2.8.15

الإيجاب المعقول - الجزء الثاني


هل نترك السلب ؟

انه ان قلنا أن السلب لا يعنينا وأننا سنغضّ الطرف عنه فإن ذلك لن يُغيّر في الواقع شيئا وانما سيُغيّر في تفسيرنا لهذا الواقع. والواقع يحوي الإيجاب والسلب كما أسلفنا، والحياة فيها من الإيجاب وفيها من السلب، والإنسان فيه كذلك من الإيجاب ومن السلب. فلو اخترنا أن نُفكّر بإيجاب كل الوقت وأن ننظر الى نصف الكأس المليئة رغما عن كل شيء لما حال ذلك بيننا وبين السلب، بل لربما سلّطه علينا أكثر. ان هذا التغاضي يُشبه رؤية الخطر (كاعتداء انسان على آخر) ومن ثم اغماض العينين كما يفعل الأطفال أو الهرب كما يفعل الخائف. فهل ذلك يُنجي من الخطر أم يُقلّص فرص مواجهته والتغلّب عليه؟

ان التفكير الايجابي يجب أن يكون ايجابا معقولا، بمعنى أن يرى الايجاب ايجابا وما يحتمل الايجاب ايجابا ولكن ألّا يتغاضى عن رؤية السلب سلبا. فإن السلب موجود في هذه الحياة لا يمكن منعه ولا تفاديه بالمطلق، اذ لو اخترت أن ترى الكون بأعين الايجاب في صباح يوم مُشمس لما منع ذلك شخصا سيء القلب من ابراز شر ظاهر لا يحتمل تفسيرا مُغايرا. انه يمكن رؤية الواقع بإيجاب لا يحصره الا سلب لا يقبل التأويل، واذا ما ظهر هذا السلب فلا يختار الواحد أن ينكره، بل أن يراه كما هو ليُحاول معالجته وليُقعده مقعده كي يعود الى مسار الإيجاب.

***

لماذا نخوض في السلب ؟

لا يمكننا تعريف السلب تعريفا دقيقا لأن النظرة الشخصية والتفسير يدخلان اليه كما يدخلان الى الإيجاب، فالقول الذي يعتبره أحدهم سلبا يمكن أن يعتبره الآخر ايجابا. وذلك يرجع الى تعدّد الأفهام وتعدّد النظرات الشخصية وكل ذلك يعود بدوره الى تجربة الانسان الشخصية وحياته الخاصة. فلو عانى أحد من تنكيل أبناء جيله به في طفولته فإنه لربما تضايق من مزح يهزأ من مقامه في كبره، ولو عاش طفولة فيها العطف والحنان لما هزّه مزح أحدهم أو استهزائه، بل لربما ردّ بالمثل ولم ينزع جوّ المزح الايجابي عن ايجابيته.

وهنا تتضّح لنا أهمية الخوض في السلب. انه ان عاش أحد موقفا سلبيا، فإنه يمكنه أن يختار انكاره أو أن يُعيد النظر فيه. اذا ما اختار الخيار الأول فإنه يحمي نفسه من السلب الذي عاشه ولكنّه يبقى هناك في اللا واعي، وفي الحالات الحَرِجة (غضب، توتّر، يأس) فإن هذا السلب يطفو ويخرج من مخبئه. أما اذا ما اُختير الخيار الثاني فإن الانسان يُعطي نفسه فرصة معالجة السلب الذي عاشه وبذلك فهو لا يهرب منه ولا يتنكّر لوجوده. انه ان أعاد النظر في السلب الذي عاشه فإنه يمكنه أن يخرج بالعظات والعبر وذلك يمكنه أن يفيد الانسان في فهم ذاته أولا وقبل كل شيء، ذلك أنه يعرف ما هو السلب الجلي (الذي يتضايق منه كل الناس) وما هو السلب الذي يتّصل بتاريخه الشخصي. فإن كان عنده حساسية لموقف معين أو لطريقة معينة في الكلام فإنه يصير واعيا لذلك مما يمكنه من تهيئة سبل مواجهة مواقف شبيهة في المستقبل. انه يمكنه عندها أن يلاءم الظروف المحيطة به كما يُحبّ وأن يُخرج عندها الطاقات الإيجابية داخله في وسط تلك البيئة المريحة التي ركّبها بنفسه.

بكلمات أخرى، اعادة النظر في السلب الذي عاشه الانسان تُعطي الانسان فرصة اعادة ترتيب الماضي وما يحمله من سلب ولربما حتى صبغه بصبغة الايجاب، وذلك ما يمكن تحقيقه في العلاج السردي (Narrative therapy). هذا العلاج للماضي الحزين المُوجع يُلقي بأثره على الحاضر، ليتغذّى الحاضر من ايجابية السرد البديل بشكل غير مباشر كما تغذّى الماضي بشكل مباشر. والمستقبل يتغذّى كذلك اذ أن الوعي الذي زاد والسرد البديل الايجابي يؤثّران على المواقف المشابهة وحتى على المواقف الجديدة. لنصل الى أن النتيجة أن الخوض في السلب هو مما يُكمّل الإيجاب، على العكس من الإنكار الذي وان غطّى السلب فإنه لا ينفكّ يُلقي بآثاره السلبية على الانسان.  

***

السلب المعقول

كما أن في الايجاب ايجاب معقول وايجاب غير معقول فإن في السلب سلب معقول وسلب غير معقول. التفكير السلبي المعقول أو السلب المعقول هو التفكير الذي يحتمل أن يصير واقعا، والذي يُقرّر احتماله من عدمه هو مجموع أصوات الناس العقلاء الطبيعيين. فإن فكّر أحدهم أنه يمكنه أن يقع وأن يصاب بإصابات بالغة اذا ما وقف عند حافة مرتفع دون أن يأخذ بوسائل الأمان التي تحميه، أو ان فكّر آخر أنه يمكن أن يصطدم بسيارة أخرى اذا ما ساق بطريقة جنونية، أو ان فكّر ثالث أن حالته المرضية ستسوء لأنه لم يأخذ الدواء المطلوب، فإن كل ذلك يُعتبر من السلب المعقول أي الذي يُعقل حدوثه. ان هذا السلب المعقول له وظيفة حيوية في حماية الانسان وبالتالي في ابقائه في مسار الايجاب (تفكير سلبي صغير يمكنه أن يمنع أحداث سلبية طويلة). بمعنى آخر، فإن السلب المعقول يخدم الايجاب أو أنه يُفضي الى الايجاب.

أما السلب الغير معقول فهو التفكير الذي لا يكاد يحتمل أن يصير واقعا (يمكن أن يصير واقعا في حالات استثنائية نادرة). ومثل ذلك من يفكّر أنه يمكن أن يقع وأن يُصاب بشلل كلّي أو أن يموت اذا ما وقف عند حافة مرتفع وذلك رغم أخذه وسائل الحيطة والحذر كلها (كأن يكون مربوطا بحبال بصورة مُحكمة أو أن يكون بعيدا بُعدا كافيا عن الحافة التي يتواجد عندها جدار عال متين). ان هذه الحالة تفرق عن سابقتها المشابهة لها بشدة الخوف نسبة للموقف، ففي الحالة الأولى كان الخوف طبيعيا نظرا لانعدام الحماية، وهذا الخوف قد أخذ صاحبه الى الحيطة والحذر. أما في الحالة الثاني فقد زاد الخوف عن حدّه لأن الحماية كانت موجودة ورغم ذلك الخوف كان أشدّ.

ويمكن لهذا الخوف أن يكون أشدّ الى أن يصل الى حالات مرضية – كأن يُفكّر أحدهم أن مصيبة ستحدث اذا ما قاد السيارة ولا يهمّ ان ساق بحذر أم لا، مما يؤدّي الى الامتناع عن السياقة أو الى خوف فائق يظهر في الجسد (كنبض قلب سريع، تنفّس غير منتظم وغيرها) وفي النفس (كتفكير مُتكرّر وكإحساس بالرعب) اذا ما أُجبر على السياقة. أو ان أُصيب أحدهم بخوف مرضي من المرض أو الموت، وذلك دون علاقة ان أخذ الدواء أم لا أو ان تحسّن وضعه الصحي أم لا. هذه الأمثلة الثلاث الأخيرة (الخوف المبالغ به عند المرتفع، عند السياقة، عند المرض) هي من السلب الغير معقول، ذلك أنه يصعب حدوث ما يخشاه الانسان. ان قولنا عنها أنها سلب غير معقول لا يعني أن ندعها أو نتنكّر لها وانما أن نسعى الى علاجها خصوصا اذا كنا نتكلّم عن حالات مرضية.

***

علاقتنا مع ذاتنا والزمن

ان العلاقة ما بين الذات وبين الزمن هي علاقة مُتبادلة، بمعنى أن الذات تؤثّر على الزمن وهي بدورها تتأثّر منه. فإن تصالح الواحد مع ماضيه وحاضره ومستقبله فإنه سيكون متصالحا مع ذاته وان تصالح مع ذاته فإنه سيتصالح مع ماضيه وحاضره ومستقبله. وان أحبّ نفسه فسيحبّ ماضيه وحاضره ومستقبله وان رأى نفسه كما هي فإنه سيرى ماضيه وحاضره ومستقبله، أما ان كره نفسه وكره رؤيتها فإنه سيكره رؤية ماضيه وحاضره ومستقبله. انه بذلك يُغيّب نفسه عن نفسه ويجعلها غريبة في بيتها مستوحشة، وذلك يُساهم في انحسار الوعي الذاتي ولربما يمحقه تماما.

والزمن في تقدّم ولكننا يمكن أن نرجع به الى الوراء عبر الذكريات، والذات في تطوّر أو تدهور. أحيانا تظهر لنا الأحداث القريبة منا زمنيا وكأنها نهاية العالم أو أنها كارثة لا مخرج منها، ومن ثم فإذا مرّت الأيام وتطاول الزمان خفّت وطأة هذه الأحداث على النفس. وما كان ذلك الا لانتقال هذه الأحداث من الحاضر الى الماضي. تأثير الزمان هذا لا نجد له تأثيرا مُناظرا في حال المكان، فلو نقلنا انسانا مهموما أو مُكتئبا من مكان الى آخر ومن جنة أرضية الى أخرى، لوجدنا تأثيرا مُتواضعا للمكان قبال الزمان. وهنا تبرز أهمية الزمان وعظمة تأثيره. في الحالات المرضية أو حتى في الحالات التي تطمح الى مزيد من وعي بالذات فإننا نسعى الى البحث في الماضي وأحيانا في الحاضر كيّما نضيء بالوعي نقاط الضعف كما نقاط القوة وكيّما نُلقي الضوء على المُسبّبات المُمكنة. اننا نرجع الى الماضي كي نُحسّن الحاضر وكي نضمن المستقبل. انها لعبة الزمن التي تلقي بأثرها على الذات، فلكي يُصلح الدهر ما أفسده فإنه يأخذ بأيدينا من الماضي الى الحاضر، ولكي نُصلح ما أفسده نأخذ بالأيدي من الحاضر الى الماضي.  

وكم من رجل قطع الأرض شرقا وغربا باحثا عن الراحة والسعادة ثم عاد الى بلاده فوجدها في ذاته؟! انه ان رأينا ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا (محطّات زمننا) بإيجاب فإننا سنرى ذاتنا بإيجاب، وان رأيناها بسلب فإننا سنرى ذاتنا بسلب. فأولى لنا أن نتصالح مع زماننا، مع ماضينا، حاضرنا ومستقبلنا. 

***

ذكريات

ان لكل انسان منا ذكريات، منها السعيدة ومنها الحزينة ومنها الايجابية ومنها السلبية. وهي موجودة فينا، في وعينا أو لا وعينا، ويمكن لإيجابها أن يطفو عند مواجهة حدث ايجابي في الحاضر ويمكن لسلبها أن يطفو عند مواجهة حدث سلبي في الحاضر. انه في اللحظات الحزينة يخال الانسان أن تاريخه كله وذكرياته كلها حزينة كئيبة وفي لحظات الفرح يخال أن تاريخه كله ناصع، كله ايجابي، بل وربما مثالي. والصحيح أن في تاريخ كل واحد منا وفي ذكرياته، هناك ايجاب وسلب. 

الوعي بمثل هذه الذكريات هو أمر حيوي وتبرز حيويته عندما نلمس أثر هذه الذكريات على حاضرنا ومستقبلنا. انها لا تنفكّ تُلقي بأثرها على الحاضر والمستقبل. انها لا تختفي ولا تمّحي ولا ينقطع أثرها ولو كنا غير واعيين لها ولأثرها. اذا ذُكر "أ" عندنا أصابنا الاشمئزاز وتعكّر مزاجنا واذا ذُكر "ب" ظهرت علامات الانبساط علينا واستبشرنا بالخير. واذا حللت بمكان تعرفه، تبادر اليك شعور بالحنين والشوق لتلك الأيام أو باغتك شعور سلبي تستصعب وصفه وبالتأكيد لا ترغب بأن تعيشه مرة أخرى. وما كان كل ذلك الا لاتصال أولئك الأشخاص وتلكم الأمكنة بمشاعر الايجاب والسلب. انها حُفظت هناك في أعماقنا ولما أن لاقت محفّزا يأذن لها بالخروج، خرجت وأحيت فينا من جديد ذكريات ماضية.

***

ذكريات فردية وجمعية

هناك من الذكريات ما لا نحياه بشكل مباشر وانما ترتبط بدوائر انتمائنا الدينية، القومية والانسانية وغيرها. لذلك فهي تؤثّر علينا بشكل غير مباشر. انها تُمرّر الينا على الدوام ونحن ننكشف اليها بشكل مُتكرّر عبر الأوصاف الكلامية أو الأعمال الفنية أو التاريخ المكتوب. وهي تُؤثّر علينا لأنها أثّرت على آبائنا وأجدادنا وعلى دوائر انتمائنا. ونحن نعتبر أنفسنا أحفادا لمن هزّتهم هذه الأحداث بحلوها ومرّها. 

النكبات التي مرّت على أجدادنا لا تنفكّ تُؤلمنا ولا تنفكّ تُلقي بأثرها السلبي علينا وبالمقابل الأمجاد التي كانت لنا والتقدّم الذي كان لا ينفكّ يُحيي فينا العزيمة والاصرار والى غير ذلك من مشاعر ايجابية. انها أحداث جرت مع أجدادنا وأجداد أجدادنا ولكنها نُقلت من جيل الى جيل وحُفظت الى يومنا مع ما تُولّده من مشاعر ايجابية أو سلبية. وكأنّنا توارثناها في ذاكرتنا الانسانية. عالم النفس يونغ يتحدّث عن اللا وعي الجمعي الذي يحفظ تاريخ البشرية منذ القدم وهو يؤثّر علينا على الدوام ويُحيي فينا ما كان في الانسان الذي سبقنا.   

ان ذلك يعني أننا لا نُولد الى فراغ وانما الى زمان سبقته أزمنة وستتبعه أزمنة وكأننا بمثابة حلقة تسبقها حلقات وتتبعها حلقات. ولا شكّ أننا نتأثّر من الحلقات التي سبقتنا وخاصة من التي نعتبر أنفسنا من صُلبها، وكذلك نُؤثّر على الحلقات التي تتبع بالفعل الذي نرسمه في حاضرنا. انه يمكن للإنسان أن يتنكّر لما قبله ولما بعده فيعتبر نفسه فردا لا شأن له بالآخرين، ولكن ذلك لا يعني أن هذا اللا وعي الجمعي لا يؤثّر على هذا الانسان "الفرد"، فهو يُؤثّر عليه من حيث لا يدري هو.  

***

هل لنا من الماضي شيء ؟

يمكننا أن نُسيطر على الماضي، فنحن من نُقرّر اذا ما كنا نريد أن نفتح دفاتر الماضي أم نطويها، اذا ما كنا نريد أن نستحضر لحظاته أم نتركها هناك في اللا واعي. لكن في لحظات معينة تنحسر هذه السيطرة فتخرج الى الواعي موادا غير واعية فتُؤثّر على حاضرنا ومستقبلنا. من منا لا يذكر لحظات باغتته فيها مشاعر غريبة سلبية أو ايجابية؟ اللحظة الحاضرة لا تُولّد هذه المشاعر بشكل مباشر ولكنها توحي بها وتستدعي استحضارها من مخبأها في اللا واعي، لتخرج من حيث لا يدري الانسان وليتلخبط بين شعور الحاضر وشعور الماضي الذي خرج لتوّه من مخبأه.

أغلب الناس يتغاضون عن هذه المشاعر أو ربما يقومون بخطوات عملية كردّة فعل على مشاعر كهذه (كترك الموقف في حال الشعور السلبي أو ملازمته في حال الشعور الايجابي). والمشكلة في مثل ردود الفعل هذه أنها لا تُعطي الانسان مجالا لأن يوسّع ويُطوّر من وعيه، اذ هو لا يقف عند مشاعره ولا يعرف ماهيتها مما يُفقده محاولة النظر اليها دون آليات الدفاع (انه لا يسأل نفسه: لماذا باغتني هذا الشعور في مثل هذا الموقف بالذات؟)، وبذلك يبقى بعيدا عن نفسه ولا يزيد من الوعي بها. واذا ما تكرّر نفس الموقف أو موقف مشابه عاد اليه نفس الشعور الايجابي أو السلبي الغريب، ولم يكن واعيا له ولسبب وجوده في مثل ذاك الظرف، وبالتالي أفقد نفسه فرصة زيادة السيطرة على الماضي. ان الماضي بقي هو مُحرّكه، بدلا من أن يكون هو محرّك الماضي.     

***

كيف نُحيي الذكريات ؟

اذا ما تساءلنا كيف نجعل حياتنا حياة طيبة، حياة سعيدة، فإنه من المُتوقّع أن نقول أن ذلك بسيط، اذ أنه كلما زدنا من اللحظات الايجابية وقلّلنا بالمقابل من اللحظات السلبية فإن ذلك سيساهم في جعل حياتنا حياة طيبة سعيدة. لكن اذا ما دخلنا الى فلسفة ذلك والى التطبيق فإن الأمور ستزداد تركيبا. ولكي نُبسّط الأمور نقول أنه بإمكاننا أن نستدعي لحظات الماضي الايجابية فنستمدّ من طاقتها طاقة تُقوّينا في الحاضر وأن نستدعي لحظات الماضي السلبية في مواقف ملائمة كيّما تشفى روحنا من ضنكها ومضايقتها. وقد يبدو ذلك غريبا أن نستدعي اللحظات السلبية. اننا لا نختلف على أن استدعاء اللحظات الايجابية الماضية سيكون له أثر ايجابي على الحاضر، وذلك يمكن أن يتمّ في جلسات الأصدقاء الذين يبادرون أو ينجرّون الى احياء ذكريات الماضي التي تجمعهم أو في جلسة مع الذات يستعرض فيها الانسان أيامه الغابرة (نجاحات، انجازات، انتاجات، قدرات طوّرها، مهارات اكتسبها، أثر تركه وغيرها)، أو في جلسة مع الأقارب يُدلي فيها كل بدلوه عن أيام الطفولة الجميلة التي تُثير الاشتياق وتوقد الحنين.

ومن ثم فإن كل ما يحفظ الذكريات الايجابية يمكن أن يكون وسيلة لزيادة لحظات الايجاب. الصور الفوتوغرافية التي تُسطّر لحظات الفرح واللحظات الثمينة يمكنها أن تُحيي طاقة الايجاب التي عشناها وأن تُقوّينا في لحظات الضعف، الشهادات المُعلّقة يمكنها أن تُحيي فينا انجازاتنا وقدراتنا، الهدايا التي تُذكّرنا بمن نُحبّ، الكتابات التي تبعث فينا أفكارنا، الأعمال الفنية التي تُشجّعنا على المواصلة.

لكن كما قلنا فإن استدعاء لحظات السلب يمكن أن يظهر غريبا، فقد يسأل سائل: لماذا أُذكّر نفسي بالهمّ بعد أن نسيته؟ لماذا أنظر في لحظات الماضي التعيسة التي لا أقدر على تحسينها؟ والصحيح أن هذه الأسئلة تتضمّن فرضيات غير دقيقة لا تساهم الا في زيادة تغييب الوعي. فلماذا افترض السائل أن لحظات السلب ستكون همّا على قلبه ولماذا افترض أنه نسي لحظات السلب ولماذا افترض أنه لا يقدر على تحسين تلك اللحظات؟ في الحقيقة فإن لاستدعاء لحظات السلب أغراض ايجابية كثيرة، فالبوح بلحظات السلب الماضية يهدف في النهاية الى الوصول الى الايجاب. كثير منا يقول لمن أصابه هم أو سوء: فضفض! وهذه فعلا احدى الغايات التي يمكننا أن نُسمّيها "اخراج ما يؤلم وما يهمّ من الداخل الى الخارج"، وعندما تصل هذه "الفضفضة" الى من يحسن الانصات، فإنه سيحاول اعادتها الى قائلها بصورة مُنظّمة أكثر ولربما يصبغها بصبغة الايجاب ان كان ذكيا حذقا. ولذلك نقول أن هذه "الفضفضة" يجب أن تتمّ عند من يحسن الانصات، كالأخصائيين النفسيين أو الاجتماعيين أو حتى عند صديق يُحسن الانصات. والدليل على أن هذه "الفضفضة" تُفضي الى الايجاب أن الانسان يشعر بعد أن لقي من يسمعه ويسمع وجعه، يشعر بخروج طاقة سلبية منه وحلول شعور مريح. اننا بذلك نُحيي لحظات الماضي الايجابية ونستدعي السلبية كيّما نُخفّف من وطأة سلبيتها أو نصبغها بصبغة الايجاب.

***

كيف نعيش مع لحظات الماضي القاسية ؟

انه يمكننا أن نستعمل آليات الدفاع المختلفة، الأوليّة منها والمُتقدّمة، عند مواجهة أحداث الماضي القاسية التي يمكن أن تكون شديدة الوطأة (موت قريب) أو عابرة (كموقف مُحرج)، ويمكنها أن تكون حديثة عهد أو بعيدة. ولمواجهتها يمكن للإنسان أن يذهب بوعيه أو بعدمه الى الدفاع عن الذات، وأسوأ سُبُل المواجهة هو استعمال آليات الدفاع الأولية كالإنكار، ففي هذه الحالة يُنكر الإنسان وجود الحدث القاسي في ماضيه رغم وجوده في الحقيقة (كأن يُؤمن أنّ أباه ما زال حيّا رغم موته). أسلوب المواجهة الثاني هو استعمال آليات الدفاع المُتقدّمة كالكبت، فعندها يكون الانسان واعيا لما أصابه من حدث قاس ولكنه يُحاول أن يُنسي نفسه أو أن يذهب بالحدث المؤلم الى اللا واعي. في هذه الحالات، يخسر الانسان فرصة زيادة وعيه بذاته ولربما يخلق لنفسه وعيا زائفا مُريحا بشكل مؤقت ولكنه بالمقابل يحافظ على ذاته بمساعدة آليات الدفاع. 

أما اذا استعمل الانسان آليات الدفاع في لحظات معينة وكان قادرا على مواجهة الأحداث القاسية والنظر اليها واماطة آليات الدفاع في لحظات أخرى، فإنه بذلك لا يعزل نفسه عن ماضيه ولا يمتنع عن مواجهته. انه يواجه الحدث القاسي رغم صعوبة الانكشاف اليه ورغم صعوبة استذكاره وعيشه مرة أخرى، ولكنه يفعل ذلك لأنه موقن أنه سيفهم نفسه بشكل أفضل وأنه ستخفّ وطأة هذا "الوحش المخيف" في داخله وأنه سيشعر بارتياح يدوم أكثر مقارنة بالارتياح المؤقت الذي تجلبه آليات الدفاع. ورغم ميلنا الى تفضيل سبيل المواجهة الأخير، الا أننا نعتقد أن ليس كل ظرف يسمح للإنسان بسبيل المواجهة هذا، ففي حالة حدث قاسي حديث أو في حالة حدث قاسي شديد الوطأة أو حتى عند عدم وجود امكانيات الدعم الكافية، فإن الانسان يمكن أن يُفضّل الإبقاء على أساليب الدفاع (وهذا ليس سيئا في مثل هذه الحالات).

***

هل للماضي سطوة على الحاضر ؟

يمكن للماضي أن يؤثّر على الحاضر بشكل مُبالغ فيه في حالات مُعينة، حتى أنه ليكون الشخص في الحاضر وما كأنّه فيه وهو يرى الأشياء أمامه وما كأنّه يراها وهو يسمع من حوله وما كأنّه يسمع. ولكنّ عقله، بصره وسمعه هناك في الماضي، في ما جرى وهو لا يقدر على أن يتحرّر من سطوة الماضي. يمكننا أن نُصادف حالات كهذه في الأيام التي تكون قريبة من الأحداث السلبية القاسية. يأتي الحدث السلبي بشكل مفاجئ فيهزّ الانسان هزّا ويُزعزعه مما يترك أثرا بالغا في النفس، فيمتدّ هذا الأثر من الماضي الى الحاضر وتُصبغ أيام الواحد بصبغة ذاك الحدث الصعب. وبالعادة كلّما مرّ وقت أكثر، كلّما خفّت سطوة الماضي على الحاضر وكلّما عاد الانسان الى واقعه ليحيا حاضره بدلا من أن يحيا ماضيه. واذا ما طال تأثير الماضي على الحاضر فإن ذلك يمكن أن يخرج عن الطبيعة ليدخل في الحالات المرضية، كمرض التأقلم أو الاكتئاب وغيرهما.

وفي حالات معينة يمكن لحدث ايجابي كبير أن يؤثّر على الحاضر، فلا يكون الانسان منشغلا في اللحظة التي هو بصددها وانما في استذكار لحظات الإيجاب القويّة التي مرّت به. انه يكون مُشتتا بين الحدث الماضي الجميل وبين اللحظة الحاضرة، وبالتالي هو يفقد فُرص اللحظة الحاضرة ان لم يتدارك الأمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق