28.6.14

البعد الديني، البعد الواقعي والبعد العلمي، هل من سبيل الى لقاء؟


البعد الديني يبحث في غائية الظواهر ويحاول الإجابة عن أسئلة "لماذا؟"، من خلال عرض أسباب ما ورائية. والأمثلة على ذلك كثيرة، "لماذا أصابه مرض السرطان، مع أنه كان رياضيا طوال حياته ولم يُدخّن سيجارة واحدة؟"، "لأن هذا قضاء الله وقدره، إذ يمكن أن يكون ابتلاءً من الله سبحانه وتعالى". "لماذا انتصر الشر على الخير؟"، "لحكمة إلهية نجهلها نحن، (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك امرا)".

البعد الواقعي يصف الظواهر كما هي ويحاول أن يُصوّرها للمشاهد أو للمستمع، ليراها شاخصة أمامه فيحلّلها كيفما شاء. ان هذا البعد يمكن أن نجده كثيرا في الروايات والمسرحيات والقصص التي تُصوّر شخصيات وأحداث عن طريق الوصف الدقيق العميق. انه يعالج أسئلة "ماذا". أما البعد العلمي فيتّخذ منهج الملاحظة والتجريب وتحليل الظواهر وتجزئتها ليكون بالإمكان وضع فرضيات علمية، ومن ثم فحص امكانية توكيدها. ان العلم (Science) يبحث فيما يمكن ادراكه ويستبعد أي تفسير ميتافيزيقي (غيبي) لأي مشكلة علمية. انه يحاول الإجابة عن أسئلة "كيف"، عبر بيان الآلية أو الكيفية. من هنا نلاحظ اقصاء العلم لكل ما هو ديني أو حتى لكل ما هو ما ورائي، فما عجزت الحواس عن ادراكه، فلا وجود له في العلم. هذا الانكفاء الذي أصاب العلم، كان بمثابة ردة فعل للاتجاه المعاكس تماما، حين كان العلم هو عين الدين المسيحي، لدرجة أن رجال الدين هم من كانوا يُعالجون المرضى والعلماء "الهراطقة" أُعدموا دونما رحمة.   

لقد انكفئ العلم على ذاته وصار صارما في اختيار ما يدخل إليه، وليست هنا المشكلة، إذ على العكس، فإننا نحتاج الى مثل هذه الصرامة، كي لا تُخالطه الخرافات والأساطير التي لا أساس لها. إلا أن المشكلة في خلق هذه الفجوة وهذا البعد بين العلم والدين، وكأنه لا تماس بينهما، ولا مشترك. وفي الجانب الآخر، هناك من المتديّنين من يحاولون عزل أنفسهم عن الواقع، عبر تشبّثهم بأقوال السلف دون محاولة تطوير نظرات جديدة الى الدين تكون أكثر تلائما مع الواقع المُعاش. انهم بعملهم هذا يحاولون الفصل بين البعد الديني والبعد الواقعي، لتتسع الفجوة كذلك بينهما.

ان ما أرمي اليه عبر مقالتي هذه هو محاولة التقريب بين هذه الأبعاد الثلاث والتقليل من عزلتها عن بعضها البعض، إذ هي أبعاد ونظرات مختلفة للظواهر، وهي تُكمّل بعضها البعض، غير مُتعارضة، متجاذبة، غير متنافرة، وان حدث التنافر فإنه يرجع على الأغلب الى خطأ في احدى (واحد على الأقل) هذه الأبعاد. ولنأخذ مثالا ظاهرة الزلازل. البعد الواقعي يحاول أن يصف ما جرى بالتفصيل، وكيف أن الأرض اهتزّت بعنف وخرّت الأبنية من أعلاها، الى ما الى ذلك من دمار مُوجع. كما أن هذا البعد يمكن أن يصف حالات الناس النفسية من خلال ما يتراءى للمشاهد، ورغم وعينا بأنّ البعد الواقعي لا يمكن أن يكون نقيّا خالصا، إذ لكل واحد رؤيته الخاصة للواقع، إلا أننا سنُبقي على انفراد هذا البعد. البعد العلمي يمكن أن يُسطّر الأسباب العلمية للزلزال مُستعينا بعلم الجيولوجيا، كأن يفترض حدوث حركة غير طبيعية في طبقات الأرض. البعد الديني يمكنه أن يقول أن الزلزال بمثابة ذكرى للناس، ليرجعوا الى خالقهم وليتّعظوا. هل هناك تعارض بين هذه الأبعاد؟ ان الواقعي يصف، الديني يبحث في الما ورائية، والعلمي يبحث في المُدرك، وهي أبعاد مختلفة لنفس الظاهرة، من شأنها أن تزوّدنا بالصورة المركّبة.       

لماذا ندّعي تلاقي هذه الأبعاد؟ لأنها صادرة عن نفس المصدر، ومن ذات النبع، فالذي خلق الظواهر (البعد الواقعي)، هو الذي أنزل إلينا الدين عبر الوحي (البعد الديني)، وهو الذي وهب الإنسان نعمة العقل والتفكير ليبحث ويفكّر ويُحلّل (البعد العلمي)، "عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق، 5).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق