15.7.14

تأمّلات في القرآن


اذا كان الكون كتاب الله المنظور، فإن القرآن هو كتاب الله المسطور. ولا شكّ أن بينهما ترابط، فبينما يحوي الأول آيات الله الكونية، فإن الثاني يحوي آيات الله المكتوبة، وكلها آيات. ان القرآن هو المُعجِزة الخالدة الذي لا ننفكّ نكتشف عجائبه وخباياه! انه المُتعبّد بتلاوته! انه الذي يُبكي العيون من وقعه! انه الذي ينقّي القلوب! انه الذي يُذهب الأحزان! انه الموجّه! انه الذي قال فيه الوليد بن المغيرة: "والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".

لا يمكننا أن ننهي الكلام في تأثير هذا الكتاب الجليل على الانسان المؤمن، فضلا عن تأثيره على جميع البشر المُستعدّين لسماعه. وان هذا التأثير الكبير يتحصّل نظرا لتوافر عدد من مفاهيم الجمال. وأول هذه المفاهيم (لا نقصد هنا الترتيب) هو الجمال الصوتي، الذي يُدخل للآذان أنغاما فريدة، أنغام تسير على مقام وتتفنّن في الابهار. انها ليست قراءة عادية، ليست قراءة نشرة أخبار ولا كتاب عادي، ولكنها تلاوة وتجويد. وفيها من التفنّن ما فيها! وفيها من تفاوت القدرات ما فيها! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به". وقد قال النبي عن أبي موسى الأشعري: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود". انها القراءة التي تخرج من الأعماق اذا، من القلوب، لتصل الى أعماق المُستمعين، الى قلوبهم. ولو أسمعت من لا يفهم العربية تلاوة جميلة لآيات الذكر الحكيم، لتأثّر منها ولأحسّ بالأحاسيس والمشاعر الممزوجة داخلها!

النوع الثاني من الجمال هو جمال الفهم. فعندما يُضاف الى الجمال الصوتي جمال الفهم، يتضاعف التأثير وتزداد وطأته. وكلما زاد فهم المستمع، زاد استمتاعه بما يسمع، اذ يمكنه عندها أن يلتقط المعاني المؤثّرة وبالتالي يتأثّر من تأثيرها. انه يمكنه أن يتخيّل، يتصوّر، يقرّب المعاني، مما يجعله يعيش في فضاء كل آية رحلة كونية لا تُعرف نهايتها! ان كل آية – كما آيات الكون – تحوي فضاء واسعا في جمال الفهم. واذا كان فهم آيات هذا الكتاب، دراسته وبحثه لا تنتهي، فإن تجدّد جمال الفهم كذلك لا ينتهي. انه يمكن للقارئ أن يقرأ الآية كل مرة بعيون جديدة. هذا الجمال يستعين بالقدرة العقلية لفهم الآيات، وعندما يتحقّق الفهم يُلقي بتأثيره على القلب. يقول تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد" (الزمر، 23).

النوع الثالث هو جمال الموقف، فأن تقف مصلّيا قبال الكعبة الشريفة ليس كأن تصلّي في مسجد الحيّ، وأن تصلّي في الأقصى ليس كأن تصلّي في مصلى المشفى، وأن تصلّي في جماعة المسجد ليس كأن تصلّي في البيت. انه في كل هذه الحالات يمكن أن تتلو أو تسمع نفس الآيات، ولكن الموقف أو السياق يختلف. انه عند الكعبة تتدافع المشاعر الجيّاشة لعظم الموقف، وفي الأقصى تدمع العيون حَزَنا على حاله الكئيب، وفي جماعة المسجد تُلقي وحدة الصف بتأثيرها. ان لهذه السياقات المختلفة تأثيرات مختلفة، وتأثيراتها ترتبط بتعلّمنا الاجتماعي، فلأننا نؤمن أن المسجد الحرام هو أعظم المساجد نتوقّع موقفا مؤثرا، ولأننا نؤمن أن الأقصى هو ثالث الحرمين الشريفين وقبلتنا الأولى نتوقّع موقفا مؤثرا كذلك. هذا النوع من الجمال يتحرّك من خلال النفس التي تتأثّر من السياق أو المحيط.

النوع الرابع هو جمال الشعور، فأن تشعر أن الله يُلقي اليك بكلامه، بوصاياه، بوحيه، مع شعورك بعظمة الخالق وصغر نفسك، يجعلك تقف خاشعا متصدّعا من خشية الله. انه كلام لا يُقدّر بثمن، يُلقى من الخالق العظيم الى المخلوق الضعيف! وأن تشعر وتتذكّر كم عانى النبي صلى الله عليه وسلم والسابقون من أجل أن تصلنا هذه المعجزة الخالدة! جمال الشعور هذا يتحرّك من خلال الروح والقلب. انه هو الذي يجعل الواحد يُحلّق في علّيين، وهو مرتبط بالأنواع السابقة من الجمال، فبعد أن يتحقّق الجمال الصوتي وجمال الفهم وجمال الموقف، يشتعل جمال الشعور ويزداد نوره. ولنا أن نستنتج أن اذا أردنا تلاوة متدبّرة خاشعة، فإنه لمن المنطقي الجمع بين أنواع الجمال الأربعة: جمال الصوت، جمال الفهم (العقل)، جمال الموقف (النفس) وجمال الشعور (الروح).