولي الخاص. لقد كانت تُغنّي ما تحفظ من أغانٍ طفولية بصوت خفيض مسموع، وشفتاها وقسمات وجهها كلها تتحرّك تبعا لكلمات الأغنية، واحدى الأغاني التي عزفتها بفمها كانت: "وقال الأرنب لأمه واسمحيلي رح العب"، إلا أن أمها لم تكفّ عن وكزها لتكفّ عن غنائها. انها تعيش في عالمها الطفولي الخاص متناسية كل من حولها، انها منسابة، منسجمة، طرِبَة في طفولتها، في أغانيها، في عالمها الخاص، فلماذا هذا الحرمان؟! ولماذا يجب أن تخرج الطفلة من طفولتها نحو عالم الكبار بسرعة البرق؟! ألا يحقّ لها أن تعيش طفولتها داخل البيت وخارجه؟! لربما هي منصة تودّ أن تستغلها لتُسمع من حولها صوتها الخفيض الرقيق الناعم! لربما هي محاولة للفت الأنظار الى قدرتها والى موهبتها! لماذا تُكبت مثل هذه المواهب؟! وكيف لو أنها لم تطلب من أمها اللعب من خلال الأغنية؟!
وهكذا يُروّض الطفل والطفلة وتصير موهبتهما حبيسة ذاتهما الى أن تنقرض، كونها لم تجد البيئة التي تنمّيها، وانما على العكس وجدت صدّا واستخفافا، فهذا غناء طفولي، وهذا رسم طفولي، وتلك كلمات طفولية، وتلك ألعاب طفولية، فأين الموهبة في الموضوع؟ ثم انها مواهب طفولية تُثير خجل الكبار وتُعكّر صفو مزاجهم، فالأولى اخفائها، دحرها أو اعدامها على مسرح الحياة! وعندما يشبّ الطفل يستغرب الأهل لماذا هو منغلق على نفسه؟ لماذا يخجل من الناس؟ أين مواهبه؟ هيا بنا ندخله دورة رسم أو موسيقى أو غناء أو دبكة، أي شيء، المهم أن يكون موهوبا! آلآن وقد كَبَتّ من قبل؟! والجدة تقول: "ماله صاير هيك، مبتحركش من محله، مهو كان وهو صغير يلفّ الحارة كلها"! وتستمر محاولات انعاش الموهبة بعد أن كُبتت، تماما كما يُريد أحدهم أن تثمر شجرته بعد أن قطعها! ان انباتها من جديد ليس بمستحيل، ولكنه يحتاج الى وقت وجهد، ولو استمر في انمائها (قبل القطع) لأثمرت خلال وقت قصير نسبيا ثمرا أنضج. كذلك الموهبة، لو نُمّيت من جيل صغير ولم تُكبت، لأثمرت مبكّرا ولما احتاجت الى جهد مُبالغ فيه.

ان المواهب الطفولية يُمكن أن تظهر كبدائية وبسيطة، إلا أن المطلوب هو عدم إلقائها في مزبلة التاريخ وعدم التنكّر لها، وانما ينبغي الانضمام الى عالم الطفل (عن طريق اللعب معا، مثلا) ومحاولة فهم ما يفرحه وما يشدّه في فعله ومن ثم تطوير ذاك الفعل البدائي. على سبيل المثال، اذا كان الطفل يحبّ اللعب في الطين، فلا ينبغي توبيخ الطفل وحرمانه من هذا الفعل بحجّة أنه كَبُرَ، وانما يمكن فهم ما يجذبه في اللعب بالطين، عن طريق سؤال مثل: لماذا تحبّ اللعب في الطين؟ ومن ثم يمكن اقتراح أفعال أكثر قبولا وملاءمة اجتماعيا لجيله، مثل، النحت، التصميم والبناء وغيرها ... 

كبت التفكير!

ما ان ينبس الطفل كلماته الأولى وما ان يُثير علامات السؤال الأولى، حتى يصطدم بوابل من الإجابات الساذجة التي يستعملها الناس ظنّا منهم أن هذا تلائم حيوي مع سذاجة الطفل. الا أنه لدى الطفل ذكاء فطري مولود وحب استطلاع للبحث وللتجريب وللتفكير في ماهية الأشياء وفي العلاقات ما بينها وفي ما يرى حوله من ظواهر طبيعية وأخرى صناعية. الطفل يسأل: "لماذا يُصلّي بابا؟"، الأم: "لأنه اللي ما بصلّي بروح على النار!". الطفل: "لماذا يجب أن أنام مُبكّرا؟"، الأب: "الولد اللي ما بنام بدري بطلعله الغول وبوكله". الطفل: "كيف تمطر السماء؟"، الأم: "بتيجي الغيوم اللي زي الاولاد الشطورين وببلش المطر ينزل منها" أو "ربنا هو اللي بخلي الدنيا تمطر". اننا من خلال هذه الاجابات، نلحظ استخفافا بعقول الأولاد الصغار وهو استخفاف غير مقصود في الغالب، بل نابع من حسن نية كما يقولون، فما الداعي لأن نُدخل الأطفال الى تعقيدات كبيرة على عقولهم وعلى مستوى فهمهم! ويرافق هذه الإجابات، خرافات في القصص المحكية قبل النوم وخلال النهار وخرافات في أغاني الطفولة، من مثل ما يتردّد على لسان الأمهات عند تبديل الأسنان، إذ تطلب من ابنها أن يذهب الى الخارج وأن يقول للشمس: "يا شمس يا شموسة، خذي سني الذهبي واعطيني واحد ثاني".
لكنّ المشكلة الأساسية في هذه الإجابات، تكمن في أنها حاسمة وقطعية، فضلا عن كونها بعيدة عن الواقع وخرافية في أحيان أخرى، وإلا فما صحة الغول الذي سيخرج ان لم ينم الطفل مُبكّرا؟! انه أسلوب للتخويف من العقاب، وبشكل عام فإننا نرى استعمالا كبيرا للترهيب في التعامل مع الأطفال بدلا من الترغيب، أي استعمال لتهديدات (التهديد بالغول، بالنار، بالضرب...) بدلا من تشجيعات (الجنة، الحصول على جائزة ...). ان مهمة اعطاء أجوبة قريبة من الحقيقة من جهة، ومُبسّطة بشكل يتلاءم مع فهم الأطفال من جهة أخرى، هي مهمة ليست بالبسيطة، ولذا نرى الكثيرين يهربون من هذا التحدّي، ليُعطوا جوابا حاسما قاصما. انهم يُفضّلون أن يُحافظوا على صورتهم أمام الناس فلا يحرجون ولا يتلعثمون في الإجابة، ولذا يُعطون الجواب الطفولي المُستخفّ السهل: "يما ما أزكاه هلولد، بعرف يسأل عن كل شيء، حتى ليش لازم ينام بدري". الا أن هذا الحسم والقصم في الجواب يُعطّل ملكة التفكير المولودة ويترك الطفل مع أجوبة نهائية خدّاعة فيظلّ متخيّلا أن الغيوم هي بالونات طائرة، يتم وخزها بإبرة لتُسقط على رؤوسنا الماء، بدلا من أن يتمّ فتح المجال أمام الطفل لمعرفة وبحث كيفية نزول المطر، من خلال اجابة مثل: "الشمس اللي فوق البحر بتخلّي المي تسخن وتطلع لفوق علسما وهناك بتصير غيوم"، وممكن في كثير من الأحيان اضافة جملة مثل: "لما تصير زلمي كبير، راح تفهم منيح كيف بنزل المطر"، وذلك للتشجيع على مزيد من التفكير والبحث.  
ويطيب لنا أن نختتم حديثنا باقتباس من كتاب التخلّف الاجتماعي للدكتور مصطفى حجازي، حيث يقول فيه:

الاعتزاز بالأنا

في مساق بعنوان "معنى الحلم" أثناء دراستي للّقب الثاني في علم النفس، طُلب مني أن أسرد على المشاركين حُلُما من أحلامي، فما كان مني إلا أن تشبّثت بحُلُم واحد عزيز على قلبي لعظم معانيه وارهاصاته. بدأت حديثي حينما قلت أني قبل أن أدخل في تفاصيل الحلم، أودّ أن أعطي خلفية ومُقدّمة تساعد المحاضِرَة والطلاب الآخرين على فهم الحلم بصورة أفضل، فأنا العربي الوحيد بين الآخرين اليهود. أخذت أحدّثهم عن صلاة الجمعة ومبناها الأساسي، وكيف أنها تتكوّن من خطبتين، وما يليها من صلاة خلف الإمام والذي نتبعه بحركاته، وبيّنت أنه هو الذي يقرأ القرآن وقت صمت واستماع الجميع لتلاوته. كل تلك كانت مُقدّمة ضرورية للحلم الذي حدث في المسجد أثناء صلاة الجمعة. ثم أخذت أسرد الحلم، وخلال سردي له، كانت تأتيني أسئلة، تُظهر اهتمامهم بما أقوله، لدرجة أن تركيزهم ومحاولتهم لفهم ومعرفة المزيد عن الثقافة المختلفة، زادت من اعتزازي باعتزازي، وتركتني مع شعور بالافتخار والبهجة، وشعرت للحظة وكأنني مندوب أو ممثّل عن الأمة العربية كلها. ما أحسن هذا الشعور عندما تكون مفتخرا بذاتك بين المُختلفين! ما أحسن هذا الشعور عندما تشعر أنك المندوب عن الأمة العربية كلها وتُحسن عكس الصورة الواقعية دون خجل أو إخفاء!     

إنه الأنا المُختلف الذي يتواجد بين كثافة الأنا الأخرى والذي يقول أنا هنا موجود وأنا مُختلف وأفتخر باختلافي وأفتخر بأصلي وأفتخر بتاريخي وبعروبتي وبمن أنا، كما أنتم تفتخرون بأناكم وبتاريخكم ولربما أكثر بحاضركم. يمكن لهذا الاختلاف والاعتزاز والاعتداد أن يُساهم في تبادل الخبرات والثقافات وبالتالي يجعل الآخر منكشفا ومنفتحا على وجهة النظر الأخرى، فلا يعود الآخر مُبهما، غامضا، غير موجود وانما يصير مفهوما وموجودا! ان هذا التلاقي يُمكن أن يؤدّي الى التقريب بدلا من الإبعاد، اذا تحرّرت العقول من القوالب ومن الأفكار المُسبقة ومن الكراهية المزروعة، فإظهار الاستعداد لسماع وجهة نظر الآخر حتى النهاية والإنصات لها بكل شغف وحبّ مهما كان جنس صاحبها، أصله وفصله، يؤدّي بالنهاية الى البحث عن المشترك الإنساني (وما أكثره) والى حب الاستطلاع لفهم وربما تعلّم الأشياء المُختلفة.  

قصص النجاح

ان مبالغة التنمية البشرية في عرض قصص النجاح للجماهير، ساهمت في خلق مفاهيم مغلوطة وتأثيرات سلبية، على عكس الهدف المرجو منها، فتلك القصص تعرض في الغالب نجاحا فرديا لشخص كان يعيش في ظروف صعبة. الا أن اصراره واستخدامه لمفاتيح النجاح، فجّرا طاقاته الكامنة وأخرجاه في مشروع انساني خلّاق. لكن هل فكّرنا في تعريف النجاح المقصود؟! ان النجاح الذي تعرضه تلك القصص هو في الغالب نجاح فردي ومادي، وهو خارق للعادة بمعنى أن الأقلية هم من يحالفهم الحظ ليكونوا من الناجحين بالمعنى المقصود. والأسئلة التي تُطرح كثيرة في ظل هذا التعريف: هل النجاح مادي فقط؟ ماذا مع النجاح الروحاني؟ ماذا مع النجاح الفكري (أن تكون مُفكّرا حقيقيا)؟ ماذا مع النجاح الثقافي (أن تكون مثقّفا حقيقيا)؟ ماذا مع النجاح العاطفي؟ وهل النجاح الذي يهمّنا هو فردي أم جماعي أم كلاهما؟ ماذا مع النجاح الجماعي الذي يصبّ في مصلحة العائلة\البلد\الشعب\الأمة، هل له وجود في تلك القصص؟ لماذا يُصوّر النجاح أنه ملك الأقلية وأنه صعب المنال وأن النجاح في تحقيق هدف صغير (صغير في النظرة المادية، كبير بأعين صاحبه) لا يُعدّ نجاحا يستحق أن يُسطّر من خلال تلك القصص؟ واضح لنا أن مفهوم النجاح قد تأثّر من النظرة الغربية المادية، الفردية وبالتالي يمكن التفكير بأنّ الأقلية الناجحة تسعى للحفاظ على هيمنتها على النجاح، ولذا فهي تعرضه على أنه صعب المنال وأنه من اختصاص الأقلية المحظوظة وأن نجاحا صغيرا لا يُعدّ نجاحا يستحق الإعجاب والتقدير، وهذا بحد ذاته نوع من الاستعمار.
اشكال آخر مع قصص النجاح هو عرض الواقع بصورة غير واقعية، فالقارئ لقصص النجاح يخال نفسه متواجدا في عالم وردي، فينطلق متحمّسا (كتأثير قصير الأمد) ليُطبّق ما تعلّم من تلك القصة، فإذا بالواقع المُركّب يصدمه ويعاكسه ولربما يرفضه، ما يؤدي الى أن يُصاب بيأس وإحباط كبيرين (التأثير بعيد الأمد)، ذلك أن توقّعاته، أحلامه وأوهامه انطلقت من عالم يعرض الواقع بصورة غير واقعية، لتصطدم بالواقع الذي لا يعرف قصص النجاح تلك.

لماذا ندّعي أن قصص النجاح تعرض الواقع بصورة غير واقعية؟ لأنها لا تعكس تركيبة الواقع والتنويعة الموجودة داخله، فهي تعرض قصص النجاح الفردي المادي الخارق للعادة، ولا تعرض نجاحات مرحلية، كما أنها لا تعرض الجانب الآخر: الفشل! لكي تكون الصورة واقعية، ينبغي عرض قصص النجاح الى جانب قصص الفشل، فالفشل يُعلّم أكثر من النجاح، إذ أنه يدفع الى إعادة النظر والى البحث والى تحريك التفكير الإبداعي، أما النجاح فيُعرض بصورة سلبية (passive)، والمستمع لا يحتاج الى أن يُعمل عقله كثيرا وانما يكفيه أن يُقلّد ما فعله السابقون علّه يكون من اللاحقين. 

تحت الطلب!

ان هذا المطبّ واقع فيه كثير من الناس، فالكل يواجههُ في حياته، ويمكن أن يكون الواحد واعيا له أو غير واعٍ. انه صراع ما بين الوجود الذاتي وما بين الوجود الجمعي في أصله، وهو يأخذ صورا وأشكالا عديدة، وهنا سأتناول الحديث عن واحد منها. ان هذا الصراع الوجودي يُثير تساؤلات عميقة في النفس الانسانية: هل مصلحتي الوجودية مُقدّمة على المصلحة الجمعية أم أن المصلحة الجمعية مُقدّمة؟ أم أن كلاهما في نفس المقام من حيث الأهمية؟ ان التعبيرات عن هذا الصراع الوجودي كثيرة في حياتنا، فالأم يمكن أن تقول لأولادها في ساعة غضب: "حرمت حالي من كل شيء من أجلكم"، أي أنها قدّمت المصلحة الجمعية (العائلة) على مصلحتها الذاتية. ويمكن أن يفكّر الواحد: هل يهمّني نهوضي الشخصي وبالتالي أضحّي بالغالي والنفيس من أجل تطوير نفسي، فهمها أكثر، تثقيفها وكل ما يتّصل ببنائها، أم تهمّني نهضة الأمة، تطوّرها وتثقيفها أم أن الاهتمام الأول يخدم الثاني أم أن الثاني يخدم الأول أم كلاهما متواجد في نفس الوقت؟
لكنّ شكل نفس هذا الصراع الوجودي الذي أريد أن أتحدّث عنه هنا هو آخر. انه يتمحور حول من يبيعون أنفسهم للجماهير وبالتالي ينساقون لرغباتهم ولما يحبّ أن يسمعه الجمهور، تاركين بذلك رسالتهم الشخصية وما يودّون ايصاله وربما الحقيقة وراء ظهورهم. انه تنكّر للوجود الذاتي وانسياق وراء الوجود الجمعي في الظاهر، لكن اذا عمّقنا النظر في هذه الظاهرة نكتشف أن العكس هو الصحيح. فذلك الشيخ أو العالم أو الفنان أو الكاتب أو الناقد الذي يُسمع جمهوره ما يودّون سماعه وما يطمئنون إليه من مثل: "والله انكم خير الناس، بحبكم"، "النصر حليفنا وكل من يعادينا سيذهب الى مزابل التاريخ"، يظهر وكأنه حريص على الوجود الجمعي أكثر من حرصه على الوجود الذاتي، إلا أن وجوده الذاتي في الحقيقة هو الأهم وهو المقدّم في نظره، إذ أن هذه التعابير الشاعرية الشعبية التي تُحبّ الجماهير سماعها، تهدف الى تنمية شهرته وتعظيم تقديره وحبّه بين الجماهير، ولو كان ذلك على حساب خداع الناس وعلى حساب اخفاء الحقيقة عنهم والمساهمة في تغفيلهم وابقائهم على جهلهم! ان هؤلاء يمكن تسميتهم: "مشايخ\علماء\فنانون تحت الطلب"، فإن ثار الناس ثاروا، وان خمد الناس خمدوا، مما يُولد فيهم تلوّنا ونفاقا، تستطيع الجماهير أن تلمسه بعد وقت طال أو قَصُر.     

لكنّ من يقوم فيُعلنها مخالفا لرأي الأغلبية (لأنه يرى أن الصواب مُختلف وليس لغرض الخلاف)، يُتّهم بأنه "مجنون" أو "مارق" أو "زنديق"، ويُرمى باللعنات والضربات أحيانا، ولو كان صادقا في قوله! ويُتّهم أنه يريد مصلحته الشخصية وأنه يريد البروز على حساب تفريق الجماهير وتمزيق وحدتهم وأنه يهدف الى إثارة الفتنة. أي أنه يُتّهم بتفضيل وجوده الذاتي على الوجود الجمعي، رغم أنه في الحقيقة (ان كان صادقا في نيته) يسعى الى التضحية بوجوده الذاتي (هو يعلم أنه سينال وابلا من الشتائم واللعنات ولكنه يُضحّي بنفسه) في سبيل الوجود الجمعي (احداث تغيير في المجتمع الغافل)، وان ظهر ذلك في البداية على أنه سيفتح المجال لإثارة الفتنة وللإخلال بالنظام، إلا أن السبات لا يمكن أن يستمرّ، ولا بد لمن يقوم بوظيفة ايقاظ وتوعية الجماهير، وذلك سيتطلّب مجهودا ووقتا وربما ازهاقا لأرواح، لكنّ النتيجة المرجوّة تصبّ في المصلحة الجمعية.