8.4.12

لماذا نفرّ إلى الطبيعة؟





ما إن تسطع الشمس وتزداد حُمرتها، وما إن تنحبس الأمطار، وما إن تسكن الرياح، حتى يخرج الكثير من الناس إلى السهول الخضراء الملّونة بأنواع الزهر الكثيرة، ليشمّوا النسيم تحت قبة السماء الزرقاء وفي بعض الأحيان بجانب هدير أو خرير المياه. فما هو سر الخروج المُستعجل إلى الطبيعة ولماذا هو أصلا؟!

إن الإنسان في الحياة المدنية أو الحياة القروية التي غمرتها التكنولوجيا، يبقى عنده حنين إلى أصله، ونضرب مثالا، ذاك الطالب الذي خرج للدراسة في إحدى دول الغرب، ورغم ما رأى من تطوّر ورُقي العيش إلا أنه يشتاق ويحنّ إلى مسقط رأسه وأصله، وكذلك، فإن الإنسان الذي عاش في غربة التكنولوجيا والمكننة يبقى يحن إلى أصله الذي هو تراب الطبيعة، فترى الناس تحنّ وتنتشي عند حلب بقرة رغم أن الحليب يصلهم إلى البيت بأسهل الطرق، وكذا فإن البشر يقضون أجمل اللحظات في مناجاة الطبيعة. كذلك، فإن صخب الحياة وضجيجها والضغوطات اليومية والركض المستمر والرّتابة التي تفرضها الإلتزامات، تدفع بالإنسان إلى التحرّر من هذه الأعباء المُصطنعة والهروب إلى الطبيعة البسيطة، الخالية من القيود، التي فيها الحرية تتعدّى الحدود والمتجدّدة بجمالها ومغامراتها.

ثالثا، فإن الطبيعة هي الجزء المكمّل للمجتمع وإن لم تكن المقابلة له، ذلك أن الطبيعة بعيدة عن عبث البشر ولذا فهي تتسم بالصفاء والنقاء والطهارة، أما المجتمع الإنساني فهو مليء بالفساد، ولذا قال الفيلسوف روسو أنه قبل تشكّل المجتمعات الإنسانية، عاش الإنسان بتوازن ما بين احتياجاته ورغباته وما بين إمكانيات الفرد، أما عند دخوله المجتمع فإن الرغبات قد زادت على الإمكانيات ولذا اختلّ التوازن المعهود. ورغم أن الإمكانيات زادت بفعل التكنولوجيا الحديثة، إلا أنه كما يبدو فإن الرغبات زادت بوتيرة أسرع. هذا يتلائم مع قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" (الروم، 41)، لذا فإن مصدر الفساد هو الإنسان وأساس كل اختلال في التوازن هو عمل انساني، ولذا ليس غريبا أن نسمع أقوال مثل: "أريد أن أخرج إلى الطبيعة ولا أريد أن أسمع أي صوت إنساني"، فهذا لا يعكس بالضرورة حبّا للإنعزال، إنما هو حبّ لأخذ سويعات من الراحة النفسية والجسدية بعيدا عن كل فعل إنساني وذلك من خلال الإتحاد مع الطبيعة.

علاوة على ذلك، فإن الطبيعة تتصف بشموليتها وبالنظرة الواسعة إلى الأمور، فهي تحوي كل قوانين الطبيعة ومن تأمّلها استقى الإنسان علمه وإيمانه اليقيني، والطبيعة فيها الحركة والحيوية والنشاط فهي متجدّدة ولا تتوقّف حركتها مهما صار ومهما حدث، ولها نظام ورغم هذا النظام فإنها لا تُمل لأن شموليتها تُخفي ملل قوانينها، حتى أن كلمة الطبيعة تأخذ معنى إيجابيا في اللغة فهي بخلاف "الغير طبيعي"، والوعي الذي يحث للرجوع إلى الطبيعة يزداد يوما عن يوم رغم التقدّم العلمي الكبير.