5.8.14

المعاناة !


لا يفهم الحياة من يتوق الى عالم وردي، الى عالم خالٍ من الألم، الى عالم الملذّات التي لا تُعكّر صفوها الآلام! فالآلام موجودة في كل اللحظات (كل اللحظات بما فيها الفرحة، فيها قابلية للألم)، وان لم تكن آلاما جسدية، فإنها ستكون آلاما نفسية! ان الفرح محدود وآني، بمعنى أنه لا يدوم، ففي أحسن الأحوال تنتهي لحظاته سريعا وعندها تأتي معاناة الفراق، معاناة فراق اللحظات الجميلة. وفي حالات أخرى، يمكن أن تعقب أقصى لحظات الفرح، أقصى لحظات الألم، عندما تحدث مصيبة مُفاجئة في خضم الفرح العارم. ان هذه المفاجآت تأتي لتذكّرنا بحقيقة هذا العالم، الذي ينزرع فيه الألم في كل لحظة، في لحظات الفرح كما في لحظات الحزن، وقد أعجبني قولا (رغم أني لا أؤيّده بالكامل وسيأتي التفصيل) سمعته من مريضة اكتئاب فحواه أن وراء كل لحظة فرح، تختبئ لحظة حزن!

منذ أن يُولد الانسان يبدأ موته، فهو في كل يوم يموت، إذ يقترب من أجله، وكأنها سلسلة فناء تنتهي بالموت (تساقط الشعر، الشيب، التجاعيد كأمثلة محسوسة). الموت موجود داخلنا، ففي كل يوم تموت أعداد هائلة من الخلايا! ان حقيقة الموت هي منبع الآلام من جهة، فلأنّ هناك حدٌ للحياة، لأنّ هناك وقت محدود، فإن اللذّة لا يمكن أن تدوم ولا بدّ للألم أن يأتي عاجلا أم آجلا! ان الشخص عندما يُصاب وكأنّه يموت موتا مُصغّرا، ولو لم يكن الموت موجودا، لما أُصيب أصلا، إذ أن هذا يعني دوام الوجود! إلا أن نهاية المطاف في الحياة الدنيا ستكون في الموت، ولذا كان لا بدّ من الآلام التي هي محطّات في الطريق الى هذا المصير المحتوم! يقول تعالى: "لقد خلقنا الانسان في كبد" (البلد، 4). ويفسر ابن عباس الآية بقوله، إن الله خلق الانسان وهو يكابد أمر الدنيا والآخرة.

ان محاولة فهم غائية الألم بمعزل عن الدين، لأشبه بتغطية النافذة ومن ثم النظر من خلالها! هل يمكن أن تكون الرؤية واضحة؟! أما حينما نحاول فهم الألم ضمن سياقه، من خلال الصورة الكاملة، من خلال النظرة الغير منحصرة في المادية، من خلال النظرة المُنفتحة على عالم الآخرة، عالم الروحانية، عالم الغيب، عالم الما ورائية، عندها فقط يمكن أن نضع الأمور في مواضعها. انه عند دخول الدين الى الصورة، تختفي تلك النظرة التشاؤمية السوداوية التي تُظهر الحياة على انها سلسلة من العذاب مُنتهية حتما بالموت والفناء الأبدي. الفلسفة العدمية تقول: "كل شيء تافه وعدم اذا كان الإنسان يموت الى الأبد".

ان وجود الدين لا يُبقي الانسان حبيس ألمه، إذ يصير يعتبر هذا الألم عدما قبال ما ينتظره من نعيم! ان الألم يصير قطعة صغيرة من حياة قصيرة جدا، إذ أنه عندما تُقابل اللا نهاية بالنهاية والنعيم الخالص بحياة الكدّ والتعب، يبان انخفاض قيمة هذه الحياة! ومن ثم فمن قال أن الألم سلبي في سياق الدين والتربية الروحية؟! ان الألم يمكن أن يكون ايجابيا، اذ يمكنه أن يكون تطهيرا من ذنوب، ويمكنه أن يكون تمكينا، ويمكنه أن يكون ابتلاءً، ليصير الألم بذلك الوسيلة التي توصل الانسان الى برّ الأمان، ليصير مفتاح النعيم الأبدي، والسعادة الأبدية واللذّة الأبدية! انه يصير مفتاح الخير، رغم سلبيته الآنية! والحياة تصير محطة عابرة والموت يصير مولد الانسان وتجدّده! والألم يُعلّم أكثر مما تعلّم اللذّة، والمشقّات تُعلّم أكثر مما تعلّم لحظات الفرح، إذ أن هذه اللحظات الصعبة، تُذكّر الانسان بحقيقة الحياة الدنيا، بالموت! انها تُذكّره بمسيرته منذ ولادته الى حين موته، الى ما بعد موته، وعندها تُعمل العقل والقلب، الفكر والروح، الأفكار والعواطف! أما اللحظات الفرحة فهي تُشعل المحدود والآني وربما تعمي الانسان عن حقيقة هذه الحياة وعن حقيقة الموت!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق