30.6.14

تأمّلات في الميلاد


عندما نتحدّث عن الولادة، فإن أول ما يتبادر الى الذهن هو ولادة الطفل، ولربما ثاني ما يخطر على البال هو ولادة كائن حي آخر غير الانسان. الا أن مفهوم الولادة لا ينحصر في مثل هذه الظواهر الطبيعية، ولكن يتعدّاه ليشمل ولادة شهر، ولادة كتاب وحتى ولادة مصلحة تجارية. هذا المفهوم يرمز الى البداية، الى الشروق، الى النقطة الأولى في الطريق. هذا الميلاد الذي يمنح الحياة والنبض، هذا الميلاد الذي يُخرِج من الحيز الغير موجود الى الحيز الموجود، يُعتبر نقطة فاصلة ولذا يحظى بأهمية في المنظار الانساني. وتُضفي هذه الأهمية نكهة خاصة على تواريخ الميلاد: ميلاد الانسان، ميلاد الحيوان، ميلاد التقويم الميلادي أو الهجري، ميلاد الحياة الزوجية وغيرها. 

هذا الميلاد يرتبط بالزمن، فهو ليس لحظة فارقة في الفراغ، وانما لحظة فارقة في الزمن. لذا، فإن هذا يعني وجود زمن ما قبل الميلاد ووجود زمن أثناء الميلاد (وقت الولادة) وزمن ما بعد الميلاد. الزمن ما قبل الميلاد يشمل الترقّب والتحضيرات التي تُبذل في سبيل اتمام عملية الولادة على أكمل وجه، فلولادة طفل، تتغذّى المرأة غذاء ملائما، تحافظ على صحتها وتُجري الفُحوصات اللازمة. ولبناء (لولادة) بيت، يهيئ الشخص قطعة أرض ويبدأ ببناء بيته لبنة لبنة حتى يُعلن اتمامه. في هذه الفترة (فترة ما قبل الميلاد) تظهر الثنائيات، اذ نرى مخاوفا وشكوكا من جهة وتشوّقات وآمالا من جهة أخرى. مخاوف وشكوك تتعلّق بمعيقات في الطريق الى الولادة، والتي يمكن أن تهدّد وجود الولادة، فتؤثّر عليها سلبا أو تجهضها. وتشوّقات وآمال جراء انتظار ميلاد فجر جديد وحياة جديدة.

وتستمرّ الثنائيات أيضا في فترة الميلاد نفسها - أي وقت الولادة - وما بعدها، ولذا تصطبغ الولادة بثنائية تحمل معنيين متضادين. فمن جانب أول، تُعتبر الولادة حدثا مُفرحا، اذ هي تمنح الحياة، وتُخرج مولودا جديدا وأملا جديدا الى هذا العالم. انها اضافة وبناء! ولكن من جانب آخر، الولادة تعني بدء مسيرة الحياة واستئناف الطريق المحفوفة بالمخاطر والأتعاب. فالطفل منذ الولادة يُقذف الى واقع الحياة، واقع غير كامل وهو بعيد عن أن يكون جنة الله على الأرض، ففيه النواقص وفيه الأخطار. الطفل يمكن أن يجوع، يمكن أن يتألّم، يمكن أن يمرض وهذه أمثلة على نواقص يُقذف الطفل اليها دونما اختيار منه. ويمكنه أن يتعرّض لأذى على أيدي من هو أقوى منه (اعتداء من انسان أو حيوان أو حتى كارثة طبيعية). بهذا المعنى تصير الولادة مرادفة لبداية مسيرة الكدّ والتعب. يتحدّث بعض الأخصائيين النفسيين عن ما يُسمّونه بصدمة الميلاد. أتو رانك "يعتبر الميلاد أول وأهم خبرة للانفصال تمر بالإنسان وتُسبّب له صدمة مؤلمة، وتثير فيه قلقا شديدا. وقد سمّى رانك هذا القلق الذي تُثيره صدمة الميلاد بالقلق الأولي. ويستمر هذا القلق مع الانسان فيما بعد، وتأخذ أجزاء منه في الانسياب طوال الحياة. ويفسر رانك جميع حالات القلق التالية، على أساس قلق الميلاد، فهي عبارة عن تنفيس أو تفريغ لانفعال القلق الأولي. والانفصال عن الأم هو الصدمة الأولى التي تثير القلق الأولي. ويصبح كل انفصال فيما بعد من أي نوع كان مُسبّبا لظهور القلق. فالفطام يثير القلق لأنه يتضمّن انفصالا عن ثدي الأم، والذهاب الى المدرسة يثير القلق لأنه يتضمّن انفصالا عن الأم، والزواج يثير القلق لأنه يتضمّن الانفصال عن حياة الوحدة" (د. عثمان نجاتي في تقديمه لكتاب فرويد بعنوان الكفّ والعرض والقلق). 

واذا ماثلنا ميلاد شهر رمضان بميلاد طفل، فإننا نصل الى رؤية مشابهة. فعندما يولد هذا الشهر الكريم، تتحمّس النفوس وتتأهّب مستقبلة اياه بكل حفاوة وترحاب. وتُبعث رسائل التهاني وتُطلق المفرقعات تعبيرا عن الفرح بقدومه. انه فرح بقدوم تغيير في الحياة. انه فرح بموسم تكثر فيه الخيرات والبركات. انه فرح بمناسبة منتظرة. الا أنه الى جانب هذا الشعور يترافق قلق من جرّاء اعلان بدايته. قلق يرتبط بمسيرة الكدّ التي يستوجبها حضوره، فبداية رمضان تعني صيام ثلاثين يوم، وربما تتراءى لنا ثقيلة في مثل هذا الجو الحار والنهار الطويل. وبدايته تعني تكثيف الطاعات وتكثيف الانتهاء عن المعاصي، وكل ذلك يحتاج الى جهد جهيد. فهي ثنائية تلازم الولادة أينما وُجدت، وكما أن ولادة الطفل تحمل مشاعرا ايجابية الى جانب تلك السلبية (كالقلق مثلا)، فكذلك ولادة شهر رمضان (كولادة أي شيء آخر) تحمل ذاك المزيج المشاعري، اذ أن الفرح بقدوم هذا الضيف الجديد، لا ينفي اشتعال القلق (محور من محاور القلق مثلا: هل سأتمكّن من اغتنام هذه الفرصة كما ينبغي؟!).