4.8.12

النفس الرمضانية 4: توجيه الغضب



من العجيب أن تسمع أن حمام دماء كامل بين عائلتين وعداوة وبغضاء راحت ضحيتهما أنفس، نجمت عن سبب تافه يستحي الإنسان السوي من ذكره ألا وهو: خلاف على حق الأولوية أثناء قيادة السيارة. إلا أن هذا الخلاف البسيط الذي بدأ بين شخصين في لحظة غضب، صار يكبر شيئا فشيئا وكلٌ يحشد رجاله وذويه للوقوف في صفّه وليس في صفّ الحق، إلى أن وصل الخلاف إلى عصبية قبلية وإلى صراعات لنرى فيها من الأقوى ومن هم الرجال حقا وحقيقة! إنه الغضب الذي يُسيطر على نفس واحدة أو أكثر فيُعدي الأخريات حتى يستشرس في أفراد كثر وكلهم يحسبون أنهم على حق، لكنك إذا نظرت من الخارج (نظرة موضوعية دون تحيّز لأحد الأطراف) تكتشف تفاهة عقولهم وتفكيرهم الساذج البسيط الذي يصغر تفكير الأطفال لأنه يفتقد للبراءة علاوة على أنه يرفض المنطق بعد أن عُرض عليه.

"والغضب عدو العقل" (إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان)، "والغضب يُنسي الحرمات، ويدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات" (قرى الضيف)، لكن من جهة أخرى، فإن "الغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منه أحد بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال" (د. نايف بن أحمد الحمد)، والغضب يأخذ في الغالب معان سلبية، لكننا نحتاجه في أحيان كثيرة لأنه يدفعنا نحو العمل والتغيير، فما هو الغضب المذموم وما هو الغضب المحمود؟ الغضب المذموم تستحقره النفس وتزدريه، وترى فيه اللا منطقية، لأن من يعرف أن حياته محدودة وأنه سيُحاسب على فعله، يبدأ يفكّر: هل يُعقل أن أسمح لأحد من البشر أن يستفزّني وأن يُغضبني؟ وكيف لبشر أن يُحرّكك كيفما شاء فيُغضبك متى شاء هو؟! ثم هل يُعقل أن أهلك نفسي في معركة كلامية أو جسدية أو نفسية أو كلهن مع بعض، ونحن بحجم حقير مقابل مليارات البشر ومقابل حجم الكرة الأرضية وحجم الكون بأكمله؟ من سيسمع صدانا؟ إن أردنا إظهار بأسنا وقوّتنا وأننا رجال، هل ستسمع أوروبا ببطولتنا، وهل ستنحرف الشمس عن مسارها عند غضبنا؟ وهل الرجولة بالعضلات والعنف؟ هل يُعقل أن أُشغل نفسي بتوافه كهذه وأهدر الساعات على مسائل لا طائل منها، في حين أني أستطيع تطوير ذاتي وإضافة الخير إلى هذا العالم بدل هذا الوقت الضائع؟ هل يُعقل أن أبدأ الشر أو أستجيب لإشارة الشر فأُدخل نفسي وعائلتي وربما كل أهل قريتي في دوّامة لا مخرج منها؟ هل يُعقل أن أُعذّب نسلي وأهل بلدي من أجل إظهار القوّة والقهر؟

أما الغضب المحمود فهو المطلوب لأنه الخطوة الأولى لمواجهة الشر والظُلم والعُدوان، "وهو ما كان لله تعالى عندما تُتنهك محارمه، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان" (د. نايف بن أحمد الحمد)، وقد قال ربنا جلّ وعلا على لسان نبيه موسى عليه السلام: "وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ" (الأعراف، آية 150). لكنّ أمتنا الإسلامية لم تعرف كيف توجّه غضبها فركّزته في مشاحنات حول توافه الأمور مثل: إختلاف على شبر أرض، إختلاف على حبيبة، والجامع لهذه الأمور كلها أنها اختلافات على أمور دنيوية من عالم الأشياء أو الأشخاص، ونسيت بالمقابل أن تغضب على الظلم والإستبداد وقتل الناس الأبرياء في العالم الواسع، والعجيب في الأمر أن أغلب ما يدور حوله الغضب المحمود هو غضب على أفكار مذمومة. لهذا فإن الغضب المحمود يُحرّك النفس ويدفعها لتعمل نحو التغيير، والواجب أن يسكت الغضب بعد ثورانه ليفسح المجال للعقل كي يأخذ دوره ويحرّر الناس بطرق مدروسة من الظلم والشر ومن العادات والتقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان ومن الغلو في الدين.

ومن ثم فلماذا نتناول موضوع الغضب عند الحديث عن النفس الرمضانية؟ رمضان يُسفر عن مدى صبر الإنسان على أذى أخيه الإنسان لأنه ساعة شدّة بحكم تحريم الأكل والشرب خلال النهار، ولذا فإن الإنسان وتحت الظروف الصعبة (الجوع والعطش وحرارة الطقس العالية وضيق المعيشة) يكون مُعرّضا أكثر للغضب، فالواجب كما أسلفنا عدم تجاوز وعدم كبت الغضب، ولكن توجيهه إلى المسار الصحيح، لأننا إن لم نوجّهه ولم يلقَ له مسلكا فلربما سينفجر في الطريق الغير آمن وعندها سنشهد حالة أخرى من الغضب المذموم الذي لا يمكن إسكاته سريعا في أحيان كثيرة. لكنّ زيادة العُرضة للغضب، تجابه بتأثير لا يتواجد في الأيام العادية وهي تأثير الأجواء الرمضانية، ولذا وإن بدا لنا كثير من بوادر الغضب، إلا أن هذه البوادر لا تتطوّر إلى خلافات كبيرة في غالب الأحيان بفعل تأثير رمضان وهذا من رحمة الله علينا.

أما فيما يتعلّق بالحديث الذي رواه أبو هريرة عندما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أوصني. قال عليه الصلاة والسلام: "لا تغضب فردد مرارا قال: لا تغضب". فإنه كما يظهر من الحديث أن "الغضب المذموم الذي نهى عنه الشرع هو أن يغضب الإنسان انتقاما لنفسه. أما إذا غضب غيرة لله لانتهاك محارمه أو دفعا للأذى عن نفسه وغيره في ذات الله فهذا غضب محمود شرعا وفاعله يثاب على ذلك" (خالد بن سعود البليهد)، وهذا يؤكّد ما أسلفنا من قول، إذ أن الغضب نوعين: نوع محمود وآخر مذموم. والعجيب أنه إذا نظرنا في أثر الغضبين على النفس الإنسانية، فإننا نلاحظ أن الغضب المذموم يودي بصاحبه في غالب الأحيان إلى الندم لأنه يُدرك أن عمله فظيع مقابل سبب غضبه، وأما الغضب المحمود فإنه يترك أثرا إيجابيا في النفس لأنه يُعتبر نوعا من التضحية في سبيل مصلحة الأمة.