5.8.14

التدخّل


من الأمثال الشعبية التي تنمُّ عن حكمة وخبرة حياة، المثل القائل: "من تدخّل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه"، وهو كذلك لأنه بالإمكان ملامسة صداه في الواقع المُعاش. عندما يتدخّل شخص في خصوصيات شخص آخر، فهو عمليا يخترق الحدود، يخترق الحدود التي تفصل بينه وبين الآخر. هذا الاختراق يمكن أن يُفسّر على أنه عدواني، ليشعر الانسان وكأنّ هجوما يشنّ على ذاته، ولذا عليه أن يهيّئ آليات الدفاع للمواجهة أو التملّق. مثل هذا التفسير يظهر في الغالب في العلاقات الاجتماعية الغير متطوّرة. لكن لنفس الاختراق يمكن أن يُعطي الانسان تفسيرا مُغايرا، فحواه أنه محاولة للتقرّب والتودّد والانسجام، اذا ما حدث بين شخصين تجمعهما علاقة اجتماعية قوية أو يرغبان في تطوير مثل هذه العلاقة. الحالة الأخيرة تخرج عن سياق المثل، لأن الشخص المتدخّل يتدخّل فيما يعنيه، اذ يهمّه أمر الآخر والآخر يهمّه أمر الأول.  

لذلك فإنّ من يتدخّل فيما لا يعنيه، يتدخّل في خصوصية الآخر، يخترق الحدود، فإنه عليه أن يتوقّع هجوما مضادا أو على الأقل دفاعا، وعلى الأغلب فإن هذا الهجوم أو الدفاع لن يُعجِب المُتدخّل، مما يتفق مع القسم الثاني من المثل: "لقي ما لا يُرضيه". من هنا وتجنّبا للوقوع في القسم الثاني من المثل، فإنه ينبغي اجتناب الشرط أو القسم الأول، بمعنى أن يحافظ الانسان على أن لا يتدخّل فيما لا يعنيه. والحفاظ على عدم التدخّل فيما لا يعني المتدخّل هو أفضل وأنجع، اذ علاوة على صون الخصوصية (للحفاظ على شخصية الإنسان)، فإنه يتم توفير كلاما لا ينفع ويقطع طرق التسلّل والتجسّس من أوّلها (حفاظ وظيفي: اذا لم يكن للتدخّل وظيفة فلا حاجة لنا به). فماذا يستفيد الواحد ان تدخّل فيما لا يعنيه عدا عن أنه يحقّق بذلك غايات شخصية، كالسيطرة على المعرفة (أنا أعرف كل شيء عن الجميع بما في ذلك أسرارهم)، وماذا يستفيد من اختُرقت خصوصيته مُكرها؟! وهذا ما ينسجم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

التعسير


أحيانا كثيرة أتساءل لماذا نُعسّر على أنفسنا؟! لماذا نحمّل أنفسنا ما ليس لنا طاقة به؟! لماذا نتكلّف؟! لماذا نتنطّع؟! وأضرب مثالا حيّا لتجسيد هذا النزوع الى التعسير والذي يمكن اعتباره نزوعا الى التطرّف وابتعادا عن الوسطية. انه التكلّف الذي يُفرض على الشباب المقبلين على الزواج. فلكي تكون شابا مؤهّلا للزواج ينبغي أن يكون عندك بيت طراز "فيلا"، سيارة طراز "رويز رويز" وغيرها من المتطلّبات، ولكي تفرح البنت ينبغي أن تُقيم حفل الخطوبة مع طنّة ورنّة وبعدها بفترة سهرة وبأحسن القاعات وغيرها. لماذا كل هذه المعيقات التي نضعها في طريقنا؟! ومن ثم ندّعي أن الحياة صعبة هذه الأيام! من يُصعّبها؟! ان في هذا التكلّف ابتعاد عن الطبيعة، عن الريف واتجاه الى الحياة الصناعية، الآلية، والى التمدّن.  

الا أن ما يقف وراء هذا التعسير هو التشبّث بالتقليد، فابن الجيران بنى بيت 500 متر وأنا كذلك أريد 500 متر، ويزيد الناس على التقليد أقوالا من مثل: "ليش هو بشو أحسن مني؟!". والعروسة بنت عائلة كذا لبست بدلة زفاف بقيمة 5000 دولار، وأنا أريد كذلك، وكل الناس عندهم اليوم سيارتين في البيت، فكذلك نحن نريد سيارتين ولو لم نكن بحاجة اليهما. ووقت "النقوط" يُحرج من لا يملك أكثر من قوت يومه، ولكنه يفكّر في الأمر: كيف لي أن أضع مبلغا أقل من الجميع؟! ويُجبَر أن يمدّ رجليه أكثر من فراشه، منساقا بذلك وراء الموضة ووراء العادات والتقاليد التي لم تنزل علينا من السماء وانما نحن من ابتدعناها. بهذه الصورة، يقلّد الثاني الأول وتنتشر الظاهرة لتصير عُرفا وشيئا متفقا عليه، وهكذا يمكن أن يستمر التضخّم (بعد ما طلعت موضة دار الـ 500 متر، بتطلع موضة عمدان الشايش وهكذا دون نهاية)، ان لم ينشأ الوعي الذي يضع حدّا للتبذير والإسراف.

سهولة الحرام، صعوبة الحلال


اذا نظرنا الى الحلال والحرام في غياب الروادع، فإننا نكتشف أن الحرام بشكل عام سهل المنال مقارنة بالحلال. فالسرقة أسهل من الكدّ والتعب من أجل تحصيل لقمة العيش، والتمتّع بامرأة دون زواج أسهل من الميثاق الغليظ بين الزوجين، وتغييب العقل عند شرب المسكرات أسهل من إعماله ليل نهار، واستعمال الكذب أسهل من التزام الحقيقة، والغيبة أسهل من النقاش الفكري! وكذلك قضاء الحاجة في المكان الذي تجلس فيه، تنام فيه أسهل من أن تقوم من مكانك لتذهب الى المرحاض! وكما نلاحظ أنه في هذه الأيام زادت الفجوة بين الحلال والحرام، حيث صار الحرام في متناول اليد أكثر من أي زمن قد مضى، في حين زاد التعسير على طالبي الحلال، ولا شكّ أنها فتنة عظيمة، يمكنها أن تخدع الناس ليروا الحلال جحيما والحرام جنة. هذا الخداع لا ينبع من فراغ، وانما هو ناجم عن الحضارة المادية التي تحاول شطف عقول الناس والتأثير عليهم (أحيانا كثيرة بصورة غير واعية) لتقنعهم أنه ينبغي البحث عن اللذة أينما كانت وترك الألم حيثما كان، لتقنعهم أن هذه الحياة هي الجنة المُنتظرة (ولذا ينبغي جعلها جنة وغمرها بكل أنواع الملذّات) ولا جدوى من انتظار الحياة الأخرى. لذا فسهولة الحرام التي نتكلّم عنها هنا هي سهولة مادية، سهولة تُقدّس الغريزة وترفع من شأن اللذّة. بمعنى أن الحرام يأخذ أفضلية مادية في الأمد القريب، ذلك أنه يجعل الانسان يتلذّذ بكل ما اشتهت نفسه. إلا أن نفس هذا الحرام ينقلب على فاعله في الأمد البعيد، حتى ولو كان الانسان متواجدا في مجتمع متنكّر للقيم الأخلاقية، اذ نفترض بقاء شيء من الفطرة السليمة عند الناس، كما أن القانون يمكنه أن يضمّ شيئا من الأخلاقيات. هذا الحرام الذي يبدو سهل المنال، مُغريا، يصير حجّة على صاحبه في الأمد البعيد، فالسارق يمكن أن يُضبط ويجرّم وفقا للقانون، والانفلات الجنسي يجعل الانسان شهوانيا ويمكنه أن يبخس المرأة حقّها، والسّكر يقلّل من النشاط العقلاني والإنتاج الفكري، والكذب يمكنه أن يوقع صاحبه عاجلا أم آجلا، والغيبة تنجب المشاكل وتحيد الكلام المفيد الى الهامش.

أما عندما تزداد وطأة الروادع، بما في ذلك الروادع القانونية، الفطرية والأخلاقية (النوع الأول خارجي، الآخران داخليان اذ ينبعان من داخل الانسان بعد أن ذُوتّا فيه وهما الأهم)، عندها تغيب سهولة الحرام وتطفو على السطح سهولة الحلال، اذ تصبح السرقة - على سبيل المثال - عملا مستهجنا، بعيدا عن التفكير والتنفيذ، لأن التربية الحسنة زرعت في الانسان أخلاقا وقيما، وبذلك ساهمت في تنمية الفطرة السليمة، لتكوّن روادع فطرية وأخلاقية عن مدّ اليد الى ما لا يتبع للشخص.        

التفكير المتواصل: نشوة أم تعب ؟


التفكير، التفكّر، الفكر وكل نشاط عقلي آخر هي ميّزات انسانية، يتعالى بها الانسان على الجانب الحيواني الغريزي من طبيعته، ولذا فكلما زاد من النشاط العقلاني، كلما تفاضل وتعالى أكثر، محقّقا بذلك ميّزته الانسانية التي ميّزه الله بها عن سائر الكائنات. هذا النشاط العقلاني يعترف بنعمة العقل التي سخّرها الله في خدمة هذا الانسان وكرّمه بها. يقول تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء، 70). يقول الشاعر في بيان نعمة العقل:  

وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ *** فَلَيْسَ مِنَ الخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ

إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ *** فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلاقُهُ وَمَآرِبُهْ

"وقيل لابن المبارك: ما خير ما أُعطي الرجل؟ قال: غريزة عقل، قيل: فإن لَم يكن؟ قال: أدب حسن، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره، قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجِل" (روضة العقلاء، ص 17). لذلك الالتفات الى هذه النعمة والى عظمتها، بل وتوظيفها والتنعّم بها، يمكن أن يحدث عند الانسان نشوة لا يمكن وصفها، فكما أن الناس تتنعّم بنعمة المال والجمال والجاه، فكذا نعمة العقل يمكن للإنسان أن يتنعّم بها. والتنعّم بها أعلى شأنا، لأن الأمور السابقة مادية أما الأخيرة (نعمة العقل) فأساسها غير مادي. البحث، التفكير، الاكتشاف والاختراع هي نشاطات تخصّ الجنس البشري، وبتحقيقها يتم المساهمة في تحقيق الانسانية، والنشوة الباطنية تصاحبها عند فهم شيء جديد أو اكتشافه أو اختراعه. ان هذا النشاط يعطي احساسا دائما بالتجدّد وباستمرار نشوة الاكتشاف وتزايد الشوق الى المعرفة.

لكن علينا أن نعترف أيضا أنه يترافق أو يسبق هذه النشوة، تعبا وكدّا وجهدا، كما في الأمور الحياتية الأخرى. فلكي يؤتي التفكير أُكُله، يحتاج الانسان الى بذل نشاط عقلي كبير، ولكنه عندما يرى الطريق التي قطعها والنتيجة التي توصّل اليها، يُدرك أن جهده لم يذهب سدىً وأنه يسير في الطريق الصحيح نحو تحقيق انسانيته.  

تجميل القبح


مما يثير حفيظتي اللامبالاة تجاه الجوهر وحتى تجاه المظهر، إذ رغم تشديدنا على تقديم الجوهر على المظهر، إلا أنه عند العجز عن تحسين الجوهر، فعلى الأقل ينبغي محاولة تحسين المظهر. المثل الشعبي يقول: "العين تأكل قبل الفم"، تعبيرا عن التلذّذ بالمنظر الشهي للطعام قبل الاقتراب من محتواه (الجوهر)، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمال". ان الدول المتقدّمة تسعى الى ابراز تقدّمها أحيانا من خلال أشياء بسيطة، لا تعجز عنها الدول الأقل تقدّما، ولكنها غالبا ما تهملها. تهييئ مراحيض نظيفة في المناطق الحيوية التي تعتبر واجهة البلد (كالمطارات، المعابر ...) هو أمر مقدور عليه في جميع الدول، كما أن تهييئ بيئة نظيفة جميلة في تلك الأماكن ليس بالشيء الغير مقدور عليه أيضا. بناءً على ذلك أكاد لا أفهم كيف تهمل بعض الدول (مسار الحجيج كمثال)، هذا المطلّ الاستراتيجي، هذه النافذة الاستراتيجية، تلك المناطق الحيوية، فتجعل المراحيض نتنة، مقتحمة على أيدي الذباب، وبالمقابل، تتحلّى العاصمة والمنطقة الملكية بأعلى درجات الرفاهية واصلين الى البذخ والاسراف. ألم يُفكّروا في الرسالة التي تصل الى المسافر أو القادم الى البلد؟! انه يسمع ما حوله (بسبب قُبح المناظر) يقول له أن الدولة هذه قذرة، أهلها قذرون، لا يعرفون النظافة! ومن ثم نريد أن تصير دولنا متقدّمة! كيف ونحن مهملون لأبسط الأمور المقدور عليها؟!  

ان الدولة الراشدة تحافظ على نضارة هذه البؤر المركزية (مركزية لأهميتها)، وبذلك تُمرّر الرسالة، اننا شعب نظيف، نحبّ النظافة، نعشقها! اننا شعب يحب الرقيّ، الحضارة، الذوق الرفيع، رغم قلة الموارد! اننا شعب مشبع بالقيم والأخلاق، ولذا لا يمكنننا أن نترك ثغرة قبيحة مكشوفة! اننا نحاول التحسين بقدر الإمكانيات! ان الدول المتقدّمة تُمرّر هذه الرسالة لزائريها ولقادميها، فيزدادوا من اعجابهم بها، رغم أنه ليس حتما أن يكون الشعب الإسباني أنظف وأعلى أخلاقا من الشعب الأردني، ولكن الرسالة تمر، وهنا تبرز أهمية هذا المطلّ الاستراتيجي ومظهره.  

حاصدوا اللايكات


حدث معي أن دَخَلَت الى صفحتي الشخصية على الفيسبوك مُعالجَة، والتي كنتُ قد جلستُ معها جلسات نفسية، وفي عرف الأخصائيين النفسيين الكلاسيكيين، فإن كل اتصال خارج غرفة العلاج يمكن أن يقلّل من نجاعة العلاج، اذ تدخل أمور أخرى من شأنها أن تُوهن علاقة المُعالِج-مُعالَج. هذا الحدث دفعني الى اعادة النظر في حيّزي الفيسبوكي والذي لم يكن حيّزا شخصيا الى ذلك الحين، وأثار فيّ أفكارا حول الخصوصية. ما هي الخصوصية؟! وهل ينبغي أن نحافظ على الخصوصية في العالم الافتراضي؟! وكيف يمكن التوفيق بين الإفادة (إفادة المجتمع) وبين المحافظة على الذات (الخصوصية)؟!

يمكن تشبيه الصفحة الشخصية في الفيسبوك (المقصود البروفايل) بالمنزل الذي يقطنه الفرد، فكما أن هناك ذكريات في الفيسبوك، هناك ذكريات داخل المنزل، وكما أن هناك أمور لا ينشرها الفرد على الملأ عن طريق الفيسبوك، فكذا هناك خصوصية داخل المنزل لا يطّلع عليها إلا أصحاب المنزل. وسألت نفسي: هل ندخل الى بيوتنا من نعرف ومن لا نعرف؟! أم أننا نقتصر على من نعرف؟! هل نحبّ أن يطّلع الجميع على حياتنا الشخصية؟! أم أننا ننتقي من نقرّبه منا ونختار درجة القرب؟! ذلك أن في البيت كما في الفيسبوك، خصوصية معينة وأمور شخصية، لا نحبّ أن تصير مُلكا عاما، إذ أنه عندها تفقد خصوصيتها، ولربما نشعر أننا مكشوفون أكثر من اللازم أمام الناس، مما يهدّد شعورنا بالأمن والاطمئنان. في أعقاب هذا المنحى من التفكير، قرّرت أن أقوم بإلغاء الأصدقاء الذين لا أعرف وأبقيت على من أعرف وعلى من استلطفت وجودهم عندي، كما قمت بالزيادة من خصوصية الفيسبوك، لتكون صفحتي محظورة عند غير الأصدقاء. في أعقاب ذلك، قلّ عدد اللايكات ولكن زادت الخصوصية وأخذت أفكّر في حال من يُشرّعون صفحتهم الشخصية أمام القاصي والداني، أمام المعروف وغير المعروف، طمعا في لايكات أكثر، أين هي خصوصيتهم؟! هل نسوها؟! وتوصّلت الى الاستنتاج انه ينبغي على الفرد أن يرسم حدود خصوصيته ليحافظ على فرديته! 

البسطاء العظماء


ليس كل من يعمل يعرق ولكنّ هؤلاء يعرقون! ليس كل من يعمل يرجع الى بيته منهار القوى ولكنّ هؤلاء كذلك يرجعون! ليس كل من يعمل يستيقظ فجرا ولكنّ هؤلاء يستيقظون! ليس كل من يعمل تحرقه الشمس ولكنّ هؤلاء يُحرقون! ليس كل من يعمل يخاطر بحياته ولكنّ هؤلاء يُخاطرون! انهم العمّال البسطاء الذين يأبى التاريخ أن يستغني عن خدماتهم وعن عطاءاتهم وعن عُطر عرقهم! هؤلاء المحكومون، "المُستعبدون"، المقهورون وفي نفس الوقت الحاكمون (فمن يستغني عن خدماتهم؟!)، المُناضلون والثائرون. هؤلاء الذين أبَو على أنفسهم أو أبت عليهم أنفسهم أن يجلسوا خلف طاولات المكاتب، في الظلال، في بيئة مُكيّفة! انهم أرادوا أن يخدموا بقوة ساعدهم، بطاقتهم المتفجّرة، بأيديهم الخشنة، ليُنتجوا أروع ما عرفت الحضارة! ليُنتجوا المباني التي تعانق عنان السماء، دور العبادة التي تسمو فيها الروحانيات، وما يحتاجه الانسان من قوت يومي! انهم يُساهمون في بناء الحضارة! وهم عن قصد أو عن غيره يُساهمون أيضا في تيسير الثقافة، اذ تسهل حياة الناس وتسنح لهم فرص أكثر للتثقّف (الروحانيات، الفن، الفلسفة ...).

هؤلاء الذين نراهم بسطاء هم عظماء في الحقيقة ان احسنوا عملهم وأتقنوه، فهم المُنفّذون الحصريون في الوقت الحالي، ولربما نصل الى عصر تمّحي فيه هذه الطبقة من العمال اذ تحلّ الماكنة مكان الانسان، الا أننا بالتأكيد لسنا هناك في آننا. ان المُحاضرين يُعلّمون الهندسة المعمارية، المهندس يضع تخطيط البناء، ولكن اذا لم يتواجد ذاك العامل البسيط الذي يُسمّى بنّاء، فكيف للبناء أن يقوم؟! دُعاة الحفاظ على البيئة يُنظّرون، يُخطّطون ويُطالبون، ولكن اذا لم يتواجد ذاك العامل البسيط الذي يُسمّى عامل نظافة، فكيف للبيئة أن تُحفظ؟! هل يمكن أن يقوم المسجد من غير جهدهم؟! هل يمكن أن تتواجد المدرسة الحضارية من غير عملهم؟! انهم بناؤو الحضارة الذين يستحقّون منا تحية اكبار واجلال على جهودهم الجبّارة، والأهم من ذلك، يستحقّون منا احتراما وتقديرا (بعيدا عن الاستخفاف بهم وبعملهم).

انسان الطوفان البشري


ان حدث وعَلَوت الى برجٍ شاهق ونظرت الى الساحة المليئة بالناس في الأسفل فإنك سترى على الأغلب نقاطا تتحرّك ولربما ستفكّر بصغر الانسان من حيث حجمه، والذي يعكس صغره وقلة حيلته أمام عظمة وضخامة هذا الكون! هذا الانسان الذي صمّم البُرج يُضنيه تسلّق الدرج الموصل الى القمة، يُرعبه ارتفاعه، وفي حالات مرضية يمنعه الخوف المُفرط (الخوف من المرتفعات) من امكانية الوصول الى أعلاه عن طريق المصعد. ان ما صمّمه الانسان يُعجِزه! فكيف بالموجودات التي صمّمها وخلقها رب الانسان؟! هذا الانسان يخترع الآلة وهي أشدّ بأسا منه، أكثر انتاجا، أسرع وأكثر نجاعة. هذا الانسان اخترع الجرافة التي قوامها المعدن الصلب والتي يمكنها أن تقتل انسانا أو تُصيبه إصابات بالغة بضربة واحدة منها، كذلك السيارة والشاحنة اللواتي اخترعهما الانسان، اذ يمكنهما أن يسلبا حياة الانسان في لحظة وثواني. الآلة تتفوّق على الانسان، اذ يمكنها أن تقضي عليه بسرعة البرق، ولك أن تتخيّل المعدّات الثقيلة والآلات الصناعية الضخمة. ذاك العلو الذي يجعلك ترى الانسان كنقطة واحدة من بين نقاط كثيرة، يمكنه ذاته أن يُحدث عندك حالة من الاستخفاف بقيمة الانسان. هذا الاستخفاف يمكن أن يحدث عند وجود كمّ هائل من الناس في مكان واحد، فأنت اذ تُشاهد طوفانا بشريا، يُمكنك أن ترى نُسخا بشرية مُكرّرة، أناسا مُتشابهين، كثيرين، كلهم يتحرّكون كقطيع غنم أو كنقاط اذا نظرت اليهم من أعلى.

بالمقابل اذا جالستَ انسانا، أي انسان كان، فإنك ان كنت كلّك آذان صاغية، سترى حتما عالما لا حدود له من ذكريات، آمال، آلام وطموحات. سترى الكون من منظار انساني، وربما أكثر من الكون، الحياة الدنيا والحياة الأخرى بعيون انسانية. ومهما كان الانسان بسيطا ومهما كانت خبرته الحياتية ضئيلة، فإن له حتما تجربة مع هذا العالم، تجربة تُعطيه فرصة ليحويه داخله أو أجزاءً منه. هذا الانسان الصغير العظيم، الذي أسجد الله له الملائكة اكراما واظهارا لفضله. يقول تعالى: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" (البقرة، 34). هذا الانسان الذي كرّمة الله: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء، 70). لذا، ينبغي علينا أن نحذر من أن نحطّ من قيمة الإنسان، اذا أن كل انسان - مهما ظهر بسيطا - يمكنه أن يكون كنزا انسانيا خفيا عنا، وعلينا أن نحذر من هذا الحطّ لأنه منه تبدأ المصائب (قتل فردي، ابادة جماعية وهلم جرا).

هموم شاب


لطالما قلتُ أن الشباب يجب أن يحملوا هموما تتجاوز همومهم الشخصية، فلا يكفي أن يبقى همّ الشاب الأول والأخير هو ذاته، واذا سألته عن مجتمعه قال لك: "وأنا مالي"! ان هذه الفردية غريبة عن المجتمع العربي، وهي مُستوردة من الحضارة الغربية التي تُقدّس الفرد. ورغم أن ما يتمّ الحديث عنه في الغالب هو استيراد قصات الشعر، الموضة، الملابس، المأكولات وغيرها من الأشياء المحسوسة، الا أننا نعتقد أن الأولى الحديث عن استيراد الأفكار، استيراد المفاهيم، عن التأثيرات الواعية واللا واعية. انه ينبغي للشاب أن يخرج من عالمه المنحصر في ذاته، ليوجّه قسما من همومه واهتماماته الى مجتمعه، وطنه، شعبه، أمته، وإلا بقي الحال على حاله، فمن ذا الذي يقود التغيير؟! هل يُتوقّع من طفل أن يقود التغيير فإن نضجه لم يكتمل؟! أم يُتوقّع من كهل قد حاول أن يقود تغييرا في ريعان شبابه؟! ثم من يستطيع أن يحمل الهموم، ان لم تحملها طاقة الشباب المتفجّرة؟! من يملك الأفكار الجديدة؟! الخطط الجديدة؟!

الشباب هم عماد المجتمع. يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "أوصيكم‌ بالشبان‌ خيرا فانهم‌ أرق أفئدة،‌ بعثت‌ بشيرا ونذيرا فحالفني‌ الشبان‌ وخالفني‌ الشيوخ‌". لذلك، ينبغي أن لا ينحصر تفكير الشاب والشابة في تسريحة الشعر، البنطال الذي يجب أن يكون على الموضة، السيارة وكل ما يتعلّق بها من "شيطنات"، الأرجيلة، السهرات، وانما يجب أن تتوسّع الآفاق لتشمل تفكيرا خارج اطار الذات، تفكيرا بالآخر، تفكيرا بالمجتمع. ان التميّز لا يكون في هذه الأشياء الشخصية، لأن عامة الناس تفعلها وكلها مقدور عليه، إلا أن التميّز والإبداع الحقيقيين يحدثان عندما تعلو همّة شبابية، لتأخذ بأيدي الناس الى التغيير والى الإصلاح. في هذا المجال يمكن أن يترك الشاب بصمة من ورائه، أما في مجال الأشياء الشخصية فلا يبقى أثر، إذ أن الأشياء هناك مُستهلكة وهي بعيدة عن الإنتاج والإبداع!  

هاي كلاس


هل من قلبه مُعلّق في الـ"كنيونات" هو من "الهاي كلاس"؟! هل من يركب المارسيدس هو من "الهاي كلاس"؟! هل من يلبس الـماركات هو من "الهاي كلاس"؟! هل من يبني بيت الـ 500 متر هو من "الهاي كلاس"؟! هل من لديه "بسيخولوجا" شخصيا هو من "الهاي كلاس"؟!

ان هذه "الهاي كلاس" مبنيّة على مفهوم ومنبع منحرفين. فمنبعها خاطئ، إذ تُقسّم الناس الى طبقات، هذه طبقة عُليا وأخرى طبقة دُنيا. ومن ثم فإن هذا التقسيم ينبع من نظرة مادية بحتة، فمن يملك أموالا فهو من العُليّة، أما من يتعفّف فلا يُغنيه تعفّفه، إذ حقّ عليه القول أنه من أذناب القوم. هذا التفاضل يعكس تكبّرا على الآخر، تكبّر الغني (ماديا) على الفقير (ماديا)، تأليها لصنم المال، رفعا لشأن الغني وبخسا لشأن الفقير. انه يعكس قانون الغاب بأبشع صوره (البقاء للأفضل ماديا). والمفهوم كذلك خاطئ، إذ هل المادية هي التي تُقرّر الأفضلية؟! هل المادية هي التي تُقرّر من يدخل في "الهاي كلاس" ومن يخرج منها؟! انها نظرة محصورة مقصورة على المادية، بل وعلى جزء واحد منها وهو المالية ان صحّ التعبير، في حين المادية هي جانب واحد من جوانب هذه الحياة، إذ هناك، الفن، الروحانيات، الأخلاق، العلم وغيرها من الأمور التي يمكن أن يتسامى بها الانسان على غيره من الكائنات الحية. انه رغم رفضنا لاستعمال كلمات من مثل "الهاي كلاس"، الا أننا نريد "هاي كلاس" في العلم، الروحانيات، الأخلاق وغيرها من الأمور التي تدور في دائرة الثقافة. نريد أناسا راقيين، نعم راقيين، في تعاملاتهم، أخلاقياتهم، تفكيرهم، كلامهم، تصرّفاتهم. وبتعبير أصحّ، نريد أن يتنافس الناس وأن يسعَوا الى القمة في العلم كما في الروحانيات كما في الأخلاق. وعندها سيدرك حتى من يراه بعض المثقّفين أنه من أهل القمة، أنه لا ينتمي الى "الهاي كلاس" تواضعا واقرارا بالحقيقة، إذ كلما اقترب من القمة، اتضّح له كم هي بعيدة!

ازدواجية السببية


تُعجبني الخطوط العريضة لنظرة الأشاعرة الى السببية، ذلك أنها تعكس تركيبة هذه الحياة. ويمكن بموجبها الدمج ما بين المادة والروح، العقلي والما ورائي، بحيث تتحقّق الازدواجية والتركيبة التي يتكوّن منها هذا الكون. انها ازدواجية، فوجود المُسَبِّب الأول لا ينفي وجود الآخر، ووجود التفسير العقلي لا يتعارض مع التفسير الما ورائي، وانما هما متواجدان في نفس الوقت ويُفسّران نفس الظاهرة.

يقول الغزالي رحمه الله في كتابه تهافت الفلاسفة: "إن الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن نفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب والشبع والأكل والاحتراق ولقاء النار والنور وطلوع الشمس وهلمّ جرّا كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وأن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت... بل للتقدير وفي المقدور: خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرّقبة وهلم جرا إلى جميع المقترنات".

هذا ما كتبه العالم المسلم أبو حامد الغزالي قبل أكثر من 900 سنة، وفي مصطلحات عصرنا يمكننا أن نفسّر قوله بأن تعاقب شيئين من الناحية الزمنية، يُوهم الناس أن السابق يؤدّي الى اللاحق ليصيرا سببا ومسببا، إلا أن الحقيقة أن هذا الرابط السببي غير ملزم، إذ يمكن أن يكون تزامنا ليس أكثر وهذا ما يُطلقون عليه اليوم "correlation". مثل ذلك الاحساس بوجع بطن قبيل الامتحان، فهل الخوف هو ما أدّى الى الوجع في البطن؟ أم وجع البطن هو ما أدّى الى الخوف؟ من هنا تنبع صعوبة تحديد السببية، ولكن الذي يمكن أن نستنتجه أن هناك علاقة ""correlation ما بين وجع البطن والخوف. الأشاعرة أطلقوا على مثل هذه الأسباب الدنيوية أسبابا غير حقيقية، لأن الفاعل الحقيقي هو الله. يقول ابن رشد: "فلا ينبغي أن نشك في أن هذه الموجودات قد يفعل بعضها ببعض، وأنها ليست مكتفية في هذا الفعل، بل بفعل من خارج، فعله شرط في فعلها، بل في وجودها فضلا عن فعلها". ويقول عبد المحسن سلطان: "والغزالي يقصد أن كل حدث يحدث في الكون هو من فعل الله المباشر. لذلك فإنه من الممكن أن تحدث أشياء مخالفة لقانون الأسباب والمسببات، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع الخواص في الأشياء، التي تظهر في صورة أسباب ومسببات. لذا فإن إرادته وقدرته سبحانه تستطيع أن تنزع هذه الخواص وقت ما شاء". انها غاية التوحيد والتعظيم لله سبحانه وتعالى!

بناءً على هذه النظرة، يمكننا أن نفسر كل ظاهرة من خلال تفسيرين لا يُلغي أحدهما وجود الآخر ولا يُعطّله. وان تواجد أحدهما ولم يتواجد الآخر فإننا ننتظر الآخر ولا نقمع مجيئه لاكتفائنا بالأول. وبهذا يكون التفسير الأول التفسير العقلاني، المُدرك، العلمي، والتفسير الثاني يكون التفسير الغيبي، الغير مُدرك، الما ورائي. الأول يدخل عند الغزالي وعند الأشاعرة بشكل عام في السببية الغير حقيقية والثاني في السببية الحقيقية. لذلك، يمكن أن نؤمن بالتفسير الغيبي لظاهرة الاطمئنان عند قراءة القرآن مثلا، الذي يقول أن القرآن كلام الله ولأنه "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد، 28) يحدث الاطمئنان. كما يمكن بالمقابل البحث عن تفسير علمي لهذه الظاهرة، كالمحاولة التي أبداها "ماساروا إموتو" عندما قال: "إن الأشكال الهندسية المختلفة التي تتشكل بها بلورات الماء الذي قرئ عليه شيء من الأدعية الصالحة عند التبريد التدريجي هي قدر من المعلومات كونتها الاهتزازات الناتجة عن القراءة على هذا الماء، والتي صدرت على هيئة صورة من صور الطاقة أثرت في ذبذبات اللبنات الأولية للمادة في داخل الذرات المكونة لجزيء الماء، وانعكس ذلك التذبذب في الشكل الهندسي لبلوراته عند تبلورها في هيئة صلبة أمكن تصويرها".

المعاناة !


لا يفهم الحياة من يتوق الى عالم وردي، الى عالم خالٍ من الألم، الى عالم الملذّات التي لا تُعكّر صفوها الآلام! فالآلام موجودة في كل اللحظات (كل اللحظات بما فيها الفرحة، فيها قابلية للألم)، وان لم تكن آلاما جسدية، فإنها ستكون آلاما نفسية! ان الفرح محدود وآني، بمعنى أنه لا يدوم، ففي أحسن الأحوال تنتهي لحظاته سريعا وعندها تأتي معاناة الفراق، معاناة فراق اللحظات الجميلة. وفي حالات أخرى، يمكن أن تعقب أقصى لحظات الفرح، أقصى لحظات الألم، عندما تحدث مصيبة مُفاجئة في خضم الفرح العارم. ان هذه المفاجآت تأتي لتذكّرنا بحقيقة هذا العالم، الذي ينزرع فيه الألم في كل لحظة، في لحظات الفرح كما في لحظات الحزن، وقد أعجبني قولا (رغم أني لا أؤيّده بالكامل وسيأتي التفصيل) سمعته من مريضة اكتئاب فحواه أن وراء كل لحظة فرح، تختبئ لحظة حزن!

منذ أن يُولد الانسان يبدأ موته، فهو في كل يوم يموت، إذ يقترب من أجله، وكأنها سلسلة فناء تنتهي بالموت (تساقط الشعر، الشيب، التجاعيد كأمثلة محسوسة). الموت موجود داخلنا، ففي كل يوم تموت أعداد هائلة من الخلايا! ان حقيقة الموت هي منبع الآلام من جهة، فلأنّ هناك حدٌ للحياة، لأنّ هناك وقت محدود، فإن اللذّة لا يمكن أن تدوم ولا بدّ للألم أن يأتي عاجلا أم آجلا! ان الشخص عندما يُصاب وكأنّه يموت موتا مُصغّرا، ولو لم يكن الموت موجودا، لما أُصيب أصلا، إذ أن هذا يعني دوام الوجود! إلا أن نهاية المطاف في الحياة الدنيا ستكون في الموت، ولذا كان لا بدّ من الآلام التي هي محطّات في الطريق الى هذا المصير المحتوم! يقول تعالى: "لقد خلقنا الانسان في كبد" (البلد، 4). ويفسر ابن عباس الآية بقوله، إن الله خلق الانسان وهو يكابد أمر الدنيا والآخرة.

ان محاولة فهم غائية الألم بمعزل عن الدين، لأشبه بتغطية النافذة ومن ثم النظر من خلالها! هل يمكن أن تكون الرؤية واضحة؟! أما حينما نحاول فهم الألم ضمن سياقه، من خلال الصورة الكاملة، من خلال النظرة الغير منحصرة في المادية، من خلال النظرة المُنفتحة على عالم الآخرة، عالم الروحانية، عالم الغيب، عالم الما ورائية، عندها فقط يمكن أن نضع الأمور في مواضعها. انه عند دخول الدين الى الصورة، تختفي تلك النظرة التشاؤمية السوداوية التي تُظهر الحياة على انها سلسلة من العذاب مُنتهية حتما بالموت والفناء الأبدي. الفلسفة العدمية تقول: "كل شيء تافه وعدم اذا كان الإنسان يموت الى الأبد".

ان وجود الدين لا يُبقي الانسان حبيس ألمه، إذ يصير يعتبر هذا الألم عدما قبال ما ينتظره من نعيم! ان الألم يصير قطعة صغيرة من حياة قصيرة جدا، إذ أنه عندما تُقابل اللا نهاية بالنهاية والنعيم الخالص بحياة الكدّ والتعب، يبان انخفاض قيمة هذه الحياة! ومن ثم فمن قال أن الألم سلبي في سياق الدين والتربية الروحية؟! ان الألم يمكن أن يكون ايجابيا، اذ يمكنه أن يكون تطهيرا من ذنوب، ويمكنه أن يكون تمكينا، ويمكنه أن يكون ابتلاءً، ليصير الألم بذلك الوسيلة التي توصل الانسان الى برّ الأمان، ليصير مفتاح النعيم الأبدي، والسعادة الأبدية واللذّة الأبدية! انه يصير مفتاح الخير، رغم سلبيته الآنية! والحياة تصير محطة عابرة والموت يصير مولد الانسان وتجدّده! والألم يُعلّم أكثر مما تعلّم اللذّة، والمشقّات تُعلّم أكثر مما تعلّم لحظات الفرح، إذ أن هذه اللحظات الصعبة، تُذكّر الانسان بحقيقة الحياة الدنيا، بالموت! انها تُذكّره بمسيرته منذ ولادته الى حين موته، الى ما بعد موته، وعندها تُعمل العقل والقلب، الفكر والروح، الأفكار والعواطف! أما اللحظات الفرحة فهي تُشعل المحدود والآني وربما تعمي الانسان عن حقيقة هذه الحياة وعن حقيقة الموت!

فقير!


هناك من كلام الناس ما يثير الدهشة، كأن تسمع أحدهم يقول: "هذا الزلمي فقير بجيش بحدا"، والآخر يرد عليه: "انت هيك بتفكّر، يا من تحت السواهي دواهي"، أو "هذا اللي بتحكي عنه حية من تحت التبن"! والناس صارت تُطلق كلمة فقير على من يظهر أنه مسالم، على من يكفّ شرّه عن الناس، على من ليس ذئبا (في عُرف الناس أهبل)، لتُصبغ الصفات الحميدة بالسلبية المقصودة علنا أو ضمنا، فتصير كلمة فقير مرادفة لأهبل، لمن لا حول له ولا قوة! وعندها بالطبع سيحبّ كل واحد لو أن يكون غنيا، ولهذا يحاول أن ينفي عنه كل الصفات الحميدة الملاصقة لمن ينادونه "فقير"، ليصير بذلك ذئبا كما الباقي، وليجتهد على أن يُظهر نفسه أنه ليس شخصا هينا، فهو يخدع، يكذب، يغشّ، ينافق، يرائي، الى ما الى ذلك من صفات تساهم في ابرازه كشخص "ملعلب"!

ان التشدّق بكلمة "فقير" يهدف في الغالب الى رفع المدّعي والحطّ من المدعي عليه، انه يهدف الى تضخيم الأنا على حساب الآخرين، الى البروز من خلال الدوس على "الفقراء" والاستهانة بهم! ولو حدث وأن سمح كِبْر المدّعي له أن يطّلع على عالم من يناديه "فقيرا" لاكتشف الحلاوة وراحة البال في هذا العالم الذي يهزئ منه! انه يهزئ منه لأنه لا يعرف أن يكون فيه! انه لا يعرف كيف يمكن أن يجمع بين الاستقامة وعزّة النفس، بين الصدق والمطالبة بالحقوق، بين اللين (الطيبة) والشدة! ان نظره زائف، إذ يرى الشخص الطيّب فقيرا وهو غني في الحقيقة، فهو يقنع بما عنده (غَنِيَ بِمَا لَدَيْهِ : اِكْتَفَى)! ولقد قال الناس منذ قديم الزمان عن الخالق أنه فقير وهم أغنياء، إلا أن قولهم الزائف لا يُقدّم خطوة واحدة، وانما يؤخّرهم اذ يبقون مخدوعين بكبريائهم، بعنجهيتهم، بتسلّطهم، وكل ذلك زائف لأنه عكس الحقيقة! يقول تعالى: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء".

لا أخلاقية ؟!


التشدّد والنظرة المنغلقة يمكن أن يصلان بالإنسان الى أن يكتب كتابا، مثل، إسكات الكلب العاوي يوسف بن عبدالله القرضاوي، حيث يقول الكاتب (رحمه الله وغفر له) فيه: "سيقول بعض الحزبيين عالم من العلماء وسميته: كلبا عاوي! أما هذه فكبيرة يا أبا عبد الرحمن، عالم من العلماء! ومفتي قطر!"، ويقول لاحقا: "كفرت يا قرضاوي أو قاربت" و "وأنا أظن أن الشيطان تفرغ ليوسف القرضاوي؛ يلقي في قلبه هذه الوساوس، ويأتيك بالأخبار من لم تزود، وستأتي أشياء عن القرضاوي وأشياء وأشياء". ولنفرض أن القرضاوي أخطأ في مسائل عدّة، وأنكم تختلفون معه في كثير من أقواله، فهل يصحّ أن تُسمّونه كلبا عاويا؟! هل يصحّ أن تُكفّرونه؟! ان لكم اجتهادات وله اجتهادات، فهل من المنطق أن نسعى الى تطابق الاجتهادات؟! ان هناك أدبا للاختلاف وهناك آداب عامة وأخلاق، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

هل حافظ على الأخلاق من وصف عالما جليلا بالكلب العاوي؟! هل حافظ على الأدب؟! ألا تقولون أن "لحوم العلماء مسمومة"؟! أليس لحم القرضاوي مسموما أيضا أم أنكم أسقطتم عالميته لاختلافكم معه؟! أم أنكم أنتم من يملكون الحقّ المطلق ومن خالفكم فهم حطب جهنم، وحقّ عليكم أن ترموهم بالمسبّات واللعنات ورخيص القول؟! ان النفس لتكفهرّ من هذه الألفاظ، فما بالك ان كانت موجّه الى شخص أفنى حياته في سبيل تيسير العلم الشرعي للناس؟! انكم تتعرّضون بذلك الى أغلى ما يملك، الى مادة فكرية يمكن أن تساهم في صحوة الأمة، الى انتاج عظيم، الى بناء ضخم! وما يحزّ في النفس أنها صادرة عن عالم آخر، وكأن المسألة صارت ملحمة علماء، ملحمة رخيصة، لا تقارع الحجّة بالحجّة والدليل بالدليل وانما المسبّة بالمسبّة والشتيمة بالشتيمة! ان مثل ما قال هذا العالم كمثل الذي يُطلق النار في كل اتجاه، ليُصيب ما بناه الناس، وليحطّم أبنيتهم، ايمانا منه بأنه يملك هو ومن معه الحقيقة المطلقة وفقط هم!