11.1.15

تعمليش حالك متحرّر !


"تعمليش حالك متحرّر ومخصكش بالدين وانت جوّاتك مش هيك، ولما يموتلك حدا قريب وبعز عليك أو تصير معك مصيبة، بتصير تقول يا رب وبتبلش بالصلوات الطيبات ... وأول ما تعدّي الفترة الصعبة، بترجع لحالك الأول ... كله عشان تبين كوول"

الغفلة يمكنها أن تصيب كل انسان، بعيد عن الدين أم قريب منه، فالإحاطة والوعي بكل الأمور هي غاية لا تُدرك. ذلك أن تركيبنا النفسي يحوي وعيا ولا وعي، والغفلة يمكنها أن تنبع من عدم وعي بالأمر المغفول عنه. يُقال "غَفَلَ  عن الشيء" بمعنى سَهَا من قِلَّة التحفُّظ والتيقُّظ. مما يعنى أن الانسان يمكنه أن ينحرف عن النهج القويم أو أن لا يفطن الى ايمانه أو عمله الصالح، فتأتي الشدائد لتُذكّره ما نسي ولتعيد الى وعيه ما غاب عن وعيه. وعندما يصل الأمر الى الوعي، فإننا لا نتوقّع تراجع ذات الأمر الى اللا واعي خلال فترة قصيرة، ذلك أن ذكرى العُسر ما تزال حيّة. بمعنى أننا لا نتوقّع ممّن ذكّرته مصيبته بإيمانه وعمله الصالح فعزم على العودة الى طريق الايمان، اننا لا نتوقع من شخص كهذا أن يقوم من مكانه كأن شيئا لم يكن ليرجع الى ما كان عليه. ان هذا الرجوع الى اظهار الغفلة لا يمكنه أن ينبع من الداخل، كما أن الذهاب اليه لم ينبع من الداخل، وانما هو نابع من حالة استعمارية.

وقد تبدو كلمة استعمار كبيرة في مثل هذا السياق الذي نرى فيه تمثيلا ساذجا على الناس وعلى الذات. فذاك الشخص يريد أن يُلمّع صورته أمام مجتمعه، ليظهر وكأنّه متحرّر، متفتّح ومنفتح، "غير مُعقّد"، عصري وغير ذلك من الأوصاف المُستوردة. في حالة اليُسر هذه هو يظنّ أنه لا يحتاج الى خالقه ولا الى الايمان ولا الى العمل الصالح، فصورته تلمع بفضل جهوده الذاتية. واذا ما حلّت مصيبة بداره، صار يستغيث خالقه و"يتمسكن"، وما أن تنتهي فترة العُسر حتى يبدأ يتباهى أن خروجه من مصيبته ما كان ليكون لولا دهائه ولولا شخصيته الفذّة ولولا "شطارته". فهو اذا تمثيل ساذج على الناس (تلميع الصورة) وعلى الذات (هو يخدع نفسه ولا يرضخ للحقيقة).

بعد هذا التوضيح بات دور الاستعمار واضحا، فذاك المُستعمَر الشرقي تشرّب صورا للإنسان المثالي من حضارة غريبة عنه، من حضارة الغرب، ليصير يعتقد أن من يتحرّر من "قيود" الدين والمجتمع  المحافظ هو انسان مميّز وسيحظى بإعجاب مجتمعه وسيحظى بإعجاب المُستعمِر بطبيعة الحال. في حين أن هذا اعتقاد خدّاع، فمجتمعه المحافظ لن يُرحّب بمن شُطفت دماغه وصار متحرّرا من كل القيم المتوارثة وبالكاد سيرحّب به في وسط أولئك المُستعمَرين أمثاله. أما بالنسبة للمستعمِر فلن يلتفت اليه في غالب الأحيان فعنده من المتحرّرين ما يكفيه.

كل ما أسلفنا يؤكّد أن هذا التحوّل والتقلّب ما هو الا تقلّب شكلي، نابع من الخارج، يهدف الى ارضاء الناس تارة والى ارضاء رب الناس تارة أخرى (كيّما تتحقّق مصلحة درء المصيبة). وهو بعيد عن أن يكون تحوّلا داخليا وهذا ما يعيبه بالأساس، فلم يتأتّى هذا التحوّل على أثر بحث وحوار داخلي واقتناع بضرورة الدين أم عدمه. ولنسأل: لماذا تحوّل عند فقدان أمه الى التديّن حتى اذا ما مرّ شهور على موتها انقلب مرة أخرى الى التحرّر؟ أيمكن لهذه التحوّلات السريعة أن تكون تحوّلات جوهرية عميقة نابعة من الداخل؟ لو كانت كذلك لكانت أمتن وأصمد في وجه المتغيّرات الخارجية. ففي نهاية الأمر يمكن لبعض التحوّلات أن تكون محمودة اذا ما جاءت على أثر بحث واقتناع.

ابتهالات


الله جلّ جلاله

"يــا من يرى مـا في الضمـــير ويســمع *** أنت المُعـــدّ لكل مــا يُتــــــــــــوقّــــــع
يا مـن يُـــرجّى للشّــــدائــد كُلّــــــــــــها *** يـــا من إلـــــيه المُشــــتكى والمــفــزعُ" (الشافعي).

الهي أنت بقلبي تُحييه، وتبثّ فيه ومنه حبّك وحبّ كل من يحبّك ... اذا لم تكن في قلبي، فمن سيكون؟! أأتركه مقفرا؟! صحراويا! وما لي لا أطمئن وأنت معي من قبل مولدي، وستبقى الى الأبد! أأكلّ أنا المحتاج اليك! أأملّ أنا الفقير اليك!

ما أضفتَ اليك شيء الا زاد شرفا وعزّة، فذلك المسجد ازداد عظمة عندما سُمّي "بيت الله" والكلام يرتفع الى أعلى عليين اذ ما كان كلام الله وكذا العبد يحصل على وسام الشرّف اذا ما كان عبدا لله. واذا ما ذُكر اسمك، وجب على الروح أن تُعلن رحيلها من دنيا الصغائر، لتركع ركوعا لا ينهيه الا شوق للسجود ولتسجد سجدة لا نهاية لها! واذا ما ذُكر اسمك، سقطت كل الأسماء وزال كل زيف وظهرت كل الرحمات!

واني لأخاف أن أظلم نفسي فأصفك عن جهل بأقلّ من عظيم شأنك وقداسة أسمائك، أخاف أن أقرّب تفاهاتي من عظمتك! الا أنه من فرط الحبّ، لم يحالفني الصمت كثيرا وأخذني هيامي بحبك الى البوح. هل هناك أسعد من لحظة البوح بالحبّ الأبدي؟! هل هناك أجمل من أن ينبض القلب بعشق خالقه؟!  

***

الحمد نعمة

انه يمكن للإنسان أن يبقى حامدا شاكرا ممتنّا لخالقه على عظيم فضله وعطائه ويمكنه أن يبقى متسخّطا غير راض بما قسم الله له. الأوّلون يبحثون عن الموجود والآخرون يركضون وراء الغير موجود. وفي الغالب ينعكس هذا الحمد وذاك التسخّط على علاقة الانسان بنفسه وعلى علاقته بالناس وعلى أشياء أخرى كثيرة. لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"، فالشكر أو الحمد هو صفة وسمة من سمات الشخصية، يتفاوت فيها الناس. يقول تعالى: "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" (سبأ، 13).

والحقّ أنه لو استمرّ الواحد في شكر من أحسن اليه، لما وفّاه حقّه، اذ أن الاحسان يتفوّق على الشكر لأسباب لا مجال لتفصيلها هنا. ولكنّ الشاكر يشعر بشعور الحمد، الشكر والامتنان. هذا الشعور يرفع الانسان الى فضاء سام، يتّسم بالصفاء والنقاء. انه يرفع العلاقات البشرية الى أعالي الانسانية ويرفع العلاقات الروحية الى أعالي درجات الروحانية. واذا كان فضل انسان على انسان يُشعر بامتنان وشكر، فكيف بعظيم فضل الله؟! ألا نحمد من خلق الفضل؟! ألا نمتنّ لمن أعطانا نعما لا تُعدّ ولا تُحصى؟! هل نحاول أن نفكّر في نعم الله بدلا من أن نفكّر في ما ليس عندنا؟! لماذا لا نحاول أن نعدّها لنشعر بها؟! انها ستعجزنا من كثرتها! أفننسى أن نحمد من خلقنا (انه لا يحتاجنا ولكنه خلقنا ليسعدنا)؟! أفننسى أن نحمد من جعل لنا سمعا وأبصارا وأفئدة (انه لو لم تكن لما التقطنا ما حولنا)؟! أفننسى أن نحمد من منحنا نعمة العقل (انه لو لم تكن لما كتبنا ولما قرأنا)؟! فلله الحمد والمنّة والثناء الحسن!

***

سبحان الله!

سبحان من خلقنا لنسبّحه! سبحان من أعطانا فرصة ووسام شرف تسبيحه! سبحان من أرشدنا الى تسبيحه! سبحان من ضمّنا الى من يُسبّح له في السماوات والأرض! سبحان من سلّحنا بتسبيحه لنسيح في فضاء الملائكة! سبحان من شحننا بطاقة تسبيحه لنقوى على نوائب الدهر! سبحان من منحنا التسبيح لنتسامى على الطين! سبحان من جعل تسبيحه عبادة! سبحان من كافئنا على تسبيحه!

واننا محتاجون الى هذا التسبيح ... طالبون لتحصيله ... عطشى له ... منهارون دونه ... كيف لا ودنيانا تجرّنا اليها جرّا و"تتلعلب" بنا كيفما شاءت ... كيف لا وهي تحصر تفكيرنا في ملاحقتها، في الانسياق وراء نزواتها، في متابعتها خطوة بخطوة ... كيف لا وهي ستتخلّى عنا يوما وتلقي بنا الى حيث لا ندري ... وستتركنا هي وأموالها وبنيانها وملذّاتها وحيدين ... انها ستُلقي بنا قبل أن نلقي بها ! الا أن التسبيح يوم أن يدخل الى الصورة فإنه يُغيّر سير هذه المسرحية التراجيدية ... انه يقلبها على فوّهتها ! ويكتب حبكة قصصية أخرى تأبى أن تُنسى في الأرض وفي السماء ! حبكة لا تنساها الأرض لأنها تركت أثرا في نفوس الخلق والخلائق ! ولا تنساها السماء لأنها كانت تبعث برسائل التسبيح وببرقيات التمجيد من الأرض الى من خلق الأرض والسماء ! انها التسبيحات التي لا نهاية لها ! انها التي تُخرج الانسان من أرضه، من دُنياه الضيّقة، من همومه الكثيرة، من سفاسف الأمور، ليطير ويحلّق حيث السماء، حيث الفضاء، حيث السكون والراحة والحقيقة ! انها التسبيحات التي تصل الأرض بالسماء وتُعطي للإنسان فرصة ملامسة السماء من الأرض! انها التسبيحات التي لن تُنسى اذا ما نُسي كل شيء!

"تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا" (الإسراء، 44).

***

السماء ليست الحدود !

كيف تكون السماء حدودا واليها تنصبّ جلّ الطموحات ؟! كيف تكون حدودا وأشواقنا تمرّ من خلالها كل يوم؟! كيف تكون حدودا وحزننا ينبعث اليها وفرحنا يعانقها ؟! كيف تكون حدودا ونحن نهوى اختراقها ليل نهار ؟! كيف تكون حدودا ونحن نعبر من خلالها في اليوم ألف مرة ؟!

هي السماء العالية الطاهرة النقيّة التي اذا ما ارتفعنا اليها، تلاشت من بيننا كل الدنايا! وتساقطت كل الأحقاد والضغائن! واندثرت كل الأنانيات! هو عالم آخر، صعب المنال، الا انه متاح لكل مجتهد. عالم لا وقت فيه ولا مصلحة. ولا مكان يحصره ولا مادة تحضره. هو فوق زماني وفوق مكاني. وجود الزمن فيه يُعكّر صفوه ودخول المكان اليه يهبط من قدره والتصاق المادة به يقضي عليه تماما. انه لا يتواجد اذا ما أردنا أن نوجده بطريقة ميكانيكية أو تقنية أو حتى علمية. انه غير ملموس وغير محسوس وهو ينطلق من الداخل. ينطلق من الجوف، حيث الأحاسيس والمشاعر. ينطلق من القلب الى الروح ويتفاعل معها ويغذّيها وهي تغذّيه وهكذا. انه تجربة تُعاش لا يمكن وصفها بكلمات دقيقة. وهو أشبه بحالة العاشق لعشيقته، ويدخل اليه شوق كشوق الابن لأمه عند قدومها من سفر طويل شاقّ مثل الحجّ.

انه عالم السماء، عالم الأرواح التي تُحييها القلوب. سماؤه ليست حدودا، بل هي المنفذ والمعبر والملجأ والمنجا. اليها نرحل كل يوم واليها نتوق ونتضرّع، اليها حيث كنا، اليها حيث أخطأنا ولذا كان علينا واجبا أن نمرّ بمغامرة الحياة الدنيا لنعود من حيث أتينا، لنتطهّر من جديد ولنستقرّ هناك.  

"أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ" (ق، 6).

***

أتلعن نفسك ؟!

انه عندما نسمع لعنا مجاهرا للخالق العظيم، فإن الصدر ينقبض والأحشاء تتمزّق ويخال للسامع أن سهما قد اخترق جسده أو لربما روحه ففعل بها الأفاعيل. هذا الشعور ليس بالجديد علينا، فهو يُصيبنا عند كل تعدٍ من الآخر على ايماننا، على معتقداتنا وعلى رموزنا. عندما نؤمن بالإنسانية ويلعنها اللاعنون نشعر بمثل هذا الشعور، حينما نكنّ اعتبارا لشخصية تاريخية ويلعنها لاعن نشعر بمثل هذا الشعور، ولمّا نؤمن بفكرة ويلعنها أحدهم نشعر بمثل هذا الشعور. وأساس هذا الشعور هو مساس بما يشترك بالإيمان به عدد من الناس، ليجعل اللعن مُوجعا لكل القلوب التي حوت نقيضه. ولنا أن نفكّر ان كان لعن من يمكن أن يعتريه نقص، يُوجع الى هذه الدرجة، فكيف الحال بلعن الكمال كل الكمال؟! كم سيؤذي من يلعن الذات الإلهية كل أولئك المؤمنون بها المسلّمون لقضائها وقدرها؟! وهل يعلم أنه يُؤذي نفسه عن قصد أو عن غيره؟!

ذاك الذي يلعن خالقه، انما يلعن نفسه بشكل غير مباشر! انه يلعن من خلقه، من منحه الحياة، من أوجده! أيلعن أحدكم أباه؟! أيلعن أمه؟! أيلعن مُشغّله؟! انه لا يجرؤ لأنه سيفقدهم وهو بحاجة اليهم! انه لا يجرؤ لأنه ستكون حياته جحيما دونهم! انه لا يجرؤ لأنه سيُهلك نفسه لا محالة! ولو فعل، لفعل ذلك سترا ولأضمر اللعن في قلبه، ولبقيَ متحذلقا أمام من يحتاج اليه لئلا يفقد الدعم والعطاء! الا أن هذا التحذلق لا ينفع قبال من يعلم السر وأخفى! ان اضمار اللعن مفضوح، واعلانه مفضوح والمجاهرة به مفضوحة! وبالتالي فإن من يلعن خالقه، هو عمليا يلعن مُنشِأه ويلعن عناية الإله به ويلعن عطاء الإله ومدده، مما يجعله تائها ضالّا كسيرا ضعيفا دونما مدد السماء، وذلك يودي في نهاية المطاف الى إهلاك النفس والتنكيل بها. لتدور دائرة اللعن على صاحبها فتُجهز عليه!

***

أتفقه ما تقول ؟!

ذاك الذي يلعن خالقه، انما يفعل ذلك عن جهل في الغالب. انه جاهل بعظمة خالقه، انه جاهل برحمته بعباده، بعظيم فضله عليهم وبكثير نعمائه، انه جاهل بقدرة خالقه، ببطشه وعذابه اذا ما غضب، انه جاهل بأسماء الله وصفاته العُلى وهو جاهل بعالم السماء الذي يعصى على فهمه. هذه القدرة وهذه العظمة يبصرها من يفتح قلبه وعقله اليها ومن رغب عنها تلاشت من أمام ناظريه وتساقطت وصار عسيرا عليه أن يفطن اليها. هذه الروح التي فقدت النبعة التي تسقيها وتُنمّيها، هذا الخواء الروحي الذي لم يُنبت رادعا ولا حدّا ولا حاجزا، هو ذاك الذي أعطى الاشارة الخضراء وسمح بالتعجرف والتكبّر. هذا الخواء الروحي هو الذي لم يَحُل دون وقوع اللعن! ولو ذكّرت اللاعن الجاهل بمن لعن، لعدَل عن قوله ولبان له فُحش قوله، فهو مؤمن بمن يلعن ولكن ايمانه ضعيف وخواءه الروحي يسانده في اللعن.

ولو نظرنا في غاية اللاعن من لعنه، لوجدنا أنه غرض الكبر وابراز الذات. لكن على حساب من؟ على حساب الخالق؟! هيهات أن يتحقّق للاعن غرضه المريض! هذا اللاعن يُطلق لعنته في لحظة غضب على أخيه الانسان، أو عندما تصدمه ورطة كَبُرَت في نظره أو مشكلة هالت في عينه، وكأنّه يودّ أن يقول لنا: هذا الذي تؤمنون به كلكم، فأنا ألعنه عندما أغضب ولا يهمّني ولا أخاف (في الحقيقة يهمّه ويخاف). غضبي شديد وأناي أشدّ وهما أكبر من غضب من تؤمنون به! لذلك فإن هذا اللعن يحوي كفرا جليا وهو يُذكّرنا باستكبار الشيطان الذي سيطر على لسان اللاعن فصار مُنطِقَه كما نطق ومُكَفّره كما كفر! وللاعن أن يذكر ويُذوّت في نفسه أن لعنه انما يدور عليه وانما هو من يُصاب به وليس خالقه حاش وكلا، تقدّست أسماؤه وصفاته.

***

الله أكبر!

انه عندما يتحقّق للإنسان انجاز لطالما حلم به وعندما تتوالى الخيرات عليه، يمكنه أن يظن بنفسه خيرا (تامّا) وأن يظن أنه ملك الدنيا، فلا قوة تقدر عليه ولا أحد يمكنه أن ينافسه، عندها تأتي "الله أكبر" لتذكّره أن الله أكبر من كل صنيعه ومن كل الوجود! واذا ما ملك أحدهم أموالا كثيرة وحظي بمُلْك كبير، جاءت "الله أكبر" لتذكّره مكانته الحقيقية ولتقول له أن الله أكبر مما تملك! واذا ما تربّعت دولة على "عرش" قيادة العالم، ظنّت أنها ملكت الأمر والنهي وأن قوّتها لن تُهزم، جاءت "الله أكبر" لتذكّرها أن الله أكبر من جبروتها وطغيانها. واذا ما صمّت آذانها عن الحقيقة فهيهات لها أن تستجيب لنداء "الله أكبر"! يقول تعالى: "ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تُبصرون" (الزخرف، 51).

وكلمة "أكبر" على صيغة أفعل وهي تُفيد التفضيل. ومثال ذلك قوله تعالى: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" (غافر، 57). انها صيغة تُوحي بالتفضيل الذي يجب أن يبقى حيّا في قلوبنا وأذهاننا كيما لا ننحرف عن حقيقتنا ومكانتنا الحقيقية في هذا الكون. انها صيغة تُوحي بالتفضيل المُستمر، فالله أكبر من كل شيء، منا ومن حضارتنا ومن ثقافتنا ومن كل صناعاتنا ومن كل أحاسيسنا التي تقول أننا بلغنا عنان السماء. فالله أكبر من كل ذلك ومن كل الموجودات، وينبغي أن يكون هذا التفضيل حاضرا عندنا في كل وقت وحين. حتى أنه عندما نحاول تعظيم الخالق الى أعلى الدرجات وعندما نبني تصوّرات منزّهة موحّدة، فإن الخالق يبقى أعظم وأكبر من تعظيمنا كله ومن تصوّراتنا كلها، ذلك أن فهمنا البشري يعجز عن استيعاب العظمة الإلهية. اننا نفكر في حدود "البشري" ولا يمكن لتصوّراتنا وخيالاتنا أن تتعالى الى مستوى "الإلهي". يقول تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير" (الأنعام، 103). ويقول بعض المُتكلمين: "كُلُّ ما خطرَ ببالك، فإنَّ الله تعالى بخلاف ذلك".

مقالات من كتاب فكر وحياة - الجزء 3


حديثو الولادة

في أعقاب التغيّرات الحياتية التي يمرّ بها جميعنا بحكم التطوّر الطبيعي، فإننا نشهد ظاهرة الاندفاعية في كثير من الأحيان، والتي تكون في أوجها في الفترة التي تعقب التغيير. عندما يدخل الفتى في جيل المراهقة نلاحظ وجود هذه الظاهرة، فهو يكتشف أمورا كانت خفيّة عنه (الجنس واحد منها) ويبدأ يفهم أمورا لطالما حيّرته، ويتوهّم المراهق للحظة أنه بات سيّد المعرفة وأن معرفته تفوق معرفة والديه ومعرفة الناس أجمع، ويبدأ يبحث عن فرصته في تغيير العالم، من خلال تصرّفات اندفاعية (ما يسمّيه الناس حماس الشباب) مثل: اظهار العدوانية واستعمال العنف في مجابهة المُختلف برأيه أو بتصرّفه، أو المسارعة الى الفعل قبل النظر (كإنشاء حركة جديدة دون تخطيط)، أو حتى السياقة المتهوّرة (تمرّد على سلطة القانون) والخلافات مع الوالدين (تمرّد على سلطة الوالدين). وعندما تنتهي فترة الاندفاع، يقف الشاب حائرا أمام الواقع المركّب والذي ما زال عاجزا عن ادراك تركيبته، ويخيب أمله اذ لا يحصل التغيير المُتخيّل، فسلطة القانون وسلطة الوالدين وسلطة الواقع أقوى من اندفاعه. عندها تخفّ الحماسة ولربما يهبط الاندفاع الى أدنى مستوياته، ولا نستغرب ان توجّه الشاب الى حقل آخر ليجرّب اندفاعه مرة أخرى هناك.

كذلك عندما يخرج الشاب الى المجتمع ويأخذ قدرا أكثر من الحرية والمسؤولية (مرحلة ما بعد الثانوية)، فإنه يُظهر اندفاعا آخر، اندفاعا أكثر نضوجا ولكنه ما يزال عاجزا عن فهم تركيبة الواقع وسنن التغيير في هذا الكون. مثال: "أريد أن أنظّم مهرجانا كبيرا عريضا على مستوى المنطقة كلها"! مرة أخرى، نزوع الى الفعل قبل النظر في الأهداف والغايات التي يُراد تحقيقها من خلال الفعل، مما يجعل العمل معكوسا، فهو يريد تنظيم مهرجان، وبعدها يبدأ بالتخطيط والبحث عن موضوع المهرجان (حتى أنه لا يتمّ التطرّق الى الهدف). والذي يرجع الى دينه بعدما كان بعيدا عنه، تأخذه الاندفاعية والحماس، ليصير متزمّتا الى أبعد الحدود، مما يودي به الى التطرّف.

ان هذه التغيّرات هي أمر طبيعي، فطالما هناك حياة، هناك نبض التغيير جوّاها، والا لصارت أقرب الى الموت منها الى الحياة. الا أن المسألة هي كيف نتعامل مع هذه التغيّرات. انه علينا أن نعي أن التغيير لا يقوم بليلة وضحاها وأنه ينبغي التعقّل والتمهّل قبل أن نقفز الدرجات كلها، مما ينسجم مع القول الشعبي: "اطلع السلم درجة درجة". ونزيد عليه: أن انظر من حولك، انظر الى الدرجات السفلى التي قطعتها لكي تتعلّم من التجربة، وانظر الى الدرجات فوقك، كيّما تُحافظ على الخطوات القادمة (ليس فقط الهدف النهائي) بارزة أمام عينيك. وفي السياق الديني، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق"، وفي تفسيره يقول المناوي: "إن هذا الدين متين أي صلب شديد، فأوغلوا أي سيروا فيه برفق، ولا تحملوا على أنفسكم ما لا تطيقونه، فتعجزوا وتتركوا العمل". وعلى نسق ذلك يمكن أن نقول، أن هذه الحياة مُركّبة، واقعها لا يخضع لرغبات كل واحد منا، ولذا علينا أن نتوغّل فيها برفق. 

 ***

المغيّبون

لا يصحّ في هذا العصر ونظرا للتقلّبات الضّخمة التي تحدث على مستوى العالم، أن يختار الواحد الاعتزال عن الواقع، أن يختار الغفلة، الغياب، الابتعاد عن ما يجري حوله. ذاك الشخص الذي يُمسك "نبريش" النرجيلة صباحا مساء، يقعد في مجالس الثرثرة، وجلّ همّه نفسه وبيته، وان ذكّرته لقال لك: "ابعدنا عن الهمّ الله يخلّيك! بكفّينا اللي فينا!". وذاك الشخص الذي ينتقل من مسلسل تركي الى آخر، ومن خبر فني الى آخر، ومن لذّة الى أخرى، وان حاكيته لقال لك أيضا: "خلينا مبسوطين يا زلمي". هؤلاء لا يمكن الا أن يكونوا مُغيَّبين أو مُغيِّبين لأنفسهم، في عصر الوعي وانتشار المعرفة، ذلك لأنهم بنوا لأنفسهم عالما ورديا بعيدا عن الواقع، معزولا عنه، غريبا عنه.

والحقّ أن كل انسان يحتاج الى الراحة النفسية كاحتياجه للراحة الجسدية، خصوصا إن كانت الأخبار والوقائع باعثة على الغمّ والحزن. لذلك لا بأس من أن يبتعد الانسان قليلا عن تلك الأخبار، ولا نعارض أن يُدلّل الانسان نفسه بما يحبّ، فالحياة يجب أن تستمر ولو استفحش الموت. الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"، ويمكن أن يُفهم من الحديث أن الحياة يجب أن تستمر حتى في أحلك الظروف وأن فعل الخير يجب أن يدوم. إن النفس تملّ وتضجر وتحتاج الى قسط من الراحة النفسية ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ساعة وساعة". وايحاءً من الحديث، يمكن أن تُخصّص ساعة استذكار واحساس بالآلام التي يتعرّض لها اخوتنا في الشام وفي مصر وفي أماكن أخرى، متابعة أخبارهم والدعاء لهم، مما يعكس اهتماما بما يحلّ بهم من كوراث ونوائب، ويمكن أن تُخصّص ساعة أخرى لترتاح بها النفس من هذه الهموم، لتمارس نشاطا تستلطفه. أما أن تكون حياة الانسان كلها وردية، كلها سعي وراء ملذّات وأمور شخصية وعائلية، فهذا لا يمكن أن يولّد وعيا، فضلا عن أن يولّد انسانا ذا اهتمام بآلام أخيه الانسان! يقول عليه الصلاة والسلام: "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم".

***

العجز الانساني

تكون سائرا في أمان الله وقد خرجت من البيت وغرفتك مرتبة وأمورك مرتبة وبيتك مطمئن، واذا بسيارة مجنونة تباغتك. وفي لحظة وثواني، تنقلب الكأس على فوهّتها، وتتخربط الأمور المرتّبة ويخر الخبر كالصاعقة على البيت. فترتعد الأطراف وتحدث البلبلة وتتسارع الأحداث ولا يكون بالإمكان أخذ نفس للتفكير في ما حدث، ولمحاولة التقاط واستيعاب ما يحصل!

تكون في بيتك آمنا مطمئنا، واذا بزلزال عنيف يضرب المنطقة، فتخرّ البيوت، تسقط الضحايا ويحدث الدمار!

تكون في البيت جالسا مع العائلة، واذا بالجدّ يسقط أرضا دون سابق انذار جرّاء نوبة قلبية! 

انها حالات العجز الانساني التي يتجلّى فيها الضعف وتتجلّى فيها اللا قدرة على المجابهة. هذا الانسان الذي ظنّ نفسه للحظات أنه ملك الدنيا، ملك الكون كلّه، رجع في ثوان الى مكانته الحقيقية، رجع مملوكا، عبدا، عاجزا. أي أن السيطرة والتملّك في هذا الكون ليسا حقيقيين، فالسيطرة المُزيّفة (كما المُلك) يمكن أن تزول في لحظة وضحاها، وهي زائلة حتما وبشكل كامل في نهاية المطاف عند الموت. والذي يظنّ أن الانسان سيد في أرضه، بيده تحريك كل شيء، سيطرته تامّة، فهو عمليا ينكر (كأسلوب دفاعي نفسي) تلك اللحظات الحرجة التي يصير يبحث فيها عن مُعين أو عن منقد. ان الانسان عاجز عن انقاذ نفسه في تلك اللحظات، فكيف له أن يتبجّح ويغترّ بقدراته؟! وكيف له أن يتكبّر وهو لا يصمد أمام تلك اللحظات؟! واذا ما وقع القول رأيت المُنكِر مصعوقا، وكأنّ ما أصابه لم يكن في البال بتاتا، أو كأنّ ما أصابه لم يكن موجودا (أي لم يحدث لأحد قبله)! 

لذا فإن الانسان يحتاج الى الاستعانة بالقدرة الإلهية على الدوام وليس فقط في تلك اللحظات، فبدونها يبقى شقيا، ضعيفا، تائها! ان هذه القدرة الإلهية يمكنها أن تمدّ الانسان بالطاقة النفسية والجسدية لمواجهة مثل هذه النوائب. فهذه الاستعانة وذاك التوكّل يُفهمان الانسان حقيقته في هذه الحياة الدنيا منذ اللحظات الأولى، ولا ينتظران وقوع النوائب لتكشيف الحقائق. انهما يُعدّان الانسان ويُسلّحانه بما يحتاجه من ذخائر ليواجه تلك المصائب بقوّة وإقدام. هذا الإعداد يبدأ بالاعتراف بمكانة الانسان في هذا الكون، فهو عبد، ضعيف، يحتاج الى خالقه ليكون خليفة وليُحقّق انسانيته. هذا الاعتراف يشمل اقرارا باحتمال حصول المصائب والنوائب، مما يجعل الانسان يقظا على الدوام، مهيأً، مترّسا، جاهزا لأي هجوم أو دفاع، رغم أنه يأخذ بالأسباب ليحول دون وقوع مثل هذه الأحداث العسيرة. الا أنه يدرك عبر ايمانه وتوكّله، أن ما أصابه من سوء، انما هو قضاء الله وقدره، ولذا فإن الإعداد النفسي لمثل هذه الحالات يكون أمتن (بمساعدة الاعتراف وعدم الإنكار)، وكذا استيعابها عند وقوعها يكون أيسر (بمساعدة الايمان بالقضاء والقدر). وعندما تكون الطاقة النفسية في مجابهة مثل هذه الأحداث أكبر، فإن التأثير المتبادل بين النفس والجسد، يجعل الطاقة الجسدية أكبر كذلك. 

***

احتلال أم انسجام؟

بالعادة أثناء ركوبي في القطار أنظر الى الطبيعة الخضراء من النافذة، مغتنما فرصة قعودي للتأمّل في ساحل بلادي. الأشجار الخضراء العالية والسهول الواسعة والبحر الذي يظهر من حين لآخر. الا أن فكرة مرور القطار من خلال تلك الطبيعة لم تغبْ عن بالي في ذلك اليوم. هذا القطار الذي هو من صنع الانسان قطع السهل الى ضفتين، وكأنه جدار فاصل عزل أشجار الشرق عن أشجار الغرب وقطع البحر عن اليابسة! ما هذا البطش البشري الذي يتحرّش في الطبيعة ويغتصبها؟! كيف لهذا القطار أن يحتلّ الطبيعة فيجعلها رهينة عنده؟! هذه الأفكار الأوليّة هي التي مرّت برأسي، ولكني عندما أعدت النظر في منحى تفكيري، توصّلت أنني تأثّرت من تفسيري الشخصي لما شاهدت من حولي. حاولت أن أشاهد المنظر بصورة مختلفة تماما، لتتجلّى أمامي صورة ذلك الانسان الذي يسعى للتيسير على أخيه الانسان من خلال تسخير وسيلة النقل المسمّاة بالقطار. هذا القطار ينسجم مع الطبيعة ويدخل فيها ومن شدّة حبه لها يطلب أن يصير جزءً منها.

في حادثة أخرى وأثناء ركوبي في حافلة، انضمّ للجلوس بجانبي طفل وأمه. من لحظة جلوسهما الى لحظة نزولي وهما يتحرّكان، يُشاغبان ولا يكادان يصمتان. الطفل يضرب برجليه على رجليّ (دون قصد على ما لاحظت)، أمّه تعطيه طعاما فيبدأ يأكل منه بعنف، يضعه جانبا، يبدأ يلعب بالأشياء حوله، تُخرج له أمه قنينة الماء فيبدأ يلعب بها، تُرجعها أمه، تُعطيه العلبة التي وُضع فيها الطعام ليُغلقها بنفسه (أقول في نفسي: أهذا وقت التعليم؟!)، تُساعده في اغلاقها، تُناوله هذه المرة فاكهة صغيرة، يقضم منها أجزاء قليلة، تُرجعها الأم، تُعطيه الساندويشة مرة أخرى وهكذا والحديث بينهما مستمر والتحرّكات لا تكاد تتوقّف. فكّرت في الأمر. كنت جالسا وحدي مندمجا مع هدوئي، فلماذا يدخل عليّ هذان الاثنان ليُعكّرا عليّ صفو يومي؟! لقد احتلّاني! فكّرت مرة أخرى. كنت جالسا لوحدي، وكلاهما قدم اليّ واختارا أن يجلسا بقربي، لماذا لا أفسّرها كمحاولة الى الركون الى مكان آمن، كمحاولة للانسجام مع انسان لا يعرفونه؟!

انني وعبر هذين المشهدين أردت أن أجسّد كيف أن كل واحد منا يُعطي تفسيرا مختلفا للأحداث التي تحدث معه وحوله، كما أن كل انسان يمكنه أن يعطي تفسيرا مختلفا بحسب السياق (المكان، الزمان، المزاج، الأحداث السابقة للحدث وهكذا). اننا وفي سياق الاحتلال يمكننا أن نرى كل شيء من حولنا احتلالا، فالقطار احتلّ الطبيعة والأم وابنها احتلّا المقاعد بجانبي. انها تأثيرات سيكولوجية (مشابهة لتأثيرات الإعلانات)، في الغالب لا واعية ولهذا فهي تُسيّرنا من حيث لا ندري كيف سيّرتنا، وعندما نُعيد النظر ونحاول التفكير في ما جرى، يمكننا أن نكتشف ما الذي أرشد سلوكنا.

***

تراشق الأفكار

كم هي غالية تلك اللحظات التي تأتيك فيها الأفكار عن اليمين وعن الشمال، من هنا وهناك. أفكار خاطفة، يمكنها أن تختفي بلمح البصر ان لم يتمّ الالتفات اليها. منها أفكار تتعلّق بالفكر (كفكرة خاطفة عن علاقة الروح بالجسد)، ومنها أفكار تتعلّق بالواقع (كفكرة تتولّد من تأمّل في الطبيعة) ومنها أفكار تتعلّق بأحداث الحياة اليومية (كفكرة عن شخص أو حدث). انها تُسمّى أفكارا أوتوماتيكية (Automatic Thoughts)، وهي أفكار سريعة تمرّ في البال (أحيانا كثيرة تكون لا واعية) وتؤثّر بالتالي على الشعور.

لكن النقطة المركزية هنا أنها أفكار سريعة الاختفاء، ما ان تظهر حتى تختفي، وما ان تظهر واحدة حتى تأتي الأخرى، وللوقوف عند كل واحدة منها ولتمييز الواحدة عن الأخرى، يحتاج الفرد الى أن يبذل جهدا في محاولة استخلاصها وتسطيرها. أحيانا تمرّ دونما رجعة، كما يمكنها أن تموت ان لم يتمّ تغذيتها! والمُحزن في الأمر أنها يمكن أن تحمل في طيّاتها بداية مشاريع فكرية عظيمة. أنكتب على هذه المشاريع الموت بكل سهولة؟! ألا نحسّ بالحسرة على موتها قبل ولادتها؟!

ان ما يمكن أن يُساعد في حالات تراشق الأفكار هو الاستعانة بالتوثيق، فالقلم يمكنه أن يكون حافزا على محاولة وضع النقاط على الحروف ومحاولة التقاط تلك الأفكار الكثيرة وتسطيرها. انه يُخرجها من حيّزها الدماغي لتنولد الى الحياة فتؤتي أُكُلها أضعافا مضاعفة. اخراجها يجعل لها وجودا ويمكنه أن يُحيي سلسلة طويلة من الأفكار التي تلحقها، كما أن خروجها يُخلّف راحة، اذ تخفّ وطأة هذه الأفكار الكثيرة ويقلّ تراشقها.  

***

هل تقلق تل أبيب؟

عندما تتجوّل في شمال تل أبيب تفكّر أحيانا: هل يقلق هؤلاء الناس؟! هل من داعٍ الى القلق؟! "الكنيونات" الفخمة والإقبال الشديد عليها رغم غلاء أسعارها، الشوارع العريضة التي تعجّ بوسائل النقل، البنايات الشاهقة، سيارات حفظ الأمن وغيرها من مظاهر البرجوازية. ان كل هذه المظاهر تُوهم بانعدام القلق وبحياة رغيدة خالية من المقلقات، الا أن الحقيقة تختلف. ان حياة هذه الطبقة البرجوازية مختلفة، ولكن المخاوف البدائية لا تنعدم فيها، فإن قلقت الطبقة محدودة الدخل من الرزق وتوفير لُقمة الحلال، فإن الطبقة البرجوازية يمكن أن تقلق حول أين تحفظ مالها وبأي مشروع تستثمره. وربما تكون هذه المخاوف البدائية أقلّ وطأة في الطبقة البرجوازية، خصوصا فيما يتعلّق بالأمن والأمان، الا أن هذا لا يعني تفاضّلها على الطبقة محدودة الدخل.

ان هذه الطبقة التل أبيبية البرجوازية (ليس كتعميم وانما كانطباع عام) مُغترّة بما تملك من أموال وممتلكات، أي أنها مُغترّة بالماديات، مما يجعلها تُغفل الروحانيات. انها – كأغلب الطبقات البرجوازية – حصرت السعادة في الجانب المادي، وظنّت أن حولها وقوتها بيديها، تفعل ما تشاء، متى تشاء وأنى تشاء. انها ظنّت نفسها إلها على الأرض، ولذا لم يتردّد قسم من أبنائها بأن يتحدّوا الخالق ولم يتردّدوا بتجرّئهم عليه. انه صعب عليهم أن يعوا قول خالقهم: "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (آل عمران، 178). هذه الطبقة رفضت الارشاد الإلهي وأرادت أن تبتدع بمساعدة ماديتها خريطة طريق تُوصلها الى الاطمئنان، مما أبقاها حبيسة ماديتها، وبالتالي ترك عندها خواء روحانيا. ان هذا الخواء يولّد مُقلقات ومخاوف لا حصر لها وأغلبها يرتبط بالمصير النهائي الذي من خلاله ينتهي الغرور المادي ويبدأ ما وراء المادة، وعندها لا يملكون الا أن يقفوا مذعورين خانعين أمام شبح الموت الذي لطالما تغاضوا عنه. ولما تكشّفت أمامنا حقيقة هذه الطبقة، بعد أن نزعنا الغطاء المادي المُغري اللامع، فإننا لا نظنّ أن شمال تل أبيب أقلّ (وربما تكون أكثر) قلقا من قرانا العربية، بمعنى أن البرجوازية والماديات ليست هي التي تحدّ من وطأة المخاوف.  

***

صوت المرأة ثورة !

تلك المرأة الهاشمية التي صرخت "وامعتصماه" لما أغار امبراطور الروم على بعض الثغور الإسلامية ففعل بها الأفاعيل، فما كان من المعتصم الا أن حرّك جيشا له أول ما له آخر! هذه المرأة الأسطورة حرّكت جيشا طويلا عريضا بصوتها وبألمها، فكان فتح عمورية، ثم كان من بين ما قال أبو تمام في قصيدته المشهورة:

 يا يوم وقعة عمورية انصرفت *** منك المنى حُفَّلاً معسولة الحلب

 أبقيتَ جدَّ بني الإسلام في صَعَد *** والمشركين ودار الشرك في صَبَب

 لقد تركتَ أمير المؤمنين بها *** للنار يوماً ذليل الصخر والخشب

 غادَرتَ فيها بهيم الليل وهو ضحىً *** يشُلّه وسطها صبحٌ من اللهب

 حتى كأن جلابيب الدجى رَغِبت *** عن لونها وكأن الشمس لم تَغِب

المرأة التي تُعرف بأحاسيسها ومشاعرها وعاطفتها الجيّاشة، بقلبها الرقيق الذي يحوي أحزانا وأفراحا كثيرة، والذي يبحث عن فرصة له ليبوح بكل ما يعتصر به. فإذا وُجدت الفرصة وصدر البوح، خرجت الأحاسيس من العمق الى السطح، من القلب الى الدموع، لتُعبّر عن مكنونها ولتؤثّر على ما ومن حولها. انها المرأة التي يمكنها أن تُحرّك القلوب بإحساسها الصادق، بمشاعرها المنفتحة. وهل يصمد أمام هذه المشاعر التي تعبّر عن آلام الا أصحاب القلوب الغليظة أو من حاولوا صرف قلوبهم عنوة عن الانسياق وراء تلك المشاعر؟! لذلك فإننا عندما نقول أن صوت المرأة ثورة، فلا نقصد بذلك تسطير عبارة شاعرية فحسب، وانما نقصد ما نقول في المقام الأول، اذ أن هذه المرأة الرقيقة يمكنها أن تُحرّك ثورة كاملة بصدق بوحها وتأجيجها لمشاعر الجماهير، تماما كما يمكنها أن تؤجّج نزاعات عائلية دامية تفوح منها رائحة التفاهة. الصوت الأول هو الثورة – عند المرأة كما عند الرجل - والصوت الآخر هو العورة.

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة:


***

لا تستخفّ !

حدث معي مرة أن قال لي أحد أصدقائي متحدّثا عن آخر: "يا زلمي مهو زي الختيارية"، فرددت عليه برد فطري زاد فيه ايماني بعد ذلك: "لا تستخفّ بمن حولك، وإن رأيت أن فلانا لا يسوى شيئا، فراجع نفسك! فإن كل انسان مهما ظهر لك أنه لا يسوى، فإن عنده أشياء وأشياء". قلتُ ذلك لأني كنت أعرف ما لا يعرف عن من يتكلّم عنه، ولكني أفكّر اليوم كم نستعجل في الحكم على الآخرين؟! من أول جملتين نُغلق باب الإنصات ونظنّ أننا كوّنا صورة كاملة متكاملة عن الشخص! من موقف واحد (على الأغلب يلفتنا السلبي) نصدر حكما على الانسان أنه لا ينفع أو أنه لا يسوى! أنلخّص حياة انسان في موقف واحد؟! أنلخّص تاريخه، شخصيته، أفكاره في جملتين؟! هذه النصيحة التي أطلقتها بصدق عملت عملها مع الشخص المُتحدّث عنه، فحدث بينهما تقارب مشهود ولا شك أنه أفرحني، الا أن صديقي لم يعقل النصيحة جيّدا ولم يُذوّت الاستقراء كما يبدو مع أنه واضح في النصيحة (لم يستفد من الخاص الى العام)، فراح يعيد استخفافه بآخرين.

والحقّ أن جملة كالتي قالها "يا زلمي مهو زي الختيارية" تحمل استخفافا بأكثر من طرف، فهو ليس استخفاف منفرد بالشخص المُتحدّث عنه، ولكن القولة تتضمّن استخفافا أيضا بـ"الختيارية". أهي النرجسية اذا؟! نبقي هذا السؤال مفتوحا اذ ليس هو النقطة المركزية في هذه المقالة. ان كل انسان عنده قدرات وتاريخ شخصي، ولا يمكن تصوّر انسان خامل لم يفعل شيئا في حياته! لا يمكن تصوّر انسان ميت وهو حي! ولا يمكن تصوّر انسان كبذرة الحمص الجافّة لا يتغيّر ولا يتقدّم ولا يتأخّر! ان الانسان متواجد في حياة، ولذا لا بدّ أن تدخل اليه هذه الحياة بقدر كبير أو صغير، ولا بدّ لهذا الكائن الحي أن يتحرّك وإلا لصار جمادا!

ولنأخذ أمثلة غير اعتيادية، فنضرب مثال ذلك الذي أراد التقشّف والاعتزال عن الحياة والمجتمع. أليس عنده ملكات؟! ألا يسوى؟! اننا نظلمه، بل نظلم أنفسنا قبل ذلك اذ أننا جهّلناها وتغاضينا عن نور الحقيقة، ان قلنا ذلك! انه يمكن أن يكون روحاني كبير ويمكنه أن يتأمّل ويكتب تأمّلاته الصافية. ولنضرب مثال ذلك الولد الذي يُقال عنه بظلم "معدوم المواهب"، "فلا هو فالح في الدراسة ولا في الاجتماعيات" كما يقول بعض المدرسين، أفنساويه للصفر؟! أم نحاول أن نرى قدراته في الفن والأعمال اليدوية؟! ولنضرب مثالا خياليا على شخص مكتئب من أول حياته الى آخرها، مما يُبقيه حبيس المنزل! أهو لا شيء؟! لا، اذ هو تجربة حيّة لمرض الاكتئاب! كما أن لزومه للبيت لا يعني أنه لا يفعل شيئا، فيمكنه أن يتعلّم وربما يطوّر فنّ الطبخ وأشياء أخرى كثيرة يمكنه فعلها خصوصا في عصر الإنترنت. لذلك وبعيدا عن هذه الأمثلة المتطرّفة فإننا نرى أن كل انسان على وجه هذه الأرض عنده قدرات ومَلَكات، نشاطات وفعاليات واذا خفيت علينا فهذا لا يعني أنها ليست موجودة، ولذلك لا ينبغي أن نُظهر استخفافا أو نُبطنه. 

***

القوى الخفية

لا شكّ أننا نتسرّع اذا ظننّا أن من عندهم تخلّف عقلي هم معدومو المستقبل، ولذا لا طائل من الاستثمار في علاجهم ومساعدتهم في التغلّب على النقص الذي يُعانون منه. ولا شكّ أننا نتسرّع أيضا اذا ظنّنا أنهم غير قادرين على فعل أي شيء. ونحن نتسرّع كما يبدو في اطلاق مثل هذه الأحكام، لأننا لا نريد رؤيتهم بيننا، ولذلك نُفضّل عزلهم عن مجال الرؤية ونبذهم الى الجوانب وادخالهم الى مؤسّسات خاصّة ليتوّلو رعايتهم أو ابقائهم حبيسي المنازل. المهم أن لا يراهم الناس، فهم يُخجلوننا ويُحرجوننا أمام هذا المجتمع "العاقل".

ونحن ندّعي أن هذا تسرّع لأن التخلّف العقلي درجات، فمنه التخلّف الخفيف، المتوسّط، الشديد والعميق. وأن نُعمّم العميق على سائر الدرجات، فهذا فيه علاج للمشكلة بمشكلة، اذ أننا نُجهض فرص العلاج الملائم، وبذلك نضرّ بالمجتمع الذي يريد من أفراده أن يكونوا قادرين على العمل، ونضّر بالمريض الذي يمكن تحسين وضعه، اذا ما توفّر العلاج الملائم.

والحقّ أنني دخلت مرات عديدة الى لبّ هذه المجموعة ورأيت كيف يظهرون عن كثب، وقد خرجت مع انطباعات ايجابية، خلافا لما يُروّج له في الخارج، في مجتمع "العقلاء". بان لي أنه اذا أتيتهم من منفذ يُحاكي لغتهم، فإنهم سيتقبّلون وجودك وستنكشف وقتها الى ما عندهم من قدرات وقوى خفيّة. انهم ليسوا معدومي القدرات، بل لقد شاهدتهم بأمّ عيني يشتغلون بأيديهم بتركيز ودقّة عاليتين، يُركّبون هذه القطعة على تلك ويُعيدون الكرّة ان لم يخرج انتاجهم مُتقنا. وهم لا ينفكّون عن الإبداع، فالحيطان من حولي كانت مليئة بإنتاجات يعجز من يقول أن قدراته العقلية عادية عن ابداع مثلها. بمعنى أن عندهم قدرة على التعلّم وعندهم قدرة على الإبداع والإنتاج، فلماذا نعدمهم قدراتهم؟!

***

الترهيب من مرضى النفس

عندما دخلت الى قسم الأمراض النفسية (Psychiatry Department) في أول مرة، كنت مُتخوّفا من اللقاء الأولي مع المرضى. كيف يبدو هؤلاء المرضى؟! هل يتكلّمون مثلنا؟! هل يُفكّرون مثلنا؟! هل يتصرّفون مثلنا؟! هل يُشكّلون خطرا علينا؟! دخلت اليهم مع هذه التخوّفات، مما قادني الى محاولة تفادي الاحتكاك معهم. لقد عظمت رهبتهم عندي! الا أنه من أول محاولة للاقتراب منهم، اكتشفت كم أنهم ودودون، وكم هي بعيدة تلك التصوّرات التي يبنيها الناس في الخارج عن مرضى النفس. الناس يُصوّرون مرضى النفس على أنهم مجانين، في حين هذا خطأ فادح، اذ أن أغلب القاطنين في تلك الأقسام هم ليسوا كذلك (ليسوا مجانين)، اذ هناك حالات الاكتئاب، القلق، الوسواس القهري، نوبات الهلع، مشاكل النوم وغيرها. ومع تواجدهم في القسم وتواجد العلاجات المُختلفة (الطبية، النفسية، الاجتماعية، التشغيلية وغيرها) فإن المُعالج يمكنه أن يشهد تحسّنا ملحوظا عند المريض، مما يمكّنه من الجلوس والتكلّم، الجلوس والاشتراك في الأشغال اليدوية، المشاركة في النشاطات التفكيرية والاجتماعية المختلفة التي يوفّرها القسم.

***

القلق الوجودي

يشترك جميع بني البشر في هذا النوع من القلق، اذ هو قلق يرتبط بالأسئلة المتعلّقة بوجود الانسان في هذا الكون: من أين أتيت؟ في أي طريق أسير؟ والى أين أذهب؟ انه البحث الفطري عن الإله وعن طريق الإله، انه البحث المتعلّق بالشهادة الأولى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ" (الأعراف، 172).

انه قلق يُستثار عند الكافر كما عند المؤمن، فالكافر (الكافر في النظرة الدينية، المؤمن بقناعاته) يمكنه أن يجد له قناعات حول الوجود ورغم ذلك تبقى تُساوره شكوك معينة حول ثغرات مُظلمة وحول أمور يعجز العقل عن ادراكها. كذلك فإن ايمان المؤمن يزداد وينقص ويمكن أن تساوره شكوك وأن تستوقفه شُبُهات. حتى ذلك المؤمن الذي وصل الى منزلة اليقين، فإنه يبقى عنده نوع من القلق الوجودي. "واليقين هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل" (تفسير السعدي). وقال البيهقي: "اليقين هو سكون القلب عند العمل بما صدق به القلب، فالقلب مطمئن ليس فيه تخويف من الشيطان، ولا يؤثر فيه تخوف، فالقلب ساكن آمن ليس يخاف من الدنيا قليلا ولا كثيرا". انه ليس يخاف من الدنيا ولكن هذا لا يعني أنه لا يخاف من الآخرة ومن المصير النهائي وما يرتبط بهما (كأن يخاف أن يتقلّب قلبه، فلا يثبت على طاعة الخالق). وعن علاقة اليقين بالإيمان، قال بعض السلف: "الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كل". الا أن اليقين لا يكتمل الا عند الموت، عند تلك اللحظة الفارقة التي يخرج فيها الانسان من عالم المادة الى عالم ما وراء المادة، من عالم الماديات الى عالم الغيبيات. يقول مولانا جلّ وعلا: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر، 99). قال ابن كثير في تفسيره مدلالاً على أن اليقين هنا هو الموت،  والدليل على ذلك قوله تعالى عن أهل النار: "قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ" (المدثر، 43-47).

لذلك يقول تعالى: "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (الأعراف، 99)، ويقول السعدي في تفسيره لهذه الآية: "هذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان. بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيا بقوله: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. وأن يعمل ويسعى في كل سبب يخلّصه من الشر عند وقوع الفتن، فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت - فليس على يقين من السلامة". يقول تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (المؤمنون، 60-61)، فحتى هؤلاء الفاعلين للخيرات، عندهم نوع من وجل وقلق وجودي. وقال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم مأمونو العواقب ومع ذلك هم أشد خوفا، والعشرة المشهود لهم بالجنة كذلك، وقد قال عمر رضي الله عنه: لو أن رجلي الواحدة داخل الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله.

"المكر في الأصل: التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب" (موقع اسلام ويب، فتوى رقم 122280).

***

هل تطمئنّ النفس في هذه الحياة؟

ان هذه الحياة الدنيا فيها لحظات فَرِحة وأخرى حزينة، لحظات يُسر ولحظات عُسر، لحظات اشراق ولحظات غروب، والانسان ينكشف بل ويعيش هذه التركيبة وهذا التنوّع. فالحياة لا تستقرّ على حال وهي متقلّبة، مُتغيّرة، فيها الطلعات وفيها النزلات. بمعنى أن هذه الحياة بماديتها، من طبعها عدم الاستقرار والتقلّب، فهي تأتي بالحلو والمرّ، بما يهوى الانسان وبما لا يهوى. ففي صباح اليوم العاشر من الشهر يمكن أن يفرح الانسان على أثر دخول معاشه وبعد لحظات يمكنه أن يحزن على أثر مشادّة كلامية بينه وبين آخر عند خروجه من البنك. لهذا، ان أراد الانسان أن يُعلّق قلبه فقط في هذه الحياة، فسوف يتأثّر تأثّرا كبيرا بتقلّباتها ومتغيّراتها، وعندها ستلعب به الحياة لعبتها، فتارة تُفرحه وتارة تُحزنه وسيتقلّب بتقلّباتها وسيتغيّر بمتغيّراتها.  

أما من يتعلّق بالإرشاد الإلهي، بالإرشاد الذي بعثه لنا الله عبر رسله، فإنه سيُعلّق قلبه في الحياة الأخرى، وستتوسّع رؤيته لتشمل الجوانب الروحية بالإضافة الى المادية. انه عندها يتحرّر من أسر مادية هذه الحياة، انه يتحرّر من ألاعيبها، فيربط نفسه وقلبه بالاطمئنان الأبدي، بالراحة الأبدية وبالنعيم الخالد. عندها يمكن أن تصغر المادة قبال الروح، تصغر نوائب الدهر قبال النعيم المُنتظر وبالتالي تقلّ وطأة ألاعيب هذه الحياة وتقلّ سطوتها وجثومها على قلب هذا الانسان المُسلّح بروح من عند الرحمان. ربنا جل وعلا يقول في كتابه: "وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي" (الحجر، 29). انها روح أقوى من الجسد، انها روح "أضافها إلى نفسه تشريفًا وتكريمًا كقوله: أرضي وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله، ومثله: وروح منه" (القرطبي) وبذلك فهي تفوق كل الماديات. "ونفخت فيه من روحي، قيل: عنى بذلك: ونفخت فيه من قدرتي" (تفسير الطبري).

من هنا فإن النفس يمكنها أن تطمئن في هذه الحياة اذا ما اتّبعت الإرشاد الإلهي ولذلك يقول مولانا جلّ وعلا في كتابه العزيز: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي". "قال ابن عباس: أي المطمئنة بثواب الله. وقال الحسن: المؤمنة الموقنة. وعن مجاهد أيضا: الراضية بقضاء الله، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل: الآمنة من عذاب الله. وقيل: التي عملت على يقين بما وعد الله في كتابه. وقيل: المطمئنة بالإيمان، المصدقة بالبعث والثواب. وقال ابن زيد: المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت، وعند البعث، ويوم الجمع" (مقتطفات من الجامع لأحكام القرآن). أي هو اطمئنان في هذه الحياة الدنيا ولكنه ليس اطمئنان بها، وانما اطمئنان بوعد الله وما ينتظر الانسان من نعيم وراحة.

***

الأساسات

اذا ما تأمّلنا الخطوات الأولى، درجات السلّم الأولى، البدايات، فإننا نستثقلها أحيانا كثيرة ونرى أن تقدّمنا فيها بطيء، وعندها نودّ لو أن نقفز الدرجات الأولى الى أعلى ونتخطّى البدايات البطيئة. ومنا من يفعل هذا كل يوم، فهو يستبق الأمور دوما ويتجاوز البدايات، ظانا بذلك أنه يوفّر على نفسه العناء ومضيعة الوقت مما يضرّ بالكيفية ويقدّس الكمّ. فمن أول دقيقتين يأخذ انطباعا نهائيا عن الشخص ويحسم قراراته حوله (يقفز درجات التعارف الأولى)، ومن لحظة رجوعه الى الدين يريد اقامة الخلافة الإسلامية، ومن أول يوم في العمل يريد أن يصير "الكل بالكل". الا أن بداية البناء تستوجب حشد طاقات كثيرة وتستدعي الصبر على التعلّم، تماما كبناء البيت الذي يحفرون له الأساسات الكثيرة عميقا في الأرض ومن ثم يملؤون ما حفروا بالباطون والحديد وفوق ذلك تأتي جسور الباطون (العركات) التي تجمع ما بين الأساسات، وبين المستطيلات التي تُنتجها تلك الجسور، يُعبّئ التراب والصخر وعندها يمكن صبّ أرضية البيت. كل هذا تحت الأرض؟! كل هذا لا يراه أحد؟! كل هذا لن يُستعمل في المستقبل؟! الا أن هذا الذي دُفن تحت الأرض هو أساس البيت، فبدونه لا يمكن أن تقوم قائمة البناء، وان قامت دونه فإنها ستكون واهنة، ضعيفة، عاجزة عن الصمود في معترك هذه الحياة (حالات الطقس المتطرّفة، الهزّات الأرضية وغيرها). كذلك فإن أي بناء انساني يقوم بلا أساس جامد، بلا أساس متين، فإنه سيكون ضعيفا، واهنا، عاجزا عن أن يُثبت كفاءته في ظروف الحياة المختلفة. انه سيكون كمّا بلا كيف.

ولا شكّ أن هذا العالم المادي يدفع الى التسارع والركض. انه عالم يريد أن يرى نتائجا وانتاجات بأسرع وقت، ولا يهمّه ان كان الأساس متينا أو لا. المهم أن يكون الانتاج بليغا ولا يهمّ ما قبل ذلك، ولذلك نجد من يتسلّقون الدرجات العُليا، دونما أساس ودونما خلفية، ونجد من يستعملون الوسائل الغير شرعية للوصول الى الهدف الذي يهمّ المجتمع الصناعي. انه ينبغي أن نستخلص العبرة من قول الأجداد: "اجري يا بن آدم جري الوحوش غير رزقك لن تحوش".

***

الحرية القصوى

اذا فكّرنا في الصلوات الخمس وكيف أنها موزّعة في اليوم والليلة، نفهم أن هناك هدف من هذا التوزيع، فلا يعصى على الإله (حاشاه) أن يجعلها متراصّة، متتالية، ليكون اليوم كلّه عمل وساعة في المساء هي للصلّوات. الا أن هذا الفصل لا يتلاءم مع روح الدين، دين الدمج، الذي يريد أن يدمج بين الدنيا والآخرة، بين المادة والروح، بين العمل والصلاة. لذلك أراد أن يجعلها داخلة في النشاط اليومي، في دنيا الناس، مُوزّعة على يوم عملهم. انه أراد أن يكون الإسلام نهج حياة، أن يكون الدين حاضرا في كل الأوقات، وأن تكون العبادة بمفهومها الخاص (الشعائر) مُنتشرة خلال اليوم والليلة، لتتحصّل العبادة بمفهومها العام (أن يصير كل عمل خالصا لوجه الله تعالى، كالتعليم وكالعمل وحتى النوم والجنس).

واذا زدنا التفكير فإننا يمكن أن نصل الى أن هذه الصلوات تنتزع (وهو انتزاع ايجابي) الناس من سطوة المادية وسيطرتها. انها تنتزع الناس من العالم الذي همّه الوحيد هو الإنتاج، انها تنتزع الناس من عالم الكمّ، من عالم المصالح، من عالم الماديات، من عالم الجسد، لتأخذه خمس رحلات روحية في خمس أوقات مختلفة. ان هذه الصلوات وكأنها تقول للإنسان أن أوقف كل أعمالك الدنيوية وتعال اليّ، "حي على الصلاة، حي على الفلاح". مهما كنت تفعل ولو كنت في المنتصف (الا ان كان الأمر ضروريا)! إنها دعوة للخروج من المادية والدخول الى الروحانية! دعوة في وسط الانشغال، في وسط اليوم، في وسط عالم المادة! انه ليس بالتحرّر السهل، فسطوة المادة شديدة خصوصا في أيامنا، فالنجار يريد أن يتمّ أكبر قدر من أعمال النجارة والتاجر يريد أن يزيد أرباحه قدر الإمكان، والعالم الصناعي الذي يُقدّس المادة يُشجّع على ذلك.

لكن الصلوات الخمس تُريد أن تحمانا من هذا الركض، من هذا الجري اللا منتهي، من هذا الطمع والجشع، لتُحرّرنا من وسط الميدان ولتمنحنا الاستراحة والفاصل الذي نظنّ أن لا حاجة لنا به أو نظنّ أننا لا نستحقّه، لأننا لم نستكف بالأرباح التي حصدناها. انها دعوة واضحة للتحرّر ولنفض جثوم المادة على الروح، وكم تكون سعادتنا كبيرة عندما ننجح في هذا التحدّي، فنُعلن بذلك انتصار الروح على الجسد، انتصار الحرية على القيود المجتمعية! ولا نُبالغ ان قلنا أن الحرية القصوى تتحقّق في الصلاة التي تُقام في وقتها، اذ هي تلك التي دفعتنا الى أن نتحرّر من الشهوات، من الرغبات، من الأشغال المختلفة ومن كل الماديات للدخول في عالم تغذية الروح وحضور الجسد. لذلك فإن الدعوة لإقامة الصلوات في أوقاتها برزت في التعاليم الدينية: "إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا" (النساء، 103). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا».

***

الفرصة الضائعة

صلاة الجمعة هي مناسبة أسبوعية عطرة يجتمع فيها حشد لا يُستهان به من عامة المسلمين. قال القليوبي في حاشيته: "سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، أو لما جمع فيها من الخير". وقال الشربيني: "وقيل لأنه جمع فيه (في يوم الجمعة) خلق آدم، وقيل لاجتماعه فيه مع حواء في الأرض"، فعنصر الاجتماع واضح لا غبار عليه في هذا اليوم وفي هذه الصلاة بالذات. وصلاة الجمعة هي مناسبة خاصة وفرصة ثمينة لأمرين، أما الأول فلكونها صلاة حاشدة تجمع المسلمين تحت سقف واحد، مما يعني تواجد عدد كبير من السامعين والمتلقّين. فهل هناك مناسبة أسبوعية أخرى عدا صلاة الجمعة تجمع هذا العدد من الناس؟! انها مناسبة دورية وجامعة وهذا ما يُميّزها. أما الأمر الثاني فيتعلّق باحتواء هذه الصلاة على خطبة لا تقلّ عن عشرين دقيقة في الغالب كواحدة من الشعائر. مما يعني وجود المنبر واتاحة المجال لإيصال رسائل واسماع أقوال، أي أن هذه الصلاة تُعطي للرسالة الكلامية (الخطبة) مشروعية وبالتالي يمكن اغتنام هذه المشروعية وهذا المنبر للتأثير على شريحة كبيرة من الناس. هذه الصلاة تُعطي وجودا للمُتلقي، للمُلقي، للرسالة ولتأثير هذه الرسالة.

لذا، فأي ذنب هذا الذي نقترفه بحقّ الأمة ان كانت خطبنا ضعيفة؟! ان كانت تُساهم في تجهيل الناس، بدلا من افادتهم وحثّهم على التفكير والبحث؟! أي خطيئة تلك التي نتغاضى عنها عندما تضيع هذه الفرصة الثمينة من بين أيدينا؟! عندما تضيع منا فرصة تحبيب الناس بدينهم، تفهيمهم اياه بدلا من تكرار الأقوال (لسنا ضد التكرار ولكنا ضد التكرار وحده) التي سمعها الناس كثيرا؟!

ان من يعرضون أبحاثهم العلمية في المؤتمرات يأخذون عشر دقائق كحدّ أقصى ومؤسسة تيد ( (TEDالعالمية تُعطي المتحدّث 18 دقيقة كحدّ أقصى لعرض أفكاره، والعرض يكون مشبعا حتى النهاية بالأفكار الخلّاقة الجديدة التي تُساهم في افادة السامعين. لذا، فإن حجّة أن الوقت لا يسمح داحضة. وحجّة أن السامعين لن يفهموا خطبة علمية أو فكرية أو فلسفية، فهي أيضا داحضة لأنها تعكس تلاعبا بما نطمح اليه. اننا نطمح ونطلب خطبة تدمج ما بين الدين والعلم والفكر والفلسفة. اننا نريد أن يتواجد العقل المسلم الى جانب النقل، بحيث لا تقتصر الخطبة على "قال وقال". اننا نريد أن يتواجد التحليل والنظر الى جانب المرويّات. اننا نريد أن نرى ترجمة للنصوص الى واقعنا اليومي. اننا نريد أن نرى معطيات واكتشافات علمية الى جانب الفهم الديني. والحجة الأخيرة داحضة أيضا لأن أصعب المواد يمكن أن تُمرّر الى أبسط الناس (بمساعدة الأمثلة على سبيل المثال)، اذا ما تواجد الشخص الكفؤ الذي يُمرّرها.

***

الانتاج العربي

أثناء زيارتنا لمدينة جدّة في رحلة العمرة، قال لنا مرشد سعودي أن السعودية موقّعة على اتفاقية مع أمريكا، بموجبها تتعهّد السعودية بتوفير النفط المجاني لأمريكا مقابل الحماية. وعند مراجعتي للقضية وجدت أثرا لها في الفيديو المُرفق أدناه، ولكن بحسب الفيديو الاتفاقية تختلف قليلا، اذ اتفق الطرفان على أن تحصل الولايات المتحدة على حق حصري بالتنقيب عن النفط السعودي واستثمار حقوله وشرائه مقابل حماية السعودية من أي خطر خارجي. وأيا كان صيغة الاتفاقية: أليس هذا اتفاقا يعكس حالة هوان؟! أليس هذا نسخة مُعدّلة مُزيّنة للاستعمار؟! لماذا باع حكّام الدول العربية أنفسهم والبلاد وثرواتها للغريب بدلا من أن يستثمروا هذه الثروات التي وهبهم الله اياها في بناء الوطن؟! لماذا أذلّونا الى هذه الدرجة؟! ان التوقيع على مثل هذا الاتفاق المُذلّ لا يمكن أن يكون اجباريا وبالتالي فهو لم يُفرض على العرب من السماء وانما هم (أو رعاتهم) هم من اختاروه؟! أليس هذا بيعا للوطن؟!

ومن ثم فالسؤال: كل هذا البيع لماذا؟! لحماية الدولة العربية من أي خطر خارجي أم للحفاظ على الكراسي والمناصب؟! أيُباع الوطن من أجل حفظ الوطن؟! كيف يستقيمان في نظر هؤلاء؟! الا أن المسألة باتت واضحة في هذا العصر الذي بدأت تتكشّف فيه الحقائق، فلا يمكن أن يكون مثل هذا الاتفاق لمصلحة الوطن، وانما لمصلحة الحاشية الملكية أو الطبقة المُسيطرة أو المُتعاونة أو المُطبّعة.


***

الاستعلاء

ان هذا الموضوع يحتاج الى مقالات كثيرة والى كتب للغوص في أعماقه السيكولوجية والاجتماعية ولكني أردت هنا أن أوضّح نقطة مُقتَضبة وأتمنى أن لا أظلمها. الاستعلاء أو التكبّر أو الغرور أو النرجسية (بالمعنى المتداول) هي كلمات سأضعها في نفس الخانة، على أن هذا لا يعني أن لا فرق بينها. الفكرة التي تودّ هذه الصفات أن تُوصلها هو صفة ذاك الشخص الذي يعرض نفسه أكبر من حقيقته، وقد استعملت "يعرض نفسه" لأنه في الحقيقة هو يدرك بوعيه أو بلا وعيه أنه أقلّ من ذلك بكثير ولكنّه يُصرّ على هذا العرض لتلميع صورته أمام الجماهير أو أنه يظل يُقنع نفسه أن عرضه لنفسه هو عرض سليم ولكنه رغم ذلك يبقى يحسّ بشيء من الزّيف (في لحظات الصدق مع النفس). لذلك ورد في معجم المعاني أن "الغُرور بالنَّفس هو شعور خادع بالأهمية"،  "واستعلى أي تكبّر وتعالى" (معجم اللغة العربية المُعاصر). لهذا فإننا نلاحظ أن الكلمات الأربع (الاستعلاء أو التكبّر أو الغرور أو النرجسية) ترمز الى ما قلناه سابقا وهو أن الشخص يرتفع بنفسه خادعا اياها، اذ هو في الحقيقة أقلّ من ذلك. من هنا فقول الله تعالى: "إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه" (غافر، 56)، يوحي بهذا ففي تفسير الطبري ورد: "إن في صدورهم إلا عظمة ما هم ببالغي تلك العظمة"، أي يعرضون ويظنون أنفسهم عظماء وهم في الحقيقة غير ذلك. وهذا ما يُسمّى في علم النفس بـ Idealization"" أي اعتبار الذات مثالية. ولأن النرجسي متركّز بذاته، فهو لا يكاد يرى الآخرين، وان رآهم فإنه يراهم أقلّ منه وأقلّ من حقيقتهم، اذ هو ينظر اليهم من أعلى فيراهم صغارا. وهو ينقضّ مدافعا عن ذاته، اذا ما أسمعه أحدهم نقدا، اذ هو يظنّ ذاته مثالية، فكيف يخدشها هذا الذي لا يكاد يُرى.

لكن النقطة التي نودّ تحديدها عبر هذه المقالة القصيرة هي أن هناك مجموعة أخرى من الكلمات قريبة الى المجموعة الأولى، وهي في الغالب تُخلط معها في عُرف الناس، ولذا وجب وضع الحدّ الذي يفصل بينها لأهمية الأمر. الاعتداد أو الاعتزاز أو النرجسية الصحية نضعها في خانة أخرى، لأنها تختلف اختلافا جوهريا عن الخانة الأولى، فهذه الكلمات ترمي الى المفاخرة بالقدرات الحقيقية التي يعي الشخص بصدق أنها موجودة عنده. هو يُدرك مكانته في كل مجال، رغم أنه ليس من السهل التفريق بين القدرة الحقيقية (الموضوعية ان صح التعبير) وبين القدرة المُتخيّلة (النابعة من الرؤية الشخصية)، فالإنسان يمكن أن يظنّ نفسه بارعا في مجال معين، الا أن الآخرين لا يرونه كذلك. بكل حال فإن ما يساعد على ذلك هو زيادة الوعي بالذات، والنظر في نقاط الضعف كما في نقاط القوة، والبحث عن نقدها. لذلك ان كان عند الشخص ملكة حقيقية أو أثبت كفاءته في مجال معين، فإن افتخاره بهذه الملكة وذاك الانجاز، ليس يُعدّ استعلاء ان عرف الشخص كيف يكون صادقا مع نفسه ومع الآخرين. في معجم المعاني: "اعتدَّ بنفسه أي وثق منها واعتمد عليها، اعتزَّ بها"، و"الاعتزاز بالنَّفس أي شعور المرء باحترام الذَّات، وبكرامتِه وشرفِه ورِفْعتِه". لذلك هناك نرجسية وهناك نرجسية صحية وهناك استعلاء وتكبّر وهناك اعتداد واعتزاز، وقد قال لي أحد الأخصائيين النفسيين مرة: "ان لم نحب أنفسنا فمن سيحبّنا"؟! وأنا أزيد ان لم نحترم قدراتنا، فمن سيحترمها؟!

***

الرواسب

اني لأسمّي ما تشرّبناه في طفولتنا وفي تربيتنا المبكّرة "رواسب"، ذلك أنها أمور ترسّبت عندنا عميقا، كما الرواسب التي تترسّب في أعماق البحار والمحيطات. هذه الرواسب تشرّبناها من الوالدين في المقام الأول، من البيئة في البيت، من البيئة في البلد، من العادات والتقاليد، من الإعلام وغيرها. من بين هذه الرواسب ايجابية، وما كان منا الا أن طوّرناها بوعي أو بغير وعي، كمثل، زرع فكرة حبّ المساعدة والعطاء. الابن يرى أبيه يُساعد امرأة خلال انزال عربتها من القطار، فيشبّ هذا الطفل ليُفكّر في انشاء مشاريع خيرية. ومن هذه الرواسب سلبية، وهي تلك التي نسعى الى اخفائها عبر وسائل الدفاع النفسية المختلفة. كأن يتسرّب الى ذهن الطفل أن البنت أقلّ كفاءة منه بفعل تأثير المجتمع الذكوري، وعندما يكبر هذا الشاب يُحاول أن يُخفي هذه الرواسب ليس لأنه لا يريد أن ينفضح، ولكن لأنه طوّر له نظرة حياتية تختلف عن تلك التقليدية. انه صار ثوريا على ما تشرّب وبالتالي صار ينقد أو ينقض ما ترسّب فيه، الا أن هذا لا يُلغي وجود مثل هذه الرواسب. فهي يمكن أن تظهر عندما تُزال وسائل الدفاع أو بعض منها، كما يحدث في لحظات الغضب وكما يحدث في اللحظات الطارئة التي تستدعي ردود فعل سريعة وكما يظهر أحيانا في الفكاهة وغيرها.  

***

الأدب والتاكت

كم يأسر القلوب ذاك التصرّف الذي يعكس رُقيا في التعامل وأدبا وأخلاقا عالية، فيجتثّنا من طين المصالح ليُحلّق بنا عاليا في سماء ملائكي! ان أدبا كهذا وتاكتا كذاك يجعلك تُعيد حساباتك المتسرّعة لتتغيّر نظرتك المتشائمة الى هذا العالم فتقول: "الدنيا لسه بخير". بل ونستغرب أحيانا من الأدب الذي يلتفت الى دقائق الأمور، فهذا الانسان لا يسعى الى أن يكون مؤدّبا مع الآخرين بشكل عام، ولكنه يصبغ بأدبه كل صغيرة وكبيرة في حياته وكل موقف ماض، حاضر أو مستقبل، فإن كان موقف ماض لم يتردّد في تصليحه بعدما مرّ، وان كان حاضرا اجتهد فيه، وان كان مستقبلا طمح الى صياغته وفقا لأعالي الأخلاق.

وقد حدث معي أثناء دراستي للّقب الثاني وذاك خلال محاضرة ألقتها محاضِرة ضيفة (أي اللقاء بها انحصر في تلك المحاضرة الوحيدة) أن خرج صوت الأذان من الجوار وبالتحديد من مآذن يافا والتي كانت تجانب مكان تعلّمي. دخل الصوت بكل اعتزاز الى الصفّ، فظنّت المحاضِرة أن الصوت صادر من هاتفي، اذ كما رأت أنني العربي الوحيد في الصف. سألتني بلطف: الصوت من عندك؟! وقبل أن أُجيبها اندفع طلاب آخرون ليقولوا لها أنه صادر من الخارج. بعد المحاضرة قدمت اليّ وقالت لي: أنا متأسّفة ان كنت قد أزعجتك بكلامي؟! متأسفة؟! على ماذا؟! اذ لم أكن قد أعرت الأمر اهتماما كبيرا، فقد كان واضحا أن الأمر التبس عليها فلم تدر مصدر الصوت ولذا سألتني، علاوة على أن توجّهها كان لطيفا سلسا. الا أنها لم تهرب من الموقف ولم تخرج مُسرعة من المحاضرة ولم تستقبل أسئلة الطلاب ولم تقلْ في نفسها كما يبدو أنها محاضرة ولا يصحّ أن تعتذر لطالب تراه لأول مرة وآخر مرة في حياتها. خصوصا أن الموقف لم يأخذ صدى كبيرا، اذ اعتبرناه نكتة عابرة، فهي كانت في موقف لا تُحسد عليه، اذ اختلطت عليها الأمور، فلم تدرِ ان كان ذلك الصوت من داخل الصف أو من خارجه أو من هذيانها، مما أربكها بعض الشيء ولربما لذلك أحسّت بضخامة فعلتها وموقفها تجاهي. وبكل الأحوال فإن ذلك لا يُلغي – بل إنه ليؤكّد – تاكتها وأدبها، اذ لم تتغاض عن لحظات ارتباكها وهي في مقام المحاضِرة.

***

الاتقان والكمالية

في معجم الغني ورد: "صَانِعٌ يُنْجِزُ أعْمَالَهُ بِإِتْقَانٍ أي بِإِحْكَامٍ، بِضَبْطٍ". وفي معجم اللغة العربية المعاصر، غاية الإتقان تعني منتهى الدقة. وحتى المعنى الذي ورد في معجم المصطلحات الفقهية: "اتقان العمل بمعنى أداؤه على أكمل وجه"، فإنه ما زال يختلف عن معنى الكمالية (Perfectionism). ويحدث الالتباس عندما تُترجم كلمة "Perfectionism" الى اتقان، اذ أننا نرى فرقا بين كلمتي اتقان وكمالية وهذا الفرق يحتاج الى توضيح، اذ هو فرق ضئيل ولكنه لا ينفكّ أن يعتبر فرقا.

وقد ورد في الحديث الشريف: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، وفي الذكر الحكيم: "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (النمل، 88). فهل يُعقل أن يحثّنا الدين على الكمالية؟! هل يُعقل أن يحثّنا دين الرحمة على ما ليس بمقدورنا؟! وفي تعريف عام يمكننا أن نقول أن الكمالية هي سعي لإصباغ صبغة الكمال على ما ليس بكامل، مما يُرشدنا الى أنها تسعى الى تكليف النفس ما لا تطيق. فكيف يمكن لدين يقول "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة، 286) أن يدفع الى الكمالية؟! انه من الواضح أن هناك مرمى آخر لكلمة اتقان، فهي لا تساوي كلمة ""Perfectionism، ولكنها أقرب الى كلمة "accuracy" أي دقة.

هذا الاتقان الذي هو منتهى الدقة يوجّه النظر الى العملية، فيدفع الى التدقيق في العمل والى الإخلاص في الصنع، بدلا من عمله كما يُقال بالعامية "شُغُل اكفي عني". لذا يمكن للإتقان أن ينسجم مع قوله تعالى "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا"، فالمحكّ ليس النتيجة، اذ هي ستكون على الأغلب نتيجة غير كاملة، ولكن المهم هو محاولة التدقيق في العملية نفسها ليتأدّى العمل على أكمل وجه (وهذا يختلف عن التأدية على الوجه الأكمل). الا أن الكمالية تنظر الى النتائج فهي تسعى الى تحقيق تلك النتائج الغير مقدور عليها ولا يهم الوسائل المستعملة في الطريق، فيمكن أن تكون وسائل تضرّ بالدّقة وتضرّ بالعملية نفسها، كمثل الطقوس التي تُكرّر نفسها، لإسكات القلق.

***

اتخرفن؟

انه لمن المثير للانتباه أن كلمة "اتخرفن" والتي تُستعمل للتدليل على فقدان الصواب، قريبة من حيث اللفظ والمعنى من كلمة "خروف". فمن حيث اللفظ كلاهما يشتق من نفس الجذر، ومن حيث المعنى يشترك بينهما الانسياق الأعمى والطاعة العمياء، فكما الخروف ينساق وراء راعيه، فكذلك الشخص الذي "تخرفن" يصير مُنساقا وراء الآخرين، اذ تكفّ قوّته العقلية عن سياقته. في معجم اللغة العربية المعاصر ورد:  "خرِفَ المتكلِّمُ أي أتى بكلام ينكره العقل أو فقدَ ترابط فكره أو تعبيره". والسؤال الذي يعلو: هل من تنازل عن ملكاته العقلية طوعا (بإدراكه) أو كرها (مخدوعا) يُعتبر من المتخرفنين؟! هل من أراد من قائده أن يُفكّر بدلا منه، صار مُتخرفنا؟! اذ هو تَنَازلَ أو سِيقَ الى التنازل عن عقله، كما أُجبر "المتخرفن" على التنازل عنه دون رغبة منه!

***

تسّلل المادية الى القلوب

لا نُبالغ ان قُلنا أن المادية فرضت هيمنتها علينا دون أن ندري، فقد دخلت في كل مجالات حياتنا وصارت توجّه فكرنا وتُرشد سلوكنا! العامل الذي يسعى الى مضاعفة أرباحه على حساب رضى الزبون، الحزب (أو المؤسسة أو الجمعية أو الشركة) الذي يسعى في المقام الأول الى تسويق نفسه، المصلي الذي همّه الأول عدد الركعات الكثيرة التي يصليها، قارئ القرءان الذي يهمّه عدد الختمات في المقام الأول وغيرها من الأمثلة. بمعنى أن تأثير المادية لم يقتصر على الجوانب الحياتية المادية وانما امتدّ الى الجوانب الروحانية، ذلك أن الواحد منا صار ماديا في تفكيره دون أن يدري مما صعّب عملية التحرّر من وطأة هذه الجوانب! ان منظار الكمّ صار هو المحرّك والموجّه والمرشد بشكل حصري قصري، فلم نعد نلتفت (الا من رحم ربي) الى الإحسان مع الآخرين في المعاملات، ولا الى الأهداف والرسائل التي يبثّها الحزب ولا الى الخشوع في الصلاة ولا الى تدبّر آيات الذكر الحكيم، وكلها أمور يعصى على العقل المادي استيعابها.

ولا شكّ أن ميزان الكمّ داخل في غالبية الأمور ان لم يكن في كلها، ولكن الكيف هو الأهم وهو الأساس، ولذا فإننا نرفض مقولة "الكيف لا الكم" اذ هي تعكس راديكالية الجانب الآخر، وانما نقول أن الكيف هو الأهم والكمّ مهم. وتدخل الماديات حتى في الأمور التي نظنّها روحانيات خالصة، ففي الصلاة على سبيل المثال نحسب عدد الركعات التي نصلّيها ونعدّ الركوع والسجود والأركان المختلفة، واذا ما أنقصنا العدد أو زدناه فإننا نصلّي سجود السهو في حالات معينة. وعند قراءة القرآن فإننا مأجورون على قدر الكلمات التي نقرأها ولكن ليس فقط على عدد الكلمات، فلا شكّ عندنا أن التدبّر يُضاعف الأجر أضعافا كثيرة اذ هو الأساس. "من قرأ شيئا من القرآن غير متدبر له يؤجر على التلاوة لعموم حديث الترمذي" (موقع اسلام ويب) الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (حديث شريف). ويقول ابن القيم في مفتاح السعادة: "لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامع لجميع منازل السائرين.. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها.. فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب ولهذا قال ابن مسعود: لا تهذوا القرآن هذي الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، لا يكن هم أحدكم آخر السورة. وروى أبو أيوب عن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس إني سريع القراءة إني أقرأ القرآن في ثلاث قال: لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ".

***

أكثروا من ذكر هادم اللذات

لنفترض أن عندك مقابلة عمل بعد ثلاثة أيام وهي ذات أهمية كبيرة في نظرك، اذ هي المؤسسة التي لطالما حلمت أن تكون جزءا من طاقمها، ولهذا أفنيت سنينا من عمرك وانت تتعلّم لتكون مؤهّلا لمثل هذه الوظيفة. والسؤال: ماذا تفعل في الأيام الثلاث الأخيرة؟! هل تحاول انكار الموعد ومحوه من دفتر مذكراتك؟! أم أنك تجهّز نفسك بالطريقة التي تراها مناسبة، لتصل الى المقابلة جاهزا؟! هل تنسى الجهد الذي بذلته في الماضي؟! أم أنك تجتهد ثلاثة أيام أخرى لتنال المُراد؟! وانك ان قلتَ أريد أن أنسى التفكير في المقابلة وسأخرج للتنزّه (لأنك مؤمن أنك مستعدّ)، فأنت عمليا تسعى الى المقابلة، لأن فعلتك ما كانت الا لتطمئن نفسك ولتهدّئ من روعها ابان اقتراب الموعد!

لكن الموت يختلف عن أي موعد، وربما جوهر الاختلاف يكمن في هالة الغموض التي تُحيط به، فأنت لا تدري متى سيأتي (زمان الميعاد)! ولا أين (مكان الميعاد)! ولا كيف (هيئة الميعاد)! ولكنك ما تعرفه ومتأكّد منه أنه سيأتي في يوم من الأيام وفي مكان من الأمكنة وسيكون سببه سببا من الأسباب! انك تعلم أنه سيأتي حتما! والمادي والمؤمن يشتركان في هذه المعرفة، وحتى أنهما يشتركان في هذا الشعور الغامض تجاهه، وكل محاولات اصباغ المادية على الموت تبوء بالفشل، لأنه ليس موتا ماديا خالصا، وان كان كذلك، فإننا نطالب من هؤلاء الماديين أن يُعطونا تاريخا دقيقا لموعدنا مع الموت (اذ هي عمليات بيولوجية تخضع لقوانين طبيعية وفقا لما يقولون)! ان الموت حقيقة مؤكّدة لا تحتاج الى اثبات ولذلك يُقال الموت حقّ! ولذا هل من المنطقي أن نهرب من الموعد الذي لا نعرف وقته؟! انه يمكن أن يأتي في كل حين، وعندما يأتي فلا تراجع ولا استسلام! انه اذا أتى فلن يرجع! أنتركه يطرق بابنا دون أن نكون مهيّئين لاستقباله؟! أنهرب منه لنلاقيه رغما عن أنوفنا؟! ولربما لهالة الغموض التي تحيط به، فضّل الناس الابتعاد عنه والعزوف عن ذكره! وأوهمهم طول الأمل وألهتهم ملذّات الحياة الدنيا عنه وهو الحقيقة الكبرى التي لا مفرّ منها! ولربما لأنه لم يُحدّد معنا موعدا نعرفه، فضّلنا ارجائه الى أرذل العمر، ولكن ارجائنا له لا يُلغي موعده المحدّد معنا ولا يُقدّمه ولا يؤخّره! ولهذا يقول مولانا جلّ وعلا: "قل ان الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم" (الجمعة، 8).

وهل يُفيد الانكار؟! انه يمكن أن يفيد في الأمد القريب، أما حين يأتي موعده (في الأمد القريب أو البعيد)، فإن الانكار سيُضحي مهزلة وستسقط فائدته كليا، لأن العيون والجوارح ستُساق الى مواجهته شاءت أم أبَت. ان الانكار يمكن أن يفيد في الأمد القريب، ولكنه يقذف بالإنسان الى عالم وهمي، ستبان حقيقته عاجلا أم آجلا! ولذا يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ" . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هَادِمُ اللَّذَّاتِ؟ قَالَ: الْمَوْتُ". انه يأتي الى الملّذات فيمحقها، يجعلها هباء منثورا، ويأتي الى الوهم فيُعرّيه ويأتي الى طول الأمل فيدوسه!

***

خير أم شر ؟!

منذ الصغر، من خلال الحكايات الشعبية، قصص الأطفال والثقافة السائدة، تشبّعنا هذا الفصل بين الخير والشر. فوفقا لهذه الرؤية إما أن يكون الشيء خيرا أو شرا وإما أن يكون حلالا أو حراما وهذا يقابل الرؤية القاصرة: أسودا أو أبيض! ان هذا تبسيط لعالم مُركّب وتسطيح لواقع عميق وتبييض أو "تشحير" لعالم ملوّن، وربما يكون هدف هذه الرؤية التيسير على البشر، الا أن ذلك يكون في الغالب على حساب رؤية الواقع على حقيقته، بكل تركيباته، بكل عوامله، مما يُساهم في انشاء صورة نظرية بعيدة عنه (عن الواقع)، وربما تكون مُعاكسة لروحه. ان هذا العالم هو مركّب في روحه ولتفسير ظاهرة معينة ينبغي الانتباه الى عدة عوامل ولإتقان عمل معين ينبغي أن ينتبه العامل الى الكثير الكثير من الأمور. أما هذا الفصل الذي يقسم العالم الى قسمين: خيّرون أو شريرون، هو فصل يُساهم في اضعاف القدرات التفكيرية لأن الأمور – وفقا لهذه الرؤية - واضحة ولا حاجة للبحث أو اعادة النظر أو ما يُسمّونه "التفلسف". كما أن هذا الفصل يُساهم في انغلاق الرؤية وعدم الانتباه الى كثير من العوامل الحيوية. 

ان الرؤية المتطوّرة أكثر والمنسجمة مع الواقع هي رؤية مراتب الخير ورؤية مراتب الشر، مع ابقاء الحد الفاصل بينهما والذي يكون في أحيان معينة غير واضح بشكل كامل. هذا يعني أن ننظر الى الأعمال والناس نظرة نسبية، فلا يجب أن ننغلق على أقوال مثل: "هذا خير"، "هذا شر"، "هذا حلال"، "هذا حرام"، وانما ينبغي أن نرتقي الى مستوى: "هذا انسان فيه من الخير كذا وكذا وفيه من الشر كذا وكذا"، "هذا الأمر حرمته شديدة وذاك الأمر حرمته متوسّطة" وهكذا.