30.5.12

إنسحاب تراجعي أم تقدّمي ؟!



كثير من الإسلاميين يُعلنون الإنسحاب من دنياهم بحجة تواجد أهل الضلال في الحيز المقصود، فتراهم يهجرون الكرنفالات الوطنية أو الشعبية أو الفكاهية أو الثقافية أو العلمية بسبب إرتقاء فتاة غير محجّبة إلى المنصة، وتراهم يعلنون مقاطعة كل فعالية إجتماعية تحوي أي منكر في عالم يلحق وراء الغرب، وتراهم بذلك يُضيّقون على أنفسهم وبذلك ينحصر إطار معيشتهم، لا بل وتجد من الإسلاميين من يُحرّم الذهاب إلى مهرجانات إسلامية بحتة من شأنها أن تشحذ الهمم وتقوّي العزيمة ولكنّهم يقولون لك هذه موسيقى وهذا إيقاع حرام !!! فهل هذا هو الطريق إلى الهاوية؟! وهل إنسحاب كهذا يساهم في إعادة السيادة الإسلامية أم يُخفيها من على وجه البسيطة ويبقي حضارة الإسلام في المساجد كما بقيت المسيحية في الكنائس؟! 


أولا وقبل كل شيء يجب أن نفصل في هذه الأيام بين مصطلحين مهمين، المصطلح الأول هو "الإسلام" والثاني "الإسلاميون"، فليس المسلمون على حالهم اليوم يجسّدون رحمة الإسلام للعالمين ولا عظمته في الترغيب والترهيب ولا وسطيته إلا من رحم ربي. كان لا بدّ لهذين المصطلحين أن يبقيا متطابقين متلاصقين إلا أنّهما ابتعدا الواحد عن الآخر واتسعت الهوة بينهما ولذا وجب التشديد على هذه الملحوظة .

الإنسحاب ينقسم إلى قسمين : الإنسحاب التراجعي والإنسحاب التقدّمي . الإنسحاب التراجعي يعني التنصّل من واقع الحياة وإعلان المقاطعة لأمور من شأنها أن ترفع المستوى الثقافي والعلمي والوطني للمجتمع بأسره . فما أكثر الأمثلة في هذا الصدد بمجتمعنا وما أكثر الإنسحابات التراجعية ! ولتوضيح الصورة نتناول قضية شائكة ومهمة وهي قضية خروج الشابة للتعليم الجامعي في معزل عن أهلها وعن بلدها، والحقيقة أننا نسمع في هذه المسألة كثير من الأقوال ولكن إذا ما أردنا أن نفكّر في حرمان البنت من طلب العلم بسبب البعد عن عين الأهل السهرانة، نخلص إلى أنّ هذا هو إجرام بحق الفتاة المسلمة، فما هو ذنب الفتاة التي تهوى الطب لتُمنع من دراسته وبذلك يتحطّم حلمها ؟! وما هو ذنب هاوية المحاماة أو علم النفس أن لا تستثمر قواها العقلية في سبيل تحقيق ذاتها وإفادة مجتمعها من حولها ؟! وهل نستغني في هذه الأيام عن طبيبة نساء أو محامية أو مصوّرة أو طبيبة نفس ؟! هل بحكم كونها أنثى وبحكم قيود المجتمع فإنها مجبورة على تحطيم كل الآمال والدوس عليها بقدميها ؟! وهل بحكم كون الجامعة ملتقى العشّاق فإنّ البنت العفيفة يجب أن تقاطعها ؟! نحن لا نفتي بجواز أو تحريم خروج الفتاة إلى التعليم الجامعي ولكن نقول أنّ للأنثى حق في أن تطلب العلم المتاح لها كما للذكر الحق في ذلك وليس من العدل سحب الفتاة من الجامعة بسبب الفساد فيها والبعد عن مجهر المراقبة، وليس من العدل إنسحاب تلك الفتاة الطاهرة من حب العلم لحجة الإختلاط فالمجتمع في هذه الأيام أشبه بالسلطة التي تأبى عناصرها أن تتنافر ولا ينحصر هذا الإختلاط في موقف واحد ووحيد .

بالإضافة إلى ذلك، فإننا نرى أنّ هذه الحجة واهية لأنّ التربية المبكّرة على الأخلاق الحميدة من شأنها أن تغرس في الفتاة حب الدين وحب العفة والطهارة والأهم من ذلك غرس مراقبة الخالق جل وعلا في شخصية الفتاة منذ الصغر وليس مراقبة المجتمع أو الأب أو الأم وهي ما تُعرف أيضا بالمراقبة الذاتية. المشكلة الكبيرة في تربية أبنائنا أننا نقوم بعرض الطريق الصحيح أمامهم ولكننا نفتقد إلى العنصر المكمّل وهو عرض الممنوع وعلّة منعه وعرض الحرام وعلّة تحريمه، وربما يكون هذا الإقتصار من خجل المجتمع العربي . لكن في المقابل , لا يخفى علينا أنّ للبيئة المحيطة أثر كبير على نفس الشاب والشابة وفي بيئة الحرية والإستقلالية يمكن لأي تقي أن ينجر وراء الركب إن لم يمسك الجمرة التي في يده بقوّة، ولربما الإنتقال المفاجئ من مجتمع محافظ إلى مجتمع ليبرالي من شأنه أن يُثير الغرائز . هذه المسألة جدّ شائكة ولذا كان واجبا علينا أن نخترع الحلول التي توفّق بين طلب العلم والمحافظة على عفة وطهارة الفتاة المسلمة والشاب المسلم، وكعادتنا نقترح دراسة هذه المواضيع المحيّرة في ندوات تضمّ متخصصين من شتى المجالات بمن فيهم رجال دين، علماء نفس، علماء إجتماع وغيرهم، وليس أن نلغي مستقبل بناتنا بكلمة واحدة دونما دراسة وبحث . أما أن نحرم البنت من طلب العلم للمحافظة عليها من وساوس شيطانية فهذا هو مثال للإنسحاب التراجعي . إن تناولنا لهذه القضية بشكل خاص للإناث هو بسبب أنها تتواجد كثيرا في أجندة المجتمع العربي والإسلامي وكثيرا ما تعلو من وراء الكواليس، أما الذكور فإنهم معفيون من هذه الحسابات ولا ندري لماذا، فالشاب كالشابة مُعرّض أيضا للإغراءات وحتى أنه مُعرّض أكثر من الفتاة.

وللإنسحاب التراجعي سلبيات، منها: الإنسحاب من مجالات الحياة الُمباحة وبذلك إخلاء المجال لأهل الضلال ليبثّوا ضلالاتهم، وبالتالي التقليل من ظهور الإسلام وحصره في المساجد ودور العبادة، مما يُضعف تأثيره على المجتمع، والأوجب هو الدخول في كل المجالات المُباحة حتى يتم إتقان كل فنّ من فنون الحياة على حده، لأننا عندها ندمج الإسلام المتمثّل بالمسلمين الحقيقين في مُعترك الحياة التي تشمل الحق والباطل، الشر والخير، وعندها يمكن أن نتوقّع عودة السيادة الإسلامية. إضافة إلى هذا التأثير العام على الأمة كلها، فهناك تأثير سلبي على الأفراد لأنهم بذلك يشعرون أنهم مُقيّدون، مما يدفع بالبعض إلى الإتجاه إلى الأمور المُحرّمة، لأنهم لا يجدون تلك الفسحة والرحمة التي هي من سمات الإسلام الصحيح. من هنا واجب علينا أن نترك الإنسحاب التراجعي لإسقاطاته السيئة وأن نلتزم بالإنسحاب التقدّمي لإسقاطاته الحسنة.

أما الإنسحاب التقدّمي فهو يعني التنصّل وترك الأشياء المُحرّمة بشكل قطعي، لأنها لن تُساهم في تقدّم المجتمع وإنما في تدميره، لذلك فإن تركها يُعتبر تقدّما. ولقد اسميناه بالإنسحاب لأنه فعلا انسحاب وترك لبعض من الأمور التي يرتادها كثير من الناس ولكنها لا يجب أن تشدّنا أو تجذبنا إليها لأننا نؤمن أنها لن تنفعنا في الدنيا ولا في الآخرة وإن ظهر فيها نفع مؤقّت، ولذلك فهو تقدّمي لأن هذا الترك سيكون خيرا وإن بدا في ظاهر الأمر أنه تقييد. والأمثلة على مثل هذا الإنسحاب المطلوب كُثُر: الإنسحاب من شرب الخمر، من إرتكاب الزنى، من السرقة، من المراقص الليلية وغيرها الكثير، والعجيب في الأمر أن مقابل كل حرام هناك حلال مشابهة له ولكنه مختلف ومُفيد: فمقابل شرب الخمر هناك شرب ما لذّ وطاب من المشروبات الأخرى والعصائر، ومقابل الزنى هناك الزاوج، ومقابل السرقة هناك الكسب الحلال، ومقابل المراقص الليلية هناك السهرات العائلية الراقية. وفقا للرؤية الإسلامية فإن الله قد حرّم هذه الأمور لأنه هو أخبر بنا من أنفسنا لأنه خلقنا، ولذا فهو يعلم جل وعلا أنها لن تنفعنا في الدنيا ولا في الآخرة، فالخمر مثلا حرام لأنه يضر بالإنسان في الدنيا فهو يُبعد الإنسان عن الواقعية ويُغيّب زينته ألا وهي العقل وبالتالي يجرّه إلى فعل منكرات أخرى لأنه لا يدري ما يفعل في بعض الأحيان، كما أثبت العلم أضرارا أخرى للخمر كالتأثير السلبي الضار على النساء الحوامل وغيرها، وفي الآخرة ربما يمنعه من كسب رضى خالقه والفوز بالجنة والنجاة من النار لأنه لم يُطع أمره ولم يقف عند نهيه، وإنما خالف أمر خالقه! لذا فإن هذه الأمور المُحرّمة تعكس الشر الذي في العالم، مما يُوجب الإبتعاد عنها وتركها.

وللإنسحاب التقدّمي إيجابيات منها: أنه يُظهر تميّز المسلمين عن غيرهم وبالتالي يُساهم في إظهار الأفكار الإسلامية لتطفو فوق البحر، فيراها الجميع ناصعة، ولربما سيُعجب بها الكثيرون لأنها تتلاءم مع الفطرة الإنسانية. كما أن ذلك يُبرز قوة الإسلام وقوة الشخصية الإسلامية التي لا تتنازل عن مبادئها بسهولة ولا تركع ولا تخضع لغير الله، فإن أحسن الناس يُحسن المسلمون، وإن أساءوا نُحسن أيضا، وهذا يؤكّد أننا لسنا تَبَعا ولسنا عبيدا عند أحد من البشر ولسنا ننجرّ لأنّ عندنا دليل كل تائه ومُرشد كل حيران، ولسنا كذلك مُغلقين لأننا نأخذ ما ينفعنا في الدنيا والآخرة من الغير ونترك إليهم ما لا ينفعنا. إن الفهم الصحيح للإسلام والتقارب بين مصطلحي "الإسلام" و "المسلمين" يتحقّق عند ترك الإنسحاب التراجعي والأخذ بالإنسحاب التقدّمي.