5.8.14

ازدواجية السببية


تُعجبني الخطوط العريضة لنظرة الأشاعرة الى السببية، ذلك أنها تعكس تركيبة هذه الحياة. ويمكن بموجبها الدمج ما بين المادة والروح، العقلي والما ورائي، بحيث تتحقّق الازدواجية والتركيبة التي يتكوّن منها هذا الكون. انها ازدواجية، فوجود المُسَبِّب الأول لا ينفي وجود الآخر، ووجود التفسير العقلي لا يتعارض مع التفسير الما ورائي، وانما هما متواجدان في نفس الوقت ويُفسّران نفس الظاهرة.

يقول الغزالي رحمه الله في كتابه تهافت الفلاسفة: "إن الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن نفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب والشبع والأكل والاحتراق ولقاء النار والنور وطلوع الشمس وهلمّ جرّا كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وأن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت... بل للتقدير وفي المقدور: خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرّقبة وهلم جرا إلى جميع المقترنات".

هذا ما كتبه العالم المسلم أبو حامد الغزالي قبل أكثر من 900 سنة، وفي مصطلحات عصرنا يمكننا أن نفسّر قوله بأن تعاقب شيئين من الناحية الزمنية، يُوهم الناس أن السابق يؤدّي الى اللاحق ليصيرا سببا ومسببا، إلا أن الحقيقة أن هذا الرابط السببي غير ملزم، إذ يمكن أن يكون تزامنا ليس أكثر وهذا ما يُطلقون عليه اليوم "correlation". مثل ذلك الاحساس بوجع بطن قبيل الامتحان، فهل الخوف هو ما أدّى الى الوجع في البطن؟ أم وجع البطن هو ما أدّى الى الخوف؟ من هنا تنبع صعوبة تحديد السببية، ولكن الذي يمكن أن نستنتجه أن هناك علاقة ""correlation ما بين وجع البطن والخوف. الأشاعرة أطلقوا على مثل هذه الأسباب الدنيوية أسبابا غير حقيقية، لأن الفاعل الحقيقي هو الله. يقول ابن رشد: "فلا ينبغي أن نشك في أن هذه الموجودات قد يفعل بعضها ببعض، وأنها ليست مكتفية في هذا الفعل، بل بفعل من خارج، فعله شرط في فعلها، بل في وجودها فضلا عن فعلها". ويقول عبد المحسن سلطان: "والغزالي يقصد أن كل حدث يحدث في الكون هو من فعل الله المباشر. لذلك فإنه من الممكن أن تحدث أشياء مخالفة لقانون الأسباب والمسببات، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع الخواص في الأشياء، التي تظهر في صورة أسباب ومسببات. لذا فإن إرادته وقدرته سبحانه تستطيع أن تنزع هذه الخواص وقت ما شاء". انها غاية التوحيد والتعظيم لله سبحانه وتعالى!

بناءً على هذه النظرة، يمكننا أن نفسر كل ظاهرة من خلال تفسيرين لا يُلغي أحدهما وجود الآخر ولا يُعطّله. وان تواجد أحدهما ولم يتواجد الآخر فإننا ننتظر الآخر ولا نقمع مجيئه لاكتفائنا بالأول. وبهذا يكون التفسير الأول التفسير العقلاني، المُدرك، العلمي، والتفسير الثاني يكون التفسير الغيبي، الغير مُدرك، الما ورائي. الأول يدخل عند الغزالي وعند الأشاعرة بشكل عام في السببية الغير حقيقية والثاني في السببية الحقيقية. لذلك، يمكن أن نؤمن بالتفسير الغيبي لظاهرة الاطمئنان عند قراءة القرآن مثلا، الذي يقول أن القرآن كلام الله ولأنه "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد، 28) يحدث الاطمئنان. كما يمكن بالمقابل البحث عن تفسير علمي لهذه الظاهرة، كالمحاولة التي أبداها "ماساروا إموتو" عندما قال: "إن الأشكال الهندسية المختلفة التي تتشكل بها بلورات الماء الذي قرئ عليه شيء من الأدعية الصالحة عند التبريد التدريجي هي قدر من المعلومات كونتها الاهتزازات الناتجة عن القراءة على هذا الماء، والتي صدرت على هيئة صورة من صور الطاقة أثرت في ذبذبات اللبنات الأولية للمادة في داخل الذرات المكونة لجزيء الماء، وانعكس ذلك التذبذب في الشكل الهندسي لبلوراته عند تبلورها في هيئة صلبة أمكن تصويرها".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق