15.3.15

ربيع قُرطبة – الربيع المفقود


لا يمكنني أن أصف مدى عظمة هذا الانتاج الفني العظيم لمن لم يشاهده بعد، ولكنني سأحاول التقريب قدر المستطاع، فهو عندي من أفضل المسلسلات التاريخية التي شاهدتها ان لم يكن أفضلها على الإطلاق. فكرته عظيمة وعظمتها تكمن في تصوير حقبة الازدهار في الأندلس، التصوير الدرامي في المسلسل يُنسيك ملل التاريخ ويأخذك الى هناك لتصير تنتظر بفارغ الصبر الحدث القادم وأحيانا تنسى أنك بين يدي تاريخ مُصوّر لتخاله مسلسلا خياليا، الفائدة منه جمّة اذ هو ليس من مسلسلات التسلية بقدر ما هو مسلسل يُثير التساؤلات والأفكار حول تلك الحقبة الزمنية، بطل المسلسل تيم حسن الذي قام بدور محمد بن أبي عامر المنصور لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة، اذ هو ببراعته في التمثيل وطلاقة لسانه ومنظره الحسن قد لفت الانتباه وأخذنا الى تقديره وتعظيمه بشكل مُبالغ.

انها فترة المجد والازدهار التي يشتاق كل منا اليها مُصوّرة أمام أعيننا، والجميل في هذا التصوير أنه لا يعرض واقعا مثاليا ولا يمتدح تلك الفترة بشكل شاعري ولا يعرض المحاسن دون الالتفات الى المساوئ. وذاك يُقرّب من الواقع التاريخي. ولربما لا يعجبنا رؤية المساوئ في فترة الازدهار تلك، ولكن هذا الواقع الذي لم ولن يكون يوما مثاليا حتى في سنوات الازدهار. الا أننا اذا نظرنا الى الغالب فإننا نرى أن الحُسن هو الغالب، العدل، الأخلاق، التقدّم الثقافي والعلمي. ولذلك فإن تسمية المسلسل بـ "ربيع قرطبة" كانت مُوفّقة لأنه حتى في الربيع هناك مساوئ ولكن الطابع الذي يطغى عليه هو الازدهار والجمال.

وأعظم شخصية في هذا المسلسل هي شخصية محمد بن أبي عامر، تلك الشخصية القُدوة التي تُعطي الأمل لكل من وُلد الى مجتمع فيه من الطبقية والعائلية ما يحول بين الانسان وحلمه. انه ذاك الشخص الفذّ الذكّي الفصيح الطموح المثابر الذي يرى في نفسه قدرة فيسعى الى تطويرها والى ابرازها. انه ذاك الشخص الذي خرج من العامّة، من بين البسطاء، من عمل السوق ليصلَ الى الحكم والى دار الخلافة. ولم يهمّه تثبيط العزائم حوله ولم يهمّه السائد (أن سادة بني أمية هم فقط من يصلون الى الحكم)، ولكنّه آمن بقدراته واستعان بحُسن تدبيره ليُحقّق ما طمحت اليه نفسه، ليقضي على الظلم الذي رآه حوله، ليُشيّد الزاهرة، ليدير شؤون البلاد، ليُسيّر الجيوش وليموت كما تمنّى شهيدا في احدى غزواته. انه شخص واحد آمن بقدراته وهيّء الظروف من حوله ليُحدث ثورة صامتة في الأندلس. وللتذكير نحن لا نتحدّث عن فيلم "هولويدي" ولكن عن تاريخ مُصوّر. هل يُمكن أن نتوقّف عن الحديث عن مناقب هذا القائد العظيم الذي لم ولن ينساه التاريخ؟ كلا! انه رجل بآلاف الرجال وقائد بآلاف القادة!

ولكنّ هذه العظمة ذاتها وهذه القُدرة الفائقة في حُسن التدبير يمكنهما أن يُوديا الى ما لا يُحمد عقباه، كما يُصوّر ذلك المسلسل. ولا أدري ان بالغ المسلسل في عرضه للمساوئ في الأندلس بشكل عام، وفي عرضه لاستبداد المنصور في آخره بشكل خاص، ولكني أحسّ بمبالغات معينة، وللتيقّن من ذلك ينبغي العودة الى كتب التاريخ ودراسة الموضوع دراسة منهجية بعيدا عن الدراما التي تُسلّط الضوء على أشياء وتحجبه عن أشياء. لكن بكل الأحوال فإن الاستبداد عندنا مرفوض والانفراد بالحكم كذلك وعزل الشورى هو طامّة كبرى مهما بلغ الحاكم بذكائه وحُسن تدبيره. والقرارات الاستبدادية التي كانت تُتّخذ من قبل المنصور كما صوّرها المسلسل والتي لا أعلم مدى صحّتها هي مرفوضة كذلك، فهي وان بانت صائبة فهي ليست كذلك لأنها لا تأخذ بالأدلة بشكل كاف ولا تأخذ بالآراء الأخرى وبالتالي لا تُعطي مجالا للمشورة ولعرض المصالح قبال المفاسد.

ومظاهر البذخ التي ركّز عليها المسلسل تظهر لي المبالغة فيها، فلربما كانت الخمور موجودة ولكن هل يُعقل أن تُحتسى في دار الخلافة وفي عصر الازدهار؟! وتسليط الضوء على الجواري وخروج النساء بزينة فتّانة الى الشوارع ومجالس الطرب والسمر، فإن كل ذلك لا يذكّرنا الا بالجاهلية. أجاهلية في عصر الازدهار؟ اننا لا نُنكر وجود مظاهر البذخ هذه كالذي يُحاول أن يخدع نفسه ليرتاح مع تاريخه، ولكننا نتساءل عن مدى انتشارها وعن مدى شرعيتها في ذاك العصر. اننا لا نُريد بالمقابل أن نفتري على تاريخنا ما لم يكن فيه. لذلك فإن هذه الظواهر تحتاج الى مراجعة تاريخية وخصوصا قضية الجواري التي ما زال كثير من الفقهاء يُصرّ عليها. هل هي كانت ضرورة تلك الزمان ورغم ذلك عمل الاسلام على تقليصها أم هي ظاهرة مباحة لا يضيرنا توسّع نطاقها اذا ما أُتيحت الفرصة؟ أسئلة تحتاج الى بحث منهجي والى اعادة مراجعة ودراسة حتى لو كانت هناك آراء جامدة وحاسمة بخصوص هذه المسألة! والذي يُؤكّد احساسنا بتسليط الضوء على مظاهر السوء هو حجب الضوء عن مظاهر التديّن والروحانية بالمقابل، فلم نرَ صلاة واحدة، والمسجد لم يحظَ بمكانة بارزة في هذا المسلسل، حتى أن ظهور الحجاب كان ضئيلا الى أبعد الحدود.

الا أنه يبقى مسلسلا عظيما في اثارته للأسئلة المختلفة كمثل الأسئلة حول الرقّ في الاسلام والاستبداد والشورى ومظاهر الحياة الاجتماعية. وهو يبقى عظيما في دمج مظاهر الثقافة المختلفة التي لا يُعيرها كثير من المسلمين ما تستحقّ من اهتمام، كالموسيقى والفنون المختلفة والعلوم والفلسفة والقراءة والمشاركة الفعّالة للنساء في الحياة الاجتماعية والسياسية، كشخصية صبح البشكنجية التي برز تأثيرها في بلاط الخلافة وفي مساعدة المنصور في الوصول الى سدّة الحكم.        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق