11.1.15

ابتهالات


الله جلّ جلاله

"يــا من يرى مـا في الضمـــير ويســمع *** أنت المُعـــدّ لكل مــا يُتــــــــــــوقّــــــع
يا مـن يُـــرجّى للشّــــدائــد كُلّــــــــــــها *** يـــا من إلـــــيه المُشــــتكى والمــفــزعُ" (الشافعي).

الهي أنت بقلبي تُحييه، وتبثّ فيه ومنه حبّك وحبّ كل من يحبّك ... اذا لم تكن في قلبي، فمن سيكون؟! أأتركه مقفرا؟! صحراويا! وما لي لا أطمئن وأنت معي من قبل مولدي، وستبقى الى الأبد! أأكلّ أنا المحتاج اليك! أأملّ أنا الفقير اليك!

ما أضفتَ اليك شيء الا زاد شرفا وعزّة، فذلك المسجد ازداد عظمة عندما سُمّي "بيت الله" والكلام يرتفع الى أعلى عليين اذ ما كان كلام الله وكذا العبد يحصل على وسام الشرّف اذا ما كان عبدا لله. واذا ما ذُكر اسمك، وجب على الروح أن تُعلن رحيلها من دنيا الصغائر، لتركع ركوعا لا ينهيه الا شوق للسجود ولتسجد سجدة لا نهاية لها! واذا ما ذُكر اسمك، سقطت كل الأسماء وزال كل زيف وظهرت كل الرحمات!

واني لأخاف أن أظلم نفسي فأصفك عن جهل بأقلّ من عظيم شأنك وقداسة أسمائك، أخاف أن أقرّب تفاهاتي من عظمتك! الا أنه من فرط الحبّ، لم يحالفني الصمت كثيرا وأخذني هيامي بحبك الى البوح. هل هناك أسعد من لحظة البوح بالحبّ الأبدي؟! هل هناك أجمل من أن ينبض القلب بعشق خالقه؟!  

***

الحمد نعمة

انه يمكن للإنسان أن يبقى حامدا شاكرا ممتنّا لخالقه على عظيم فضله وعطائه ويمكنه أن يبقى متسخّطا غير راض بما قسم الله له. الأوّلون يبحثون عن الموجود والآخرون يركضون وراء الغير موجود. وفي الغالب ينعكس هذا الحمد وذاك التسخّط على علاقة الانسان بنفسه وعلى علاقته بالناس وعلى أشياء أخرى كثيرة. لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"، فالشكر أو الحمد هو صفة وسمة من سمات الشخصية، يتفاوت فيها الناس. يقول تعالى: "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" (سبأ، 13).

والحقّ أنه لو استمرّ الواحد في شكر من أحسن اليه، لما وفّاه حقّه، اذ أن الاحسان يتفوّق على الشكر لأسباب لا مجال لتفصيلها هنا. ولكنّ الشاكر يشعر بشعور الحمد، الشكر والامتنان. هذا الشعور يرفع الانسان الى فضاء سام، يتّسم بالصفاء والنقاء. انه يرفع العلاقات البشرية الى أعالي الانسانية ويرفع العلاقات الروحية الى أعالي درجات الروحانية. واذا كان فضل انسان على انسان يُشعر بامتنان وشكر، فكيف بعظيم فضل الله؟! ألا نحمد من خلق الفضل؟! ألا نمتنّ لمن أعطانا نعما لا تُعدّ ولا تُحصى؟! هل نحاول أن نفكّر في نعم الله بدلا من أن نفكّر في ما ليس عندنا؟! لماذا لا نحاول أن نعدّها لنشعر بها؟! انها ستعجزنا من كثرتها! أفننسى أن نحمد من خلقنا (انه لا يحتاجنا ولكنه خلقنا ليسعدنا)؟! أفننسى أن نحمد من جعل لنا سمعا وأبصارا وأفئدة (انه لو لم تكن لما التقطنا ما حولنا)؟! أفننسى أن نحمد من منحنا نعمة العقل (انه لو لم تكن لما كتبنا ولما قرأنا)؟! فلله الحمد والمنّة والثناء الحسن!

***

سبحان الله!

سبحان من خلقنا لنسبّحه! سبحان من أعطانا فرصة ووسام شرف تسبيحه! سبحان من أرشدنا الى تسبيحه! سبحان من ضمّنا الى من يُسبّح له في السماوات والأرض! سبحان من سلّحنا بتسبيحه لنسيح في فضاء الملائكة! سبحان من شحننا بطاقة تسبيحه لنقوى على نوائب الدهر! سبحان من منحنا التسبيح لنتسامى على الطين! سبحان من جعل تسبيحه عبادة! سبحان من كافئنا على تسبيحه!

واننا محتاجون الى هذا التسبيح ... طالبون لتحصيله ... عطشى له ... منهارون دونه ... كيف لا ودنيانا تجرّنا اليها جرّا و"تتلعلب" بنا كيفما شاءت ... كيف لا وهي تحصر تفكيرنا في ملاحقتها، في الانسياق وراء نزواتها، في متابعتها خطوة بخطوة ... كيف لا وهي ستتخلّى عنا يوما وتلقي بنا الى حيث لا ندري ... وستتركنا هي وأموالها وبنيانها وملذّاتها وحيدين ... انها ستُلقي بنا قبل أن نلقي بها ! الا أن التسبيح يوم أن يدخل الى الصورة فإنه يُغيّر سير هذه المسرحية التراجيدية ... انه يقلبها على فوّهتها ! ويكتب حبكة قصصية أخرى تأبى أن تُنسى في الأرض وفي السماء ! حبكة لا تنساها الأرض لأنها تركت أثرا في نفوس الخلق والخلائق ! ولا تنساها السماء لأنها كانت تبعث برسائل التسبيح وببرقيات التمجيد من الأرض الى من خلق الأرض والسماء ! انها التسبيحات التي لا نهاية لها ! انها التي تُخرج الانسان من أرضه، من دُنياه الضيّقة، من همومه الكثيرة، من سفاسف الأمور، ليطير ويحلّق حيث السماء، حيث الفضاء، حيث السكون والراحة والحقيقة ! انها التسبيحات التي تصل الأرض بالسماء وتُعطي للإنسان فرصة ملامسة السماء من الأرض! انها التسبيحات التي لن تُنسى اذا ما نُسي كل شيء!

"تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا" (الإسراء، 44).

***

السماء ليست الحدود !

كيف تكون السماء حدودا واليها تنصبّ جلّ الطموحات ؟! كيف تكون حدودا وأشواقنا تمرّ من خلالها كل يوم؟! كيف تكون حدودا وحزننا ينبعث اليها وفرحنا يعانقها ؟! كيف تكون حدودا ونحن نهوى اختراقها ليل نهار ؟! كيف تكون حدودا ونحن نعبر من خلالها في اليوم ألف مرة ؟!

هي السماء العالية الطاهرة النقيّة التي اذا ما ارتفعنا اليها، تلاشت من بيننا كل الدنايا! وتساقطت كل الأحقاد والضغائن! واندثرت كل الأنانيات! هو عالم آخر، صعب المنال، الا انه متاح لكل مجتهد. عالم لا وقت فيه ولا مصلحة. ولا مكان يحصره ولا مادة تحضره. هو فوق زماني وفوق مكاني. وجود الزمن فيه يُعكّر صفوه ودخول المكان اليه يهبط من قدره والتصاق المادة به يقضي عليه تماما. انه لا يتواجد اذا ما أردنا أن نوجده بطريقة ميكانيكية أو تقنية أو حتى علمية. انه غير ملموس وغير محسوس وهو ينطلق من الداخل. ينطلق من الجوف، حيث الأحاسيس والمشاعر. ينطلق من القلب الى الروح ويتفاعل معها ويغذّيها وهي تغذّيه وهكذا. انه تجربة تُعاش لا يمكن وصفها بكلمات دقيقة. وهو أشبه بحالة العاشق لعشيقته، ويدخل اليه شوق كشوق الابن لأمه عند قدومها من سفر طويل شاقّ مثل الحجّ.

انه عالم السماء، عالم الأرواح التي تُحييها القلوب. سماؤه ليست حدودا، بل هي المنفذ والمعبر والملجأ والمنجا. اليها نرحل كل يوم واليها نتوق ونتضرّع، اليها حيث كنا، اليها حيث أخطأنا ولذا كان علينا واجبا أن نمرّ بمغامرة الحياة الدنيا لنعود من حيث أتينا، لنتطهّر من جديد ولنستقرّ هناك.  

"أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ" (ق، 6).

***

أتلعن نفسك ؟!

انه عندما نسمع لعنا مجاهرا للخالق العظيم، فإن الصدر ينقبض والأحشاء تتمزّق ويخال للسامع أن سهما قد اخترق جسده أو لربما روحه ففعل بها الأفاعيل. هذا الشعور ليس بالجديد علينا، فهو يُصيبنا عند كل تعدٍ من الآخر على ايماننا، على معتقداتنا وعلى رموزنا. عندما نؤمن بالإنسانية ويلعنها اللاعنون نشعر بمثل هذا الشعور، حينما نكنّ اعتبارا لشخصية تاريخية ويلعنها لاعن نشعر بمثل هذا الشعور، ولمّا نؤمن بفكرة ويلعنها أحدهم نشعر بمثل هذا الشعور. وأساس هذا الشعور هو مساس بما يشترك بالإيمان به عدد من الناس، ليجعل اللعن مُوجعا لكل القلوب التي حوت نقيضه. ولنا أن نفكّر ان كان لعن من يمكن أن يعتريه نقص، يُوجع الى هذه الدرجة، فكيف الحال بلعن الكمال كل الكمال؟! كم سيؤذي من يلعن الذات الإلهية كل أولئك المؤمنون بها المسلّمون لقضائها وقدرها؟! وهل يعلم أنه يُؤذي نفسه عن قصد أو عن غيره؟!

ذاك الذي يلعن خالقه، انما يلعن نفسه بشكل غير مباشر! انه يلعن من خلقه، من منحه الحياة، من أوجده! أيلعن أحدكم أباه؟! أيلعن أمه؟! أيلعن مُشغّله؟! انه لا يجرؤ لأنه سيفقدهم وهو بحاجة اليهم! انه لا يجرؤ لأنه ستكون حياته جحيما دونهم! انه لا يجرؤ لأنه سيُهلك نفسه لا محالة! ولو فعل، لفعل ذلك سترا ولأضمر اللعن في قلبه، ولبقيَ متحذلقا أمام من يحتاج اليه لئلا يفقد الدعم والعطاء! الا أن هذا التحذلق لا ينفع قبال من يعلم السر وأخفى! ان اضمار اللعن مفضوح، واعلانه مفضوح والمجاهرة به مفضوحة! وبالتالي فإن من يلعن خالقه، هو عمليا يلعن مُنشِأه ويلعن عناية الإله به ويلعن عطاء الإله ومدده، مما يجعله تائها ضالّا كسيرا ضعيفا دونما مدد السماء، وذلك يودي في نهاية المطاف الى إهلاك النفس والتنكيل بها. لتدور دائرة اللعن على صاحبها فتُجهز عليه!

***

أتفقه ما تقول ؟!

ذاك الذي يلعن خالقه، انما يفعل ذلك عن جهل في الغالب. انه جاهل بعظمة خالقه، انه جاهل برحمته بعباده، بعظيم فضله عليهم وبكثير نعمائه، انه جاهل بقدرة خالقه، ببطشه وعذابه اذا ما غضب، انه جاهل بأسماء الله وصفاته العُلى وهو جاهل بعالم السماء الذي يعصى على فهمه. هذه القدرة وهذه العظمة يبصرها من يفتح قلبه وعقله اليها ومن رغب عنها تلاشت من أمام ناظريه وتساقطت وصار عسيرا عليه أن يفطن اليها. هذه الروح التي فقدت النبعة التي تسقيها وتُنمّيها، هذا الخواء الروحي الذي لم يُنبت رادعا ولا حدّا ولا حاجزا، هو ذاك الذي أعطى الاشارة الخضراء وسمح بالتعجرف والتكبّر. هذا الخواء الروحي هو الذي لم يَحُل دون وقوع اللعن! ولو ذكّرت اللاعن الجاهل بمن لعن، لعدَل عن قوله ولبان له فُحش قوله، فهو مؤمن بمن يلعن ولكن ايمانه ضعيف وخواءه الروحي يسانده في اللعن.

ولو نظرنا في غاية اللاعن من لعنه، لوجدنا أنه غرض الكبر وابراز الذات. لكن على حساب من؟ على حساب الخالق؟! هيهات أن يتحقّق للاعن غرضه المريض! هذا اللاعن يُطلق لعنته في لحظة غضب على أخيه الانسان، أو عندما تصدمه ورطة كَبُرَت في نظره أو مشكلة هالت في عينه، وكأنّه يودّ أن يقول لنا: هذا الذي تؤمنون به كلكم، فأنا ألعنه عندما أغضب ولا يهمّني ولا أخاف (في الحقيقة يهمّه ويخاف). غضبي شديد وأناي أشدّ وهما أكبر من غضب من تؤمنون به! لذلك فإن هذا اللعن يحوي كفرا جليا وهو يُذكّرنا باستكبار الشيطان الذي سيطر على لسان اللاعن فصار مُنطِقَه كما نطق ومُكَفّره كما كفر! وللاعن أن يذكر ويُذوّت في نفسه أن لعنه انما يدور عليه وانما هو من يُصاب به وليس خالقه حاش وكلا، تقدّست أسماؤه وصفاته.

***

الله أكبر!

انه عندما يتحقّق للإنسان انجاز لطالما حلم به وعندما تتوالى الخيرات عليه، يمكنه أن يظن بنفسه خيرا (تامّا) وأن يظن أنه ملك الدنيا، فلا قوة تقدر عليه ولا أحد يمكنه أن ينافسه، عندها تأتي "الله أكبر" لتذكّره أن الله أكبر من كل صنيعه ومن كل الوجود! واذا ما ملك أحدهم أموالا كثيرة وحظي بمُلْك كبير، جاءت "الله أكبر" لتذكّره مكانته الحقيقية ولتقول له أن الله أكبر مما تملك! واذا ما تربّعت دولة على "عرش" قيادة العالم، ظنّت أنها ملكت الأمر والنهي وأن قوّتها لن تُهزم، جاءت "الله أكبر" لتذكّرها أن الله أكبر من جبروتها وطغيانها. واذا ما صمّت آذانها عن الحقيقة فهيهات لها أن تستجيب لنداء "الله أكبر"! يقول تعالى: "ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تُبصرون" (الزخرف، 51).

وكلمة "أكبر" على صيغة أفعل وهي تُفيد التفضيل. ومثال ذلك قوله تعالى: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" (غافر، 57). انها صيغة تُوحي بالتفضيل الذي يجب أن يبقى حيّا في قلوبنا وأذهاننا كيما لا ننحرف عن حقيقتنا ومكانتنا الحقيقية في هذا الكون. انها صيغة تُوحي بالتفضيل المُستمر، فالله أكبر من كل شيء، منا ومن حضارتنا ومن ثقافتنا ومن كل صناعاتنا ومن كل أحاسيسنا التي تقول أننا بلغنا عنان السماء. فالله أكبر من كل ذلك ومن كل الموجودات، وينبغي أن يكون هذا التفضيل حاضرا عندنا في كل وقت وحين. حتى أنه عندما نحاول تعظيم الخالق الى أعلى الدرجات وعندما نبني تصوّرات منزّهة موحّدة، فإن الخالق يبقى أعظم وأكبر من تعظيمنا كله ومن تصوّراتنا كلها، ذلك أن فهمنا البشري يعجز عن استيعاب العظمة الإلهية. اننا نفكر في حدود "البشري" ولا يمكن لتصوّراتنا وخيالاتنا أن تتعالى الى مستوى "الإلهي". يقول تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير" (الأنعام، 103). ويقول بعض المُتكلمين: "كُلُّ ما خطرَ ببالك، فإنَّ الله تعالى بخلاف ذلك".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق