23.5.12

إما معي وإما عَلَي!



إذا سئلت أحدا من أبناء مجتمعنا العربي التقليديين: ما هو رأيك في الفلسفة؟ فلربما سيرد عليك: هي تفاهة وكلها إلحاد ولا خير فيها!

وإن سألت شيخا تقليديا: هل يجوز إجراء مقابلة تلفزيونية مع طبيبة لأخذ رأي الأطباء في قضية الإجهاض؟ فإنه لربما سيرد عليك بالنفي والتحريم المُطلق! أليست القضية تحتاج إلى تفصيل؟ ولماذا الإطلاق في الحكم إن كان الأمر يستوجب النظرة النسبية؟

إن المجتمع العربي ورغم محاولاته الإتجاه إلى التحضّر فإنه ما زال يعكس سياسة "إما معي وإما عَلَي"، وهي أسهل الطرق للتعامل مع الواقع ولكنها من أخطر الطرق، إذ وفقا لهذه النظرة يقوم الشخص بتشطيب الغير مرغوب به في حياته مهما كان المجال الملغي شاسعا ومهما كان الخلل الذي وجده في المجال الملغي صغيرا، فيقوم مثلا بإلغاء الفلسفة من حياته لأنه سمع من شخص ما أنها تحوي بعض المفكّرين الملحدين، أو يقوم بإلغاء شخص ما لأنه رأى منه تصرّف لا يريق له أو سمع منه قولا يختلف معه! هذه النظرة للعالم نابعة من التفكير الأبيض-الأسود، بحيث أن الإنسان يرى الواقع حوله بهذين اللونين، وكما يبدو لكل عاقل أنها ليست النظرة الصائبة للواقع لأن الحياة مُلوّنة وليست بيضاء أو سوداء، وقد آن للمجتمع العربي أن يُغيّر نظارته كما غيّر التلفاز والهاتف المحمول ليعرض ألوانا كثيرة. إن نظرة "إما معي وإما عَلَي" تودي بالإنسان إلى الفكر الضيّق فهو بذلك يلتفت عن كثير من المغامرات والتجارب الحياتية حوله، مما يزيده فكرا أبيضا أسودا، وهذا يصل بالفرد إلى المزيد من نظرة "إما معي وإما عَلَي" وإلى المزيد من التفكير الضيّق، فيبتعد الإنسان عن الواقع تدريجيا، وهكذا دواليك، لأنه يدخل بدوامة يصعب عليه الخروج منها.

إن هذا الكلام يحتمل الظاهرتين المتناقضتين وهما: المبالغة في القبول والمبالغة في الرفض. ولو فهم أولئك معنى وحقيقة الوسطية لما انحدروا إلى تلك المطبّات، فكما هو معلوم ليس هناك بشر معصوم وكل إنسان مُعرّض لأن يُخطئ مهما علا قدره ومهما عظم علمه، بإستثناء الأنبياء والمرسلين، ولذا فإن كل إنسان وكل إنتاج بشري له حسناته وسلبياته، بحيث أن الكمال لله وحده، ولهذا فإنه من غير المنطقي الحكم على الأشخاص أو أي إنتاج بشري بالقبول المُطلق (التقديس) أو الرفض المُطلق (الإلغاء)، ولذا لا بدّ من إعادة النظر عند إطلاق الأحكام القاطعة والحاسمة (דיכוטומית).

والإطلاق الحاسم يتمثّل بكلمات مثل: "دائما"، "على الأطلاق"، "خطأ بالتأكيد"، "صحيح في كل حال"، وغيرها، وأنا لست أُنكر هنا أن هناك أمورا مُطلقة ولكنها قليلة نسبيا، فعلى سبيل المثال: "الله موجود، وقدرته مطلقة" هي حقيقة مطلقة لا تحتمل النسبية. أما النسبية فإنها تدرس القضية بتفصيل ودقة وتضع الإيجابيات والسلبيات على الميزان، فتقول مثلا أن الكذب حرام ولكن في حالة كذا وكذا فهو جائز ولكن بشرط كذا وكذا، وهذا المفكّر ورغم تواجد كثير من الأفكار السلبية والغير مرغوب بها عنده، إلا أننا نجد أمورا إيجابية في سيرته. إنها النظرة التي تصطاد من بحر كل شيء ما يلائمنا وينفعنا ولا تسكب كأس الشاي لمجرد سقوط حبة سمسم داخلها، وهي الطريقة الأنجع للتعامل مع الواقع ولكنها تحتاج إلى النظرة الواسعة التقييمية النقدية، ولذا فإن أنجع إجابة ستكون عند طرح قضية شائكة هي: "يتعلّق بأمور أخرى"(תלוי)، وتعابير مثل "أحيانا"، "غالبا"، "بشرط"، "عادة" وغيرها تكون عادة أكثر ملائمة للواقع، ومن الصعب نقضها لأنها نسبية وغير مُطلقة.