12.4.14

تحت الطلب!

ان هذا المطبّ واقع فيه كثير من الناس، فالكل يواجههُ في حياته، ويمكن أن يكون الواحد واعيا له أو غير واعٍ. انه صراع ما بين الوجود الذاتي وما بين الوجود الجمعي في أصله، وهو يأخذ صورا وأشكالا عديدة، وهنا سأتناول الحديث عن واحد منها. ان هذا الصراع الوجودي يُثير تساؤلات عميقة في النفس الانسانية: هل مصلحتي الوجودية مُقدّمة على المصلحة الجمعية أم أن المصلحة الجمعية مُقدّمة؟ أم أن كلاهما في نفس المقام من حيث الأهمية؟ ان التعبيرات عن هذا الصراع الوجودي كثيرة في حياتنا، فالأم يمكن أن تقول لأولادها في ساعة غضب: "حرمت حالي من كل شيء من أجلكم"، أي أنها قدّمت المصلحة الجمعية (العائلة) على مصلحتها الذاتية. ويمكن أن يفكّر الواحد: هل يهمّني نهوضي الشخصي وبالتالي أضحّي بالغالي والنفيس من أجل تطوير نفسي، فهمها أكثر، تثقيفها وكل ما يتّصل ببنائها، أم تهمّني نهضة الأمة، تطوّرها وتثقيفها أم أن الاهتمام الأول يخدم الثاني أم أن الثاني يخدم الأول أم كلاهما متواجد في نفس الوقت؟
لكنّ شكل نفس هذا الصراع الوجودي الذي أريد أن أتحدّث عنه هنا هو آخر. انه يتمحور حول من يبيعون أنفسهم للجماهير وبالتالي ينساقون لرغباتهم ولما يحبّ أن يسمعه الجمهور، تاركين بذلك رسالتهم الشخصية وما يودّون ايصاله وربما الحقيقة وراء ظهورهم. انه تنكّر للوجود الذاتي وانسياق وراء الوجود الجمعي في الظاهر، لكن اذا عمّقنا النظر في هذه الظاهرة نكتشف أن العكس هو الصحيح. فذلك الشيخ أو العالم أو الفنان أو الكاتب أو الناقد الذي يُسمع جمهوره ما يودّون سماعه وما يطمئنون إليه من مثل: "والله انكم خير الناس، بحبكم"، "النصر حليفنا وكل من يعادينا سيذهب الى مزابل التاريخ"، يظهر وكأنه حريص على الوجود الجمعي أكثر من حرصه على الوجود الذاتي، إلا أن وجوده الذاتي في الحقيقة هو الأهم وهو المقدّم في نظره، إذ أن هذه التعابير الشاعرية الشعبية التي تُحبّ الجماهير سماعها، تهدف الى تنمية شهرته وتعظيم تقديره وحبّه بين الجماهير، ولو كان ذلك على حساب خداع الناس وعلى حساب اخفاء الحقيقة عنهم والمساهمة في تغفيلهم وابقائهم على جهلهم! ان هؤلاء يمكن تسميتهم: "مشايخ\علماء\فنانون تحت الطلب"، فإن ثار الناس ثاروا، وان خمد الناس خمدوا، مما يُولد فيهم تلوّنا ونفاقا، تستطيع الجماهير أن تلمسه بعد وقت طال أو قَصُر.     

لكنّ من يقوم فيُعلنها مخالفا لرأي الأغلبية (لأنه يرى أن الصواب مُختلف وليس لغرض الخلاف)، يُتّهم بأنه "مجنون" أو "مارق" أو "زنديق"، ويُرمى باللعنات والضربات أحيانا، ولو كان صادقا في قوله! ويُتّهم أنه يريد مصلحته الشخصية وأنه يريد البروز على حساب تفريق الجماهير وتمزيق وحدتهم وأنه يهدف الى إثارة الفتنة. أي أنه يُتّهم بتفضيل وجوده الذاتي على الوجود الجمعي، رغم أنه في الحقيقة (ان كان صادقا في نيته) يسعى الى التضحية بوجوده الذاتي (هو يعلم أنه سينال وابلا من الشتائم واللعنات ولكنه يُضحّي بنفسه) في سبيل الوجود الجمعي (احداث تغيير في المجتمع الغافل)، وان ظهر ذلك في البداية على أنه سيفتح المجال لإثارة الفتنة وللإخلال بالنظام، إلا أن السبات لا يمكن أن يستمرّ، ولا بد لمن يقوم بوظيفة ايقاظ وتوعية الجماهير، وذلك سيتطلّب مجهودا ووقتا وربما ازهاقا لأرواح، لكنّ النتيجة المرجوّة تصبّ في المصلحة الجمعية.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق