5.8.14

التفكير المتواصل: نشوة أم تعب ؟


التفكير، التفكّر، الفكر وكل نشاط عقلي آخر هي ميّزات انسانية، يتعالى بها الانسان على الجانب الحيواني الغريزي من طبيعته، ولذا فكلما زاد من النشاط العقلاني، كلما تفاضل وتعالى أكثر، محقّقا بذلك ميّزته الانسانية التي ميّزه الله بها عن سائر الكائنات. هذا النشاط العقلاني يعترف بنعمة العقل التي سخّرها الله في خدمة هذا الانسان وكرّمه بها. يقول تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء، 70). يقول الشاعر في بيان نعمة العقل:  

وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ *** فَلَيْسَ مِنَ الخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ

إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ *** فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلاقُهُ وَمَآرِبُهْ

"وقيل لابن المبارك: ما خير ما أُعطي الرجل؟ قال: غريزة عقل، قيل: فإن لَم يكن؟ قال: أدب حسن، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره، قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجِل" (روضة العقلاء، ص 17). لذلك الالتفات الى هذه النعمة والى عظمتها، بل وتوظيفها والتنعّم بها، يمكن أن يحدث عند الانسان نشوة لا يمكن وصفها، فكما أن الناس تتنعّم بنعمة المال والجمال والجاه، فكذا نعمة العقل يمكن للإنسان أن يتنعّم بها. والتنعّم بها أعلى شأنا، لأن الأمور السابقة مادية أما الأخيرة (نعمة العقل) فأساسها غير مادي. البحث، التفكير، الاكتشاف والاختراع هي نشاطات تخصّ الجنس البشري، وبتحقيقها يتم المساهمة في تحقيق الانسانية، والنشوة الباطنية تصاحبها عند فهم شيء جديد أو اكتشافه أو اختراعه. ان هذا النشاط يعطي احساسا دائما بالتجدّد وباستمرار نشوة الاكتشاف وتزايد الشوق الى المعرفة.

لكن علينا أن نعترف أيضا أنه يترافق أو يسبق هذه النشوة، تعبا وكدّا وجهدا، كما في الأمور الحياتية الأخرى. فلكي يؤتي التفكير أُكُله، يحتاج الانسان الى بذل نشاط عقلي كبير، ولكنه عندما يرى الطريق التي قطعها والنتيجة التي توصّل اليها، يُدرك أن جهده لم يذهب سدىً وأنه يسير في الطريق الصحيح نحو تحقيق انسانيته.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق