5.8.14

انسان الطوفان البشري


ان حدث وعَلَوت الى برجٍ شاهق ونظرت الى الساحة المليئة بالناس في الأسفل فإنك سترى على الأغلب نقاطا تتحرّك ولربما ستفكّر بصغر الانسان من حيث حجمه، والذي يعكس صغره وقلة حيلته أمام عظمة وضخامة هذا الكون! هذا الانسان الذي صمّم البُرج يُضنيه تسلّق الدرج الموصل الى القمة، يُرعبه ارتفاعه، وفي حالات مرضية يمنعه الخوف المُفرط (الخوف من المرتفعات) من امكانية الوصول الى أعلاه عن طريق المصعد. ان ما صمّمه الانسان يُعجِزه! فكيف بالموجودات التي صمّمها وخلقها رب الانسان؟! هذا الانسان يخترع الآلة وهي أشدّ بأسا منه، أكثر انتاجا، أسرع وأكثر نجاعة. هذا الانسان اخترع الجرافة التي قوامها المعدن الصلب والتي يمكنها أن تقتل انسانا أو تُصيبه إصابات بالغة بضربة واحدة منها، كذلك السيارة والشاحنة اللواتي اخترعهما الانسان، اذ يمكنهما أن يسلبا حياة الانسان في لحظة وثواني. الآلة تتفوّق على الانسان، اذ يمكنها أن تقضي عليه بسرعة البرق، ولك أن تتخيّل المعدّات الثقيلة والآلات الصناعية الضخمة. ذاك العلو الذي يجعلك ترى الانسان كنقطة واحدة من بين نقاط كثيرة، يمكنه ذاته أن يُحدث عندك حالة من الاستخفاف بقيمة الانسان. هذا الاستخفاف يمكن أن يحدث عند وجود كمّ هائل من الناس في مكان واحد، فأنت اذ تُشاهد طوفانا بشريا، يُمكنك أن ترى نُسخا بشرية مُكرّرة، أناسا مُتشابهين، كثيرين، كلهم يتحرّكون كقطيع غنم أو كنقاط اذا نظرت اليهم من أعلى.

بالمقابل اذا جالستَ انسانا، أي انسان كان، فإنك ان كنت كلّك آذان صاغية، سترى حتما عالما لا حدود له من ذكريات، آمال، آلام وطموحات. سترى الكون من منظار انساني، وربما أكثر من الكون، الحياة الدنيا والحياة الأخرى بعيون انسانية. ومهما كان الانسان بسيطا ومهما كانت خبرته الحياتية ضئيلة، فإن له حتما تجربة مع هذا العالم، تجربة تُعطيه فرصة ليحويه داخله أو أجزاءً منه. هذا الانسان الصغير العظيم، الذي أسجد الله له الملائكة اكراما واظهارا لفضله. يقول تعالى: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" (البقرة، 34). هذا الانسان الذي كرّمة الله: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء، 70). لذا، ينبغي علينا أن نحذر من أن نحطّ من قيمة الإنسان، اذا أن كل انسان - مهما ظهر بسيطا - يمكنه أن يكون كنزا انسانيا خفيا عنا، وعلينا أن نحذر من هذا الحطّ لأنه منه تبدأ المصائب (قتل فردي، ابادة جماعية وهلم جرا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق