30.5.12

إنسحاب تراجعي أم تقدّمي ؟!



كثير من الإسلاميين يُعلنون الإنسحاب من دنياهم بحجة تواجد أهل الضلال في الحيز المقصود، فتراهم يهجرون الكرنفالات الوطنية أو الشعبية أو الفكاهية أو الثقافية أو العلمية بسبب إرتقاء فتاة غير محجّبة إلى المنصة، وتراهم يعلنون مقاطعة كل فعالية إجتماعية تحوي أي منكر في عالم يلحق وراء الغرب، وتراهم بذلك يُضيّقون على أنفسهم وبذلك ينحصر إطار معيشتهم، لا بل وتجد من الإسلاميين من يُحرّم الذهاب إلى مهرجانات إسلامية بحتة من شأنها أن تشحذ الهمم وتقوّي العزيمة ولكنّهم يقولون لك هذه موسيقى وهذا إيقاع حرام !!! فهل هذا هو الطريق إلى الهاوية؟! وهل إنسحاب كهذا يساهم في إعادة السيادة الإسلامية أم يُخفيها من على وجه البسيطة ويبقي حضارة الإسلام في المساجد كما بقيت المسيحية في الكنائس؟! 


أولا وقبل كل شيء يجب أن نفصل في هذه الأيام بين مصطلحين مهمين، المصطلح الأول هو "الإسلام" والثاني "الإسلاميون"، فليس المسلمون على حالهم اليوم يجسّدون رحمة الإسلام للعالمين ولا عظمته في الترغيب والترهيب ولا وسطيته إلا من رحم ربي. كان لا بدّ لهذين المصطلحين أن يبقيا متطابقين متلاصقين إلا أنّهما ابتعدا الواحد عن الآخر واتسعت الهوة بينهما ولذا وجب التشديد على هذه الملحوظة .

الإنسحاب ينقسم إلى قسمين : الإنسحاب التراجعي والإنسحاب التقدّمي . الإنسحاب التراجعي يعني التنصّل من واقع الحياة وإعلان المقاطعة لأمور من شأنها أن ترفع المستوى الثقافي والعلمي والوطني للمجتمع بأسره . فما أكثر الأمثلة في هذا الصدد بمجتمعنا وما أكثر الإنسحابات التراجعية ! ولتوضيح الصورة نتناول قضية شائكة ومهمة وهي قضية خروج الشابة للتعليم الجامعي في معزل عن أهلها وعن بلدها، والحقيقة أننا نسمع في هذه المسألة كثير من الأقوال ولكن إذا ما أردنا أن نفكّر في حرمان البنت من طلب العلم بسبب البعد عن عين الأهل السهرانة، نخلص إلى أنّ هذا هو إجرام بحق الفتاة المسلمة، فما هو ذنب الفتاة التي تهوى الطب لتُمنع من دراسته وبذلك يتحطّم حلمها ؟! وما هو ذنب هاوية المحاماة أو علم النفس أن لا تستثمر قواها العقلية في سبيل تحقيق ذاتها وإفادة مجتمعها من حولها ؟! وهل نستغني في هذه الأيام عن طبيبة نساء أو محامية أو مصوّرة أو طبيبة نفس ؟! هل بحكم كونها أنثى وبحكم قيود المجتمع فإنها مجبورة على تحطيم كل الآمال والدوس عليها بقدميها ؟! وهل بحكم كون الجامعة ملتقى العشّاق فإنّ البنت العفيفة يجب أن تقاطعها ؟! نحن لا نفتي بجواز أو تحريم خروج الفتاة إلى التعليم الجامعي ولكن نقول أنّ للأنثى حق في أن تطلب العلم المتاح لها كما للذكر الحق في ذلك وليس من العدل سحب الفتاة من الجامعة بسبب الفساد فيها والبعد عن مجهر المراقبة، وليس من العدل إنسحاب تلك الفتاة الطاهرة من حب العلم لحجة الإختلاط فالمجتمع في هذه الأيام أشبه بالسلطة التي تأبى عناصرها أن تتنافر ولا ينحصر هذا الإختلاط في موقف واحد ووحيد .

بالإضافة إلى ذلك، فإننا نرى أنّ هذه الحجة واهية لأنّ التربية المبكّرة على الأخلاق الحميدة من شأنها أن تغرس في الفتاة حب الدين وحب العفة والطهارة والأهم من ذلك غرس مراقبة الخالق جل وعلا في شخصية الفتاة منذ الصغر وليس مراقبة المجتمع أو الأب أو الأم وهي ما تُعرف أيضا بالمراقبة الذاتية. المشكلة الكبيرة في تربية أبنائنا أننا نقوم بعرض الطريق الصحيح أمامهم ولكننا نفتقد إلى العنصر المكمّل وهو عرض الممنوع وعلّة منعه وعرض الحرام وعلّة تحريمه، وربما يكون هذا الإقتصار من خجل المجتمع العربي . لكن في المقابل , لا يخفى علينا أنّ للبيئة المحيطة أثر كبير على نفس الشاب والشابة وفي بيئة الحرية والإستقلالية يمكن لأي تقي أن ينجر وراء الركب إن لم يمسك الجمرة التي في يده بقوّة، ولربما الإنتقال المفاجئ من مجتمع محافظ إلى مجتمع ليبرالي من شأنه أن يُثير الغرائز . هذه المسألة جدّ شائكة ولذا كان واجبا علينا أن نخترع الحلول التي توفّق بين طلب العلم والمحافظة على عفة وطهارة الفتاة المسلمة والشاب المسلم، وكعادتنا نقترح دراسة هذه المواضيع المحيّرة في ندوات تضمّ متخصصين من شتى المجالات بمن فيهم رجال دين، علماء نفس، علماء إجتماع وغيرهم، وليس أن نلغي مستقبل بناتنا بكلمة واحدة دونما دراسة وبحث . أما أن نحرم البنت من طلب العلم للمحافظة عليها من وساوس شيطانية فهذا هو مثال للإنسحاب التراجعي . إن تناولنا لهذه القضية بشكل خاص للإناث هو بسبب أنها تتواجد كثيرا في أجندة المجتمع العربي والإسلامي وكثيرا ما تعلو من وراء الكواليس، أما الذكور فإنهم معفيون من هذه الحسابات ولا ندري لماذا، فالشاب كالشابة مُعرّض أيضا للإغراءات وحتى أنه مُعرّض أكثر من الفتاة.

وللإنسحاب التراجعي سلبيات، منها: الإنسحاب من مجالات الحياة الُمباحة وبذلك إخلاء المجال لأهل الضلال ليبثّوا ضلالاتهم، وبالتالي التقليل من ظهور الإسلام وحصره في المساجد ودور العبادة، مما يُضعف تأثيره على المجتمع، والأوجب هو الدخول في كل المجالات المُباحة حتى يتم إتقان كل فنّ من فنون الحياة على حده، لأننا عندها ندمج الإسلام المتمثّل بالمسلمين الحقيقين في مُعترك الحياة التي تشمل الحق والباطل، الشر والخير، وعندها يمكن أن نتوقّع عودة السيادة الإسلامية. إضافة إلى هذا التأثير العام على الأمة كلها، فهناك تأثير سلبي على الأفراد لأنهم بذلك يشعرون أنهم مُقيّدون، مما يدفع بالبعض إلى الإتجاه إلى الأمور المُحرّمة، لأنهم لا يجدون تلك الفسحة والرحمة التي هي من سمات الإسلام الصحيح. من هنا واجب علينا أن نترك الإنسحاب التراجعي لإسقاطاته السيئة وأن نلتزم بالإنسحاب التقدّمي لإسقاطاته الحسنة.

أما الإنسحاب التقدّمي فهو يعني التنصّل وترك الأشياء المُحرّمة بشكل قطعي، لأنها لن تُساهم في تقدّم المجتمع وإنما في تدميره، لذلك فإن تركها يُعتبر تقدّما. ولقد اسميناه بالإنسحاب لأنه فعلا انسحاب وترك لبعض من الأمور التي يرتادها كثير من الناس ولكنها لا يجب أن تشدّنا أو تجذبنا إليها لأننا نؤمن أنها لن تنفعنا في الدنيا ولا في الآخرة وإن ظهر فيها نفع مؤقّت، ولذلك فهو تقدّمي لأن هذا الترك سيكون خيرا وإن بدا في ظاهر الأمر أنه تقييد. والأمثلة على مثل هذا الإنسحاب المطلوب كُثُر: الإنسحاب من شرب الخمر، من إرتكاب الزنى، من السرقة، من المراقص الليلية وغيرها الكثير، والعجيب في الأمر أن مقابل كل حرام هناك حلال مشابهة له ولكنه مختلف ومُفيد: فمقابل شرب الخمر هناك شرب ما لذّ وطاب من المشروبات الأخرى والعصائر، ومقابل الزنى هناك الزاوج، ومقابل السرقة هناك الكسب الحلال، ومقابل المراقص الليلية هناك السهرات العائلية الراقية. وفقا للرؤية الإسلامية فإن الله قد حرّم هذه الأمور لأنه هو أخبر بنا من أنفسنا لأنه خلقنا، ولذا فهو يعلم جل وعلا أنها لن تنفعنا في الدنيا ولا في الآخرة، فالخمر مثلا حرام لأنه يضر بالإنسان في الدنيا فهو يُبعد الإنسان عن الواقعية ويُغيّب زينته ألا وهي العقل وبالتالي يجرّه إلى فعل منكرات أخرى لأنه لا يدري ما يفعل في بعض الأحيان، كما أثبت العلم أضرارا أخرى للخمر كالتأثير السلبي الضار على النساء الحوامل وغيرها، وفي الآخرة ربما يمنعه من كسب رضى خالقه والفوز بالجنة والنجاة من النار لأنه لم يُطع أمره ولم يقف عند نهيه، وإنما خالف أمر خالقه! لذا فإن هذه الأمور المُحرّمة تعكس الشر الذي في العالم، مما يُوجب الإبتعاد عنها وتركها.

وللإنسحاب التقدّمي إيجابيات منها: أنه يُظهر تميّز المسلمين عن غيرهم وبالتالي يُساهم في إظهار الأفكار الإسلامية لتطفو فوق البحر، فيراها الجميع ناصعة، ولربما سيُعجب بها الكثيرون لأنها تتلاءم مع الفطرة الإنسانية. كما أن ذلك يُبرز قوة الإسلام وقوة الشخصية الإسلامية التي لا تتنازل عن مبادئها بسهولة ولا تركع ولا تخضع لغير الله، فإن أحسن الناس يُحسن المسلمون، وإن أساءوا نُحسن أيضا، وهذا يؤكّد أننا لسنا تَبَعا ولسنا عبيدا عند أحد من البشر ولسنا ننجرّ لأنّ عندنا دليل كل تائه ومُرشد كل حيران، ولسنا كذلك مُغلقين لأننا نأخذ ما ينفعنا في الدنيا والآخرة من الغير ونترك إليهم ما لا ينفعنا. إن الفهم الصحيح للإسلام والتقارب بين مصطلحي "الإسلام" و "المسلمين" يتحقّق عند ترك الإنسحاب التراجعي والأخذ بالإنسحاب التقدّمي.


23.5.12

إما معي وإما عَلَي!



إذا سئلت أحدا من أبناء مجتمعنا العربي التقليديين: ما هو رأيك في الفلسفة؟ فلربما سيرد عليك: هي تفاهة وكلها إلحاد ولا خير فيها!

وإن سألت شيخا تقليديا: هل يجوز إجراء مقابلة تلفزيونية مع طبيبة لأخذ رأي الأطباء في قضية الإجهاض؟ فإنه لربما سيرد عليك بالنفي والتحريم المُطلق! أليست القضية تحتاج إلى تفصيل؟ ولماذا الإطلاق في الحكم إن كان الأمر يستوجب النظرة النسبية؟

إن المجتمع العربي ورغم محاولاته الإتجاه إلى التحضّر فإنه ما زال يعكس سياسة "إما معي وإما عَلَي"، وهي أسهل الطرق للتعامل مع الواقع ولكنها من أخطر الطرق، إذ وفقا لهذه النظرة يقوم الشخص بتشطيب الغير مرغوب به في حياته مهما كان المجال الملغي شاسعا ومهما كان الخلل الذي وجده في المجال الملغي صغيرا، فيقوم مثلا بإلغاء الفلسفة من حياته لأنه سمع من شخص ما أنها تحوي بعض المفكّرين الملحدين، أو يقوم بإلغاء شخص ما لأنه رأى منه تصرّف لا يريق له أو سمع منه قولا يختلف معه! هذه النظرة للعالم نابعة من التفكير الأبيض-الأسود، بحيث أن الإنسان يرى الواقع حوله بهذين اللونين، وكما يبدو لكل عاقل أنها ليست النظرة الصائبة للواقع لأن الحياة مُلوّنة وليست بيضاء أو سوداء، وقد آن للمجتمع العربي أن يُغيّر نظارته كما غيّر التلفاز والهاتف المحمول ليعرض ألوانا كثيرة. إن نظرة "إما معي وإما عَلَي" تودي بالإنسان إلى الفكر الضيّق فهو بذلك يلتفت عن كثير من المغامرات والتجارب الحياتية حوله، مما يزيده فكرا أبيضا أسودا، وهذا يصل بالفرد إلى المزيد من نظرة "إما معي وإما عَلَي" وإلى المزيد من التفكير الضيّق، فيبتعد الإنسان عن الواقع تدريجيا، وهكذا دواليك، لأنه يدخل بدوامة يصعب عليه الخروج منها.

إن هذا الكلام يحتمل الظاهرتين المتناقضتين وهما: المبالغة في القبول والمبالغة في الرفض. ولو فهم أولئك معنى وحقيقة الوسطية لما انحدروا إلى تلك المطبّات، فكما هو معلوم ليس هناك بشر معصوم وكل إنسان مُعرّض لأن يُخطئ مهما علا قدره ومهما عظم علمه، بإستثناء الأنبياء والمرسلين، ولذا فإن كل إنسان وكل إنتاج بشري له حسناته وسلبياته، بحيث أن الكمال لله وحده، ولهذا فإنه من غير المنطقي الحكم على الأشخاص أو أي إنتاج بشري بالقبول المُطلق (التقديس) أو الرفض المُطلق (الإلغاء)، ولذا لا بدّ من إعادة النظر عند إطلاق الأحكام القاطعة والحاسمة (דיכוטומית).

والإطلاق الحاسم يتمثّل بكلمات مثل: "دائما"، "على الأطلاق"، "خطأ بالتأكيد"، "صحيح في كل حال"، وغيرها، وأنا لست أُنكر هنا أن هناك أمورا مُطلقة ولكنها قليلة نسبيا، فعلى سبيل المثال: "الله موجود، وقدرته مطلقة" هي حقيقة مطلقة لا تحتمل النسبية. أما النسبية فإنها تدرس القضية بتفصيل ودقة وتضع الإيجابيات والسلبيات على الميزان، فتقول مثلا أن الكذب حرام ولكن في حالة كذا وكذا فهو جائز ولكن بشرط كذا وكذا، وهذا المفكّر ورغم تواجد كثير من الأفكار السلبية والغير مرغوب بها عنده، إلا أننا نجد أمورا إيجابية في سيرته. إنها النظرة التي تصطاد من بحر كل شيء ما يلائمنا وينفعنا ولا تسكب كأس الشاي لمجرد سقوط حبة سمسم داخلها، وهي الطريقة الأنجع للتعامل مع الواقع ولكنها تحتاج إلى النظرة الواسعة التقييمية النقدية، ولذا فإن أنجع إجابة ستكون عند طرح قضية شائكة هي: "يتعلّق بأمور أخرى"(תלוי)، وتعابير مثل "أحيانا"، "غالبا"، "بشرط"، "عادة" وغيرها تكون عادة أكثر ملائمة للواقع، ومن الصعب نقضها لأنها نسبية وغير مُطلقة.

20.5.12

الضوء الأزرق – رواية



إنها رواية يكتنفها الغموض، مليئة بالتفاصيل الدقيقة والحِكَم التي من شأنها أن تُضيف إلى الجانب المعلوماتي عند القارئ. إنها تدور بين شخصية الكاتب و"بري" بالأساس ولكون "بري" شخصية غير اعتيادية وتصرّفاته غير طبيعية فإن كل قول أو عمل يفتعله يجتذب حسين (الكاتب) لكي يفهمه، فحسين هو الباحث عن المعرفة بين حضارات مختلفة وبين شرق وغرب و"بري" هو المعلم المجنون أو المشرد أو أي صفة أخرى نطلقها على من لا نفهمهم. إن هذا الجنون يبدأ بالإنتقال تدريجيا إلى شخصية حسين ليقرر أن يكون انسانا غريبا متخفّيا لئلا يضطهده الناس، والصحيح أن من يريد أن يكون مُغيّرا أو مُجدّدا فعليه أن يكون شخصية إستثنائية ولكن هل واجب عليه التخفي أم محاولة التغيير؟! وهل عندما يكون استثنائيا فإنه يكون مجنونا لا يُحتمل وجوده بين العقلاء؟! ليس حتما ولا ينبغي كذلك أن يكون! الرواية تدور بين عالم شرقي ريفي وعالم غربي مُتحضّر، فالمكان مجنون والزمان كذلك لتقلّبهما، حتى أن سبب الفراق بين "بري" وحسين يكون على أتفه الأسباب! إنه دمج ما بين الفلسفة المنطقية وعالم الخرافات والأوهام! ولشدة الغموض ولكثرة الإنتقال في الزمان والمكان ولكثير التفاصيل والفلسفة والحِكَم، فإن هذا كله يحد من الحبكة القصصية ويجعل الرواية أقساما، بدل أن تكون وحدة متكاملة يصعب على القارئ الخروج منها! بإختصار من الصعب عيش الرواية ومن تجربتي الشخصية مع قرائتها كنت كلما فتحتها لأقرأها، أحاول استذكار آخر ما حصل وما قبله من مشاهد علّي أفلح في الدخول إلى أجوائها! 

أيقونة بلا وجه – رواية


إنها رواية تبدأ بأسى وتنتهي بأسى أكبر لتُظهر للقارئ تفاهة الأسى الأول الذي استمرّ سنينا، إنها رواية تُبرز قسوة الزمن على الأبرياء وقسوة أشدّ الناس قُربا على محبّيهم لا لشيء إلا لسدّ رغباتهم ولتحوّل مزاجهم! إنها رواية القهر المستمر، وهي رواية السجن بدون قضبان، وهي رواية تُجازي المخلص الوفي بالخيانة الأكثر مقتا، إنها ببساطة خدعة الحب!

نبوغ تلك المهزومة من أول الرواية إلى آخرها هي الضحية، لأنها اختارت أن تكون انسانا مُخلصا، فهي مذ أن دخل زوجها السجن كرهت عيشها وأدخلت نفسها في سجن وهمي، فلم تعرف للحياة طعما بغياب حبها الأكبر، ولم تُفارقها صور السجين في زنزانته لحظة من اللحظات طوال اثني عشر عاما، ولولا الطفل الذي تركه لها زوجها أمانة وأثرا من رائحته، لزادت حياتها جحيما على جحيمها! إن الصمود التي سطّرته نبوغ يعكس فعلا مدى نبوغها وعبقريتها في مواجهة أقسى الظروف لئلا تحيد عن هدفها الغامض، ورغم محاولات صديقتها وشقيقة روحها أحلام بثنيها عن عزمها وإقناعها بالتحرّر من عبودية السجين والبحث عن رجل آخر، إلا أن كل محاولاتها باءت بالفشل. إنها كانت تعيش حقا في أحلام ولذا فهي لم تُرد أن تترك صديقتها الغالية نبوغ بعيدة عن عالم الأحلام الجميل ومتقوقعة تحت قبعة الأسى التي فرضتها على روحها. أحلام تلك التي لا تعتقد بكون قلب أي امرأة يكتفي بحب رجل واحد، ولذا فلم تتذوّق يوما علاقة بين رجل وامرأة تدوم طويلا، على عكس صديقتها نبوغ التي لم تُفرّط بفارس حلمها رغم كل الشقاء!

إلا أن النهاية المرجوّة بعد خروج السجين من سجنه تتفجّر، وتنقلب الموازين، إذ أن الحلم الذي انتظرته نبوغ طويلا تحقّق جزئيا ولكنه لم يكتمل بفعل زوجها وإرادته! ويثور البركان الذي لم يكن مُتوقّعا عندما أعلنت نبوغ بوجه مستبشر لزوجها أنها حامل بطفل آخر، إلا أن زوجها يُقابل الإستبشار بإستنفار ويأمرها بإجهاض جنينها لكون السجن قد أفقده الأمل ولم يعد قادرا على استقبال حيوات جديدة! وتزداد الحمم البركانية انتشارا عندما تأتي لحظة الفضيحة لتجد نبوغ زوجها الذي ضحّت من أجله اثني عشر عاما من عمرها وصديقتها أحلام التي كانت شقيقة روحها على سرير واحد! أغلى شخصين في حياتها يخونانها، بعد أسى دام اثنا عشر عاما!

إن النهاية صدمة حقيقية لأن العدل قد انمحق في موازين الرواية، فتلك الشخصية التي ضحّت وكدّت، لاقت عذابا فوق عذابها، أما من عذّبها فلم يلتفت إلى جرحها النازف ولم يُقابل إحسان زوجته إلا بالخيانة التعيسة، وأحلام تلك المُخلصة لصديقتها تحوّلت إلى قطعة إغراء جنسية ليصل صدى فتنتها إلى زوج صديقتها! فالجزاء لم يكن من جنس العمل وأنياب الغدر تكشّفت لمن يُحسن لأحبابه وكل المصطلحات الخدّاعة: "الصداقة"، "الإخلاص"، "الحب" ظهرت على حقيقتها! إن هذه الأحداث المؤلمة عكست الشخصيات رأسا على عقب: فنبوغ صارت تُفكّر بالخيانة، وأحلام صارت تُفكّر بالحب الوحيد، والسجين نسي إخلاص وحب زوجته بثانية وخانها دون تردد.   

1.5.12

رواية "ألِف" في سطور


ينطلق المؤلّف باولو كويلو في روايته معلنا تمرّده على الروتين وعلى ضجيج الحياة المُمل، لينطلق في رحلة بحث عن ذاته! إنها الرحلة التي تُظهر له حقيقته عارية أمامه، وكأنه ينظر إلى نفسه ومكنوناتها بالمرآة، وهو ما يُطلق عليه أخصائيو النفس مصطلح "الوعي الذاتي".

يخرج باولو ثائرا على الحياة النمطية فيلتقي بمن ستأخذه إلى عالمه، ورغم أن عالمه معه إلا أنه لا يتمكّن من سبر أغواره بسهولة، ولا يكتشف الحقيقة إلا بعد أن يخرج مسافرا ويُقدم على خطوة لا تبدو أنها ضرورية، وبعد أن يلتقي بهلال. إنه لمن الغريب فعلا أن يخرج الإنسان في سفر طويل كهذا ليبحث عن ذاته ونفسه التي هي أصلا بين جنبيه! لكنّ هلال تكون فعلا هلالا في سماء أسطورته الشخصية وتُفلح في إعادته إلى معرفته بذاته وحقيقته. يصر باولو على افتعال المغامرات التي تبدو عبثية لأول وهلة والتي تُدخله أحيانا في مواقف محرجة كونه كاتبا مشهورا، لأنّ المجتمع يتوقّع منه الجدّية والرسميات وليس شخصية رجل يترك كل المسؤوليات ويغطس في مياه البحيرة، وبذلك فهو يتنكّر لكل تقييضات المجتمع المُبتذلة ويساهم في أن يعيش حياته كما تحلو له.

إن شخصية هلال هي شخصية مركّبة، تحمل تناقضات كثيرة، كونها تعرّضت لإعتداء جنسي في صغرها، مما أدى بها إلى التنكيل بأي رجل تلقاه، لكنّ لقائها مع باولو يوضح لها جانبا آخر لم تكن واعية له، وهو أنها هي نفسها كانت إحدى ضحايا إضطهاد الكنيسة في القرون الوسطى وأن باولو كان هو من ضمن من أسهموا في مصيرها المُفجع حين أحرقوها بحجة إقامة الدين، لأنها وقعت في حب باولو. ورغم ذلك يطلب منها باولو المغفرة فتغفر له وتصرّ على حبّه، إلا أن باولو يبقى مخلصا لزوجته حتى آخر الرواية.

إن عنصر الخيال لا يُفارق الرواية رغم الواقعية في طرح القضايا الكثيرة، ولكنّ الألف بحد ذاتها هي تلك اللحظة التي ترى فيها ما كنته سابقا، أي هي النقطة التي يتّحد فيها الزمان، وإن أردنا أن نقرّب الألف لشيء واقعي فإننا نشبّهها بـ "اختراق اللا واعي واستخراج الذكريات المنسية".  

وإن كنا قد تعلّمنا درسا من هذه الرواية، فإننا نتعلم أن لا ننبذ كل جديد بسرعة البرق، لأننا لا نعلم ما يخبّئ لنا من خيرات، فأن تحتقر شخصا من أوّل نظرة دون أن تدخل إلى عمقه، فهذا هو الخطأ بعينه، لأنّ كل إنسان هو كنز بحد ذاته، كما أن لكل منطقة على أرض هذا الكوكب لها أسرارها وعجائبها، فلا يجب الإستهانة بالغريب عني فقط لأنه ليس مثلي، فهذه نظرة فوقية إستعلائية لن تودي بالإنسان إلى اكتشاف الجديد وستبقيه أسير عالمه.

كتاب رحلة عقل: رحلة لكل عاقل!



"إنني أهيب بكل باحث عن الحقيقة، وكل متديّن يبحث عن يقين العقيدة، أن يقرأ هذا الكتاب قراءة متأنّية"، "إنه طرح جديد كل الجدة، يُعتبر ثورة في المفاهيم العلمية، وثورة في النظر إلى الدين" (د. أحمد عكاشة).

"عندما تتأمّل الوجود من حولك، انظر إليه كأنك تراه لأول مرة. إن الإعتياد على الأشياء التي حولنا يمثل حجابا بيننا وبين حقيقتها، يسمونه "حجاب الإعتياد"" (في الصفحات الأخيرة من الكتاب).

فعلا إن هذا الكتاب يأخذنا في رحلة تأمّلية عميقة لنرى ما حولنا وما بداخلنا بنظارات جُدد وبرؤية أوضح، وهو يتميّز بكونه دقيقا في لفظه، فعندما يكون العلم قد أثبت فإنه يقول ذلك، وعندما يكون قد عجز فإنه يُصرّح بذلك. وهو رحلة لأنه ينقلنا من محطة إلى أخرى: بدءا من فلسفة الإلحاد، مرورا بإكتشاف الإله، وانتهاءا بالربط العجيب بين الدين والعلم.


إن الصراع الذي يواجهه د. عمرو شريف (مؤلّف الكتاب) هو الصراع الذي يواجه كل عاقل في هذا الزمان وقد عرضه لنا في ثنايا الصفحات بمنتهى الصدق والشفافية، وبيّن لنا كم عانى في إخراج هذا الطرح للوجود، فمن جهة هناك المدّ الإلحادي الذي انتشر بقوة ليدخل إلى العالم العربي والذي يتّخذ العلم سلاحه الوحيد، ومن جهة أخرى هناك الخطاب الديني الذي أخذ يبتعد عن التفكير المنطقي العقلاني، فتناول النصّ ببساطته ونبذ البحث والفلسفة بحجة أن الدين يحوي كل ما نحتاج إليه. لهذا فإننا نرى د. عمرو يُحاول بكل جدية ليُعيد التآلف المتروك بين العلم والدين، لأنّ هذا هو الأصل، والدين الإسلامي يحث على ضرورة التفكير والتعقّل والبحث وطلب العلم، فالذي أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم النص الديني هو ربنا الذي أنعم على البشر بنعمة العقل والعلم، لذا فليس عجبا أن نجد إنسجاما بين النص الديني والإكتشاف العلمي وإنما العجب أن نجد تناقضا بين الإثنين. إن هذا الفهم الصحيح الراقي للدين من شأنه أن يجذب الناس إلى التديّن، لأنّ ذكريات اضطهاد الكنيسة في القرون الوسطى ما زالت تُلقي بالبشر بعيدا عن الدين خوفا منه. أما دين الفطرة، دين حقوق الإنسان، دين النظام، الرقاوة، الحضارة، دين المنطق، فهذا هو الطرح الذي سيؤثّر في عصر العلم والمعرفة وهو ما سيقلب الميزان لصالح المتديّنين. 


إن هذا الكتاب يحثّك على طرح الأسئلة التي لطالما خفت من طرحها والتي ما زال كثير من الإسلاميين يشكّكون ويطعنون بطارحها، إلا أنه في حقيقة الأمر أن البحث في هذه الأسئلة يودي بالإنسان إلى تقوية إيمانه بالله لأنّ الحجّة المنطقية تكون قد شغّلت تفكيره ودفعته إلى إيمان يقيني، وليس إيمان قولي وحسب، وبالتالي يُصبح الإنسان عندها قادرا أكثر على الصمود أمام التيارات التي تُعاكسه من تاركين للإيمان ومن ظروف قاسية من شأنها أن تشكّك الإنسان بحقيقة وجوده وحقيقة الكون. فأن تسأل: "هل الله موجود؟"، بدافع البحث عن الأدلة على وجوده، فهذا مطلوب وضروري ليكون إيمانك على بينة، لا مُجرد أن تقول كما قال آباؤك.


خلاصة القول أن هذا الكتاب هو ثروة للعالم العربي والإسلامي لأنه يُطلعنا على آخر ما توصّلت إليه الحضارة الغربية من اكتشافات وفلسفات وهذا ضروري لكي نلائم خطابنا الديني لعصر العلم والمعرفة ونُغنيه بأقوال فلاسفة أيقنوا الحق بعد بحث عميق في معنى الوجود ومعنى الحياة والكون، وأخيرا نقول أن الإيمان المبني على بحث هو أقوى وأمتن من الإيمان الذي استقبله الشخص على طبق من ذهب.