8.7.14

تأمّلات في المجتمع الصناعي


المجتمع الصناعي هو ذاك المجتمع الذي يرفع من شأن الآلة ويقدّسها، وهو بتقديسه هذا يقدّس الانتاج. وهو نابع ولا ينفكّ يغذّي مبناه الاجتماعي من النظرة المادية، التي تُعلي الكمّ على الكيف، والمادة على الروح، والظاهر على الباطن. واذا نظرنا الى نقطة نشأة هذا المجتمع الصناعي، أي الى الثورة الصناعية، نرى أنها تنصبغ بالمادية بشكل واضح. فلماذا سمّوها ثورة صناعية؟! ألأنها تصنع أخلاقا؟! أم لكونها تصنع روحانية وتأمّلات فكرية؟! انها ثورة في صناعة الماديات.

الفيلسوف علي عزّت بيجوفيتش يوضّح لنا الفرق بين الثقافة والحضارة في كتابه "الاسلام بين الشرق والغرب"، فهو يرى أن "الثقافة تبدأ بالتمهيد السماوي بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة، وستظل الثقافة تُعنى بعلاقة الانسان بتلك السماء التي هبط منها، فكل شيء في اطار الثقافة اما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمّل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان". أما الحضارة فهو يُعرّفها على أنها "استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، التبادل المادي بين الانسان والطبيعة. هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. هنا لا نرى انسانا مرتبكا في مشاكله الدينية، أو مشكلة "هاملت" أو مشكلة "الإخوة كرامازوف"، انما هو عضو المجتمع الغُفل، وظيفته أن يتعامل مع سلع الطبيعة ويغيّر العالم بعمله وفقا لاحتياجاته". أي أن الثقافة تعلو على المادة وتتفوّق عليها، في حين أن الحضارة تبقى حبيسة الماديات. 

ان المادية تغلغلت الى القلوب وفي أحيان تمكّنت منها، وأثّرت على قراراتنا دون أن ندري حتى صارت موجّها لنا في كل مجالات الحياة. الشعائر الدينية نفسها لم تسلم من طغيان المادية! ولنضرب مثالا. أحيانا يفكّر الواحد منا، أن اذا كانت الصلاة في البيت تستغرق خمس دقائق، فلماذا نذهب الى المسجد ليأخذ ذلك ربع ساعة اضافية من الوقت؟! أليس من الصحيح الحرص على الوقت خصوصا وأننا في عصر السرعة؟! اذا أعدنا النظر في هذا التفكير وجدناه ماديا بحتا، اذ أن ما فعله العقل هو مقارنة كمّية بسيطة بين اقامة نفس العمل (في الظاهر) في البيت وبين اقامته في الخارج. ليستنتج أنه حيثما يوجد ربح أكثر (ربح أكثر للوقت) فذاك الخيار الأفضل.     

ولكن العقل المادي لا ينتبه الى عوامل أخرى تستعصي عليه، وربما يتجاهلها لأنها تُظهر عجزه. العقل المادي يستصعب فهم لحظات التأمّل ولحظات الخشوع. وهو يستغرب كيف لهذا الانسان أن يصفن ساعات في آية كونية دون أن ينتج شيئا محسوسا ودون أن يحقّق أرباحا ملموسة! ويستغرب كيف له أن يقف ساعات بين يدي خالقه متجاهلا عجلات الانتاج حوله! ولو تفكّر ذلك الشخص الذي فضّل صلاة بيته على صلاة المسجد لحساب مادي بسيط، لفهم أن حسابه خاطئ، اذ صحيح أنه يوفّر وقتا، ولكن عمله في كلا الحالتين غير متطابق وبالتالي لا يُثمر عن نفس النتائج. ثم لو أردنا أن نحسب الأمور حسابا ماديا خالصا، لوجدنا أن الصورة تبقى ناقصة. فعلى سبيل المثال، ما الذي يفسّر استغراق مهمة في حالة معينة وقتا أكثر بكثير، من استغراق نفس المهمة معنا في حالة ثانية؟! اننا نعلم أنه تدخل عوامل كثيرة في التأثير على مدى تركيزنا، من مثل، مستوى اليقظة، المزاج النفسي وغيرها، واننا لنعتقد بوجود عوامل أخرى لم يتم الكشف عنها الى الآن. وذاك مثل الذي صرف وقتا أكثر في صلاة المسجد، اذ يمكن أن يستعيض عن هذا الوقت وزيادة عليه اذا ما شرح الله صدره للمهمة التي يودّ تنفيذها. اننا لا نُلغي وجود عوامل نفسية يستطيع الانسان ادراكها ولكننا أيضا لا نلغي وجود عوامل ما ورائية نعجز عن ادراكها.   

اننا لا نرفض المادية ولا نقدّسها. اننا نرى أنها جانب واحد من هذه الحياة، ولذا فإن التركّز بها دون غيرها، يقلّص الصورة ويجعلها ضيّقة. ان المادية تدخل في غالبية الأمور حتى في الشعائر الروحانية (عدد ركعات الصلاة، ساعات الصيام، عدد ختمات القرآن وغيرها)، ولكنها لا ينبغي أن تسيطر عليها ولا أن تكون همّنا الأول والأخير. الطبيعة على طبيعتها كلها ماديات ولكنها اذا ما التقت مع الانسان ظهرت أمورا أسمى، كالتأمّل والتفكّر والتسامي الروحي، وظهرت الثقافة ولم تبقَ مجرّد حضارة.