19.6.14

بدايات نفسية



وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

نقطة الإنطلاق هي أن الله هو خالق هذا الكون، الذي يُبهر الناس بعجائبه على مدى الأيام، كما أنه هو الله خالق الإنسان بجميع مركباته النفسية والجسدية، وهذا مما لا شك فيه، ولذا كان من البديهي أن يكون خالق الإنسان هو أعلم العالمين به وبنفسه الإنسانية، لأنه هو الله الذي خلقه من حمأ مسنون.

إن الله عندما خلق بني آدم، كرّمهم على سائر المخلوقات بالعقل البشري وبروحه، ولكن يجب أن يعلم الإنسان أن عقله الذي يتفضّل به على مملكة الحيوان والنبات، هو من صنع الله! ومهما علت قدرات الإنسان العقلية والتفكيرية، ومهما بلغ حجم علمه، فإنه قطرة في بحور علم الله، وهذه الفكرة أشار إليها القرآن الكريم، عندما قال الله تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، فقد جاء في تفسير هذا الجزء من آية 85 في سورة الإسراء، في مختصر تفسير إبن كثير: "وما أطلعكم من علمه (أي علم الله) إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى، والمعنى أن علمكم في علم الله قليل".

لذا مهما بلغ علم الإنسان ومهما تطاول في العلم عامة وفي علم النفس الإنسانية خاصة، فإنه يبقى ناقصا وبعيدا عن الكمال، لأن علم الإنسان محدود مقارنة بعلم الله. أنا هنا لا أنكر أي من التقدمات العلمية العظيمة في نظر الإنسان، ولكني أقول أن الإنسان لا يملك إلا الجزء القليل من العلم، فدائرة العلم هي أوسع مما نتخيّل، ولا يمكن للعقل البشري أن يستوعب أكثر مما أذن الله له به، وربما أن من رحمة الله بنا أن رزقنا هذا العلم القليل في ميزانه. لذا كان على الإنسان أن يكون متواضعا في علمه مهما بلغت درجته ورتبته في العلم، وكما يُقال فإن فوق القوي من هو أقوى منه وكذلك فوق العالم من هو أعلم منه.

الإنسان لديه رؤية محدودة في واقع الحياة، وربما تخفى عنه أمور معينة، ربما ينسى ويغفل، وربما يفقد موضوعية رؤيته. لذا فإن الإنسان يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى والخطأ وارد ومستشرس في قاموس الإنسان، ورغم ذلك فإن سلسلة التقدمات العلمية لا تتوقف، وهنا يصرّح الكثير من العلماء الكبار أننا ما زلنا نجهل الكثير عن كذا وكذا، والبحوثات القادمة ربما توضّح لنا الصورة أكثر، ولهذا فإن العلم البشري يستمر تقدّمه مع إستمرار الحياة، وهذا يدل على أن العلم الإنساني والتقدّمات التكنولوجية المشهودة تبقى وستظل تحتمل التعديل والتغيير والتحسين والإضافة لأنه علم بعيد عن الكمال. إضافة إلى ذلك فإن العديد من الظواهر في علم النفس تحتمل التفسير على أكثر من وجه، وغالبا ما تحمل مسبّبات كثيرة محتملة، سواء كانت وراثية أو بيئية، فعلم النفس لا يعطي جوابا مؤكدا بصورة مطلقة، بل يطغى عليه علم الإحصاء والاحتمال.

ومن ثم فإذا نظرنا حولنا فإننا نرى العديد من مصادر المعرفة وعالما واسعا يستحيل على الفرد أن يتلقاه كله من غير تنازل عن أمور دون أخرى، فنرى ملايين الكتب بجميع اللغات ونرى التلفاز وملايين الإذاعات والمحطات ونرى الراديو ونرى الإنترنت وعالم لا نهائي من المواد ونرى البيئة المحيطة، أضف إلى متطلبات الحياة التي لا غنى عنها، كالأكل والشرب والعمل والنوم والتي تستغرق منا الوقت الكثير! لذا نخلص إلى أن الإنسان يعجز حتى عن الخوض في محصلة العلوم البشرية كلها، ولهذا فهي في نظره عظيمة وتمثل تطورا لم يشهد التاريخ له مثيلا! إلا أن الإنسان يحتاج إلى أن يتركّز في مجالات ويتخصّص بها، ليتمكّن من السيطرة عليها ومتابعتها والإبداع فيها، وهذا يتماشى مع قول الله سبحانه وتعالى في سورة النساء آية 28: "وخُلق الإنسان ضعيفا".

الإنسان أحرز تقدمات مذهلة بعون خالقه

أنا لا أعرض الحقائق بصورة سلبية ولا أنتقص من قدر الإنسان ومن علمه لا سمح الله، ولكني أحاول أن أبقى في سياق الموضوعية ورؤية الأمور على حقيقتها دون أن نخدع أنفسنا، وكما قيل الحقيقة المرة خير من الوهم المريح. رغم أنها كما تقدّم الوصف غير مُرّة بتاتا، فالعلم بأن علم الإنسان ناقص يحث الفرد على العمل والسعي لكي يطوّر نفسه وعلمه ويفيد عالمه، فالأمور قابلة للتحسّن والتقدّم. منذ بداية الخلق، مرّ الإنسان بسلسلة جليلة من التطوّرات، فكان الإنسان البدائي لا يملك شيئا سوى عقله ومواد خام في الطبيعة من حوله، فبدأ يبحث ويفكّر فاخترع الأدوات الحربية وأدوات الصيد والخيمة وبعدها البناء المعماري واختراع الكهرباء ووسائل النقل التي تسابق سرعة الصوت والحاسوب والإنترنت والهاتف النقال وأجهزة متطورة لا تعد ولا تحصى! وعلم النفس سار على نفس الدرب، فبدأ من نقطة الصفر إلى أن أخرج لنا اليوم مكاتب كاملة في هذا العلم وطرق علاج ناجعة وأدوية فعّالة. لقد نجح الإنسان بعون خالقه بالمحافظة على بقائه تحت الظروف المتغيّرة والتي تختلف من عصر إلى آخر، ونجح في إقامة مجتمعات إنسانية وتنظيمها، وليس ذلك فحسب، بل نجح في تطوير نفسه وعلمه.

طبيعة النفس الإنسانية

إن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان، أودع فيه شهوات وغرائز، وقد وضّح لنا القرآن ذلك في مطلع سورة آل عمران في الآية 14، عندما قال الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب﴾، وقد جاء في تفسير هذه الآية على لسان سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن": "الشهوات مستحبّة مستلذّة، وليست مستقذرة ولا كريهة. والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها، إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى، والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك "الشهوات" في غير استغراق ولا إغراق! وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها... والذين يتحدثون في هذه الأيام عن "الكبت" وأضراره، وعن "العقد النفسية" التي ينشئها الكبت والقمع، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو "الكبت" وليس هو "الضبط" ... ".

فالشهوة موجودة في النفس الإنسانية، ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو كبتها، وإنما يجب التعايش معها وتسخيرها في ما أحل الله ورسوله، وإبعادها وصرفها عما هو حرام وما يُفضي إليه. إن الإنسان عندما يطلق العنان لنفسه، فيجعلها جندا لهواه، يصبح أشبه بالحيوان، لأنه لا يعرف ضوابط وحدود ومحظورات في تصرفاته، فكل ما خطر بباله قابل للتنفيذ، وفي هذا الفخ وقع سارتر وغيره، إذ أنه يدعي أن لا مثاليات ولا أخلاق والإنسان حر طليق يفعل ما يشاء في دنياه لأنه هو رب نفسه. يا لها من أفكار سخيفة، عار على الصحة وتناقض بعضها البعض! والحقيقة أن كل عالم مهما بلغ علمه وقدرة عقله فإنه حتما سيناقض نفسه بنفسه إذ لم يبنِ أفكاره ونظرياته على شرع الله. الشهوات كثيرة ومتعددة ومنها: شهوة الجنس، شهوة الأكل، شهوة النوم، شهوة المال... كل هذه التصرفات محببة إلى النفس، لأنها تحمل في طياتها الراحة والمتعة، ولكنها راحة مؤقتة ولا تدوم، فالنفس تهوى كل عاجل وتكره كل آجل، ولذا فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

دور الشرع في تهذيب النفس

لما كانت هذه طبيعة النفس الإنسانية، كان لا بد من ترويضها والرقي بها لتترفع عن عالم الحيوان وتستقر في العالم الإنساني، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى ومن رحمته بنا لم يتركنا عبيدا لشهواتنا ولا تائهين، وإنما هدانا إلى صراطه المستقيم وبيّن لنا أوامره ونواهيه وحثّنا على فعل الخيرات وترك المنكرات لنطهّر هذه النفس فنرقى بها إلى أعلى عليين.

الحياة الدنيا عبارة عن مرحلة حاسمة والتي فيها يتحدّد مصير الإنسان الأبدي في حياة الخلود، ولذا فهي أشبه بالامتحان، والعاقل من فهم واقعية الحياة وعلم أنها منتهية، وأنّ الراحة الحقيقية ليست دنيوية وإنما تستدعي الصبر. لذا فإن الحياة تتطلب العمل والاجتهاد من أجل الوصول والفوز. الإسلام بتعاليمه جاء ليضبط شهوات النفس الإنسانية وليس ليكبتها أو ليحتقرها، فالنفس الإنسانية تهوى الراحة العاجلة والإسلام يريد من الإنسان أن يجدّ ويعمل ويجتهد، وليس ذلك عبثا، وإنما ليفوز بالجنة التي فيها كل أنواع الراحة النفسية وغيرها. النفس الإنسانية تريد إشباع شهوة الأكل عاجلا، وهي تطلب كل أنواع الأكل والشراب، ما لذ منه وطاب وبلا حدود، والإسلام يحرّم علينا الخبائث والمُضرات كالخمر والمخدّرات ويدعونا إلى الإعتدال في الأكل وعدم الإسراف وليس ذلك عبثا وإنما ليبقينا قادرين على العبادة، واعين لما نقوم به من أعمال ولما نقول من أقوال. النفس الإنسانية تهوى إشباع الشهوة الجنسية بكاملها والإسلام يدعو إلى العفاف والطُّهر والإبتعاد عن الرذيلة، ويحلّل لنا الزواج الشرعي بل ويحث عليه لأنه من شأنه أن يحافظ على بقاء النوع الإنساني. النفس الإنسانية تهوى الراحة والنوم والإسلام يريد منا أن نصلي خمسا في اليوم ونقوم الليل ونجتهد في الطاعة، النفس تهوى جمع المال السهل المنال سواء كان حلالا أم حراما والإسلام يدعو إلى إنتقاء المال الحلال ونبذ الحرام منه. استنتاج: إتباع النفس وهواها سهل للغاية ولكن ضبطها عن طريق الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية يحتاج إلى جهد.

وهكذا فإننا نلاحظ أن الحياة الدنيا ليست للتمتع فقط ولإشباع الشهوات، وإنما فيها الكثير من الكدّ والتعب، لأن الجنة ليست رخيصة، ومن الطبيعي أنه من أراد أن يحصل على شيء ما، فإنه يحتاج إلى أن يعطي بالمقابل، وهذا في المعاملات بين الخلائق، فكيف بالمعاملة مع الخالق ذاته؟! قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ".

كُتب منذ زمن